الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الحادي عشر: في
القراءات
والقراء والشبهات التي أثيرت في هذا المقام
-1 القراءات
القراءات جمع قراءة وهي في اللغة مصدر سماعي لقرأ. وفي الاصطلاح مذهب يذهب إليه إمام من أئمة القراء مخالفا به غيره في النطق بالقرآن الكريم مع اتفاق الروايات والطرق عنه سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئاتها. قال السيوطي عند كلامه على تقسيم الإسناد إلى عال ونازل ما نصه: ومما يشبه هذا التقسيم الذي لأهل الحديث تقسيم القراء أحوال الإسناد إلى قراءة ورواية وطريق ووجه. فالخلاف إن كان لأحد الأئمة السبعة أو العشرة أو نحوهم واتفقت عليه الروايات والطرق عنه فهو قراءة. وإن كان للراوي عنه فرواية. أو لمن بعده فنازلا فطريق. أو لا على هذه الصفة مما هو راجع إلى تخيير القارئ فيه فوجه. اهـ.
وفي منجد المقرئين لابن الجزري ما نصه: القراءات علم بكيفيات أداء كلمات القرآن واختلافها بعزو الناقلة1
…
والمقرئ: العالم بها رواها مشافهة فلو حفظ التيسير مثلا ليس له أن يقرئ بما فيه إن لم يشافهه من شوفه به مسلسلا لأن في القراءات أشياء لا تحكم إلا بالسماع والمشافهة. والقارئ المبتدئ من شرع في الإفراد إلى أن يفرد ثلاثا من القراءات. والمنتهي من نقل من القراءات أكثرها وأشهرها اهـ.
نشأة علم القراءات:
قلنا غير مرة: إن المعول عليه في القرآن الكريم إنما هو التلقي والأخذ ثقة
1 في القاموس: الناقلة: ضد القاطنين.
عن ثقة وإماما عن إمام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن المصاحف لم تكن ولن تكون هي العمدة في هذا الباب. إنما هي مرجع جامع للمسلمين على كتاب ربهم ولكن في حدود ما تدل عليه وتعينه دون ما لا تدل عليه ولا تعينه. وقد عرفت أن المصاحف لم تكن منقوطة ولا مشكولة وأن صورة الكلمة فيها كانت لكل ما يمكن من وجوه القراءات المختلفة وإذا لم تحتملها كتبت الكلمة بأحد الوجوه في مصحف ثم كتبت في مصحف آخر بوجه آخر وهلم جرا. فلا غرو أن كان التعويل على الرواية والتلقي هو العمدة في باب القراءة والقرآن.
وقلنا: إن عثمان رضي الله عنه حين بعث المصاحف إلى الآفاق أرسل مع كل مصحف من يوافق قراءته في الأكثر الأغلب وهذه القراءة قد تخالف الذائع الشائع في القطر الآخر عن طريق المبعوث الآخر بالمصحف الآخر.
ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم قد اختلف أخذهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم من أخذ القرآن عنه بحرف واحد ومنهم من أخذه عنه بحرفين ومنهم من زاد. ثم تفرقوا في البلاد وهم على هذه الحال فاختلف بسبب ذلك أخذ التابعين عنهم وأخذ تابع التابعين عن التابعين وهلم جرا حتى وصل الأمر على هذا النحو إلى الأئمة القراء المشهورين الذين تخصصوا وانقطعوا للقراءات يضبطونها ويعنون بها وينشرونها كما يأتي: هذا منشأ علم القراءات واختلافها وإن كان الاختلاف يرجع في الواقع إلى أمور يسيرة بالنسبة إلى مواضع الاتفاق الكثيرة كما هو معلوم: لكنه - على كل حال- اختلاف في حدود السبعة الأحرف التي نزل عليها القرآن كلها من عند الله لا من عند الرسول ولا أحد من القراء أو غيرهم.
وللنويري كتاب مخطوط بدار الكتب في مصر وضعه شرحا للطيبة في القراءات العشر يجمل بي أن أنقل إليك منه هنا الكلمة الآتية:
والاعتماد في نقل القرآن على الحفاظ. ولذلك أرسل أي عثمان رضي الله عنه كل مصحف مع من يوافق قراءته في الأكثر وليس بلازم. وقرأ كل مصر بما في مصحفهم وتلقوا ما فيه من الصحابة الذين تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم تجرد للأخذ عن هؤلاء قوم أسهروا ليلهم في ضبطها وأتعبوا نهارهم في نقلها حتى صاروا في ذلك أئمة للاقتداء وأنجما للاهتداء وأجمع أهل بلدهم على قبول قراءتهم ولم يختلف عليهم اثنان في صحة روايتهم ودرايتهم. ولتصديهم للقراءة نسبت إليهم وكان المعول فيها عليهم.
ثم إن القراء بعد هؤلاء كثروا وفي البلاد انتشروا وخلفهم أمم بعد أمم وعرفت طبقاتهم واختلفت صفاتهم فكان منهم المتقن للتلاوة المشهورة بالرواية والدراية ومنهم المحصل لوصف واحد. ومنهم المحصل لأكثر من واحد فكثر بينهم لذلك الاختلاف وقل منهم الائتلاف.
فقام عند ذلك جهابذة الأمة وصناديد الأئمة فبالغوا في الاجتهاد بقدر الحاصل وميزوا بين الصحيح والباطل وجمعوا الحروف والقراءات وعزوا الأوجه والروايات وبينوا الصحيح والشاذ والكثير والفاذ بأصول أصلوها وأركان فضلوها الخ اهـ.
طبقات الحفاظ المقرئين الأوائل:
ولقد اشتهر في كل طبقة من طبقات الأمة جماعة بحفظ القرآن وإقرائه.
فالمشتهرون من الصحابة بإقراء القرآن عثمان وعلي وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وابن مسعود وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري وسائر أولئك الذين أرسلهم عثمان بالمصاحف إلى الآفاق الإسلامية.
والمشتهرون من التابعين ابن المسيب وعروة وسالم وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار وأخوه عطاء وزيد بن أسلم ومسلم بن جندب وابن شهاب الزهري،
وعبد الرحمن بن هرمز ومعاذ بن الحارث المشهور بمعاذ القارئ. وكل هؤلاء كانوا بالمدينة.
وعطاء ومجاهد وطاوس وعكرمة وابن أبي مليكة وعبيد بن عمير وغيرهم وهؤلاء كانوا بمكة.
وعامر بن عبد القيس وأبو العالية وأبو رجاء ونصر بن عاصم ويحيى بن يعمر1 وجابر بن زيد والحسن وابن سيرين وقتادة وغيرهم. وهؤلاء كانوا بالبصرة.
وعلقمة والأسود ومسروق وعبيدة والربيع بن خيثم والحارث بن قيس وعمر بن شرحبيل وعمرو بن ميمون وأبو عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش وعبيد بن نضلة وأبو زرعة بن عمرو وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي. وهؤلاء كانوا بالكوفة.
والمغيرة بن أبي شهاب المخزومي صاحب مصحف عثمان وخليد بن سعيد صاحب أبي الدرداء وغيرهما
وهؤلاء كانوا بالشام.
ثم تفرغ قوم للقراءات يضبطونها ويعنون بها. فكان بالمدينة أبو جعفر يزيد بن القعقاع ثم شيبة بن نصاح2 ثم نافع بن أبي نعيم.
وكان بمكة عبد الله بن كثير وحميد بن قيس الأعرج ومحمد بن محيصن.
وكان بالكوفة يحيى بن وثاب وعاصم بن أبي النجود وسليمان الأعمش ثم حمزة ثم الكسائي.
1 قال في القاموس: يعمر كيفعل أسماء.
2 قال في القاموس: ونصاحه والد شيبة القارى هكذا بالتاء المربوطة. ولكن الذي في كتب القراء كالنشر وطبقات القراء نصاح من غير تاء مربوطة.
وكان بالبصرة عبد الله بن أبي إسحاق وعيسى بن عمرو وأبو عمرو بن العلاء وعاصم الجحدري ثم يعقوب الحضرمي.
وكان بالشام عبد الله بن عامر وعطية بن قيس الكلابي وإسماعيل بن عبد الله بن المهاجر. ثم يحيى بن الحارث الذماري ثم شريح بن يزيد الحضرمي.
وقد لمع في سماء هؤلاء القراء نجوم عدة مهروا في القراءة والضبط حتى صاروا في هذا الباب أئمة يرحل إليهم ويؤخذ عنهم.
أعداد القراءات:
ثم اشتهرت عبارات تحمل أعداد القراءات فقيل القراءات السبع والقراءات العشر والقراءات الأربع عشرة.
وأحظى الجميع بالشهرة ونباهة الشأن القراءات السبع.
وهي القراءات المنسوبة إلى الأئمة السبعة المعروفين وهم: نافع وعاصم وحمزة وعبد الله بن عامر وعبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء وعلي الكسائي. والقراءات العشر هي هذه السبع وزيادة قراءات هؤلاء الثلاثة: أبي جعفر ويعقوب وخلف.
وعلم القراءات أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا. ثم أهل عهد التدوين للقراءات ولم يكن لهذه السبعة بهذا العنوان وجود أيضا بل كان أول من صنف في القراءات أمثال أبي عبيد القاسم بن سلام وأبي حاتم السجستاني وأبي جعفر الطبري وإسماعيل القاضي. وقد ذكروا في القراءات شيئا كثيرا وعرضوا روايات تربي على أضعاف قراءة هؤلاء السبعة.
ثم اشتهرت قراءات هؤلاء السبعة بعد ذلك على رأس المائتين في الأمصار الإسلامية. فكان الناس في البصرة على قراءة أبي عمرو ويعقوب وبالكوفة على قراءة حمزة وعاصم وبالشام على قراءة ابن عامر وبمكة على قراءة ابن كثير وبالمدينة على قراءة نافع.
ومكثت القراءات السبع على هذه الحال دون أن تأخذ مكانها من التدوين حين خاتمة القرن الثالث إذ نهض ببغداد الإمام ابن مجاهد أحمد بن موسى بن عباس فجمع قراءات هؤلاء الأئمة السبعة غير أنه أثبت اسم الكسائي وحذف يعقوب.
وجاء اقتصاره على هؤلاء السبعة مصادفة واتفاقا من غير قصد ولا عمد. ذلك أنه أخذ على نفسه ألا يروي إلا عمن اشتهر بالضبط والأمان وطول العمر في ملازمة القراءة واتفاق الآراء على الأخذ عنه والتلقي منه. فلم يتم له ما أراده هذا إلا عن هؤلاء السبعة وحدهم. وإلا فأئمة القراءة لا يحصون كثرة وفيهم من هو أجل من هؤلاء قدرا وأعظم شأنا.
وإذن فليس اقتصار ابن مجاهد على هؤلاء السبعة بحاصر للقراء فيهم ولا بملزم أحدا أن يقف عند حدود قراءاتهم. بل كل قراءة توافرت فيها الأركان الثلاثة للضابط المشهور وجب قبولها1.
ومن هنا كانت القراءات العشر بزيادة قراءات: يعقوب وأبي جعفر وخلف. على قراءات أولئك السبعة.
وكانت القراءات الأربع عشرة بزيادة أربع على قراءات هؤلاء العشرة وهي قراءات الحسن البصري وابن محيصن ويحيى اليزيدي والشنبوذي.
1 أي إن وجدت الآن. ولكن هيهات أن توجد، بعد أن استقر الأمر في الواقع وعرف أنه ليس في القراءات العشر التي بين أيدينا قراءة أخرى متواترة. وسيستقبلك حقيقه فيما بعد فانتظره.
فوائد اختلاف القراءات:
استوفينا هذه النقطة بيانا في مبحث نزول القرآن على سبعة أحرف من ص 138- ص142.
أنواع اختلاف القراءات:
تكلمنا على هذا الموضوع في مبحث نزول القرآن على سبعة أحرف أيضا من ص 178- ص180.
ضابط قبول القراءات:
لعلماء القراءات ضابط مشهور يزنون به الروايات الواردة في القراءات فيقول: كل قراءة وافقت أحد المصاحف العثمانية ولو تقديرا ووافقت العربية ولو بوجه وصح إسنادها ولو كان عمن فوق العشرة من القراء فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن.
وهذا الضابط نظمه صاحب الطيبة فقال:
وكل ما وافق وجه النحو
…
وكان للرسم احتمالا يحوي
وصح إسنادا هو القرآن
…
فهذه الثلاثة الأركان
وحيثما يختل ركن أثبتِ
…
شذوذه لو أنه في السبعة
والمراد بقولهم: ما وافق أحد المصاحف العثمانية أن يكون ثابتا ولو في بعضها دون بعض. كقراءة ابن عامر: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} من سورة البقرة بغير واو. وكقراءته: {وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} بزيادة الباء في الاسمين فإن ذلك ثابت في
المصحف الشامي. وكقراءة ابن كثير {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في الموضع الأخير من سورة التوبة بزيادة كلمة من فإن ذلك ثابت في المصحف المكي.
والمراد بقولهم: ولو تقديرا أنه يكفي في الرواية أن توافق رسم المصحف ولو موافقة غير صريحة نحو: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فإنه رسم في جميع المصاحف بحذف الألف من كلمة مالك. فقراءة الحذف تحتمله تحقيقا كما كتب ملك الناس وقراءة الألف تحتمله تقديرا كما كتب: {مَالِكَ الْمُلْكِ} فتكون الألف حذفت اختصارا كما حذفت في حالات كثيرة ألمعنا إليها سابقا في قواعد رسم المصحف. أما الموافقة الصريحة فكثيرة نحو قوله سبحانه: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} فإنها كتبت في المصحف بدون نقط. وهنا وافقت قراءة {نُنْشِزُهَا} بالزاي وقراءة ننشرها بالراء.
ومن بعد نظر الصحابة في رسم المصحف أن الكلمة التي رويت على الأصل وعلى خلاف الأصل كانوا يكتبونها بالحرف الذي يخالف الأصل ليتعادل مع الأصل الذي لم يكتب في دلالة الصورة الواحدة على القراءتين إذ يدل على إحداهما بالحروف وعلى الثانية بالأصل. نحو كلمتي الصراط والمصيطرون بالصاد المبدلة بالسين فإنهم كتبوهما بالصاد وعدلوا عن السين التي هي الأصل لتكون قراءة السين وإن خالفت الرسم قد أتت على الأصل فيعتدلان وتكون قراءة الإشمام أيضا محتملة. ولو كتب ذلك بالسين على الأصل لفات هذا الاحتمال وعدت قراءة غير السين مخالفة للرسم والأصل كليهما. ولذلك كان الخلاف المشهور في بصطة الأعراف دون بسطة البقرة لكون حرف البقرة كتب بالسين وحرف الأعراف كتب بالصاد.
وللعلامة النويري على الطيبة كلمة نفيسة في هذا الموضوع إذ يقول ما نصه:
اعلم أن الرسم هو تصوير الكلمة بحروف هجائها بتقدير الابتداء بها والوقف عليها والعثماني هو الذي رسم في المصاحف العثمانية. وينقسم إلى قياسي وهو ما وافق اللفظ وهو معنى قولهم: تحقيقا. وإلى سماعي وهو ما خالف اللفظ وهو معنى قولهم: تقديرا وإلى احتمالي وسيأتي.
ومخالفة الرسم اللفظ محصورة في خمسة أقسام وهي الدلالة على البدل نحو: {الصِّرَاطَ} وعلى الزيادة نحو: {مَالِكِ} وعلى الحذف نحو: {لَكِنَّا هُوَ} وعلى الفصل نحو: {فَمَالِ هَؤُلاءِ} وعلى أن الأصل الوصل نحو: {أَلَّا يَسْجُدُوا} فقراءة الصاد والحذف والإثبات والفصل والوصل خمستها وافقها الرسم تحقيقا وغيرها تقديرا لأن السين تبدل صادا قبل أربعة أحرف منها الطاء كما سيأتي وألف {مَالِكِ} عند المثبت زائدة وأصل {لَكِنَّا} الإثبات وأصل {فَمَالِ} الفصل وأصل {أَلَّا يَسْجُدُوا} الوصل. فالبدل في حكم المبدل منه وكذا الباقي. وذلك ليتحقق الوفاق التقديري لأن اختلاف القراءتين إذا كان يتغاير دون تضاد ولا تناقض فهو في حكم الموافق وإذا كان بتضاد أو تناقض ففي حكم المخالف. والواقع الأول فقط وهو الذي لا يلزم من صحة أحد الوجهين فيه بطلان الآخر.
وتحقيقه: أن اللفظ تارة يكون له جهة واحدة فيرسم على وفقها فالرسم هنا حصر جهة اللفظ فمخالفه مناقض. وتارة يكون له جهات فيرسم على إحداها فلا يحصر جهة اللفظ فاللافظ به موافق تحقيقا وبغيره تقديرا لأن البدل في حكم المبدل منه. وكذا بقية الخمسة.
والقسم الثالث ما وافق الرسم احتمالا. ويندرج فيه ما وقع الاختلاف فيه بالحركة والسكون نحو {الْقُدُسِ} وبالتخفيف والتشديد نحو ينشرلكم بيونس وبالقطع والوصل المعبر عنه بالشكل نحو {ادْخُلُوا} بغافر وباختلاف الإعجام نحو {يَعْلَمُونَ} و {يَفْتَحُ} وبالإعجام والإهمال نحو {نُنْشِزُهَا} وكذا المختلف في كيفية لفظها
كالمدغم والمسهل والممال والمرقق والمدور فإن المصاحف العثمانية هكذا كلها لتجردها عن أوصافها.
فقول الناظم: وكان للرسم احتمالا دخل فيه ما وافق الرسم تحقيقا بطريق الأولى وسواء وافق كل المصاحف أو بعضها كقراءة ابن عامر {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} {وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ} فإنه ثابت بالشامي وكابن كثير في {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} بالتوبة فإنه ثابت في الكوفي إلى غير ذلك.
وقوله احتمالا يحتمل أن يكون جعله مقابلا للتحقيقي. فتكون القسمة عنده ثنائية وهو التحقيقي والاحتمالي ويكون قد أدخل التقديري في الاحتمالي وهو الذي فعله في نشره. ويحتمل أن يكون ثلث القسمة ويكون حكم الأولين ثابتا بالأولوية. ولولا تقدير موافقة الرسم للزم الكل مخالفة الكل في نحو {السَّمَاوَاتِ والصَّالِحَاتِ واللَّيْلِ} .
ثم إن بعض الألفاظ يقع فيه موافقة إحدى القراءتين أو القراءات تحقيقا والأخرى تقديرا نحو ملك وبعضها يقع فيه موافقة القراءتين أو القراءات تحقيقا نحو أنصارا لله {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ، ويَغْفِرْ لَكُمْ، وهَيْتَ لَكَ} .
واعلم أن مخالف صريح الرسم في حرف مدغم أو مبدل أو ثابت أو محذوف أو نحو ذلك لا يعد مخالفا إذا ثبتت القراءة به ووردت مشهورة. ألا ترى أنهم يعدون إثبات ياءات الزوائد وحذف ياء {تَسْأَلْنِي} بالكهف وقراءة وأكون من الصالحين ونحو ذلك من مخالف الرسم غير مردود لرجوعه لمعنى واحد وتمشيه مع صحة القراءة وشهرتها. بخلاف زيادة كلمة ونقصانها وتقديمها وتأخيرها حتى ولو كانت حرف معنى فإن له حكم الكلمة ولا نسوغ مخالفة الرسم فيه. وهذا هو الحد الفاصل في حقيقة اتباع الرسم ومخالفته اهـ.
وقولهم في الضابط المذكور: وافق العربية ولو بوجه يريدون وجها من وجوه قواعد اللغة سواء أكان أفصح أم فصيحا مجمعا عليه أم مختلفا فيه اختلافا لا يضر مثله إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاها الأئمة بالإسناد الصحيح وهذا هو المختار عند المحققين في ركن موافقة العربية.
هاك الحافظ أبا عمرو الداني في كتابه جامع البيان بعد ذكره إسكان كلمة {بَارِئْكُمْ} و {يَأمُرْكُمْ} في قراءة أبي عمرو وبعد حكاية إنكار سيبويه لذلك يقول ما نصه: والإسكان أصح في النقل وأكثر في الأداء. وهو الذي أختاره وآخذ به إلى أن قال: وأئمة القراء لا تعتمد في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل. والرواية إذا ثبتت عندهم لا يردها قياس عربية ولا فشو لغة لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها ا. هـ.
قلت وهذا كلام وجيه فإن علماء النحو إنما استمدوا قواعده من كتاب الله تعالى وكلام رسوله وكلام العرب فإذا ثبتت قرآنية القرآن بالرواية المقبولة كان القرآن هو الحكم على علماء النحو وما قعدوا من قواعد ووجب أن يرجعوا هم بقواعدهم إليه لا أن نرجع نحن بالقرآن إلى قواعدهم المخالفة نحكمها فيه وإلا كان ذلك عكسا للآية وإهمالا للأصل في وجوب الرعاية.
وقولهم في ذلك الضابط: وصح إسناده يريدون به أن يروي تلك القراءة عدل ضابط عن مثله وهكذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من غير شذوذ ولا علة قادحة. بل شرطوا فوق هذا أن تكون الرواية مشهورة عند أئمة هذا الشأن الضابطين له غير معدودة عندهم من الغلط ولا مما شذ به بعضهم. والمحقق ابن الجزري يشترط التواتر ويصرح به في هذا الضابط ويعتبر أن ما اشتهر واستفاض موافقا الرسم والعربية في قوة المتواتر في القطع بقرآنيته وإن كان غير متواتر.
منطوق هذا الضابط ومفهومه:
يدل هذا الضابط بمنطوقه على أن كل قراءة اجتمع فيها هذه الأركان الثلاثة يحكم بقبولها بل لقد حكموا بكفر من جحدها1. سواء أكانت هذه تلك القراءة مروية عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين. ويدل هذا الضابط بمفهومه على أن كل قراءة لم تتوافر فيها هذه الأركان الثلاثة. يحكم بعدم قبولها. وبعدم كفر من يجحدها. سواء أكانت هذه القراءة مروية عن الأئمة السبعة أم عن غيرهم ولو كان أكبر منهم مقاما وأعظم شأنا. هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف كما صرح به الداني ومكي والمهدوي وأبو شامة. وناهيك بهؤلاء الأربعة أنهم أئمة في قراءات القرآن وعلوم القرآن.
قال أبو شامة في كتابه المرشد الوجيز ما نصه: فلا ينبغي أن يغتر بكل قراءة تعزى إلى واحد من هؤلاء الأئمة السبعة ويطلق عليها لفظ الصحة وأنها كذلك أنزلت إلا إذا دخلت في ذلك الضابط. وحينئذ فلا ينفرد بنقلها مصنف عن غيره ولا يختص ذلك بنقلها عنهم بل إن نقلت عن غيرهم من القراء فذلك لا يخرجها عن الصحة فإن الاعتماد على استجماع تلك الأوصاف لا على من تنسب إليه. والقراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ. غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح المجمع عليه في قراءاتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما نقل عن غيره ا. هـ. لكن رأى أبي شامة وأضرابه في القراءات السبع غير سديد كما سيجيء.
1 قد يقال: لا يسلم لهم ذلك إلا إن كانت القراءة متواترة معلومة من الدين بالضرورة، ويمكن أن يجاب بأن هذه الأركان الثلاثة أمارة التواتر والعلم من الدين بالضرورة. كما يأتي تفصيله. وإذن يكون الحكم صحيحا.
ثم إن مفهوم هذا الضابط المحكوم عليه بما ترى تنضوي تحته بضع صور يخالف بعضها حكم بعض تفصيلا وإن اشتركت كلها في الحكم عليها إجمالا بعدم قبولها كما علمت.
ذلك أن الضابط المذكور يصدق مفهومه بنفي الأركان الثلاثة ويصدق بنفي واحد واثنين منها. ولكل حالة حكم خاص تعلمه من عبارة الإمام مكي التي نسوقها إليك ونصها: فإن سأل سائل: ما الذي يقبل من القراءات الآن فيقرأ به؟ وما الذي يقبل ولا يقرأ به؟ وما الذي لا يقبل ولا يقرأ به فالجواب أن جميع ما روي من القراءات على أقسام: قسم يقرأ به اليوم: وذلك ما اجتمع فيه ثلاث خلال وهن أن ينقل عن الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن سائغا ويكون موافقا لخط المصحف.
فإذا اجتمعت فيه هذه الخلال الثلاث قرئ به وقطع على تعينه وصحته وصدقه لأنه أخذ عن إجماع من جهة موافقة خط المصحف وكفر من جحده. قال: والقسم الثاني: ما صح نقله عن الآحاد وصح وجهه في العربية وخالف لفظه خط المصحف. فهذا يقبل ولا يقرأ به1 لعلتين: إحداهما أنه لم يؤخذ عن إجماع إنما أخذ أخبار الآحاد ولا يثبت قرآن يقرأ به بخبر الواحد. والعلة الثانية أنه مخالف لما قد أجمع عليه فلا يقطع على تعينه وصحته وما لم يقطع على صحته لا تجوز القراءة به ولا يكفر من جحده،
1 ومعنى هذا أنه يقبل على اعتبار أنه خبر شرعي يصح الاحتجاج به عند من يرى ذلك وهم الحنفية دون الشافعية، ولا يقرأ به على أنه قرآن، ولا ليوم القارئ أحدا أنه قرآن. قال النويري: اعلم أن الذي استقرت عليه المذاهب وآراء العلماء أن من قرأ بها أي الشواذ غير معتقد أنها قرآن ولا موهم أحدا ذلك لما فيها من الأحكام الشرعبة عند من يحتج بها أو الأحكام الأدبية؛ فلا كلام في جواز قراءتها. وعلى هذا يحمل حال من قرأ بها عند المتقدمين. وكذلك أيضا يجوز تدوينها في الكتب والتكلم على ما فيها. وإن قرأها باعتقاد قرآنيتها أو لإيهام قرآنيتها حرم ذلك. ونقل ابن عبد البر في تمهيده إجماع المسلمين عليه اهـ.
ولبئس ما صنع إذا جحده. والقسم الثالث: هو ما نقله غير ثقة أو نقله ثقة ولا وجه له في العربية فهذا لا يقبل وإن وافق خط المصحف. قال: ولكل صنف من هذه الأقسام تمثيل تركنا ذكره اختصارا اهـ.
ثم انبرى المحقق ابن الجزري لذاك التمثيل الذي تركه مكي اختصارا فقال:-
مثال القسم الأول: ملك ومالك ويخدعون ويخادعون وأوصى ووصى ويطوع وتطوع ونحو ذلك من لقراءات المشهورة.
ومثال الثاني قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء: والذكر والأنثى في قوله تعالى {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} بحذف لفظ ما خلق. وقراءة ابن عباس: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا بإبدال كلمة أمام من كلمة وراء وبزيادة كلمة صالحة وأما الغلام فكان كافرا بزيادة كلمة كافرا ونحو ذلك مما ثبت برواية الثقات إلى أن قال:
ومثال القسم الثالث مما نقله غير ثقة كثير كما في كتب الشواذ مما غالب إسناده ضعيف كقراءة ابن السميفع وأبي السمال وغيرهما في {نُنَجِّيكَ1 بِبَدَنِكَ} بالجيم المعجمة ولمن خلفك آية بفتح اللام أي من قوله خلفك بسكونها. وكالقراءة المنسوبة إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه والتي جمعها أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي ونقلها عنه أبو القاسم الهذلي وغيره إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
1 هنا سقط. والصواب ننحيك بالحاء المهملة في {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} الخ.
الْعُلَمَاءُ برفع الهاء ونصب الهمزة يعني برفع لفظ الجلالة ونصب لفظ العلماء.
وقد راج ذلك على أكثر المفسرين ونسبها إليه فتكلف توجيهها فإنها لا أصل لها وإن أبا حنيفة لبريء منها.
ومثال ما نقله ثقة ولا وجه له في العربية- ولا يصدر هذا إلا على وجه السهو والغلط وعدم الضبط يعرفه الأئمة المحققون والحفاظ الضابطون وهو قليل جدا بل لا يكاد يوجد.
وقد جعل بعضهم منه رواية خارجة عن نافع معائش بالهمز ثم قال: ويدخل في هذين القسمين ما يذكره بعض المتأخرين من شراح الشاطبية في وقف حمزة نحو: أسمائهم وأولئك بياء خالصة ونحو شركاؤهم وأحباؤهم بواو خالصة. ونحو بدأكم وأخاه بألف خالصة ونحو را في رأى وترى في تراءى واشمزت في اشمأزت وفاداراتم في فادارأتم بحذف الهمزة في ذلك كله مما يسمونه التخفيف الرسمي ولا يجوز في وجه من وجوه العربية فإنه إما أن يكون منقولا عن ثقة - ولا سبيل إلى ذلك- فهو مما لا يقبل إذ لا وجه له. وإما أن يكون منقولا عن غير ثقة فمنعه أحرى ورده أولى. مع أني تتبعت ذلك فلم أجده منصوصا لحمزة لا بطريق صحيحة ولا ضعيفة.
ثم قال: ويبقى قسم مردود أيضا وهو ما وافق العربية والرسم ولم ينقل البتة. فهذا رده أحق ومنعه أشد ومرتكبه مرتكب لعظيم من الكبائر. وقد ذكر جواز ذلك عن محمد بن الحسن بن مقسم البغدادي المقرئ النحوي وكان بعد الثلاثمائة.
قال الإمام أبو طاهر بن أبي هاشم في كتابه البيان: وقد نبغ نابغ في عصرنا فزعم أن كل ما صح عنده وجه في العربية بحرف من القرآن يوافق المصحف فقراءته جائزة في الصلاة وغيرها. فابتدع بدعة ضل بها قصد السبيل قلت: وقد عقد له بسبب ذلك
مجلس ببغداد حضره الفقهاء والقراء وأجمعوا على منعه وأوقف للضرب ورجع وكتب عليه محضر بذلك. كما ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخ بغداد وأشرنا إليه في الطبقات اهـ.
ملاحظة:
إنما اكتفى القراء في ضابط القراءة المشهورة بصحة الإسناد مع الركنين الآخرين ولم يشترطوا التواتر: مع أنه لا بد منه في تحقق القرآنية لأسباب ثلاثة:-
أحدها: أن هذا ضابط لا تعريف والتواتر قد لوحظ في تعريف القرآن على أنه شطر أو شرط على الأقل. ولم يلحظ في الضابط لأنه يغتفر في الضوابط ما لا يغتفر في التعاريف. فالضوابط ليست لبيان الماهية والحقيقة.
ثانيها: التيسير على الطالب في تمييز القراءات المقبولة من غيرها فإنه يسهل عليه بمجرد رعايته لهذا الضابط أن يميز القراءات المقبولة من غير المقبولة. أما إذا اشترط التواتر فإنه يصعب عليه ذلك التمييز لأنه يضطر في تحصيله إلى أن يصل إلى جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب في كل طبقة من طبقات الرواية. وهيهات أن يتيسر له ذلك.
ثالثها: أن هذه الأركان الثلاثة تكاد تكون مساوية للتواتر في إفادة العلم القاطع بالقراءات المقبولة. بيان هذه المساواة أن ما بين دفتي المصحف متواتر ومجمع عليه من الأمة في أفضل عهودها وهو عهد الصحابة فإذا صح سند القراءة ووافقت قواعد اللغة ثم جاءت موافقة لخط هذا المصحف المتواتر كانت هذه الموافقة قرينة على إفادة هذه الرواية للعلم القاطع وإن كانت آحادا.
ولا تنس ما هو مقرر في علم الأثر من أن خبر الآحاد يفيد العلم إذا احتفت به قرينة توجب ذلك.
فكأن التواتر كان يطلب تحصيله في الإسناد قبل أن يقوم المصحف وثيقة متواترة بالقرآن. أما بعد وجود هذا المصحف المجمع عليه فيكفي في الرواية صحتها وشهرتها ما وافقت رسم هذا المصحف ولسان العرب.
قال صاحب الكواكب الدرية نقلا عن المحقق ابن الجزري ما نصه: قولنا: وصح سندها نعني به أن يروي تلك القراءة العدل الضابط عن مثله وهكذا حتى ينتهي وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن الضابطين له غير معدودة عندهم من الغلط أو مما شذ به بعضهم.
وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن ولم يكتف بصحة السند وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر1. وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن. وهذا مما لا يخفى ما فيه فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الآخرين من موافقة الرسم وغيره. إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب قبوله وقطع بكونه قرآنا سواء وافق الرسم أم خالفه اهـ.
وبهذا التوجيه الذي وجهنا به الضابط المذكور يهون اعتراض العلامة النويري في شرحه على الطيبة إذ يقول ما نصه: وقوله: وصح إسنادا ظاهره أن القرآن يكتفي في ثبوته مع الشرطين المتقدمين بصحة السند فقط ولا يحتاج إلى تواتر. وهذا قول حادث مخالف لإجماع الفقهاء والمحدثين وغيرهم كما ستراه إن شاء الله تعالى. ولقد ضل بسبب هذا القول قوم فصاروا يقرؤون أحرفا لا يصح لها سند أصلا ويقولون: التواتر
1 أي في هذا الضابط الذي لوحظ فيه وجود الركنيين الآخرين مع هذا الركن. وإنما فسرنا كلامه بذلك لأن التواتر مجرد شرط أو شطر في القرآن كما هو التحقيق. ولأن موضوع حديثه هنا إنما هو اشتراط التواتر في هذا الركن الذي هو جزء من الضابط، كما صرح به أولا، كما يرشد إليه كلامه آخرا.
ليس بشرط. وإذا طولبوا بسند صحيح لا يستطيعون ذلك. ولا بد لهذه المسألة من بعض بسط فلذلك لخصت فيها مذاهب القراء والفقهاء الأربعة المشهورين وما ذكر الأصوليون والمفسرون وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وذكرت في هذا التعليق المهم من ذلك لأنه لا يحتمل التطويل فأقول:
القرآن عند الجمهور من أئمة المذاهب الأربعة منهم الغزالي وصدر الشريعة وموفق الدين المقدسي وابن مفلح والطوفي هو ما نقل بين دفتي المصحف نقلا متواترا. وقال غيرهم: هو الكلام المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه. وكل من قال بهذا الحد اشترط التواتر كما قال ابن الحاجب رحمه الله تعالى للقطع بأن العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله. والقائلون بالأول لم يحتاجوا للعادة لأن التواتر عندهم جزء من الحد فلا تتصور ماهية القرآن إلا به. وحينئذ فلا بد من التواتر عند أئمة المذاهب الأربعة ولم يخالف منهم أحد فيما علمت بعد الفحص الزائد. وصرح به جماعات لا يحصون كابن عبد البر وابن عطية وابن تيمية والتونسي في تفسيره والنووي والسبكي والإسنوي والأذرعي والزركشي والدميري وابن الحاجب والشيخ خليل وابن عرفة وغيرهم رحمهم الله تعالى.
وأما القراء فأجمعوا في أول الزمان على ذلك وكذلك في آخره لم يخالف من المتأخرين إلا أبو محمد مكي وتبعه بعض المتأخرين. وهذا كلامهم الخ اهـ. ثم ساق نقولا كثيرة عزاها إليهم يقصر المقام هنا عن عرضها. وفيما ذكرناه كفاية. وهذا التوجيه الذي وجهنا به الضابط السالف يجعل الخلاف كأنه لفظي ويسير بجماعات القراء على جدد الطريق في تواتر القرآن ومن سلك الجدد أمن العثار.
أنواع القراءات من حيث السند:
ينقل السيوطي عن ابن الجزري أن أنواع القراءات ستة:-
الأول المتواتر: وهو ما رواه جمع عن جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم: مثاله ما اتفقت الطرق في نقله عن السبعة. وهذا هو الغالب في القراءات.
الثاني المشهور: هو ما صح سنده بأن رواه العدل الضابط عن مثله وهكذا ووافق العربية ووافق أحد المصاحف العثمانية سواء أكان عن الأئمة السبعة أم العشرة أم غيرهم من الأئمة المقبولين واشتهر عند القراء فلم يعدوه من الغلط ولا من الشذوذ إلا أنه لم يبلغ درجة المتواتر. مثاله: ما اختلفت الطرق في نقله عن السبعة فرواه بعض الرواة عنهم دون بعض. ومن أشهر ما صنف في هذين النوعين التيسير للداني والشاطبية وطيبة النشر في القراءات العشر. وهذان النوعان هما اللذان يقرأ بهما مع وجوب اعتقادهما ولا يجوز إنكار شيء منهما.
النوع الثالث: ما صح سنده وخالف الرسم أو العربية أو لم يشتهر الاشتهار المذكور. وهذا النوع لا يقرأ به ولا يجب اعتقاده. من ذلك ما أخرجه الحاكم من طريق عاصم الجحدري عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: متكئين على رفارف خضر وعباقري حسان. ومنه قراءة لقد جاءكم رسول من أنفسكم بفتح الفاء.
الرابع الشاذ: وهو ما لم يصح سنده كقراءة ابن السميفع: فاليوم ننحيك ببدنك بالحاء المهملة "لتكون لمن خلفك آية" بفتح اللام من كلمة {خَلَفَكَ} .
الخامس الموضوع: وهو ما نسب إلى قائله من غير أصل. مثال ذلك القراءات التي جمعها محمد بن جعفر الخزاعي ونسبها إلى أبي حنيفة. وقد سبق الكلام عليها في شرح الضابط الآنف.
النوع السادس: ما يشبه المدرج من أنواع الحديث. وهو ما زيد في القراءات على وجه التفسير كقراءة سعد ابن أبي وقاص "وله أخ أو أخت من أم" بزيادة لفظ "من أم". وقراءة: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج" بزيادة لفظ "في مواسم الحج" وقراءة الزبير: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم بزيادة لفظ ويستعينون بالله على ما أصابهم.
وإنما كان شبيها ولم يكن مدرجا لأنه وقع خلاف فيه. قال عمر رضي الله عنه: فما أدري أكانت قراءاته يعني الزبير أم فسر أخرجه سعيد بن منصور وأخرجه ابن الأنباري وجزم بأنه تفسير. وكان الحسن يقرأ: "وإن منكم إلا واردها" الورود: الدخول قال ابن الأنباري: قوله الورود: الدخول تفسير من الحسن لمعنى الورود. وغلط فيه بعض الرواة فأدخله في القرآن.
قال ابن الجزري في آخر كلامه: وربما كانوا يدخلون التفسير في الكلام إيضاحا لأنهم متحققون لما تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنا. فهم آمنون من الالتباس انتهى بتصرف تبعنا فيه صاحب الكواكب الدرية.
تواتر القرآن:
أكتفي في هذا الموضوع بأن أسوق إليك نقولا ثلاثة فوق ما نقلته عن النويري من قبل:
أولها: يقول الإمام الغزالي في المستصفى ما نصه: حد الكتاب ما نقل إلينا بين دفتي المصحف على الأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا. ونعني بالكتاب القرآن المنزل. وقيدناه بالمصحف لأن الصحابة بالغوا في الاحتياط في نقله حتى كرهوا التعاشير والنقط،
وأمروا بالتجريد كيلا يختلط بالقرآن غيره ونقل إلينا متواترا فنعلم أن المكتوب في المصحف المتفق عليه هو القرآن وأن ما هو خارج عنه فليس منه إذ يستحيل في العرف والعادة مع توافر الدواعي على حفظه أن يهمل بعضه فلا ينقل أو يخلط به ما ليس منه. ثم قال: فإن قيل: لم شرطتم التواتر؟ قلنا ليحصل العلم به لأن الحكم بما لا يعلم جهل وكون الشيء كلام الله تعالى أمر حقيقي ليس بوضعي حتى يتعلق بظننا فيقال: إذا ظننتم كذا فقد حرمنا عليكم فعلا أو حللناه لكم فيكون التحريم معلوما عند ظننا ويكون ظننا علامة لتعلق التحريم به. إلى أن قال:
ويتشعب عن حد الكلام مسألتان: إحداهما مسألة التتابع في صوم كفارة اليمين: فإنه ليس بواجب على قول وإن قرأ ابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات لأن هذه الزيادة لم تتواتر فليست من القرآن فتحمل على أنه ذكرها في معرض البيان لما اعتقده مذهبا فلعله اعتقد التتابع حملا لهذا المطلق على المقيد بالتتابع في الظهار. وقال أبو حنيفة: يجب التتابع لأنه وإن لم يثبت كونه قرآنا فلا أقل من كونه خبرا والعمل يجب بخبر الواحد. وهذا ضعيف لأن خبر الواحد لا دليل على كذبه وهو1 إن جعله من القرآن فهو خطأ قطعا لأنه وجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغه طائفة من الأمة تقوم الحجة بقولهم وكان لا يجوز له مناجاة الواحد به. وإن لم يجعله من القرآن احتمل أن يكون ذلك مذهبا له لدليل قد دله عليه واحتمل أن يكون خبرا. وما تردد بين
1 كذا بالأصل الذي نفلت عنه. ولعل الواو في لفظ وهو زادتها المطبعة خطأ. وجملة لا دليل على كذبه حالية من لفظ الواحد، والمعنى هكذا: لأن خبر الواحد هنا حال كونه لا دليل على كذبه، ولفظ هو ضمير فصل أو عائد على خبر الواحد، إن جعله أبو حنيفة من القرآن الخ. ويمكن أن تكون كلمة وهو كلها مدرجة في الطبع أو النسخ فتدبر.
أن يكون خبرا أو لا يكون فلا يجوز العمل به وإنما يجوز العمل بما يصرح الراوي بسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما المسألة الثانية فهي أن البسملة آية من القرآن لكن هل هي آية من أول كل سورة؟ فيه خلاف. وميل الشافعي رحمه الله إلى أنها آية من سورة الحمد وسائر السور لكنها في أول كل سورة آية برأسها أو هي مع أول آية من سائر السور آية هذا مما نقل عن الشافعي فيه تردد. وهذا أصح من قول من حمل تردد قول الشافعي على أنها هل هي من القرآن في أول كل سورة؟ بل الذي يصح أنها حيث كتبت مع القرآن بخط القرآن فهي من القرآن اهـ ما أردنا نقله بتصرف طفيف.
ثانيها: يقول صاحب مسلم الثبوت وشارحه ما نصه: ما نقل آحادا فليس بقرآن قطعا ولم يعرف فيه خلاف لواحد من أهل المذاهب واستدل بأن القرآن مما تتوافر الدواعي على نقله لتضمنه التحدي ولأنه أصل الأحكام باعتبار المعنى والنظم جميعا حتى تعلق بنظمه أحكاما كثيرة ولأنه يتبرك به في كل عصر بالقراءة ولذا علم جهد الصحابة من حفظه بالتواتر القاطع. وكل ما تتوافر دواعي نقله ينقل متواترا عادة. فوجوده ملزوم التواتر عند الكل عادة فإذا انتفى اللازم وهو التواتر انتفى الملزوم قطعا. والمنقول آحادا ليس متواترا فليس قرآنا اهـ.
ثالثها: يقول الحافظ جلال الدين في الإتقان ما نصه: لا خلاف أن كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله وأجزائه. وأما في محله ووضعه وترتيبه فكذلك عند محققي أهل السنة للقطع بأن العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله لأن هذا المعجز العظيم الذي هو أصل الدين القويم والصراط المستقيم مما تتوافر الدواعي على نقل جمله وتفاصيله فما نقل آحادا ولم يتواتر يقطع بأنه ليس من القرآن.
وذهب كثير من الأصوليين إلى أن التواتر شرط في ثبوت ما هو من القرآن بحسب أصله. وليس بشرط في محله ووضعه وترتيبه. بل يكثر فيها نقل الآحاد. قيل وهو الذي يقتضيه صنع الشافعي في إثبات البسملة من كل سورة. ورد هذا المذهب بأن الدليل السابق يقتضي التواتر في الجميع ولأنه لو لم يشترط لجاز سقوط كثير من القرآن المكرر وثبوت كثير مما ليس بقرآن منه. أما الأول فلأنا لو لم نشترط التواتر في المحل جاز ألا يتواتر كثير من المكررات الواقعة في القرآن. {مثل فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . وأما الثاني فلأنه إذا لم يتواتر بعض القرآن بحسب المحل جاز إثبات ذلك البعض في الموضع بنقل الآحاد. وقال القاضي أبو بكر في الانتصار: ذهب قوم من الفقهاء والمتكلمين إلى إثبات قرآن حكما لا علما بخبر الواحد دون الاستفاضة. وكره ذلك أهل الحق وامتنعوا منه وقال قوم من المتكلمين: إنه يسوغ إعمال الرأي والاجتهاد في إثبات قراءة وأوجه وأحرف إذا كانت تلك الأوجه صوابا في العربية وإن لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بها. وأبى ذلك أهل الحق وأنكروه وخطؤوا من قال به. اهـ.
وقد بنى المالكية وغيرهم ممن قال بإنكار البسملة قولهم على هذا الأصل وقرروا أنها لم تتواتر في أوائل السور وما لم يتواتر فليس بقرآن. وأجيب من قبلنا بمنع كونها لم تتواتر فرب متواتر عند قوم دون آخرين وفي وقت دون آخر. ويكفي في تواترها إثباتها في مصاحف الصحابة فمن بعدهم بخط المصحف مع منعهم أن يكتب في المصحف ما ليس منه كأسماء السور وآمين والأعشار. فلو لم تكن قرآنا لما استجازوا إثباتها بخطه من غير تمييز لأن ذلك يحمل على اعتقاد كونها قرآنا. فيكونون مغررين بالمسلمين حاملين لهم على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآنا وهذا مما لا يجوز اعتقاده في الصحابة. فإن قيل: لعلها أثبتت للفصل بين السور. أجيب بأن هذا فيه تغيير،
ولا يجوز ارتكابه لمجرد الفصل ولو كانت له لكتبت بين براءة والأنفال. اهـ كلام السيوطي.
وهذه النقول الثلاثة كافية في الموضوع كما ترى لأن عبارتي المستصفى ومسلم الثبوت يقيمان الدليل واضحا على تواتر القرآن وإن اختلف طريقهما في الاستدلال. وعبارة السيوطي تذكر الخلاف في عموم هذا التواتر لما كان أصلا وغير أصل وتؤيد هذا العموم وترد على من قصر التواتر على أصل القرآن دون محله ووضعه وترتيبه.
الآراء في القراءات السبع:
هنا يجد الباحث نفسه في معترك مليء بكثرة الخلافات واضطراب النقول واتساع المسافة بين المختلفين إلى حد بعيد.
وإليك صورة مصغرة تشهد فيها حرب الآراء والأفكار مشبوبة بين الكاتبين في هذا الموضوع:
1-
يبالغ بعضهم في الإشادة بالقراءات السبع ويقول: من زعم أن القراءات السبع لا يلزم فيها التواتر فقوله كفر لأنه يؤدي إلى عدم تواتر القرآن جملة. ويعزى هذا الرأي إلى مفتي البلاد الأندلسية الأستاذ أبي سعيد فرج بن لب وقد تحمس لرأيه كثيرا وألف رسالة كبيرة في تأييد مذهبه والرد على من رد عليه.
ولكن دليله الذي استند إليه لا يسلم له فإن القول بعدم تواتر القراءات السبع لا يستلزم القول بعدم تواتر القرآن. كيف؟ وهناك فرق بين القرآن والقراءات السبع بحيث يصح أن يكون القرآن متواترا في غير القراءات السبع أو في القدر الذي اتفق عليه القراء جميعا أو في القدر الذي اتفق عدد يؤمن تواطؤهم على الكذب قراء كانوا
أو غير قراء بينما تكون القراءات السبع غير متواترة وذلك في القدر الذي اختلف فيه القراء ولم يجتمع على روايته عدد يؤمن تواطؤهم على الكذب في كل طبقة وإن كان احتمالا ينفيه الواقع كما هو التحقيق الآتي.
2-
يبالغ بعضهم في توهين القراءات السبع والغض من شأنها فيزعم أنه لا فرق بينها وبين سائر القراءات ويحكم بأن الجميع روايات آحاد. ويستدل على ذلك بأن القول يتواترها منكر يؤدي إلى تكفير من طعن في شيء منها مع أن الطعن وقع فعلا من بعض العلماء والأعلام.
ونناقش هذا الدليل بأنا لا نسلم أن إنكار شيء من القراءات يقتضي التكفير على القول بتواترها. وإنما يحكم بالتكفير على من علم تواترها ثم أنكره. والشيء قد يكون متواترا عند قوم غير متواتر عند آخرين وقد يكون متواترا في وقت دون آخر فطعن من طعن منهم يحمل على ما لم يعلموا تواتره منها وهذا لا ينفي التواتر عند من علم به {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} .
ويمكن مناقشة هذا الدليل أيضا بأن طعن الطاعنين إنما هو فيما اختلف فيه وكان من قبيل الأداء. أما ما اتفق عليه فليس بموضع طعن. ونحن لا نقول إلا بتواتر ما اتفق عليه دون ما اختلف فيه.
3-
يقول ابن السبكي في جمع الجوامع وشارحه ومحشيه: القراءات السبع متواترة تواترا تاما أي نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم جمع يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب لمثلهم وهلم جرا.
ولا يضر كون أسانيد القراء آحادا إذ تخصيصها بجماعة لا يمنع مجيء القراءات عن غيرهم بل هو الواقع فقد تلقاها عن أهل كل بلد بقراءة إمامهم الجم الغفير عن مثلهم وهلم جرا. وإنما أسندت إلى الأئمة المذكورين ورواتهم المذكورين في أسانيدهم لتصديهم
لضبط حروفها وحفظ شيوخهم الكمل فيها اهـ.
وقد يناقش هذا بأنها لو تواترت جميعا ما اختلف القراء في شيء منها لكنهم اختلفوا في أشياء منها فإذا لا يسلم أن تكون كلها متواترة.
ويجاب عن هذا بأن الخلاف لا ينفي التواتر بل الكل متواتر وهم فيه مختلفون فإن كل حرف من الحروف السبعة التي نزل بها القرآن بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جماعة يؤمن تواطئهم على الكذب حفظا لهذا الكتاب وهم بلغوه إلى أمثالهم وهكذا. ولا شك أن الحروف يخالف بعضها بعضا فلا جرم تواتر كل حرف عند من أخذ به وإن كان الآخر لم يعرفه ولم يأخذ به. وهنا يجتمع التخالف والتواتر. وهنا يستقيم القول بتواتر القراءات السبع بل القراءات العشر كما يأتي.
4-
ويذهب ابن الحاجب إلى تواتر القراءات السبع غير أنه يستثني منها ما كان من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة. قال البناني على جمع الجوامع: وكأن وجه ذلك أن ما كان من قبيل الأداء بأن كان هيئة للفظ يتحقق اللفظ بدونها كزيادة المد على أصله وما بعده من الأمثلة وما كان من هذا القبيل لا يضبطه السماع عادة لأنه يقبل الزيادة والنقصان بل هو أمر اجتهادي. وقد شرطوا في التواتر ألا يكون في الأصل عن اجتهاد. فإن قيل قد يتصور الضبط في الطبقة الأولى للعلم بضبطها ما سمعته منه صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي صدر منه من غير تفاوت بسبب تكرر عرضها ما سمعته منه صلى الله عليه وسلم. قلنا إن سلم وقوع ذلك لم يفد إذ لا يأتي نظيره في بقية الطبقات فإن الطبقة الأولى لا تقدر عادة على القطع بأن ما تلقته الثانية جار على الوجه الذي نطق به النبي صلى الله عليه وسلم. وبما تقرر علم أن الكلام فيما زاد على أصل المد وما بعده لا في الأصل فإنه متواتر.
الحاصل أنه إن أريد بتواتر ما كان من قبيل الأداء تواتره باعتبار أصله كأن يراد تواتر المد من غير نظر لمقداره وتواتر الإمالة كذلك فالوجه خلاف ما قال
ابن الحاجب للعلم بتواتر ذلك. وإن أريد تواتر الخصوصيات الزائدة على الأصل فالوجه ما قاله ابن الحاجب
قاله ابن قاسم اهـ بقليل من التصرف.
لكننا إذا رجعنا لعبارة ابن الحاجب نجدها كما يقول في مختصر الأصول له: القراءات السبع متواترة فيما ليس من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوه اهـ وهذا زعم صريح منه بأن المد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوها من قبيل الأداء وأنها غير متواترة. وهذا غير صحيح كما يأتيك نبؤه في مناقشة ابن الجزري له طويلا.
5-
يذهب أبو شامة إلى أن القراءات السبع متواترة فيما اتفقت الطرق على نقله عن القراء أما ما اختلفت الطرق في نقله عنهم فليس بمتواتر سواء أكان الاختلاف في أداء الكلمة كما ذهب ابن الحاجب أم في لفظها. فالاستثناء هنا أعم مما استثناه ابن الحاجب. وعبارة أبي شامة في كتابه المرشد الوجيز نصها ما يأتي: ما شاع على ألسنة جماعة من متأخري المقرئين وغيرهم من أن القراءات السبع متواترة ونقول به فيما اتفقت الطرق على نقله عن القراء السبعة دون ما اختلفت فيه بمعنى أنه نفيت نسبته إليهم في بعض الطرق. وذلك موجود في كتب القراءات لا سيما كتب المغاربة والمشارقة فبينهما تباين في مواضع كثيرة. والحاصل أنا لا نلتزم التواتر في جميع الألفاظ المختلف فيها بين القراء. أي بل منها المتواتر وهو ما اتفقت الطرق على نقله عنهم وغير المتواتر وهو ما اختلفت فيه بالمعنى السابق. وهذا بظاهره يتناول ما ليس من قبيل الأداء وما هو من قبيله اهـ. نقلا عن الجلال المحلي في شرح جمع الجوامع بتذييل منه.
ورأي أبو شامة هذا كنت أقول في الطبعة الأولى إنه أمثل الآراء فيما أرى وذلك لأمور أربعة:
أولها: أنه رأي سليم من التوهينات التي نوقشت بها الآراء السابقة.
ثانيها: أن يستند إلى الواقع في دعواه وفي دليله. ذلك أن القراءات السبع وقع اختلاف بعضها حقيقة في النطق بألفاظ الكلمات تارة وبأداء تلك الألفاظ تارة أخرى. ومن هنا كانت الدعوى مطابقة للواقع
ثم إن دليله يقوم على الواقع أيضا في أن بعض الروايات مضطربة في نسبتها إلى الأئمة القراء فبعضهم نفاها وبعضهم أثبتها. وذلك أمارة انتفاء التواتر لأن الاتفاق في كل طبقة من الجماعة الذين يؤمن تواطؤهم على الكذب لازم من لوازم التواتر. وقد انتفى هذا الاتفاق هنا فينتفي التواتر لما هو معلوم من أنه كلما انتفى اللازم انتفى الملزوم.
ثالثها: أن هذا الرأي صادر عن إخصائي متمهر في القراءات وعلوم القرآن وهو أبو شامة وصاحب الدار أدرى بما فيها.
رابعها: أن هذا الرأي يتفق وما هو مقرر لدى المحققين من أن القراءات قد تتوافر فيها الأركان الثلاثة المذكورة في ذلك الضابط المشهور وقد تنتفي هذه الأركان الثلاثة كلا أو بعضا لا فرق في هذا بين القراءات السبع وغير السبع على نحو ما تقدم. ويتفق هذا الرأي أيضا وما صرحوا به من تقسيم القراءات باعتبار السند إلى ستة أقسام كما سبق.
استدراك:
لكني بعد معاودة البحث والنظر واتساع أفق اطلاعي فيما كتب أهل التحقيق في هذا الشأن تبين لي أن أبا شامة أخطأه الصواب أيضا فيمن أخطأ وأنني أخطأت في مشايعته وتأييده.
ويضطرني إنصاف الحق أن أكر على الوجوه التي أيدته بها بين يديك فأنقضها وجها وجها. والرجوع إلى الحق فضيلة.
1-
فرأي أبي شامة المسطور لم يسلم من مثل تلك التوهينات التي نوقشت بها الآراء السابقة وسترى قريبا شدة مناقشته الحساب في كلام ابن الجزري.
2-
ثم إن الغطاء قد انكشف عن أن القراءات السبع بل القراءات العشر كلها متواترة في الواقع وأن الخلاف بينها لا ينفي عنها التواتر فقد يجتمع التواتر والتخالف كما بينا عند عرض رأي ابن السبكي وكما يستبين لك الأمر فيما يأتي من تحقيق ابن الجزري.
3-
أما أن أبا شامة أخصائي متمهر فسبحان من له العصمة والكمال لله تعالى وحده. على أن الذي رد عليه واخترنا رأيه -وهو ابن الجزري- أخصائي متمهر أيضا وإليه انتهت الزعامة في هذا الفن حتى إذا أطلق لقب المحقق لم ينصرف إلا إليه وكم ترك الأول للآخر.
4-
وأما ما قرره المحققون من تقسيم القراءات إلى متواتر وغير متواتر فهو تقسيم لا يغني عن أبي شامة شيئا في رأيه هذا لأن كلامهم هناك كان في مطلق القراءات أما كلامنا وكلام أبي شامة هنا فهو في خصوص القراءات السبع. وبينهما برزخ لا يبغيان.
الآراء في القراءات الثلاث المتممة للعشر:
لقد علمت فيما سبق ما قيل في القراءات السبع من أنها متواترة أو غير متواترة. أما القراءات الثلاث المكملة للعشر فقيل فيها بالتواتر ويعزى ذلك إلى ابن السبكي. وقيل فيها بالصحة فقط ويعزى ذلك إلى الجلال المحلي. وقيل فيها بالشذوذ ويعزى ذلك إلى الفقهاء الذين يعتبرون كل ما وراء القراءات السبع شاذا.
التحقيق تواتر القراءات العشر كلها:
والتحقيق الذي يؤيده الدليل هو أن القراءات العشر كلها متواترة وهو رأي المحققين من الأصوليين والقراء كابن السبكي وابن الجزري والنويري بل هو رأي أبي شامة في نقل آخر صححه الناقلون عنه وجوزوا أن يكون الرأي الآنف مدسوسا عليه أو قاله أول أمره ثم رجع عنه بعد. ولعل من الصواب والحكمة أن أترك الكلام هنا للمحقق ابن الجزري يصول فيه ويجول ويسهب ويطرب واضعا للحق في نصابه دافعا للخطأ وشبهاته. فاقرأه واصبر على الإكثار والتطويل فإن المقام دقيق وجليل {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .
قال رحمه الله في كتابه منجد المقرئين ابتداء من الصفحة السابعة والخمسين ما نصه:
الفصل الثاني في أن القراءات العشر متواترة فرشا وأصولا حال اجتماعهم وافتراقهم وحل مشكل ذلك اعلم أن العلماء بالغوا في ذلك نفيا وإثباتا وأنا أذكر أقوال كل ثم أبين الحق من ذلك. أما من قال بتواتر الفرش1 دون الأصول فابن الحاجب. قال في مختصر الأصول له: القراءات السبع متواترة فيما ليس من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوه اهـ. فزعم أن المد والإمالة وما أشبه ذلك من الأصول كالإدغام وترقيق الراءات وتفخيم اللامات ونقل الحركة وتسهيل الهمزة من قبيل الأداء وأنه غير متواتر. وهذا قول غير صحيح كما سنبينه.
1 يراد بالفرش الجزئيات التي يقع الخلاف في قراءتها ولا يقاس عليها. كقراءة يخدعون في سورة البقرة لا يقاس عليها ما جاء في سورة النساء من كلمة {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} مع أن الخلاف وقع في قراءة الأولى. ويراد بالأصول الكليات التي تندرج تحتها الجزئيات المتماثلة، كقواعد المد والهمز والإمالة.
أما المد فأطلقه وتحته ما يسكب العبرات فإنه إما أن يكون طبيعيا أو عرضيا. والطبيعي هو الذي لا تقوم ذات حروف المد بدونه كالألف من قال والواو من يقول والياء من قيل. وهذا لا يقول مسلم بعدم تواتره إذ لا تمكن القراءة بدونه. والمد العرضي هو الذي يعرض زيادة على الطبيعي لموجب إما سكون أو همز.
فأما السكون فقد يكون لازما كما في فواتح السور وقد يكون مشددا نحو آلم ق ن ولا الضالين ونحوه فهذا يلحق بالطبيعي لا يجوز فيه القصر لأن المد قام مقام حرف توصلا للنطق بالساكن. وقد أجمع المحققون من الناس على مده قدرا سواء. وأما الهمز فعلى قسمين: الأول إما أن يكون حرف المد في كلمة والهمز في أخرى وهذا تسميه القراء منفصلا واختلفوا في مده وقصره وأكثرهم على المد فادعاؤه عدم تواتر المد فيه ترجيح بلا مرجح ولو قال العكس لكان أظهر لشبهته لأن أكثر القراء على المد. الثاني أن يكون حرف المد والهمز في كلمة واحدة وهو الذي يسمى متصلا. وقد أجمع القراء سلفا وخلفا من كبير وصغير وشريف وحقير على مده لا خلاف بينهم في ذلك إلا ما روي عن بعض من لا يعول عليه بطريق شاذة فلا تجوز القراءة به. حتى إن إمام الرواية أبا القاسم الهذلي - الذي دخل المشرق والمغرب وأخذ القراءة عن ثلاثمائة وخمسة وستين شيخا وقال: رحلت من آخر المغرب إلى فرغانة يمينا وشمالا وجبلا وبحرا وألف كتابه الكامل الذي جمع فيه بين الذرة وأذن الجرة من صحيح وشاذ ومشهور ومنكر- قال في باب المد في فصل المتصل: لم يختلف في هذا الفصل أنه ممدود على وتيرة واحدة فالقراء فيه على نمط واحد وقدروه بثلاث ألفات- إلى أن قال- وذكر العراقي أن الاختلاف في مد كلمة واحدة كالاختلاف في مد كلمتين ولم أسمع هذا لغيره. وطالما مارست الكتب والعلماء فلم أجد من يجعل مد الكلمة الواحدة كمد الكلمتين إلا العراقي. قلت: والعراقي هو منصور بن أحمد المقرئ كان بخراسان. ولقد أخطأ
في ذلك وشيوخه الذين قرأ عليهم نعرفهم الإمام أبو بكر بن مهران وأبو الفرج الشنبوذي وإبراهيم بن أحمد المروزي ولم يرو عنهم شيء من ذلك في طريق من الطرق.
فإذا كان ذلك يجسر ابن الحاجب أو من هو أكبر منه على أن يقدم على ما أجمع عليه فيقول: هو غير متواتر فهذه أقسام المد العرضي أيضا متواترة: لا يشك في ذلك إلا جاهل. وكيف يكون المد غير متواتر وقد أجمع عليه الناس خلفا عن سلف؟
فإن قيل: قد وجدنا القراء في بعض الكتب كالتيسير للحافظ الداني وغيره جعل لهم فيما مد للهمز مراتب في المد إشباعا وتوسطا وفوقه ودونه وهذا لا ينضبط إذ المد لا حد له. وما لا ينضبط كيف يكون متواترا؟ قلت: نحن لا ندعي أن مراتبه متواترة وإن كان قد ادعاه طائفة من القراء والأصوليين. بل نقول: إن المد العرضي من حيث هو متواتر مقطوع به قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى عليه وأنه ليس من قبيل الأداء فلا أقل من أن نقول القدر المشترك متواتر. وأما ما زاد على القدر المشترك كعاصم وحمزة وورش فهو إن لم يكن متواترا فصحيح مستفاض1 متلقى بالقبول. ومن ادعى تواتر الزائد على القدر المشترك فليبين.
وأما الإمالة على نوعيها فهي وضدها لغتان فاشيتان من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن مكتوبتان في المصاحف متواترتان وهل يقول أحد في لغة أجمع الصحابة والمسلمون على كتابتها في المصاحف إنها من قبيل الأداء؟ وقد نقل الحافظ الحجة أبو عمرو الداني في كتابه إيجاز البيان الإجماع على أن الإمالة لغة لقبائل العرب دعاهم إلى الذهاب إليها التماس الخفة. وقال الإمام أبو القاسم الهذلي في كتاب الكامل: إن الإمالة والتفخيم لغتان ليست إحداهما أقدم من الأخرى: بل نزل القرآن بهما جميعا - إلى أن قال- والجملة
1 كذا بالأصل. ولعل صوابه مستفيض.
بعد التطويل أن من قال إن الله تعالى لم ينزل القرآن بالإمالة أخطأ وأعظم الفرية على الله تعالى وظن بالصحابة خلاف ما هم عليه من الورع والتقى.
قلت: كأنه يشير إلى كونهم كتبوا بالإمالة في المصاحف نحو يحيى وموسى وهدى ويسعى والهدى ويغشيها وجليها وآسى وآتينكم وما أشبه ذلك مما كتبوه بالياء على لغة الإمالة وكتبوا مواضع تشبه هذا بالألف على لغة الفتح منها قوله عز وجل في سورة إبراهيم: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} حتى إنهم كتبوا {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} في البقرة بالياء وكتبوا {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} بالألف وأي دليل أعظم من ذلك؟
قال الهذلي: وقد أجمعت الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا على الأخذ والقراءة والإقراء بالإمالة والتفخيم. وذكر أشياء ثم قال: وما أحد من القراء إلا رويت عنه إمالة قلت أو كثرت إلى أن قال وهي يعني الإمالة لغة هوازن وبكر بن وائل وسعد بن بكر.
وأما تخفيف الهمزة ونحوه من النقل والإدغام وترقيق الراءات وتفخيم اللامات فمتواتر قطعا معلوم أنه منزل من الأحرف السبعة ومن لغات العرب الذين لا يحسنون غيره وكيف يكون غير متواتر أو من قبيل الأداء؟ وقد أجمع القراء في مواضع على الإدغام في مثل {مُدَّكِرٍ، أَثْقَلَتْ1 دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا، مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} وكذلك أجمع القراء في مواضع على تخفيف الهمز نحو {آلْآنَ، آللَّهُ، آلذَّكَرَيْنِ} في الاستفهام وفي مواضع على النقل نحو {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} ويرى ونرى وعلى ترقيق الراءات في مواضع نحو {فِرْعَوْنَ، مِرْيَةٍ} وعلى تفخيم اللامات في مواضع نحو اسم الجلالة بعد الضمة والفتحة.
1 لعله يريد إدغام التاء في الدال.
وأجمع الصحابة رضوان الله عليهم على كتابة الهمزة الثانية من قوله تعالى في آل عمران {أَؤُنَبِّئُكُمْ} بواو. قال أبو عمرو الداني وغيره: إنما كتبوا ذلك على إرادة تسهيل الهمزة بين بين اهـ. وكيف يكون ما أجمع عليه القراء أمما عن أمم غير متواتر. وإذا كان المد وتخفيف الهمز والإدغام غير متواتر على الإطلاق فما الذي يكون متواترا؟ أقصر آلم ودابة وأولئك الذي لم يقرأ به أحد من الناس؟ أم تخفيف همزة {آلذَّكَرَيْنِ، آللَّهُ} الذي أجمع الناس على أنه لا يجوز وأنه لحن؟ أم إظهار {مُدَّكِرٍ} الذي أجمع الصحابة والمسلمون على كتابته وتلاوته بالإدغام؟ فليت شعري من الذي تقدمه قبل بهذا القول فقفى أثره والظاهر أنه لما سمع قول الناس: إن التواتر فيما ليس من قبيل الأداء ظن أن المد والإمالة وتخفيف الهمز ونحوه من قبيل الأداء فقال غير مفكر فيه.
وإلا فالشيخ أبو عمرو لو فكر فيه لما أقدم عليه أو لو وقف على كلام إمام الأصوليين من غير مدافعة القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني في كتاب الانتصار حيث قال: جميع ما قرأ به قراء الأمصار مما اشتهر عنهم استفاض نقله. ولم يدخله في حكم الشذوذ بل رآه سائغا جائزا من همز وإدغام ومد وتشديد وحذف وإمالة أو ترك ذلك كله أو شيء منه أو تقديم أو تأخير فإنه كله منزل من عند الله تعالى ومما وقف الصحابة على صحته وخير بينه وبين غيره وصوب للجميع القراءة به قال: ولو سوغنا لبعض القراء إمالة ما لم يمله الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة أو غير ذلك لسوغنا لهم جميع قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أطال رحمه الله الكلام على تقدير ذلك وجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أقرأ واحدا بعض القرآن بحرف وبعضه بحرف آخر على ما قد يراه أيسر على القارئ اهـ.
قلت: وظهر من هذا إن اختلاف القراء في الشيء الواحد مع اختلاف المواضع قد أخذه الصحابي كذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرأه كذلك إلى أن اتصل بالقراء.
نحو قراءة حفص مجريها بالإمالة فقط ولم يمل في القرآن غيره وقراءة ابن عامر
إبراهام في مواضع محصورة وقراءة أبي جعفر يحزن في الأنبياء فقط بضم الياء وكسر الزاي وفي باقي القرآن بفتح الياء وضم الزاي وقراءة نافع عكسه في جميع القرآن بضم الياء وكسر الزاي إلا في الأنبياء فإنه فتح الياء وضم الزاي وشبه ذلك مما يقول القراء عنه: جمع بين اللغتين.
وليت الإمام ابن الحاجب أخلى كتابه من ذكر القراءات وتواترها كما أخلى غيره كتبهم منها. وإذ قد ذكرها فليته لم يتعرض إلى ما كان من قبيل الأداء. وإذ قد تعرض فليته سكت عن التمثيل فإنه إذا ثبت أن شيئا من القراءات من قبيل الأداء لم يكن متواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم كتقسيم وقف حمزة وهشام وأنواع تسهيله فإنه وإن تواتر تخفيف الهمز في الوقف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتواتر أنه وقف على موضع بخمسين وجها ولا بعشرين ولا بنحو ذلك. وإنما إن صح شيء منها فوجه والباقي لا شك أنه من قبيل الأداء1.
ولما قال ابن السبكي في كتابه جمع الجوامع: والسبع متواترة قيل: فيما ليس من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمز ونحوه وسئل عن زيادته على ابن الحاجب قيل المقتضية لاختياره أن ما هو من قبيل الأداء كالمد والإمالة إلى آخره متواتر فأجاب رحمه الله في كتابه منع الموانع: أعلم أن السبع متواترة والمد متواتر والإمالة متواترة كل هذا بين لا شك فيه. وقول ابن الحاجب: فيما ليس من قبيل الأداء صحيح لو تجرد عن
قوله: كالمد والإمالة. لكن تمثيله بهما أوجب فساده كما سنوضحه من بعد فلذلك قلنا: قيل ليتبين أن القول بأن المد والإمالة والتخفيف غير متواترة
1 لعلك فهمت أن مرادهم بكلمة من قبيل الأداء ما يتصل بتقدير الأصول المتواترة. مثلا المد للهمز أصل جاء متواترا. أما تقديره بأربع حركات أو ست فليس بمتواتر، لأنه لا يسهل ضبطه. وقيل فيه بالتواتر أيضا.
ضعيف عندنا بل هي متواترة. ثم أخذ يذكر المد والإمالة والتخفيف - إلى أن قال- فإذا عرفت ذلك فكلامنا قاض بتواتر السبع. ومن السبع مطلق المد والإمالة وتخفيف الهمز بلا شك.
أما من قال: إن القراءات متواترة حال اجتماع القراء لا حال افتراقهم فأبو شامة قال في المرشد الوجيز في الباب الخامس منه: فإن القراءات المنسوبة إلى كل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمة إلى المجمع عليه والشاذ غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح في قراءتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما نقل عن غيرهم. فمما نسب إليهم وفيه إنكار أهل اللغة وغيرهم الجمع بين الساكنين في تاءات البزي وإدغام أبي عمرو وقراءة حمزة فما "استطاعوا" وتسكين من أسكن "بارئكم" ونحوه "وسبأ ويا بني ومكر السيئ" وإشباع الياء في "يرتقي ويتقي ويبصر1 وأفئدة من الناس" وقراءة ملائكة بفتح الهمزة وهمز ساقها2 وخفض والأرحام في أول النساء ونصب كن فيكون والفصل بين المتضايفين في الأنعام وغير ذلك إلى أن قال: فكل ذلك محمول على قلة ضبط الرواة فيه ثم قال: إن صح النقل فيه فهو من بقايا الأحرف السبعة التي كانت القراءة المباحة عليه على ما هو جائز في العربية فصيحا كان أو دون ذلك. وأما بعد كتابة المصاحف على اللفظ المنزل فلا ينبغي قراءة ذلك اللفظ إلا على اللغة الفصحى من لغة قريش وما نسبها حملا لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم والسادة من أصحابه على ما هو اللائق فإنهم إنما كتبوه على لغة قريش فكذا قراءتهم به. قال: وقد شاع على ألسنة جماعة من المقرئين المتأخرين وغيرهم من المقلدين: أن القراءات السبع كلها متواترة أي في
1 كذا بالأصل فتأمله.
2 لعل الصواب سوقه من قوله سبحانه: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} فتدبر.
كل فرد فرد ممن روى عن هؤلاء الأئمة السبعة. قالوا: والقطع بأنها منزلة من عند الله تعالى واجب. قال: ونحن بهذا نقول لكن فيما اجتمعت على نقله عنهم الطرق واتفقت عليه الفرق من غير نكير له مع أنه شاع واشتهر واستفاض فلا أقل من اشتراط ذلك إذا لم يتفق التواتر في بعضها.
فانظر يا أخي إلى هذا الكلام الساقط الذي خرج من غير تأمل المتناقض في غير موضع في هذه الكلمات اليسيرة أوقفت عليه شيخنا الإمام ولي الله تعالى أبا محمد بن محمد بن محمد الجمالي رضي الله عنه فقال: ينبغي أن يعدم هذا الكتاب من الوجود ولا يظهر ألبتة وإنه طعن في الدين. قلت: ونحن يشهد الله أننا لا نقصد إسقاط الإمام أبي شامة إذ الجواد قد يعثر ولا يجهل قدره. بل الحق أحق أن يتبع. ولكن نقصد التنبيه على هذه الزلة المزلة ليحذر منها من لا معرفة له بأقوال الناس ولا اطلاع له على أحوال الأئمة.
أما قوله: فمما نسب إليهم وفيه إنكار أهل اللغة الخ فغير لائق بمثله أن يجعل ما ذكره منكرا عند أهل اللغة.
وعلماء اللغة والإعراب الذين عليهم الاعتماد سلفا وخلفا يوجهونها ويستدلون بها. وأنى يسعهم إنكار قراءة تواترت أو استفاضت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نويس لا اعتبار بهم لا معرفة لهم بالقراءات ولا بالآثار جمدوا على ما علموا من القياسات وظنوا أنهم أحاطوا بجميع لغات العرب أفصحها وفصيحها حتى لو قيل لأحدهم شيء من القرآن على غير النحو الذي أنزل الله يوافق قياسا ظاهرا عنده ولم يقرأ بذلك أحد لقطع له بالصحة. كما أنه لو سئل عن قراءة متواترة لا يعرف لها قياسا لأنكرها ولقطع بشذوذها حتى إن بعضهم قطع في قوله عز وجل: {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا} بأن الإدغام الذي أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم والمسلمون لحن وأنه لا يجوز عند العرب لأن الفعل الذي هو تأمن مرفوع فلا وجه لسكونه حتى يدغم في النون التي تليه.
فانظر يا أخي إلى قلة حياء هؤلاء من الله تعالى. يجعلون ما عرفوه من القياس أصلا والقرآن العظيم فرعا حاشا العلماء المتقدى بهم من أئمة اللغة والإعراب من ذلك. بل يجيئون إلى كل حرف مما تقدم ونحوه يبالغون في توجيهه والإنكار على من أنكره. حتى إن إمام اللغة والنحو أبا عبد الله محمد بن مالك قال في منظومته الكافية الشافية في الفصل بين المتضايفين:
وعمدتي قراءة ابن عامر
…
فكم لها من عاضد وناصر
ولولا خوف الطول وخروج الكتاب عن مقصوده لأوردت ما زعم أن أهل اللغة أنكروه وذكرت أقوالهم فيها ولكن إن مد الله في الأجل لأضعن كتابا مستقلا في ذلك يشفي القلب ويشرح الصدر أذكر فيه جميع ما أنكره من لا معرفة له بقراءة السبعة والعشرة.
ولله در الإمام أبي نصر الشيرازي حيث حكى في تفسيره عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} كلام الزجاجي في تضعيف قراء الخفض. ثم قال: ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله عليه وسلم واستقبح ما قرأ به. وهذا مقام محظور لا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو. ولعلهم أرادوا أنه صحيح فصيح وإن كان غيره أفصح منه فإنا لا ندعي أن كل ما في القراءات على أرفع الدرجات من الفصاحة.
وقال الإمام الحافظ أبو عمرو الداني في كتابه جامع البيان عند ذكر إسكان بارئكم ويأمركم لأبي عمرو بن العلاء: وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية. بل على الأثبت في الأثر والأصح في
النقل. والرواية إذا ثبتت عندهم لم يردها قياس عربية ولا فشو لغة لأن القراءة سنة متبعة فلزم قبولها والمصير إليها.
قلت: ثم لم يكف الإمام أبا شامة حتى قال: فكل ذلك يعني ما تقدم محمول على قلة ضبط الرواة لا والله. بل كله محمول على كثرة الجهل ممن لا يعرف لها أوجها وشواهد صحيحة تخرج عليها كما سنبينه إن شاء الله تعالى في الكتاب الذي وعدنا به آنفا إذ هي ثابتة مستفاضة ورواتها أئمة ثقات. وإن كان ذلك محمولا على قلة ضبطهم فليت شعري أكان الدين قد هان أهله؟ حتى يجيء شخص في ذلك الصدر يدخل في القراءة بقلة ضبطه ما ليس منها فيسمع منه ويأخذ عنه ويقرأ به في الصلاة وغيرها ويذكره الأئمة في كتبهم ويقرؤون به ويستفاض ولم يزل كذلك إلى زماننا هذا لا يمنع أحد من أئمة الدين القراءة به مع أن الإجماع منعقد على أن من زاد حركة أو حرفا في القرآن أو نقص ما تلقاء نفسه مصرا على ذلك يكفر والله جل وعلا تولى حفظه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} .
وأعظم من ذلك تنزله إذ قال: وعلى تقدير صحتها وأنها من الأحرف السبعة لا ينبغي قراءتها حملا لقراء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ما هو اللائق بهم. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم لم يقرؤوا بها مع تقدير صحتها وأنها من الأحرف السبعة فمن أوصلها إلى هؤلاء الذين قرؤوا بها.
ثم يقول: فلا أقل من اشتراط ذلك يعني اشتراط الشهرة والاستفاضة. قلت: ألا تنظرون إلى هذا القول؟ ثم أأحد في الدنيا يقول: إن قراءة ابن عامر وحمزة وأبي عمرو ومن اجتمع عليه أهل الحرمين والشام أبي جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وقراءة
البزي وقنبل وهشام إن تلك غير مشهورة ولا مستفاضة وإن لم تكن متواترة؟ هذا كلام من لم يدر ما يقول حاشا الإمام أبا شامة منه. وأنا من فرط اعتقادي فيه أكاد أجزم بأنه ليس من كلامه في شيء. ربما يكون بعض الجهلة المتعصبين ألحقه بكتابه أو أنه ألف هذا الكتاب أول أمره كما يقع لكثير من المصنفين. وإلا فهو في غيره من مصنفاته كشرحه على الشاطبية بالغ في الانتصار والتوجيه لقراءة حمزة والأرحام بالخفض والفصل بين المتضايفين. ثم قال في الفصل: ولا التفات إلى قول من زعم أنه لم يأت في الكلام مثله لأنه ناف ومن أسند هذه القراءة مثبت والإثبات مرجح على النفي بالإجماع. قال: ولو نقل إلى هذا الزاعم عن العرب أنه استعمله في النثر لرجع عن قوله. فما باله ما يكتفي بناقلي القراءة من التابعين عن الصحابة رضي الله عنهم ثم أخذ في تقرير ذلك. قلت: هذا الكلام مباين لما تقدم وليس منه في شيء. وهو الأليق بمثله رحمه الله.
ثم قال أبو شامة في المرشد بعد ذلك القول: فالحاصل أنا لسنا ممن يلتزم التواتر في جميع الألفاظ المختلف فيها. قلت: ونحن كذلك لكن في القليل منها كما تقدم في الباب الثاني1.
قال: وغاية ما يبديه مدعي تواتر المشهور منها كإدغام أبي عمرو ونقل الحركة لورش وصلة ميم الجمع وها الكناية لابن كثير أنه متواتر عن ذلك الإمام الذي نسبت تلك القراءة إليه بعد أن يجهد نفسه في استواء الطرفين والواسطة إلا أنه بقي عليه التواتر
1 يشير بذلك إلى مثل قراءة هشام {أَفْئِدَةُ} بياء بعد الهمز. فإنه اعتبره صحيحا مقطوعا به وإن لم يتواتر، لأن استفاضته وموافقته الرسم والعربية قرائن مثلها يفيد العلم في غير المتواتر. انظر المنجد ص 19.
من ذلك الإمام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في كل فرد فرد من ذلك. ومن ثم تسكب العبرات فإنها من ثم لم ينقلها إلا آحاد إلا اليسير منها.
قلت: هذا من جنس ذلك الكلام المتقدم. أوقفت عليه شيخنا الإمام واحد زمانه شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب بيبرود الشافعي فقال لي: معذور أبو شامة حيث إن القراءات كالحديث مخرجها كمخرجه إذا كان مدارها على واحد كانت آحادية وخفي عليه أنها نسبت إلى ذلك الإمام اصطلاحا وإلا فكل أهل بلدة كانوا يقرؤونها أخذوها أمما عن أمم. ولو انفرد واحد بقراءة دون أهل بلده لم يوافقه على ذلك أحد بل كانوا يجتنبونها ويأمرون باجتنابها.
قلت: صدق. ومما يدل على هذا ما قال ابن مجاهد: قال لي قنبل: قال القواس في سنة سبع وثلاثين ومائتين. الق هذا الرجل يعني البزي فقل له: هذا الحرف ليس من قراءتنا. يعني {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} مخففا. وإنما يخفف من الميت من قد مات ومن لم يمت فهو مشدد. فلقيت البزي فأخبرته فقال له: قد رجعت عنه وقال محمد ابن صالح: سمعت رجلا يقول لأبي عمرو: كيف تقرأ {لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} ؟ فقال: {لا يُعَذِّبُ} بالكسر. فقال له الرجل: كيف؟ وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعذب بالفتح. فقال له أبو عمرو: لو سمت الرجل الذي قال: سمت النبي صلى الله عليه وسلم ما أخذته عنه. أو تدري ما ذاك؟ لأني أتهم الواحد الشاذ إذا كان على خلاف ما جاءت به العامة. قال الشيخ أبو الحسن السخاوي: وقراءة الفتح أيضا ثابتة بالتواتر. قلت: صدق لأنها قراءة الكسائي. قال السخاوي: وقد تواتر الخبر عند قوم دون قوم. وإنما أنكرها أبو عمرو لأنها لم تبلغه على وجه التواتر.
قلت: وهذا كان من شأنهم على أن تعيين هؤلاء القراء ليس بلازم ولو عين غير
هؤلاء لجاز. وتعيينهم إما لكونهم تصدو للإقراء أكثر من غيرهم أو لأنهم شيوخ المعين كما تقدم. ومن ثم كره من كره من السلف أن تنسب القراءة إلى أحد. روى ابن أبي داود عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يكوهون سند فلان وقراءة فلان. قلت: وذلك خوفا مما توهمه أبو شامة من القراءة إذا نسبت إلى شخص تكون آحادية. ولم يدر أن كل قراءة نسبت إلى قارئ من هؤلاء كان قراؤها زمن قارئها وقبله أكثر من قرائها في هذا الزمن وأضعافهم. ولو لم يكن انفراد القراء متواترا لكان بعض القرآن غير متواتر لأنا نجد في القرآن أحرفا تختلف القراء فيها وكل منهم على قراءة لا توافق الآخر كأرجه وغيرها فلا يكون شيء منها متواترا. وأيضا قراءة من قرأ مالك ويخادعون فكثير من القرآن غير متواتر لأن التواتر لا يثبت باثنين ولا بثلاثة.
قال الإمام الجعبري في رسالته: وكل وجه من وجوه قراءته كذلك يعني متواترا لأنها أبعاضه. ثم قال: فظهر من هذا فساد قول من قال: هو متواتر دونها إذ هو عبارة عن مجموعها.
ثم قال ابن الجزري: ومما يحقق لك أن قراءة أهل كل بلد متواترة بالنسبة إليهم أن الإمام الشافعي رضي الله عنه جعل البسملة من القرآن مع أن روايته عن شيخه مالك تقتضي عدم كونها من القرآن لأنه من أهل مكة وهم يثبتون البسملة بين السورتين ويعدونها من أول الفاتحة آية وهو قرأ قراءة ابن كثير على إسماعيل القسط عن ابن كثير فلم يعتمد في روايته عن مالك في عدم البسملة لأنها آحاد واعتمد على قراءة ابن كثير لأنها متواترة وهذا لطيف فتأمله فإنني كنت أجد في كتب أصحابنا يقولون: إن الشافعي رضي الله عنه روى حديث عدم البسملة عن مالك ولم يعول عليه فدل على أنه ظهرت له فيه علة وإلا لما ترك العمل به. قلت: ولم أر أحدا من أصحابنا
بين العلة فبينا أنا ليلة مفكر إذ فتح الله تعالى بما تقدم - والله تعالى أعلم- أنها هي العلة مع أني قرأت القرآن برواية إمامنا الشافعي عن ابن كثير كالبزي وقنبل. ولما علم بذلك بعض أصحابنا من كبار الأئمة الشافعية قال لي: أريد أن أقرأ عليك القرآن بها.
ومما يزيدك تحقيقا ما قاله أبو حاتم السجستاني قال: أول من تتبع بالبصرة وجوه القراءات وألفها وتتبع الشاذ منها هارون بن موسى الأعور. قال: وكان من القراء. فكره الناس ذلك وقالوا: قد أساء حين ألفها. وذلك أن القراءة إنما يأخذها قرون وأمة عن أفواه أمة ولا يلتفت منها إلا ما جاء من راو راو. قلت: يعني آحادا آحادا.
وقال الحافظ العلامة أبو سعيد خليل كيكلدي العلائي في كتابه المجموع المذهب: وللشيخ شهاب الدين أبي شامة في كتابه المرشد الوجيز وغيره كلام في الفرق بين القراءات السبع1 والشاذة منها. و2كلام غيره من متقدمي القراء ما يوهم أن القراءات السبع ليست متواترة كلها وأن أعلاها ما اجتمع فيه صحة السند وموافقة خط المصحف الإمام والفصيح من لغة العرب وأنه يكفي فيها الاستفاضة وليس الأمر كما ذكر هؤلاء. والشبهة دخلت عليهم مع انحصار أسانيدها في رجال معروفين وظنوها كاجتهاد الآحاد3.
1 كذا بالأصل. ولعله قد سقطت هنا كلمة المتواتر، ولعل كلمة والشاذة أصلها والشاذ بدون تاء مربوطة. فتدبر.
2 كذا بالأصل. ولعله قد سقطت هنا كلمة في ويكون الصواب: وفي كلام غيره فتأمل.
3 لعل أصله: فظنوها كأخبار الآحاد.
قلت: وقد سألت شيخنا إمام الأئمة أبا المعالي رحمه الله تعالى عن هذا الموضع فقال: انحصار الأسانيد في طائفة لا يمنع مجيء القرآن عن غيرهم. فلقد كان يتلقاه أهل كل بلد يقرؤه منهم الجم الغفير عن مثلهم وكذلك دائما. والتواتر حاصل لهم. ولكن الأئمة الذين تصدوا لضبط الحروف وحفظوا شيوخهم منها وجاء السند من جهتهم1.
وهذه الأخبار الواردة في حجة الوداع ونحوها أجلى2 ولم تزل حجة الوداع منقولة فمن3 يحصل بهم التواتر عن مثلهم في كل عصر فهذه كذلك. وقال هذا موضع ينبغي التنبه له. انتهى والله أعلم.
ذلك ما قاله العلامة ابن الجزري في هذا المقام من كتابه المنجد ولعله فصل الخطاب في هذا الموضوع ولذلك آثرنا أن ننقله إليك محاولين حسن عرضه وضبطه والتعليق عليه مختصرا بقدر الإمكان. ولقد كنت أود أن تكون النسخة التي نقلت منها أكثر تحريرا مما رأيت ولكن ما الحيلة؟ وهي أول طبعة عن نسخة مخطوطة برواق المغاربة من الأزهر الشريف ومن شأن البدايات أن يكون فيها نقص ثم تصير إلى الكمال في النهاية إن شاء الله.
1، 2 لعل في هذين الموضعين سقطا.
3 صواب هذه الفاء أن تكون عينا أو ميما أو باء.