الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جاء في نقش بإحدى مقابر دشاشة1، وفي إحدى مقابر بني حسن مناظر حصار أحد الحصون؛ حيث يتقدم إليه المهاجمون تحت مظلة واقية وهم يدفعون في جداره قضيبًا طويلًا للهدم ويرمون المدافعين عنه بوابل من السهام2.
1 Petrie، Deshasheh، pp.5; pl. 4
2 Newberry، Beni Hassan I، 14:II. 15
الحياة الاقتصادية:
الزراعة وتربية الحيوان:
لا بد عند الكلام عن الزراعة أن نتخيل البيئة المصرية في بداية العصور الفرعونية؛ فالمعروف أن النهر كان متسع المجرى قليل الغور؛ لأنه لم يكن قد عمق هذا المجرى تمامًا فكانت مياه الفيضان تغمر الجانبين إلى مسافات بعيدة ونتج عن ذلك أن المستنقعات والغابات كانت شائعة وخاصة في الدلتا؛ أي: أن هذه البيئة المصرية كانت في أول الأمر بيئة صياد بطبيعتها، ثم عرف الإنسان استئناس الحيوان، وحينما تعددت مطالبه وعجز عن الاكتفاء بهاتين الحرفتين وتوصل إلى الزراعة بدأ حياة الاستقرار فأخذ يقتلع الغابات ويزرع مكانها، وقد أدى ذلك إلى الإفادة من مياه النيل وأخذ ينظم جهوده المشتركة ليستطيع التغلب على مياه النهر والتحكم فيها لفائدته؛ ولذا كان النيل من أهم البواعث التي أدت إلى ظهور المجتمعات المنظمة، وكان ظهور المجتمعات الصغيرة إلى جوار بعض سببًا في اشتداد المنافسة بينها ومجالًا لنشأة الصراع في سبيل فرض النفوذ ونشر
السلطان فكان الإقليم الأقوى يحاول بسط سيادته على الأقاليم المجاورة.
ولا يكاد يوجد في العالم نهر اعتمد سكان واديه عليه في حياتهم مثل اعتماد المصري على نهر النيل، بل وإلى هذا النهر يرجع الفضل في وجود الإنسان في هذه البقعة من العالم، وعلى ذلك ليس من المستغرب أن اعتبره المصريون إلهًا وتخيلوه في هيئة إنسان عظيم الثديين كبير البطن ممتلئ الجسم كناية عن الخير والبركة ويقوم بحزم وربط رمزي الوجه القبلي والوجه البحري "شكل 16" وكثيرًا ما وجد مع غيره
"شكل 16": إله النيل يمثل رجلًا ممتلئ الجسم، وهنا تمثيل لرمزين للنيل يوحدان رمزي الوجهين القبلي والبحري
من الآلهة مثل أوزوريس، كما أطلق على هذا الإله الموحد اسم أوزر- أبيس في العصر اليوناني.
وقد يصبح النيل خطيرًا أحيانًا، ولا يتمثل هذا الخطر في شدة الفيضان فقط؛ وإنما يتمثل أيضًا في قلة ما يجيء به من مياه في بعض السنوات؛ مما يؤدي إلى هلاك الزرع وانتشار المجاعات، وإذا ما انخفض منسوب المياه؛ فإن الفلاح يلجأ إلى وسائل تعينه على رفع الماء إلى حقله، وقد توصل إلى هذه الوسائل منذ أقدم العصور وظل يستعملها حتى يومنا هذا، ومن أهم هذه الوسائل: الشادوف؛ كذلك ما زال الفلاح يمهد أرضه بالمحراث أو الفأس لإعدادها للزراعة.
وكان الجو المصري يساعد على أعمال الزراعة المختلفة؛ فالجو صحو في معظم أيام السنة وأتاح ذلك للمصري أن يؤدي أعماله بنظام ونشاط، وكان المحراث الذي استعمله المصري القديم عبارة عن سكين خشبي تثبت إليها يدان أو مقبضان وعريش طويل ينتهي بنير "ناف" وكانت الثيران هي التي تجر المحراث في الدولة القديمة أما في الدولة الحديثة؛ فقد استعملت البغال أيضًا.
وطريقة بذر البذور هي نفسها التي ما زالت مستعملة حتى اليوم إذ يمسك الفلاح بسلة مصنوعة من البوص أو القش أو البردي ويلقي بيده البذور ثم يسير الخراف في الحقل لتغرز هذه البذور في التربة، وقد تمرر الخراف عدة مرات مرات لكي يضمن الفلاح تغريز معظم الحبوب.
أما الحصاد فكان يتم بمنجل قصير ويستعين الفلاح على العمل في الحقل بعازف للناي أو أحد المنشدين الذي يشجي العمال بألحانه، وكثيرًا
ما نرى في النقوش مناظر الحقول أثناء فترة الحصاد وفيها نشاهد مناظر تمثل العمال أحيانًا في راحتهم يتناولون طعامهم بالقرب من مكان جمع المحصول؛ حيث نرى حزم النبات مكومة في قطعة أرض فضاء في أحد أركان الحقل أو بالقرب منه، ثم تنقل هذه الحزم إلى مكان الدرس، وكان الحمار هو المستعمل في النقل أما الدَّرْسُ؛ فكان يتم بواسطة إمرار الحيوانات ذوات الحوافر على تلك الحزم مثل الحمير والثيران، ثم أصبح الأمر قاصرًا على استعمال الثيران فقط.
وكانت التذرية بمذراة ذات ثلاث أسنان أو كانت الحبوب وما يختلط بها ترفع على لوحات خشب قليلة النقوش "شكل 17" وهذه الطريقة الأخيرة كانت تستعملها نساء معصوبات الرءوس، وربما كان الغرض من ذلك حفظ شعورهن من الأتربة المتصاعدة عن هذه العملية؛ إذ كانت الحبوب ترفع على اللوحات الخشبية إلى أعلى ثم تترك لتسقط فتهبط الحبوب في مكانها بينما تتطاير الأتربة والقش بعيدًا في الهواء.
"شكل 17": يمثل نساء يقمن بتذرية القمح
وتقدم من باكورة الحصاد قرابين مختلفة كما أن صاحب المزرعة كان يأخذ شيئًا من هذا المحصول المبكر، أي تقدم له؛ كذلك باكورة الحصاد الجديد لتجربتها والاطمئنان على نوع المحصول، وكثيرًا ما نجد في مناظر الدولة القديمة منظرًا يمثل المذبح المعد لتقديم القرابين بين أكوام القمح، وكانت إلهة الحصاد التي تقدم لها القرابين عادة هي "رننوت".
أما حفظ المحصول؛ فكان يتم بعد أن يقوم كاتب الصوامع والكيال بعملها حيث كان الكيال يكيل المحصول؛ بينما الكاتب يسجل عدد الكيل، وبعد ذلك كان ينقل إلى أهرام كبيرة لحفظه، وكانت الصوامع على أنواع: فبعضها من الفخار وبعضها من الخشب وبعضها كبير إلى درجة أنه كان يكفي لاستعمال مدينة أو قرية بأكملها، وهي عمومًا ذات شكل مخروطي وبها فتحة في القمة وباب من أسفل، وكان التخزين يتم عن طريق الفتحة العليا، أما الاستهلاك؛ فكان عن طريق الباب السفلي.
وقد عرف المصري من الحبوب القمح ونوعًا من الشوفان، وكان كل منها يختلف في نوعه في مصر العليا عنه في مصر السفلى، وهناك بعض أنواع الحبوب لم يمكن تحديدها؛ فمثلًا كان هناك نوع اسمه "سخت"، كذلك كان من الحبوب ما هو أبيض ومنها ما هو أخضر، وربما كان هذا الأخير نوعًا من البازلاء. أو ما شابهها من البقول، أما الخَضْرَاوَات فكانت متعددة.
وكان المصري يحب حيواناته الأليفة ويتعلق بها وخاصة تلك التي تساعده في أعماله، واشتدت عنايته بالأنواع الحسنة من الثيران فكان يتفنن
في تزيينها بأغطية جميلة وجلاجل، وقد وصل به الأمر إلى تقديس الثور والبقرة، وكذلك قدس الكبش. وقد نقش كثيرًا من المناظر التي تمثل تلك الحيوانات، ومن بينها مناظر تمثل قيام الثيران بالعمل في الحقول، كما أحب مناظر مناطحة الثيران وغيرها.
وكانت ثروة المصري من الثيران ضخمة وهي تنقسم عمومًا من ناحية خصائصها الحيوانية إلى ثلاثة أنواع: الأول ذو قرون طويلة تشبه القيثارة أو هلالية الشكل، والثاني قصير القرون، والثالث بدون قرون. وكثيرًا ما كان يتحكم في شكل قرون ثيرانه بأن يجعلها تنمو في اتجاهات خاصة، وما زالت هذه العادة معروفة في أواسط أفريقيا، وتتبين العناية بغذاء الحيوان من كثير من المناظر ومن بعض مخلفات الأدب المصري.
كذلك كان يعنى بتربية السلالات الأصيلة والإكثار منها، وعند جمع الجزية من بلاد النوبة -مثلًا- كانت الأصناف الممتازة من هذا الحيوان تزين وترسل إلى بيت الملك، أما الحيوانات الأخرى في الجزية فكان الموظفون المصريون في تلك البلاد يحتفظون بها للاستهلاك المحلي. وكان غذاء التسمين المفضل عبارة عن عجين الخبز يصنع في خيوط ويطعم للحيوان، وكانت عملية حلب البقر من الأمور الصعبة؛ فلم تقم بها النساء بل كان يقوم بها الرجال.
وكان الرعاة خشنو المظهر يظهرون وكأنهم أنصاف متوحشين لبعدهم عن المدينة، وكانوا يمثلون عراة أو بنقبة غريبة الشكل من النوع القديم المصنوع من القش المضغوط، وكانوا معروفين بالمهارة في أعمال خاصة بالفلاحة ومتعلقة بها مثل: صنع القوارب والحصر من الخوص وصيد
الطيور والأسماك، ولم يكن متاع الراعي ليتعدى قدر كبير من الفخار وسلة تحوي أواني صغيرة وبضع حصر من البردي يصنعها بيده وهي في نفس الوقت الغطاء الذي يلتحف به ليقيه الرياح العاتية والجو البارد. وكانوا ينتقلون بالقطعان من مكان إلى آخر في مهارة غريبة؛ وكثيرًا ما كانوا يلجئون إلى حمل الحيوان الرضيع فتتبعه الأم ويتبع هذه بقية القطيع، وكان أصحاب الضياع يمتلكون قطعانًا كبيرة؛ ولكنهم لم يفخروا إلا بالحيوانات الكبيرة فقط. ولم يعنوا كثيرًا بغيرها كالماعز والحمير والخراف، ولا تجد في نقوش العصور القديمة مناظر تمثل قطعان الخنازير ولم تذكر هذه الحيوانات في النصوص إلا نادرًا ولا نعرف هل كان هذا الحيوان كثير الوجود في مصر أم لا؟ ولا ندري هل وجد منذ أقدم العصور أو أن وجوده لم يتعدَ الأنواع البرية منه فقط.
وإلى جانب الحيوانات المستأنسة كانت تكثر بمصر الحيوانات البرية مثل: الظباء والتباتل والوعول والغزلان، وكان الظبي السمين يعتبر من الأطعمة الشهية ويمثل كقربان دائمًا؛ أما الطيور فكانت عديدة ولكن لم تعرف الدواجن، وقد احترف صيد الطيور صيادون مهرة وكانوا يسمنونها بخيوط العجين مثل الماشية إلى جانب بعض الحبوب التي تنثر لها.
وللتمييز بين حيوانات القطعان المختلفة كثيرًا ما كان يعمد أصحابها إلى وشمها بعلامات مميزة، وكانت الحيوانات تحفظ في حظائر نظيفة، وقد وجدت آثار للأحجار المثقوبة التي كانت تربط إليها هذه الحيوانات، ويستدل منها على أن الحيوانات كانت تربط في الحظيرة في صفين متقابلين