الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة
إذا كان الإنسان في عصرنا الحاضر في أي بقعة من بقاع العالم ينعم بنتاج وخبرات إخوانه من بني الإنسان في بقاع العالم الأخرى مهما اختلفت المشارب؛ فإنه قد استفاد كذلك من خبرات أسلافه في العصور السابقة حتى إن من الممكن أن يقال بأن الحضارة في العصر الحديث لا تخرج في مظاهرها عن كونها استمرارًا وتطورًا لمظاهر الحضارات السابقة التي ظهرت في أجزاء مختلفة من العالم، وقد تنبَّه الإنسان إلى فضل الحضارات السابقة واعتبرها التراث الآدمي الذي يجب المحافظة عليه ودراسته دراسة مستفيضة حتى يمكن الوصول إلى معرفة أصول وأسس حضاراته الراهنة؛ ولذا نجد أن أمم العالم جميعها تتعاون بصورة أو بأخرى في الحفاظ على هذا التراث ومحاولة إحيائه بشتى الوسائل، وعلى ذلك؛ فليس من المستغرب أن نجد الأمم المتحضرة تساهم بنصيب فعال في إنقاذ الآثار المعرضة للخطر، كما أن كثيرًا من الدول ترسل بعثاتها للتنقيب عن الآثار أو ترميمها أو نشر معلومات وافية عنها في مختلف الأقطار لا فرق في ذلك بين جنسية وأخرى؛ لأن التراث الحضاري ملك للإنسانية جميعها1.
وكثيرًا ما نجد بعض الدول تأخذها العزة بوجود بعض مظاهر حضارية قديمة فتحاول جاهدة أن تثبت أنها أقدم الأمم حضارة وأن
1 انظر مقدمة الكتاب
أصول الحضارة الأولى قد وجدت فيها؛ ولكن ما دمنا قد ذكرنا بأن التراث الحضاري ملك للإنسانية جميعها؛ فليس المهم إثبات أسبقية دولة ما في ميدان الحضارة؛ ولكن المهم أن يكون لهذه الدولة فضل نقل هذه المظاهر الحضارية إلى غيرها من الدول، والأهم من ذلك كله أن يقوم شعب ما بدور فعال في نقل وتطور المظاهر الحضارية المختلفة، وأن يعطي منها لغيره، كما يتقبل من غيره بعض المظاهر الأخرى وهكذا. ومن الجدير بالذكر أن الحضارات القديمة التي لعبت دورًا مهمًّا في حياة الناس هي تلك التي نشأت في منطقة الشرق الأدنى؛ لأن هذه المنطقة بحكم موقعها كانت تتوسط العالم القديم فهي البؤرة التي أشعت المظاهر الحضارية إلى كافة أنحائه، وكان تناوب مختلف أجزاء هذه المنطقة في الوصول إلى القوة والمجد سببًا في المحافظة على التراث الحضاري القديم والأخذ بأساليب جديدة دعمت تطوره وانتشاره.
ولا شك في أن الإنسان لم يجد متسعًا من الوقت للتفكير في الإنتاج المثمر الذي يؤدي به إلى النهوض الحضاري؛ إلا إذا استقر وشعر بالأمن في بيئته، وقد يرى البعض أن الحضارة تنشأ وترتقي على أساس قاعدة التحدي والاستجابة، بين الإنسان وبيئته؛ ولكن لا شك في أن كل إنتاج إنما يبدأ من أجل الكفاح في سبيل العيش أولًا ثم من أجل الرغبة في الرفاهية ثانيًا، والأرجح أن ميل الإنسان الطبيعي للترفُّه هو العامل الأول في نهضة الحضارات ورقيها.
وإذا ما نظرنا إلى إقليم الشرق الأدنى القديم بصفة عامة لوجدنا أن استقرار الإنسان يتوفر في بيئاته الزراعية الكبرى التي تبدو في مصر وبلاد
النهرين بصفة خاصة ووديان الأنهار في مختلف بقاعه بصفة عامة؛ ولذا نجد أن أقدم الحضارات في هذا الإقليم هي التي نشأت في هذه الجهات الزراعية، وبقدر ما نعم سكان تلك الجهات بالأمن؛ بقدر ما تطورت حضارتهم وتدرجوا في مراتب النهوض والرقي، وخير دليل على ذلك ما نشاهده من استمرار الحضارة المصرية ودوامها وتطورها؛ فبحكم بيئتها السهلة المنعزلة عن جيرانها أمكن اتحادها تحت لواء ملك أو أسرة حاكمة من جهة، كما أنها لم تتعرض لكثير من الغزوات من جهة أخرى، وتلي بلاد النهرين مصر في هذا المضمار، ولو أن الحضارة فيها لم تتخذ صفة الثبوت والاستمرار في كل جزء من أجزائها في وقت واحد؛ بل كانت تنتقل بين أجزائها المختلفة. ومع ذلك فإن اتصال هذه الأجزاء بعضها ببعض قد أوجد نوعًا من الاستقرار لحضارتها بصفة عامة، كما عملت الأجزاء التي تنتقل إليها هذه الحضارة على تطويرها والنهوض بها، ولا شك في أن سهولة اتصال بلاد النهرين نسبيًّا بالأقطار المجاورة لها قد جعلها ذات أثر فعال في نقل مظاهر الحضارة من تلك الأقطار وإليها.
ومن الغريب أن كلا من مصر وبلاد النهرين قد اتصلتا ببيئات مغايرة؛ إلا أن أثر ذلك عليهما لم يكن واحدًا، فمن المعروف أن مصر اتصلت منذ أقدم العصور ببلاد النوبة والساحل السوري وكان من أثر ذلك أن أعطت إلى كل من هاتين المنطقتين من حضارتها أكثر مما أخذت منهما؛ بل ويمكن القول بشيء من التجاوز أنها أعطت إليهما ولم تأخذ عنهما، أما بلاد النهرين؛ فقد اتصلت هي الأخرى بالساحل السوري بل وبساحل آسيا الصغرى كما اتصلت بهضبتي إيران وأرمينيا وقد أعطت من مظاهرها
الحضارية إلى هذه الجهات كما أخذت القليل من مظاهر بعضها الحضارية؛ غير أن هذا القليل يمكن ملاحظته على أي حال.
ولا بد من أن نشير هنا إلى أن حضارة السهول التي انتشرت في كل من مصر وبلاد النهرين كانت حضارة سمحة بصفة عامة لا تتسم بالعنف أو القسوة، كما هو الحال في حضارات المناطق الجبلية أو الرعوية؛ وإن كان أهل بلاد النهرين قد اتجهوا في بعض مظاهر حضارتهم إلى شيء من هذا؛ فإنما يرجع ذلك إلى ما ينتاب بيئتهم أحيانًا من مظاهر كونية عنيفة كالعواصف وغيرها كما أن الجزء الشمالي منها تكثر به المرتفعات مما يوحي بأن الأشوريين الذين سكنوا في هذه المنطقة كانوا أصلب وأعنف من البابليين الذين نشئوا في جنوب ووسط بلاد النهرين.
ومن دراسة تاريخ المنطقة يتبين لنا أن المناطق الجبلية حينما أخذت بأسباب الحضارة كانت تدين في أكثرها إلى حضارات سكان السهول، ومع أن الدول التي نشأت في المناطق الجبلية مثل الدولة الحيثية في آسيا الصغرى والدولة الفارسية في إيران قد انتزعت السيادة من دول السهول التي نشأت في بلاد النهرين ومصر كما انتقلت إليها مظاهر الحضارات السابقة ونشأت فيها مظاهر أخرى جديدة؛ إلا أن تلك السيادة وهذه الحضارة لم يقدر لهما البقاء بل سرعان ما انتقلا من إقليم الشرق الأدنى بسقوط هذه الدول، وعلى هذا يمكن القول بأن الحضارة في إقليم الشرق الأدنى شهدت دورين عظيمين: أولهما ظل مستمرًا في مناطق السهول، والثاني في مناطق الجبال
ومع هذا ظلت المظاهر الحضارية قائمة في مناطق السهول فترة طويلة بعد أن زالت عنها سيادتها وخضعت لأهل المناطق الجبلية من إقليم الشرق الأدنى الذين سرعان ما قضى على سيادتهم أهل المناطق الجبلية الأخرى من خارج نطاق الإقليم. وبعبارة أخرى كانت السيادة والحضارة في أيدي الساميين بصفة عامة ثم انتقلتا إلى أيدي الهندو أوروبيين.