الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلوم والآداب
بدأت الكتابة في بلاد النهرين كما بدأت في جهات أخرى من الشرق الأدنى بالتعبير عن الشيء بصورته، وقد استمرت هذه المرحلة التصويرية في الكتابة فترة ثم أخذت بعد ذلك أشكالها تختصر ويقل عدد المستعمل منها تدريجيًّا إذا أصبحت الصورة تعبر لا عن الشكل المرسوم فحسب؛ بل عن كل ما يرتبط به من معانٍ أيضًا؛ إلا أن ذلك أدى إلى صعوبة تأويل ما تدل عليه هذه العلامات، وقد أمكن تذليل هذه الصعوبة بالاصطلاح على معانٍ محددة لتلك الصور، ثم استعملت هذه الصور في كتابة ما تدل عليه من أصوات للتعبير عن الأفعال والأمور المعنوية فأصبحت كل منها ترمز إلى نطق معين يدل على كلمة، ومن هذه المرحلة الرمزية أمكن التوصل إلى جعل معظم الرموز تعبر عن مقاطع لفظية، أي أن التعبير بالكتابة في بلاد النهرين سار في نفس الطريق الذي سار فيه التعبير بالكتابة لدى المصريين؛ إلا أن هؤلاء الأخيرين توصلوا -فضلًا عن ذلك- إلى استخدام حروف هجائية بينما لم تصل الكتابة في بلاد النهرين إلى مثل هذه المرحلة.
ونظرًا لأن أهل بلاد النهرين قد استعملوا ألواحًا من الطمي للكتابة عليها بقلم مثلث؛ فإنه كان من العسير رسم الخطوط المنحنية واستعيض عنها بما يقاربها من خطوط مستقيمة، كما أن الخطوط التي كانت ترسم بذلك القلم تتخذ في نهايتها شكلًا يشبه رءوس المسامير؛ ولذا أصبح يطلق على كتابة بلاد النهرين اسم: الكتابة المسمارية، وقد انتشرت هذه الكتابة في أنحاء كثيرة من بلاد الشرق الأدنى القديم؛ فقد استعملها الحيثيون والعيلاميون والحوريون
والميتاينون في كتابة لغتهم وظلت هذه الكتابة مستعملة إلى العصر المسيحي.
وقد ظلت العلامات المستخدمة كرموز تدل على كلمات جنبًا إلى جنب مع العلامات المستخدمة كمقاطع صوتية؛ فكان عدد العلامات المستخدمة لا يقل عن "600" علامة تقريبًا، منها نحو "150" علامة فقط هي التي كانت تستخدم استخدامًا صوتيًّا بحتًا، وعلى ذلك لم يكن من السهل معرفة هذه الكتابة؛ إلا بدراستها وتحديد المقصود من علاماتها المختلفة، وقد بُدئت محاولات في ذلك منذ أقدم العصور حيث عثر على قوائم ترجع إلى عصر فجر الأُسَرِ، بها العلامات المسمارية وقيمتها الصوتية ومعانيها، وربما كانت هذه أقدم المعاجم التي عملها الإنسان.
وكان لنجاح هذه الخطوة أثره؛ إذ تنوعت المعاجم فيما بعد حيث وصلتنا معاجم لغوية تتناول مفردات ومصطلحات وجمل سومرية وما يقابلها في البابلية؛ كذلك وجدت معاجم تتناول أسماء الحيوان والنبات والأدوات المصنوعة من مواد مختلفة وأسماء الأشجار وأجزائها وثمارها وأسماء المنشآت المعمارية وغيرها.
وتدل شواهد الأحوال على أنه -إلى جانب المدارس الخاصة بالمعابد- كانت هناك مدارس خاصة للتعليم، وأول ما كان يتعلم الطالب فيها هو الخط أو الكتابة المسمارية ثم يتدرج بعد ذلك إلى تعلم اللغة وقواعدها. وفي العهد البابلي وما بعده كان على الطالب أن يتعلم لغتين السومرية والبابلية؛ ولذا كان التعليم يستغرق وقتًا طويلًا وخاصة إذا أراد الطالب أن يكون
كاتبًا ممتازًا وإلى جانب هذا التعليم العام كان بعضهم يتخصص في مختلف فروع الثقافة العليا: كالطب والفلك والقانون والموسيقى والعلوم الرياضية في معاهد خاصة.
وفضلًا عن ذلك كانت هناك مؤسسات خاصة أشبه بالمكتبات ودور السجلات لحفظ الكتب والوثائق، وبعضها كانت تلحق بالمعابد الشهيرة والقصور الملكية، ومثل هذه عثر عليها في أنقاض قصر الملك آشور بانيبال، وكانت تحوي مئات الألوف من ألواح الطين المدونة بمختلف نواحي المعرفة والعديد من السجلات والوثائق التاريخية وهي تلقي ضوءًا كبيرًا على حضارة بلاد النهرين وتاريخها، والظاهر أن هذا الملك كان قد جمعها من مختلف المدن إلى جانب ما نسخه عن أصول قديمة. كذلك عثر في "تل حرمل" بالقرب من بغداد على أكثر من "300" لوح كتبت في مختلف أنواع المعرفة ويظهر أنها كانت موضعًا لحفظ السجلات والوثائق أو مكان مدرسة.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن مادة الكتابة في بلاد النهرين -ألواح الطين- لم تكن مادة يسيرة الحفظ؛ بل كانت سريعة التعرض للتلف؛ ولذا كان من المعتاد وضع الألواح بعد كتابتها في أغلفة من الطين؛ كما أنه لم يكن من الميسور أيضًا عمل ألواح كبيرة الحجم منه؛ ولذا كانت معظمها صغيرة الحجم، وكثيرًا ما كانت تتعرض للكسر عند إخراجها من أغلفتها، ولذا تبعثرت هذه الألواح وتشتت أجزاؤها؛ فقد يعثر على جزء من لوح في مكان؛ بينما يوجد ما يكمله في أماكن أخرى حتى إنه أصبح من المألوف أن توجد أجزاء من هذه الوثائق في بعض المتاحف ويوجد ما يكملها في متاحف أخرى.
ومما يسترعي النظر أن الخط المسماري مر بمراحل تشبه إلى حد ما المراحل التي مر بها الخط الهيروغليفي؛ إذ إنه إلى جانب هذا الخط وجد الخط الآرامي الذي كتبت بحروف هجائية قبل الميلاد ببضعة قرون، ونظرًا لسهولة هذا الخط الأخير نسبيًّا ولانتشار الآرامية بسبب نشاط الآراميين التجاري؛ فإن هذا الخط أخذ يحل محل الكتابة المسمارية؛ ومع هذا فقد ظلت هذه الكتابة منتشرة إلى بداية التاريخ الميلادي ولكنها هجرت بعد ذلك ولم يعد أحد يعرفها وظل الحال كذلك إلى القرن التاسع عشر؛ فقبل بداية هذا القرن بدأ كثير من السياح يفدون إلى الشرق ونقل بعضهم عددًا من ألواح حجرية مكتوبة وبعض الألواح الطينية، وعكف بعض الباحثين على محاولة تفهمها وحل رموزها، وكما أمكن حل الهيروغليفية من حجر رشيد إذ كان مكتوبًا بثلاث لغات كذلك وجدت آثار في "برسيبوليس" عاصمة الفرس الإخمينيين بثلاث لغات هي الفارسية القديمة والعيلامية والبابلية مع فارق واحد أن اليونانية التي كتبت على حجر رشيد كانت معروفة للباحثين؛ بينما لم تكن أي من اللغات المدونة في برسيبوليس معروفة في ذلك الوقت؛ ولكن نظرًا لأن الكتابة الفارسية كانت أقل الكتابات عددًا في علاماتها وأقل تعقيدًا في شكلها فقد ركزت الجهود على حلها وأمكن التوصل فيها إلى اسمي ملكين من ملوك فارس ثم عرفت مفردات أخرى من هذه اللغة، وبعد ذلك تمكن العلماء بالاستعانة بما أمكن معرفته من هذه اللغة في حل رموز اللغة البابلية، وأمكن التوصل فعلًا إلى معرفة مفردات منها وجزء من علاماتها، ثم تتابعت جهود العلماء؛ فازدادت المعرفة باللغة البابلية، وبلغ من دقة ما توصلوا إليه أنه أجرى للعلماء في مختلف الأقطار شبه امتحان حيث قدمت لكل منهم نسخة من نص
لم يكن معروفًا من قبل وعندما فحصت ترجماتهم له وجدت متطابقة في معناها مما بعث الاطمئنان إلى صحة المعلومات التي عرفت عن هذه اللغة ومن ثم أخذ علم الآشوريات يزداد توسعًا وانتشارًا، ومما ساعد على سرعة فهمها أنها كلغة سامية تتشابه في نحوها وفي بعض مفرداتها مع اللغات السامية الأخرى المعروفة مثل العربية والعبرية، وعن طريق حل رموز اللغة البابلية أمكن التعرف على اللغة السومرية؛ إذ وجدت بعض الكتابات المسمارية التي كانت أشبه بمعاجم لشرح الكتابات السومرية باللغة البابلية كما سبق أن أشرنا.
وقد ساعد حل رموز اللغة على التعرف على تاريخ بلاد النهرين من مصادره الأصلية؛ ولكن صادفت المؤرخين صعوبات كثيرة في هذا السبيل لعل من أهمها عدم وجود حادث أساسي تؤرخ الحوادث بالنسبة إلية كما هو الحال بالنسبة للتواريخ المعمول بها الآن مثل: ميلاد المسيح والهجرة؛ إلا أن ملوك بلاد النهرين كانوا يعمدون إلى اتخاذ حادثة معينة شهيرة أساسًا لتأريخ الحوادث في سنة وقوع هذه الحادثة الشهيرة، وظل الحال كذلك إلى نهاية عهد الأسرة البابلية الأولى تقريبًا ثم عدلوا عن ذلك إلى تأريخ الحوادث بالنسبة إلى عهد الملوك، وظل الحال كذلك إلى العهد السلوقي؛ وإن كان الأشوريون قد استخدموا طريقة أخرى في التأريخ حيث كانوا ينسبون السنين إلى عظماء رجال الدولة الذين عاشوا فيها ابتداء من الملك نفسه؛ فكانوا يجمعون حوادث كل ملك في ثبت خاص متسلسل ابتداء من اعتلائه العرش، وقد أضافوا إلى ذلك بعض الملاحظات التاريخية والتعليقات الخاصة بها في نظام أشبه بنظام الحوليات، ومن ذلك
مثلًا أنهم ذكروا كسوفًا للشمس أمكن بالحساب الفلكي تحديد وقت حدوثه بدقة في 15 يونيو 763 قبل الميلاد، وكان هذا من الأمثلة التي ساعدت على ضبط تاريخ الأشوريين بالنسبة للتاريخ الميلادي، كما ساعد على ضبط تاريخ بلاد النهرين عامة، ومما ساعد على التعرف على تاريخ بلاد النهرين أن بعض الكتاب والمؤرخين القدامى تركوا قوائم بأسماء الملوك السابقين وتتابعهم وقسموها إلى أُسَرٍ حاكمة1، وإلى جانب هذه ترك البابليون والأكديون كتابات أخرى تاريخية تشيد بأعمال الملوك والأمراء، كما أن ملوك الأشوريين اعتادوا أن يدونوا أخبار حروبهم بهيئة رسائل يرسلونها إلى كبير الآلهة؛ فمثلًا يبدأ الملك سرجون الثاني رسالةَ إلى الإله أشور بتحية هذا الإله وتحية الآلهة الآخرين، كما يحيي المدينة وسكانها ثم يسرد أخبار حملته بالتفصيل كتلك التي قام فيها بغزو أرمينيا وهكذا.
وقد عني مؤرخو الأشوريين بتدوين الحوليات الخاصة بالملوك مرتبة حسب سني حكمهم أو على حسب العهود الدورية التي كانت تنسب إلى عظماء رجال الدولة، ومن هذه الحوليات أمكن جمع تاريخ وافٍ لأشور، ولم تقتصر المصادر التاريخية على ذلك؛ بل نجد أن البابليين في عهد الدولة البابلية الجديدة قد عنوا بكتابة تاريخ العصور السابقة حتى تناولوا حوادث سبقت زمنهم بنحو ألفي عام، وهكذا نجد أن التدوين التاريخي في بلاد النهرين كان موضع عناية في مختلف عصورها.
ولم يقتصر اهتمام أهل البلاد على المعارف التاريخية وحدها بل
1 انظر كتاب: معالم الشرق الأدنى القديم، للمؤلف "ص347" وما بعدها.
فكروا في مختلف النواحي العلمية، ومن أهم ما عنوا به محاولة التعرف على الكون ومكان بلادهم منه وما حواه من بلاد أخرى، وقد اعتقدوا أن الأرض شبيهة بالسماء؛ فهي كنصف كرة مقلوبة تعلوها السماء التي تتكون من ثلاث طبقات أو سبع طبقات ويحيط بالسماء البحر أو المحيط السماوي؛ كذلك قسموا الأرض إلى ثلاث طبقات أو سبع أهمها الطبقة العليا التي يسكن فيها البشر والطبقة الوسطى وهي منطقة المياه والطبقة السفلى وتسكنها أرواح الموتى، كما جعلوا لها أركان في الجهات الأربعة الأصلية.
وبازدياد النشاط التجاري والفتوح الخارجية تعرفوا إلى مناطق مختلفة ووصلوا إلى أماكن بعيدة فعرفوا قوائم مطولة بأسماء المدن والبلدان والأنهار وغيرها من المعالم الجغرافية في بلادهم وفي الأقطار المجاورة؛ بل وتحوي بعض مؤلفاتهم في هذا المضمار إضافات لتفسير أسماء بعض الأقاليم والمدن وأسماء المعابد كما تحوي بعضها كذلك معلومات أخرى مفيدة مثل: تعداد المدن وتعريف المسافات فيما بينها، ومما يدل على تقدمهم في النواحي الجغرافية ما عثر عليه من نصوص تبين طرق مسح الأراضي وتخطيطها ورسم الخرائط لبعض المدن، وتعد الخريطة التي عثر عليها لمدينة "نفر" من أقدم الخرائط المعروفة وهي من الدقة بحيث ساعدت المنقبين على التعرف على الأماكن المهمة التي كانت في تلك المدينة، وقد وجدت كذلك خرائط لمدن أخرى؛ كذلك عثر على محاولة لرسم خريطة للعالم المعروف لديهم وهي تصور الأرض في هيئة دائرة يخترقها نهر الفرات في الوسط وهو يأتي من الجبال الشمالية ويصب في
منطقة الأهوار في الجنوب، وقد حدد مكان بابل بالقرب من مركز هذه الدائرة كما عينت أماكن بعض البلدان الأخرى في هيئة دوائر صغيرة بالنسبة لبلاد النهرين وفي هيئة مثلثات خارج الدائرة بالنسبة للأقطار الأجنبية، ويحيط باليابسة في هذه الخريطة البحر المالح الذي تخرج منة ثماني جزر بينت المسافات بينها بالساعات البابلية "انظر شكل 48".
"شكل 48": خريطة للعالم يبين بها موقع بابل كنقطة قريبة من مركز الدائرة.
ولا بد أن العلوم والمعارف قد نشأت في بلاد النهرين كما نشأت في غيرها من بلاد العالم القديم لتحقيق أغراض عملية، ولعل الحاجة لضبط حسابات المعابد وغيرها من الأمور الاقتصادية هي التي حتمت معرفة
الأعداد ثم تدوينها، ومن ذلك نشأت الرياضيات، وقد بدأت بالعمليات الحسابية البسيطة دون شك، ومما ساعد على تقدم الرياضيات في بلاد النهرين نشاطها التجاري مع البلدان المجاورة من جهة ومن جهة أخرى حاجتها للأعمال المتعلقة بتنظيم شئون الري وشق الطرق لتيسير التجارة؛ إذ إن هذه الأمور دعت إلى ظهور الموازين والمكاييل والمقاييس المختلفة وحساب المعاملات التجارية وأرباحها والتعرف على خواص الأشكال الهندسية، وقد وجدت بعض المصنفات الرياضية كجداول الضرب وجداول معكوس الأعداد ورفعها إلى قوى مختلفة "الأس" وجذورها، كما وجدت بعض المسائل والقواعد الرياضية التي تحل على أساسها؛ كذلك عرفوا بعض النظريات الهندسية التي تتعلق بتشابه المثلثات ومساحاتها "شكل 49"، وعرفوا الكسور -وإن كانوا قد استخدموا الطريقة الستينية- بدلًا من الطريقة العشرية، وتوصلوا إلى حساب مساحات وحجوم بعض الأشكال وعرفوا خواص الدوائر وغير ذلك من الرياضيات الراقية.
ومن الأمور التي اهتم بها أهل الحضارات القديمة عامة وأهل بلاد النهرين بصفة خاصة علم الفلك، وقد بلغ من شهرتهم فيه أن كثيرًا من المؤرخين أصبحوا يعتقدون بأن البابليين هم الذين أسسوا هذا العلم، وقد حظي علم الفلك بين البابليين بشهرة عظيمة لدى الإغريق حتى أخذوا عنه؛ إذ إن أهل بلاد النهرين عنوا منذ أقدم العصور بتدوين ملاحظاتهم عن الأجرام السماوية، وربما كانت حاجتهم إلى ضبط الفصول والتقويم هي السبب في نشأة هذا العلم لديهم وإن كان البعض يظن بأنه نشأ من التنجيم الذي بدأ بمعرفة تأثير النجوم في طبائع البشر والتكهن بمصائرهم،
"شكل 49": لوح عليه نظرية هندسية.
ومهما كان الأمر؛ فقد تطور علم الفلك وأصبح يبنى على أسس رياضية وأمكن التوصل فيه إلى نتائج مهمة، ومن ذلك اعتبار الشمس مركز الكون وأن المد والْجَزْر يرجعان إلى تأثير القمر، وقد استخدموا في أرصادهم بعض الآلات كما يظن أن الزاقورات كانت تستخدم لرصد الأجرام السماوية إلى جانب وظيفتها الدينية.
وقد قسم البابليون اليوم الفلكي إلى "12" قسمًا كل منها يتكون من "30" جزءًا وقسموا السنة إلى "12" شهرًا قمريًّا يضاف إليها شهر آخر كلما دعت الحاجة لضبط فصول السنة، كما قسموا دائرة السماء بواسطة النجوم الثوابت إلى "12" قسمًا ورصدوا بعض الكواكب مثل الزهرة وحسبوا
أبعادها بالدرجات، وغير ذلك من الأمور الفلكية الدقيقة، ولقياس الزمن استعملوا ساعات مائية لقياس أجزاء الليل وساعات شمسية أو مزاول لقياس أجزاء النهار.
هذا وقد سبق أن أشرنا إلى أن أهل بلاد النهرين وضعوا قوائم عن الحيوانات والنباتات التي عرفوها، وهذه؛ وإن كانت قد وضعت لخدمة أغراض لغوية؛ إلا أنها في الواقع كانت تحوي معلومات قيمة عن الحيوانات والنباتات التي ألفوها، وقد قسموها إلى أنواع أو أجناس متشابهة أي أنهم اتبعوا نظام التصنيف العلمي؛ ولكنهم أخطئوا في ذلك أحيانًا حيث نجد أنهم وضعوا تحت جنس الكلب الذئب والضبع والأسد كما جعلوا كل ما يعيش في الماء تحت صنف السمك بما في ذلك الأصداف والسلاحف، وربما كانت مصنفاتهم في النبات أكثر دقة؛ حيث إنهم جعلوها في مجاميع متشابهة من حيث أشكالها وثمارها وميزوا في بعض أنواع الأشجار بين الذكر والأنثى.
ونظرًا لأنهم عرفوا صناعة الفخار منذ أقدم العصور؛ فإنهم عرفوا الكثير من خواص الطين وتأثره بالحرارة، والأصباغ المختلفة كما توصلوا إلى طريقة التزجيج وعرفوا العجائن واللدائن الكيماوية، ومن إقبالهم على بعض المصنوعات المعدنية أتقنوا التعدين وصهر المعادن ومزجها وتوصلوا إلى معرفة أنواع مختلفة من السبائك كما حاولوا التوصل إلى تحويل بعض المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة وقلدوا الأشياء المصنوعة من مواد ثمينة بالاستعانة ببعض الأصباغ والعقاقير واستخدموا الأدوية والصابون والعطور أي أنهم تقدموا في الصناعات الكيماوية وخاصة تلك التي تخدم أغراضهم
العملية، وقد عثر على بعض مؤلفاتهم في هذا المضمار وإن كنا نجهل أسماء بعض المواد التي ذكروها، كما أن بعض عملياتهم الكيماوية كانت تتضمن بعض الرقى السحرية والدينية ومع ذلك فقد تمكنوا من استخلاص الكثير من المواد المفيدة مثل الزئبق وعرفوا الماء الملكي الذي يذيب الذهب ونجحوا في استخراج عدد كبير من الأدوية المعدنية، وصلنا منها أسماء ما لا يقل عن "120" نوعًا.
وفي مجال الطب توصلوا إلى الكثير من المعلومات المهمة عن الأمراض وتشخيصها وعن تشريح الجسم والعقاقير النافعة، وإن كان العلاج قد ظل مختلطًا بالسحر؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الأمراض كانت تسببها أرواح وشياطين شريرة، وأن الآلهة التي تساعد على التخلص منها، وقد اعتبروا أن الإله "إيا" إله الماء هو إله الطب أيضًا، ونظرًا لاستخدام المياه كثيرًا في العلاج؛ فإن الطبيب كان يطلق عليه كلمة معناها: العارف بالماء؛ كذلك كان من آلهة الطب عندهم الإله "ننازو" أي سيد الأطباء، وكان ابنه "ننجشزيدا" أيضًا من آلهة الطب، ومن رموزه المقدسة عصا تلتف عليها حية أو حيتان وهذه هي التي يتخذها الأطباء حديثًا شارةً لهم حيث تعتبر الحية قادرة على تجديد شبابها؛ لأنها تخلع جلدها فيعود إليها الشباب. ونظرًا لأن العلاج كان كثيرًا ما يتضمن الرقى والتعاويذ لاسترضاء الآلهة والحصول على مساعدتها في شفاء المرضى فإن الأطباء كانوا غالبًا من الكهنة، ومع هذا لم يهمل هؤلاء في علاجهم فن تشخيص الأمراض ووصف العلاج إلى جانب ما يلجئون إليه من العرافة والسحر.
ويستدل من النصوص التي خلفها أهل بلاد النهرين على أن عدد
الأطباء لم يكن قليلًا، ومنهم من كانوا يؤدون عملهم كموظفين رسميين وخاصة لدى الملوك ومنهم من كانوا يعملون لحسابهم، وقد يرسل بعض الأطباء الرسميين إلى ملوك بعض الأقطار الأخرى لعلاجهم؛ كذلك كان الأطباء ينقسمون حسب تخصصهم إلى جراحين ومعالجين بالعقاقير، وقد عرفوا كثيرًا من الأمراض وصنفوها ووصفوا أعراضها وعلاجها وكيفية استعمال الأدوية المختلفة التي قسموها حسب مصادرها إلى أدوية نباتية وأخرى حيوانية وثالثة معدنية، كما قسموها من حيث استعمالها إلى أدوية تستعمل من الظاهر أي: دهون وأخرى للتناول، واستعانوا ببعض الأدوات لوضع الأدوية في أماكن دقيقة من الجسم مثل العين والأذن إلى جانب استعمال بعض الأدوات الجراحية، ورغم كثرة ما خلفه أهل بلاد النهرين من النصوص لا نجد تنوعًا كبيرًا في آدابهم؛ إذ إن معظم ما تناولته كان متعلقًا بالأساطير الدينية إلى جانب التدوين التاريخي وبعض الرسائل وكلها تتضمن بعض الأمثال والحكم، وبالطبع ليس من السهل فهم كل هذه الأمثال؛ لأن البعض منها يتناول ما كان سائدًا من عادات وتقاليد وظروف مختلفة ما زلنا نجهل الكثير منها.