الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفنون
لم يعثر على آثار كافية توضح ما كانت عليه الفنون المختلفة التي سادت بين الإيرانيين القدامى؛ كما أن دولة الميديين كانت قصيرة الأجل؛ فلم تساهم بنصيب وافر في حضارة الشرق الأدني القديم؛ غير أنه يستدل من أقدم الآثار على أن سكان الهضبة في أقدم العصور كانوا يدفنون موتاهم أسفل المنازل ثم تحولوا عن ذلك إلى الدفن في جبانات بعيدة عن المدن، وكان الميت يدفن ومعه أثاث جنزي يتبين منه أنهم استعملوا الحلي وخاصة من الفضة والبرونز؛ إذ عثر على دبابيس تنتهي بأشكال تمثل رءوس الحيوان "شكل 59" وأساور وحلقان وأحزمة يلبسها الرجال والنساء وخلاخيل من البرونز ومن الحديد أحيانًا؛ كذلك ظهرت في رسوم أواني الفخار عناصر جديدة غير تلك التي كانت شائعة فبدلًا من الشمس وأبو منجل التي كانت تمثل في تلك الرسوم
"شكل 59": دبابيس من البرونز.
إلى جانب الزخارف الهندسية المألوفة كانت الشمس والحصان هي العناصر السائدة.
ومع أن الفرس هم الذين كانوا أقوى الإمبراطوريات القديمة في الهضبة وبلغوا أرقى مراحل حضارية وصل إليها؛ إلا أنهم لا شك ورثوا الكثير عن الميديين؛ فقد ورثوا عاداتهم وتقاليدهم كما ورثوا طريقة كتاباتهم ومغالاتهم في إقامة الأعمدة فضلًا عما ورثوه عنهم من قوانين مختلفة، أما من ناحية الفنون والآداب؛ فلم يعثر من الأدلة ما يكفي لإعطاء فكرة واضحة عنها لدى الميديين.
ومع أن الفرس ظهروا كدولة عسكرية صرفت أغلب أوقاتها في الحروب؛ إلا أنهم لم يهملوا شأن الفنون وإن كانوا قد اعتمدوا في ذلك على أقوام أخرى واعتمدوا على الفنانين الأجانب في صناعة آياتهم الفنية؛ ومع هذا فقد تميزوا بحس مرهف جعلهم يقدرون الفنون فعشقوا الأشعار والقصص الخيالية وأحبوا الغناء والرقص والعزف على مختلف الآلات الموسيقية؛ غير أنهم كانوا يأنفون الاشتغال بها؛ إذ كانت في نظرهم من حرف المأجورين والمستضعفين.
ورغم قلة الجهود الأثرية في هضبة إيران؛ فإن ما عثر عليه من الآثار حتي الآن يدل بوضوح على مهارتهم في فن العمارة والبناء، وقد اشتهرت بقاياها التي اكتشفت بروعتها الفنية؛ فمقبرة كورش في "بازارجادة" ما زالت رغم تهدمها تعد آية في الروعة والجمال، كما أن مقبرة "دارا الأول" في "نقش رستم" القريبة من "برسيبوليس" ما زالت تعد
من آيات الفن في العالم القديم، ومن أروع الآثار كذلك ما عثر عليه، ومن بقايا قصر إكزركسيس في "برسيبوليس"؛ إذ تعد مجموعة المدرجات الحجرية والساحة الفسيحة وما بها من عمد شامخة من آيات الفن الفارسي القديم، ومما يلاحظ أن القصر كان يقام على ساحة مرتفعة يرتقى إليها من أسفل الوادي بدرج خارجي يمتاز بالجمال إلى درجة أن بعض علماء الآثار يعتبرونها أبدع الدرجات الموجودة في أية بقعة من بقاع العالم، ويبلغ ارتفاع الساحة ما بين عشرين وخمسين قدمًا، طولها نحو "1500" قدم وعرضها ألف قدم، وفي أعلى الدرجات يوجد المدخل وهو واسع تحف به تماثيل هائلة الثيران مجنحة برءوس بشرية "شكل60" مما يذكر بالتماثيل
"شكل 60": ثور مجنح من مدخل قصر إجزر كسيس.
التي كانت تزيِّن مداخل القصور في بلاد النهرين، وبعد المدخل بقليل نجد مجموعة أخرى من الدرجات على جانبها جدران قصيرة نقشت بنقوش بارزة تعد من أجمل ما عثر عليه في إيران، وهي توصل إلى قاعة تلحق بها بعض الحجرات تشغل ساحة تزيد على مائة ألف قدم. هذا وقد أقيم قصر إكزركسيس الأول على "72" عمودًا لم يبق منها إلا "13" فقط ما زالت قائمة بين حطام القصر، وتمتاز هذه الأعمدة المصنوعة من الرخام بأنها من قطع متصلة وكلها نحيلة دقيقة ويبلغ ارتفاع الواحد منها "64" قدمًا وتشبه قواعدها الأجراس التي تغطيها أوراق الأشجار مقلوبة الوضع، وكان كل عمود ينتهي في أعلاه بشكل صدري ورأسي ثورين أو حصانين يتصلان من الخلف "شكل 61" وكانت جوانب الأبواب والنوافذ من حجر أسود لامع
"شكل 61": أعمدة تنتهي في أعلاها بزخارف ورءوس حيوانية.
أما الجدران والحوائط؛ فكانت مغطاة بآجُرّ مصقول رسمت عليه صور زاهية تمثل حيوانات وأزهار وإلى خلف هذه القاعة وشرقها قاعة عرفت باسم قاعة المائة عمود لم يبق منها إلا عمود واحد.
ومن الملاحظ أن الفن الفارسي قد اقتبس بصورة واضحة من فنون الدول التي خضعت لسلطان الإمبراطورية؛ ولكنه قد طورها حتى بلغت درجة الكمال؛ فمن المرجح أن الشكل الخارجي لمقبرة كورش متأثر بفن ليديا أما أعمدتها الحجرية الدقيقة فيمكن مقارنتها بالأعمدة الأشورية؛ بينما كان بَهْوُ الأعمدة الضخمة والنقوش قليلة البروز من الأمور المألوفة لدى المصريين وربما استعار الفرس فكرتهم منهم، أما تيجان الأعمدة التي على شكل الحيوان فيمكن أن تكون مستوحاة مما رأوه في نينوي وبابل.
ولم يكن التصوير والنحت مستقلين عن العمارة بل كانا تابعين لها وربما كانت الكثرة الغالبة من منتجاتها من عمل فنانين أجانب وفدوا على إيران من مختلف الأقطار التي أخضعوها، وقد حاكى اليونانيون الفرس واقتبسوا منهم إلى درجة أن العناصر الفارسية تبدو واضحة في فن العمارة اليوناني؛ ولذا يمكن أن يقال أن الفرس كانوا وسطاء في نقل مظاهر الحضارة من الشرق إلى الغرب.