الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جمعوا القرآن فلما انتهوا إلى الآية التي في سورة براءة: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} ظنوا أن هذه آخر ما نزل فقال أبي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} إلى آخر السورة.
ترتيب السور
معنى السورة:
السورة في اللغة تطلق على ما ذكره صاحب القاموس بقوله: والسورة: المنزلة ومن القرآن معروفة لأنها منزلة بعد منزلة: مقطوطة عن الأخرى والشرف وما طال من البناء وحسن والعلامة وعرق من عروق الحائط اهـ.
ويمكن تعريفها اصطلاحا بأنها طائفة مستقلة من آيات القرآن ذات مطلع ومقطع. قالوا: وهي مأخوذة من سور المدينة. وذلك إما لما فيها من وضع كلمة بجانب كلمة وآية بجانب آية كالسور توضع كل لبنة فيه بجانب لبنة ويقام كل صف منه على صف.
وإما لما في السورة من معنى العلو والرفعة المعنوية الشبيهة بعلو السور ورفعته الحسية وإما لأنها حصن وحماية لمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من كتاب الله القرآن ودين الحق الإسلام باعتبار أنها معجزة تخرس كل مكابر ويحق الله بها الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. أشبه بسور المدينة يحصنها ويحميها غارة الأعداء وسطوة الأشقياء. وسور القرآن مختلفة طولا وقصرا. فأقصر سورة فيه سورة الكوثر وهي ثلاث آيات قصار. وأطول سورة فيه سورة البقرة وهي خمس وثمانون أو ست وثمانون ومائتا آية. وأكثر آياتها من الآيات الطوال. بل فيها آية الدين التي هي أطول آية في القرآن كما سبق. وبين سورة البقرة وسورة الكوثر سور كثيرة تختلف طولا وتوسطا وقصرا ومرجع الطول
والقصر والتوسط وتحديد المطلع والمقطع إلى الله وحده لحكم سامية علمها من علمها وجهلها من جهلها.
حكمة تسوير السور:
لتجزئة القرآن إلى سور فوائد وحكم:
منها: التيسير على الناس وتشويقهم إلى مدارسة القرآن وتحفظه لأنه لو كان سبيكة واحدة لا حلقات بها لصعب عليهم حفظه وفهمه وأعياهم أن يخوضوا عباب هذا البحر الخضم الذي لا يشاهدون فيه عن كثب مرافئ ولا شواطئ.
ومنها: الدلالة على موضوع الحديث ومحور الكلام فإن في كل سورة موضوعا بارزا تتحدث عنه كسورة البقرة وسورة يوسف وسورة النمل وسورة الجن.
ومنها: الإشارة إلى أن طول السورة ليس شرطا في إعجازها بل هي معجزة وإن بلغت الغاية في القصر كسورة الكوثر.
قال صاحب الكشاف في فوائد تفصيل القرآن وتقطيعه سورا كثيرة ما نصه: منها: أي الفوائد أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع وأصناف كان أحسن وأفخم من أن يكون بابا واحدا.
ومنها: أن القارئ إذا أتم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأبعث على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله ومثله المسافر إذا قطع ميلا أو فرسخا نفس ذلك عنه ونشط للسير ومن ثم جزيء القرآن أجزاء وأخماسا.
ومنها: أن الحافظ إذا حذق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها فيعظم عنده ما حفظه ومنه حديث أنس: كان الرجل
إذ قرأ البقرة وآل عمران جد فينا". ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة أفضل.
ومنها: أن التفصيل بحسب تلاحق الأشكال والنظائر وملائمة بعضها لبعض وبذلك تتلاحق المعاني والنظم إلى غير ذلك من الفوائد اهـ.
أقسام السور:
قسم العلماء سور القرآن إلى أربعة أقسام خصوا كلا منها باسم معين وهي: الطوال والمئين والمثاني والمفصل.
فالطوال سبع سور: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف. فهذه ستة واختلفوا في السابعة أهي الأنفال وبراءة معا لعدم الفصل بينهما بالبسملة أم هي سورة يونس؟؟.
والمئون: هي السور التي تزيد آياتها على مائة أو تقاربها.
والمثاني: هي التي تلي المئين في عدد الآيات. وقال الفراء: هي السور التي آيها أقل من مائة آية لأنها تثنى أي تكرر أكثر مما تثنى الطوال والمئون.
والمفصل: هو أواخر القرآن واختلفوا في تعيين أوله على اثني عشر قولا فقيل أوله ق وقيل غير ذلك وصحح النووي أن أوله الحجرات. وسمي بالمفصل لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة وقيل لقلة المنسوخ منه ولهذا يسمى المحكم أيضا كما روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم.
والمفصل ثلاثة أقسام: طوال وأوساط وقصار. فطواله من أول الحجرات إلى سورة البروج. وأوساطه من سورة الطارق إلى سورة لم يكن. وقصاره من سورة إذا زلزلت إلى آخر القرآن.
المذاهب في ترتيب السور:
اختلف في ترتيب السور على ثلاثة أقوال: الأول أن ترتيب السور على ما هو عليه الآن لم يكن بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان باجتهاد من الصحابة. وينسب هذا القول إلى جمهور العلماء منهم مالك والقاضي أبو بكر فيما اعتمده من قوليه. وإلى هذا المذهب يشير ابن فارس في كتاب المسائل الخمس بقوله: جمع القرآن على ضربين: أحدهما تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين فهذا هو الذي تولته الصحابة رضي الله عنهم. وأما الجمع الآخر وهو الآيات في السور فذلك شيء تولاه النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه عز وجل.
وقد استدلوا على رأيهما هذا بأمرين: أحدهما أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة في ترتيب السور قبل أن يجمع القرآن في عهد عثمان فلو كان هذا الترتيب توقيفيا منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ساغ لهم أن يهملوه ويتجازوه ويختلفوا فيه ذلك الاختلاف الذي تصوره لنا الروايات. فهذا مصحف أبي بن كعب روي أنه كان مبدوءا بالفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام. وهذا مصحف ابن مسعود كان مبدوءا بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران الخ على اختلاف شديد. وهذا مصحف علي كان مرتبا على النزول فأوله اقرأ ثم المدثر ثم ق ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكي والمدني.
الدليل الثاني: ما أخرجه ابن أشته في المصاحف من طريق إسماعيل بن عباس عن حبان بن يحيى عن أبي محمد القرشي قال: أمرهم عثمان أن يتابعوا الطوال فجعل سورة الأنفال وسورة التوبة في السبع ولم يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم اهـ ولعله يشير بهذا إلى ما رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من
المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا أنزل عليه شيء دعا بعض من يكتب فيقول: " ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا". وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا. وكانت قصتها شبيهة بقصتها. فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما. ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتهما في السبع الطوال ا. هـ.
ويمكن أن يناقش هذا المذهب بالأحاديث الدالة على التوقيف وستأتيك في الاحتجاج للقول الثاني. ويمكن أيضا مناقشة دليلهم الأول باحتمال أن اختلاف من خالف من الصحابة في الترتيب إنما كان قبل علمهم بالتوقيف أو كان في خصوص ما لم يرد فيه توقيف دون ما ورد فيه. ويمكن مناقشة دليلهم الثاني بأنه خاص بمحل وروده وهو سورة الأنفال والتوبة ويونس فلا يصح أن يصاغ منه حكم عام على القرآن كله.
القول الثاني:
أن ترتيب السور كلها توقيفي بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم كترتيب الآيات وأنه لم توضع سورة في مكانها إلا بأمر منه صلى الله عليه وسلم. واستدل أصحاب هذا الرأي بأن الصحابة أجمعوا على المصحف الذي كتب في عهد عثمان ولم يخالف منهم أحد. وإجماعهم لا يتم إلا إذا كان الترتيب الذي أجمعوا عليه عن توقيف لأنه لو كان عن اجتهاد لتمسك أصحاب المصاحف المخالفة بمخالفتهم. لكنهم لم يتمسكوا بها بل عدلوا عنها وعن ترتيبهم وعدلوا عن مصاحفهم وأحرقوها ورجعوا إلى مصحف عثمان وترتيبه جميعا. ثم ساقوا روايات لمذهبهم كأدلة يستند إليها الإجماع.
منها ما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن حذيفة الثقفي قال كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف. إلى أن جاء في هذه الرواية ما نصه:
فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طرأ علي حزب من القرآن فأردت ألا أخرج حتى أقضيه" فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة سورة وثلاث عشرة وحزب المفصل من ق حتى نختم. قالوا: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن هذه الدلالة غير ظاهرة فيما نفهم اللهم إلا في ترتيب حزب المفصل خاصة بخلاف ما سواه.
واحتجوا لمذهبهم أيضا بأن السور المتجانسة في القرآن لم يلتزم فيها الترتيب والولاء ولو كان الأمر بالاجتهاد للوحظ مكان هذا التجانس والتماثل دائما لكن ذلك لم يكن بدليل أن سور المسبحات لم ترتب على التوالي بينما هي متماثلة في افتتاح كل منها بتسبيح الله. بل فصل بين سورها بسورة قد سمع والممتحنة والمنافقين وبدليل أن طسم الشعراء وطسم القصص لم يتعاقبا مع تماثلهما بل فصل بينهما بسورة أقصر منهما وهي طس.
وقد أيد هذا المذهب أبو جعفر النحاس فقال: المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث واثلة: {أعطيت مكان التوراة السبع الطوال} .
وكذلك انتصر أبو بكر الأنباري لهذا المذهب فقال: أنزل الله القرآن إلى سماء الدنيا ثم فرقه في بضع وعشرين سنة فكانت السورة تنزل لأمر يحدث والآية جوابا لمستخبر ويقف جبريل النبي صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآيات والحروف. كله من النبي صلى الله عليه وسلم فمن قدم سورة أو أخرها أفسد نظم القرآن.
وأخرج ابن أشته في كتاب المصاحف من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال: سمعت ربيعة يسأل لم قدمت البقرة وآل عمران وقد أنزل قبلهما بضع وثمانون
سورة بمكة وإنما أنزلتا بالمدينة؟ فقال: قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه به. إلى أن قال: فهذا مما ينتهى إليه ولا يسأل عنه اهـ.
ويمكن مناقشة هذا المذهب أولا: بأن الرواية التي ساقوها وأمثالها خاصة بمحالها فلا ينسحب حكم التوقيف على الكل. ثم هي ظنية في إفادة كون الترتيب عن توقيف.
ثانيا: أن حديث ابن عباس السابق في القول الأول صريح في أن عثمان كان قد اجتهد في ترتيب الأنفال والتوبة ويونس.
ثالثا: أن الإجماع الذي استندوا إليه لا يدل على توقيف في ترتيب جميع السور لأنه لا يشترط أن يستند الإجماع إلى نص في ترتيب جميع السور فحسب الصحابة أن يحملهم الاجتهاد الموفق على أن يجمعوا على ترتيب عثمان للسور ويتركوا ترتيب مصاحفهم توحيدا لكلمة الأمة وقطعا لعرق النزاع والفتنة إذا ترك كل ورأيه في هذا الترتيب.
القول الثالث:
أن ترتيب بعض السور كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وترتيب بعضها الآخر كان باجتهاد من الصحابة وقد ذهب إلى هذا الرأي فطاحل من العلماء. ولعله أمثل الآراء لأنه وردت أحاديث تفيد ترتيب البعض كما مر بك من الرأي الثاني القائل بالتوقيف وخلا البعض الآخر مما يفيد التوقيف. بل وردت آثار تصرح بأن الترتيب في البعض كان عن اجتهاد كالحديث الآنف في القول الأول المروي عن ابن عباس.
بيد أن المؤيدين لهذا المذهب اختلفوا في السور التي جاء ترتيبها عن توقيف والسور التي جاء ترتيبها عن اجتهاد. فقال القاضي أبو محمد بن عطية: إن كثيرا من السور
قد علم ترتيبها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كالسبع الطوال والحواميم والمفصل. وأما ما سوى ذلك فيمكن أن يكون فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده.
وقال أبو جعفر بن الزبير: الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية ويبقى فيها قليل يمكن أن يجري فيه الخلاف كقوله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران" رواه مسلم.
وكحديث سعيد بن خالد: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبع الطوال في ركعة رواه ابن أبي شيبة في مصنفه. وفيه أنه عليه الصلاة والسلام كان يجمع المفصل في ركعة وروى البخاري عن ابن مسعود أنه قال صلى الله عليه وسلم في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: "إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي"1
فذكرها نسقا كما استقر ترتيبها. وفي صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين.
وقال السيوطي ما نصه: الذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال. ولا ينبغي أن يستدل بقراءة سور أولا على أن ترتيبها كذلك. وحينئذ فلا يرد حديث قراءة النساء
1 العتاق: جمع عتيق، وهو القديم من كل شيء، والمراد بالعتاق هنا ما نزل أولا. والتلاد- بكسر التاء وفتحها- ضد الطارف وهو المستحدث من المال ونحوه. والمراد بالتلاد هنا، ما نزل أولا أيضا. قال في المختار: وفي الحديث هن من تلادي يعني السور، أي من الذي أخذته من القرآن قديما.
قبل آل عمران لأن ترتيب السور في القراءة ليس بواجب. ولعله فعل ذلك لبيان الجواز اهـ.
والأمر على كل حال سهل حتى لقد حاول الزركشي في البرهان أن يجعل الخلاف من أساسه لفظيا فقال: والخلاف بين الفريقين أي القائلين بأن الترتيب عن اجتهاد والقائلين بأنه عن توقيف لفظي لأن القائل بالثاني يقول: إنه رمز إليهم ذلك لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته ولهذا قال مالك: إنما ألفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله بأن ترتيب السور كان باجتهاد منهم فآل الخلاف إلى أنه هل هو بتوقيف قولي أو بمجرد إسناد فعلي بحيث يبقى لهم فيه مجال للنظر وسبقه في ذلك جعفر بن الزبير اهـ.
احترام هذا الترتيب:
وسواء أكان ترتيب السور توقيفيا أم اجتهاديا فإنه ينبغي احترامه خصوصا في كتابة المصاحف لأنه عن إجماع الصحابة والإجماع حجة. ولأن خلافه يجر إلى الفتنة ودرء الفتنة وسد ذرائع الفساد واجب.
أما ترتيب السور في التلاوة فليس بواجب إنما هو مندوب. وإليك ما قاله الإمام النووي في كتابه التبيان إذ جاء في هذا الموضوع بما نصه: قال العلماء: الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف فيقرأ الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران ثم ما بعدها على الترتيب سواء أقرأ في الصلاة أم في غيرها حتى قال بعض أصحابنا: إذا قرأ في الركعة الأولى سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} يقرأ في الثانية بعد الفاتحة من البقرة.
قال بعض أصحابنا: ويستحب إذا قرأ سورة أن يقرأ بعدها التي تليها. ودليل هذا أن ترتيب المصحف إنما جعل هكذا لحكمة فينبغي أن يحافظ عليها إلا فيما ورد الشرع باستثنائه كصلاة الصبح يوم الجمعة يقرأ في الأولى سورة السجدة وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} . وصلاة العيد في الأولى {ق} وفي الثانية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} . وركعتي الفجر في الأولى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . وركعات الوتر في الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين.
ولو خالف الموالاة فقرأ سورة لا تلي الأولى أو خالف الترتيب فقرأ سورة قبلها جاز فقد جاءت بذلك آثار كثيرة. وقد قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الركعة الأولى من الصبح بالكهف وفي الثانية بيوسف.
وقد كره جماعة مخالفة ترتيب المصحف. وروى ابن أبي داود عن الحسن أنه كان يكره أن يقرأ القرآن إلا على تأليفه في المصحف. وبإسناده الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قيل له: إن فلانا يقرأ القرآن منكوسا فقال: ذلك منكوس القلب.
وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فممنوع منعا متأكدا لأنه يذهب بعض ضروب الإعجاز ويزيل حكمة ترتيب الآيات. وقد روى ابن أبي داود عن إبراهيم النخعي الإمام التابعي الجليل وعن الإمام مالك بن أنس أنهما كرها ذلك وأن مالكا كان يعيبه ويقول: هذا عظيم. وأما تعليم الصبيان من آخر المصحف إلى أوله فحسن وليس هذا من الباب فإن ذلك قراءة متفاضلة في أيام متعددة على ما فيه من تسهيل الحفظ عليهم والله أعلم اهـ رحمه الله.
شبهتان خفيفتان:
الشبهة الأولى يقولون: كيف كان ترتيب القرآن توقيفيا مع أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة؟.
والجواب أن هذه الشبهة لا ترد على القائلين بأن ترتيب السور كلها اجتهادي أما القائلون بأن منه اجتهاديا ومنه توقيفيا فمن السهل الجواب عنهم بأن الاختلاف بين الصحابة وقع في القسم الاجتهادي لا التوقيفي. وأما القائلون بأن ترتيب السور كله توقيفي فيمكن الجواب عنهم بأنهم اختلفوا فيما اختلفوا قبل أن يعلموا التوقيف فيه. ولما جمع عثمان القرآن على هذا الترتيب علموا ما لم يكونوا يعلمونه ولذلك تركوا ترتيب مصاحفهم وأخذوا بترتيب عثمان. ويهون الأمر في اختلاف مصاحفهم أنها كانت مصاحف فردية لم يكونوا يكتبونها للناس إنما كانوا يكتبونها لأنفسهم فبدهي أن الواحد منها لم يثبت فيها إلا ما وصل إليه بمجهوده الفردي وقد يفوته ما لم يفت سواه من تحقيق أدق أو علم أوسع. ولهذا كان يوجد بتلك المصاحف الفردية بعض آيات قد تكون منسوخة وربما لم يبلغ صاحب ذاك المصحف نسخها. وقد يهمل صاحب المصحف إثبات صورة لشهرتها وغناها بهذه الشهرة عن الإثبات كما ورد أن مصحف ابن مسعود لم تكن به الفاتحة. وقد يكتب صاحب المصحف ما يرى أنه بحاجة إليه من غير القرآن في نفس المصحف كما تقدم ذلك في قنوت الحنفية الذي روى أن بعض الصحابة كان قد كتبه بمصحفه وسماه سورة الخلع والحفد.
الشبهة الثانية يقولون: كيف يكون ترتيب القرآن توقيفيا على حين أن رواية ابن عباس السابقة تصرح بأن عثمان لم يسمع في شأن ترتيب الأنفال مع براءة شيئا إنما هو اجتهاد ونظر منه؟.