الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما إذا كان الاختلاف دائرا بين عبارتين أو عبارات ليس شيء منها نصا كأن يقول بعض المفسرين نزلت هذه الآية في كذا. ويقول الآخر: نزلت في كذا ثم يذكر شيئا آخر غير ما ذكره الأول وكان اللفظ يتناولهما ولا قرينة تصرف إحداهما إلى السببية فإن الروايتين كلتيهما تحملان على بيان ما يتناوله من المدلولات. ولا وجه لحملهما على السبب.
وأما إذا كان الاختلاف دائرا بين عبارتين أو عبارات كلها نص في السببية فهنا يتشعب الكلام. ولنفرده بعنوان.
5-
تعدد الأسباب والنازل واحد
إذا جاءت روايتان في نازل واحد من القرآن وذكرت كل من الروايتين سببا صريحا غير ما تذكره الأخرى نظر فيهما. فإما أن تكون إحداهما صحيحة والأخرى غير صحيحة. وإما أن تكون كلتاهما صحيحة ولكن لإحداهما مرجح دون الأخرى. وإما أن تكون كلتاهما صحيحة ولا مرجح لإحداهما على الأخرى ولكن يمكن الأخذ بهما معا. وإما أن تكون كلتاهما صحيحة ولا مرجح ولا يمكن الأخذ بهما معا. فتلك صور أربع لكل منها حكم خاص نسوقه إليك:
أما الصورة الأولى- وهي ما صحت فيه إحدى الروايتين دون الأخرى فحكمها الاعتماد على الصحيحة في بيان السبب. ورد الأخرى غير الصحيحة. مثال ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين فأتته امرأة فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فأنزل الله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . وأخرج الطبراني وابن أبي شيبة عن حفص بن ميسرة عن أمه عن أمها وكانت
خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن جروا دخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فدخل تحت السرير فمات فمكث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي فقال: "يا خولة ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ جبريل لا يأتيني" فقلت في نفسي: لو هيأت البيت وكنسته فأهويت بالمكنسة تحت السرير فأخرجت الجرو فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ترعد1 لحيته وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة فأنزل الله: {وَالضُّحَى} إلى قوله {فَتَرْضَى} . فنحن بين هاتين الروايتين نقدم الرواية الأولى في بيان السبب لصحتها دون الثانية لأن في إسنادها من لا يعرف. قال ابن حجر: قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة لكن كونها سبب نزول الآية غريب وفي إسناده من لا يعرف فالمعتمد ما في الصحيح اهـ.
وأما الصورة الثانية- وهي صحة الروايتين كلتيها ولإحداهما مرجح- فحكمها أن نأخذ في بيان السبب بالراجحة دون المرجوحة. والمرجح أن تكون إحداهما أصح من الأخرى أو أن يكون راوي إحداهما مشاهدا للقصة دون راوي الأخرى. مثال ذلك: ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. وهو يتوكأ على عسيب. فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم: لو سألتموه. فقالوا: حدثنا عن الروح. فقام ساعة ورفع رأسه فعرفت أنه يوحى إليه حتى صعد الوحي ثم قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} . وما أخرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل. فقالوا: اسألوه عن الروح فسألوه فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية.
1 قال في القاموس: وقد رعد كنصر ومنع. وقال هامش القاموس: وقد استعمل رعد ثلاثيا أيضا مجهولا دائما، كجن. قالوا: رعد أي اصابته رعدة. قاله الخفاجي في شرح الشفاء اهـ.
فهذا الخبر الثاني يدل على أنها بمكة وأن سبب نزولها سؤال قريش إياه. أما الأول فصريح في أنها نزلت بالمدينة بسبب سؤال اليهود إياه وهو أرجح من وجهين: أحدهما أنه رواية البخاري أما الثاني فإنه رواية الترمذي ومن المقرر أن ما رواه البخاري أصح مما رواه غيره. ثانيهما أن راوي الخبر الأول وهو ابن مسعود كان مشاهد القصة من أولها إلى آخرها كما تدل على ذلك الرواية الأولى بخلاف الخبر الثاني فإن رواية ابن عباس لا تدل الرواية على أنه كان حاضر القصة ولا ريب أن للمشاهدة قوة في التحمل وفي الأداء وفي الاستيثاق ليست لغير المشاهدة ومن هنا أعملنا الرواية الأولى وأهملنا الثانية.
وأما الصورة الثالثة- وهي ما استوت في الروايتان في الصحة ولا مرجح لإحداهما لكن يمكن الجمع بينهما بأن كلا من السببين حصل ونزلت الآية عقب حصولهما معا لتقارب زمنيهما فحكم هذه الصورة أن نحمل الأمر على تعدد السبب لأنه الظاهر ولا مانع يمنعه. قال ابن حجر: لا مانع من تعدد الأسباب.
مثال ذلك: ما أخرجه البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حد في ظهرك". فقال يا رسول الله إذا وجد أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة. وفي رواية أنه قال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله تعالى ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} حتى بلغ {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} اهـ وهذه الآيات من سورة النور.
وأخرج الشيخان واللفظ للبخاري عن سهل بن سعد أن عويمرا أتى عاصم بن عدي وكان سيد بني عجلان فقال: كيف تقولون في رجل وجد مع
امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأتى عاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله وفي رواية مسلم فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها. فقال عويمر والله لا أنتهي حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فجاءه عويمر فقال يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أنزل الله القرآن فيك وفي صاحبك". فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملاعنة بما سمى الله في كتابه فلاعنها اهـ. فهاتان الروايتان صحيحتان ولا مرجح لإحداهما على الأخرى ومن السهل أن نأخذ بكلتيهما لقرب زمانيهما على اعتبار أن أول من سأل هو هلال بن أمية ثم قفاه عويمر قبل إجابته فسأل بواسطة عاصم مرة وبنفسه مرة أخرى فأنزل الله الآية إجابة للحادثين معا. ولا ريب أن إعمال الروايتين بهذا الجمع أولى من إعمال إحداهما وإهمال الأخرى إذ لا مانع يمنع الأخذ بهما على ذلك الوجه. ثم لا جائز أن نردهما معا لأنهما صحيحتان ولا تعارض بينهما. ولا جائز أيضا أن نأخذ بواحدة ونرد الأخرى لأن ذلك ترجيح بلا مرجح. فتعين المصير إلى أن نأخذ بهما معا. وإليه جنح النووي وسبقه إليه الخطيب فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد اهـ.
ويمكن أن يفهم من الرواية الثانية أن آيات الملاعنة نزلت في هلال أولا ثم جاء عويمر فأفتاه الرسول بالآيات التي نزلت في هلال. قال ابن الصباغ: قصة هلال تبين أن الآية نزلت فيه أولا. وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعويمر: "إن الله أنزل فيك وفي صاحبتك" فمعناه ما نزل في قصة هلال لأن ذلك حكم عام لجميع الناس.
وأما الصورة الرابعة- وهي استواء الروايتين في الصحة دون مرجح
لإحداهما ودون إمكان للأخذ بهما معا لبعد الزمان بين الأسباب فحكمها أن تحمل الأمر على تكرار نزول الآية بعدد أسباب النزول التي تحدثت عنها هاتان الروايتان أو تلك الروايات لأنه إعمال لكل رواية ولا مانع منه. قال الزركشي في البرهان: وقد ينزل الشيء تعظيما لشأنه وتذكيرا عند حدوث سببه خوف نسيانه اهـ.
مثال ذلك ما أخرجه البيهقي والبزار عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استشهد وقد مثل به فقال: "لأمثلن بسبعين منهم مكانك" فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم سورة النحل {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلى آخر السورة وهن ثلاث آيات.
وأخرج الترمذي والحاكم عن أبي بن كعب قال" لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا به فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين أي لنزيدن عليهم.
فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الآية.
فالرواية الأولى تفيد أن الآية نزلت في غزوة أحد والثانية تفيد أنها نزلت يوم فتح مكة على حين أن بين غزوة أحد وغزوة الفتح الأعظم بضع سنين فبعد أن يكون نزول الآية كان مرة عقيبهما معا. وإذن لا مناص لنا من القول بتعدد نزولها مرة في أحد ومرة يوم الفتح. وقد ذهب البعض إلى أن سورة النحل كلها مكية.
وعليه فتكون خواتيمها المذكورة نزلت مرة بمكة قبل هاتين المرتين اللتين في المدينة وتكون عدة مرات نزولها ثلاثا. وبعضهم يقول إن سورة النحل مكية ما عدا خواتيمها تلك فإنها مدنية وعليه فعدة مرات نزولها اثنتان فقط.