الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الملك
من المرجح أن بلاد النهرين انتظمت في وحدات سياسية صغيرة منذ عصور سحيقة كانت كل منها تتمثل في مدينة من المدن تحيط بها ممتلكاتها الخاصة من المساحات الزراعية وغير الزراعية، وكان حكام هذه الدويلات يلقبون أنفسهم بلقب يعني "وكيل الإله" مما يشير إلى أن سلطة الحاكم كانت مستمدة من سلطة إله المدينة أو أنه يعتبر ممثلًا لهذا الإله؛ حيث يبدو أن المعابد كانت أهم المباني التي وجدت في العصور قبل التاريخية، وربما كانت حينئذ تمثل المراكز التي تدور حولها الحياة الاجتماعية في تلك المدن وربما كان كهنتها كذلك هم الذين يقومون بالإدارة في مثل هذه المجتمعات ومما يؤيد هذا أن الملوك في العصور التاريخية كانوا يعتبرون كهنة الآلهة الرئيسية ونوابها في حكم البشر. وقد ظل نفوذ رجال الدين سائدًا إلى أن أخذت هذه المدن أو المجتمعات تتصارع فيما بينها حتى ظهر فيها أفراد يمتازون بالقوة والدراية في الشئون الحربية فاكتسب هؤلاء صفات الزعامة وتولوا الحكم؛ وبالتالي أصبحت لهم الزعامة الدينية أيضًا وصار كل منهم كاهنًا أعلى لإله مدينته وأصبح رأس الدولة وصاحب السلطان المطلق فيها، ومع هذا يبدو أنهم لم يصلوا إلى هذه المكانة تلقائيًّا؛ إذ كانت كل مدينة تختار زعيمها وكان ذلك يتطلب وجود مندوبين عن المدينة في عملية هذا الاختيار، ولا شك أن المسنين والأعيان والرجال القادرين على حمل السلاح كانت لهم كلمتهم المسموعة في هذا الشأن فأصبح هؤلاء يشكلون مجلسين أحدهما من الشيوخ والأعيان والآخر
من رجال الحرب، ثم تطور اختصاص هذين المجلسين فأصبحا يهيمنان على كل الشئون المهمة في الدولة؛ بل وكان من حقها التحكم في انتخاب الملك، وعلى هذا يمكن اعتبار أن نظام الحكم في هذه المرحلة كان ديموقراطيًّا.
وما أن أخذت هذه الدويلات في الاتحاد تحت سلطان واحد حتى أصبح هذا النظام غير عملي للبت في الأمور وحسمها؛ فتركزت السلطات جميعها بأيدي الملوك ومعاونيهم، أو بمعنى آخر بيد الملك وحكومته، أي أصبح نظامًا أوتوقراطيا، وقد استند هؤلاء إلى الحق الإلهي للملك؛ إذ تشير الأساطير إلى أن شارات الملك كانت في السماء عند الإله "آنو" قبل أن تبدأ الملكية في الأرض، ثم هبطت الملكية وشارات الملك من السماء إلى الأرض، وانتخبت الآلهة حكام البشر؛ وعلى هذا أصبح لهؤلاء مكانة مقدسة؛ بل ربما اتخذوا صفات الآلهة نفسها ولكنهم لم يعبدوا كآلهة حقيقيين أثناء حياتهم وإنما عبدوا بعد وفاتهم.
وكان على الملوك بصفتهم مفوضين من الآلهة في حكم الناس أعباءُ كثيرة؛ إذ كان عليهم حماية الناس والبلاد وقيادة الجيش ونشر العدل وتوفير أسباب الرفاهية لرعاياهم بإقامة المشاريع العامة كما أنهم كانوا يقيمون المعابد لآلهتهم "شكل 39"، ويحيون الشعائر فيها؛ ومع هذا لم تحل قدسيتهم دون الاعتداء عليهم والثورة ضدهم واغتصاب عروشهم.
وكان البلاط يسير على قواعد صارمة حيث يحظى بشرف المثول بين يدي الملك رجال الدولة على حسب مناصبهم ومراكزهم، وكان هؤلاء جميعًا يتخلون عن ألقابهم ومناصبهم وأوسمتهم عند اعتلاء ملك جديد
"شكل 39": الملك أورنمو يحمل سلة البناء لإقامة المعبد.
على العرش ولا يحق لهم استعادتها إلا بعد أن يأذن لهم هذا الملك بذلك.
وكان بلاط الملك بالطبع يضم الزوجة التي كانت تشترك في تصريف شئون الدولة ولها قصرها الخاص وأملاكها التي تديرها بنفسها كما كان لأولادهما بيتهم الذي يختص بخدمه وسقاته وزرَّاعه ونسَّاجه وغير ذلك من أصحاب الحرف المختلفة، وكان أهم موظفي البلاط ناظر القصر وأمين خزانة الملك، وإلى جانب هذين يوجد عدد من الكهنة والموظفين