المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بعد ما تدنست جوانب الأرض بالوثنية وقد استمر الأنبياء بعد - مناهل العرفان في علوم القرآن - جـ ١

[الزرقاني، محمد عبد العظيم]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌تصدير الطبعة الثالثة وفهرسها

- ‌مقدمة: في القرآن وعلومه ومنهجي في التأليف

- ‌المبحث الأول: في معنى علوم القرآن

- ‌مدخل

- ‌القرآن في الاصطلاح

- ‌القرآن عند المتكلمين

- ‌القرآن عند الأصوليين والفقهاء وعلماء العربية

- ‌هل القرآن علم شخص

- ‌هل يصاغ للأعلام تعاريف

- ‌إطلاق القرآن على الكل وعلى أبعاضه

- ‌ معنى علوم القرآن بالمعنى الإضافي

- ‌القرآن كتاب هداية وإعجاز

- ‌القرآن يحض على الانتفاع بالكون

- ‌إعجاز علمي للقرآن

- ‌ معنى علوم القرآن كفن مدون وموضوعه وفائدته

- ‌المبحث الثاني: في تاريخ علوم القرآن وظهور اصطلاحه

- ‌عهد ما قبل التدوين

- ‌عهد التمهيد لتدوين علوم القرآن

- ‌عهد التدوين لعلوم القرآن بالمعنى الإضافي

- ‌أول عهد لظهور هذا الاصطلاح

- ‌علوم القرآن في القرن الأخير

- ‌خلاصة

- ‌المبحث الثالث: نزول القرآن

- ‌معنى نزول القرآن

- ‌ تنزلات القرآن

- ‌كيفية أخذ جبريل للقرآن وعمن أخذ

- ‌ما الذي نزل به جبريل

- ‌مدة هذا النزول

- ‌دليل تنجيم هذا النزول

- ‌الحكم والأسرار في تنجيم القرآن

- ‌الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه

- ‌الحكمة الثانيةالتدرج في تربية هذه الأمة الناشئة علما وعملا

- ‌الحكمة الثالثة: مسايرة الحودث والطواىء في تجددها وتفرقها

- ‌الحكمة الرابعةالإرشاد إلى مصدر القرآن وأنه كلام الله وحده

- ‌المعركة الطاحنة أو الوحي بين معتقديه ومنكريه

- ‌مدخل

- ‌ حقيقة الوحي وأنواعه وكيفياته

- ‌ الوحي من ناحية العلم

- ‌ الوحي من ناحية العقل

- ‌ دفع الشبهات

- ‌المبحث الرابع: في أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن

- ‌مدخل

- ‌أول ما نزل على الإطلاق

- ‌آخر ما نزل على الإطلاق

- ‌مثلان من أوائل وأواخر مخصوصة

- ‌ملاحظة

- ‌المبحث الخامس: في أسباب النزول

- ‌مدخل

- ‌معنى سبب النزول

- ‌ فوائد معرفة أسباب النزول

- ‌ طريق معرفة سبب النزول

- ‌ التعبير عن سبب النزول

- ‌ تعدد الأسباب والنازل واحد

- ‌ تعدد النازل والسبب واحد

- ‌ العموم والخصوص بين لفظ الشارع وسببه

- ‌ عموم اللفظ وخصوص سببه

- ‌ أدلة الجمهور

- ‌ شبهات المخالفين وتفنيدها

- ‌ شبيه بالسبب الخاص مع اللفظ العام

- ‌المبحث السادس: في نزول القرآن على سبعة أحرف

- ‌مدخل

- ‌ أدلة نزول القرآن على سبعة أحرف

- ‌ شواهد بارزة في هذه الأحاديث الواردة

- ‌ معنى نزول القرآن على سبعة أحرف

- ‌ الوجوه السبعة في المذهب المختار

- ‌ لماذا اخترنا هذا المذهب

- ‌الذين قالوا بهذا المذهب

- ‌ النسبة بين هذه المذاهب ومذهب الرازي

- ‌ دفع الاعتراضات الواردة على هذا المذهب

- ‌ بقاء الأحرف السبعة في المصاحف

- ‌ الأقوال الأخرى ودفعها

- ‌ ردود إجمالية لهذه الأقوال الأخيرة

- ‌ علاج الشبهات الواردة

- ‌المبحث السابع: في المكي والمدني من القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌ الاصطلاحات في معنى المكي والمدني

- ‌ فائدة العلم بالمكي والمدني

- ‌ الطريق الموصلة إلى معرفة المكي والمدني

- ‌ الضوابط التي يعرف بها المكي والمدني

- ‌ السور المكية والمدنية والمختلف فيها

- ‌ أنواع السور المكية والمدنية

- ‌وجوه تتعلق بالمكي والمدني

- ‌فروق أخرى بين المكي والمدني

- ‌نقض الشبهات التي أثيرت حول هذا الموضوع

- ‌مدخل

- ‌الشبهة الأولى

- ‌الشبهة الثانية

- ‌الشبهة الثالثة

- ‌الشبهة الرابعة

- ‌الشبهة الخامسة

- ‌الشبهة السادسة

- ‌المبحث الثامن: في جمع القرآن وتاريخه والرد على ما يثار حوله من شبه ونماذج من الروايات الواردة في ذلك

- ‌مدخل

- ‌جمع القرآن بمعنى حفظه في الصدور

- ‌جمع القرآن بمعنى كتابته في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌لماذا لم يجمع القرآن أيامئذ في صحف ولا مصاحف

- ‌جمع القرآن على عهد أبي بكر رضي الله عنه

- ‌جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه

- ‌الرد على ما يثار حول جمع القرآن من شبه

- ‌الشبهة الأولى

- ‌الشبهة الثانية

- ‌الشبهة الثالثة

- ‌الشبهة الرابعة

- ‌الشبهة الخامسة

- ‌الشبهة السادسة

- ‌خط منيع من خطوط الدفاع عن الكتاب والسنة

- ‌مدخل

- ‌ الجبهة الأولى: أو الدواعي والعوامل في حفظ الصحابة للكتاب والسنة ونقلهم لهما

- ‌ الجبهة الثانية: أو عوامل تثبت الصحابة في الكتاب والسنة

- ‌المبحث التاسع: في ترتيب آيات القرآن وسوره

- ‌معنى الآية:

- ‌طريقة معرفة الآية:

- ‌عدد آيات القرآن:

- ‌فوائد معرفة الآيات:

- ‌ترتيب آيات القرآن

- ‌ترتيب السور

- ‌المبحث العاشر: في كتابة القرآن ورسمه ومصاحفه وما يتعلق بذلك

- ‌ الكتابة

- ‌ رسم المصحف

- ‌ الشبهات التي أثيرت حول كتابة القرآن ورسمه

- ‌ المصاحف تفصيلا

- ‌المبحث الحادي عشر: في‌‌ القراءاتوالقراء والشبهات التي أثيرت في هذا المقام

- ‌ القراءات

- ‌ القراء

- ‌ نقض الشبهات التي أثيرت في هذا المقام

الفصل: بعد ما تدنست جوانب الأرض بالوثنية وقد استمر الأنبياء بعد

بعد ما تدنست جوانب الأرض بالوثنية وقد استمر الأنبياء بعد موسى يدعون قومهم إلى التمسك بتلك الشريعة إلى أن كان آخرهم عيسى صلى الله عليه وسلم جاء مخلصا لروحها مما عرض عليه من البدع. ثم طال الأمد على قومه فأصابهم ما أصاب من قبلهم من الاختلاف في الدين وحجب نوره بالبدع وإخطاء معناه بالتأويل وإحداث ما ليس منه بسبيل فمن الله على البشر ببداية تاريخ ينسخ جميع تلك التواريخ ويفصل بين ما سبق من أطوار الإنسانية وبين ما يلحق وهو عهد ظهور النور المحمدي من مكة المكرمة. وإليه أشار بذكر البلد الأمين. وعلى هذا القول الذي فصلنا بيانه يتناسب القسم والمقسم عليه. ا. هـ ما أردنا نقله.

ص: 225

‌الشبهة الخامسة

يقولون إن القسم المكي من القرآن قد اشتمل على لغو من الكلام في كثير من فواتح السور مثل الم وكهيعص. وذلك يبطل دعوى المسلمين أن القرآن بيان للناس وهدى وأنه كلام الله. وأي بيان وأي هدى في قوله: {الم} وقوله: {كهيعص} ؟ بل هذه الأحرف وأمثالها في غاية البعد عن الهدى بدليل أنه لم يهتد أحد منهم ولا الراسخون في العلم لإدراك معناها فالخطاب بها كالخطاب بالمهمل وإنما هذه الألفاظ من وضع كتبه محمد من اليهود تنبيها على انقطاع كلام واستئناف آخر ومعناها أوعز إلي محمد أو أمرني محمد يشيرون بذلك إلى براءتهم من الإيمان بما يأمرهم بكتابته. وقريب من هذا قول بعضهم: إن الحروف العربية غير المفهومة المفتتح بها أوائل بعض السور إما أن يكون قصد منها التعمية أو التهويل أو إظهار القرآن في مظهر عميق مخيف أو هي رمز للتمييز بين المصاحف المختلفة ثم ألحقها مرور الزمن بالقرآن فصارت قرآنا.

ص: 225

وننقض هذه الشبهة بأمور: أولها: أنه لم يكن للرسول صلى الله عليه وسلم كتبة من اليهود أبدا. وها هو التاريخ حاكم عدل لا يرحم ولا يحابي فليسألوه إن كانوا صادقين.

ثانيا: أنه لا دليل لهم أيضا على أن فواتح هذه السور تستعمل في تلك المعاني التي زعموها وهي أوعز إلي محمد أو أمرني محمد لا عند اليهود ولا عند غيرهم في أية لغة من لغات البشر.

ثالثها: أن اليهود لم يعرف عنهم الطعن في القرآن بمثل هذا. ولو كان هذا مطعنا عندهم لكانوا أول الناس جهرا به وتوجيها له لأنهم كانوا أشد الناس عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين يتمنون أن يجدوا في القرآن مغمزا من أي نوع يكون ليهدموا به دعوة الإسلام. كيف وهم يكفرون به حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق؟

رابعها: أن اشتمال القرآن على كلمات غير ظاهرة المعنى لا ينافي وصف القرآن بأنه بيان للناس وهدى ورحمة فإن هذه الأوصاف يكفي في تحققها ثبوتها للقرآن باعتبار جملته ومجموعة لا باعتبار تفصيله وعمومه الشامل لكل لفظ فيه. ولا ريب أن الكثرة الغامرة في القرآن كلها بيان للتعاليم الإلهية وهداية للخلق إلى الحق ورحمة للعالم من وراء تقرير أصول السعادة في الدنيا والآخرة.

وهذا الجواب مبني على أحد رأيين للعلماء في فواتح تلك السور وهو أن المعنى المقصود غير معلوم لنا بل هو من الأسرار التي استأثر الله بعلمها ولم يطلع عليها أحد من خلقه. وذلك لحكمة من حكمة تعالى السامية وهي ابتلاؤه سبحانه وتمحيصه لعباده حتى يميز الخبيث من الطيب وصادق الإيمان من المنافق بعد أن أقام لهم أعلام بيانه ودلائل هدايته وشواهد رحمته في غير تلك الفواتح من كتابه بين آيات وسور كثيرة لا تعتبر تلك الفواتح في جانبها إلا قطرة من بحر أو غيضا من فيض.

ص: 226

فأما الذين آمنوا فيعلمون أن هذه الفواتح حق من عند ربهم ولو لم يفهموا معناها ولم يدركوا مغزاها ثقة منهم بأنها صادرة من لدن حكيم عليم عمت حكمته ما خفي وما ظهر من معاني كتابه ووسع علمه كل شيء عرفه الخلق أو لم يعرفوه من أسرار تنزيله. {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} .

{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} .

ونظير ذلك أن يكون لك أصدقاء تريد أن تعرفهم أو تعرف منهم مدى صداقتهم لك فتبتليهم بأمور يزل عندها المزيفون ويظهر الصادقون.

على حد قول القائل:

وعلى حد المثل القائل: إن أخاك من واساك.

ابل الرجال إذا أردت إخاءهم

وتوسمن فعالهم وتفقد

فإذا ظفرت بذي اللبانة والتقى

فبه اليدين قرير عين فاشدد

ونظير ذلك أيضا أن تكون أستاذا معلما وتريد أن تقف على مدى انتباه تلاميذك ومبلغ ثقتهم فيك وفي علمك بعد أن زودتهم منك بدراسات واسعة وتعاليم واضحة فإنك تختبرهم في بعض الأوقات بكلمات فيها شيء من الإلغاز والخفاء ليظهر الذكي من الغبي والواثق بك الوامق لك من المتشكك فيك المتردد في علمك وفضلك. فأما الواثق فيك فيعرف أن تلك الألغاز والمعميات صدرت عن علم منك بها وإن لم يعلم هو تفسيرها ويعرف أن لك حكمة في إيرادها على هذه الصورة من الخلفاء وهي الاختبار والابتلاء. وأما المتشكك فيك فيقول: ماذا أراد بهذا؟ وكيف ساغ له أن يورده؟ وما مبلغ العلم الذي فيه؟ ثم ينسى تلك المعارف الواسعة الواضحة التي زودته بها من قبل ذلك وكلها من أعلام العلم وآيات الفضل.

ص: 227

ولا يفوتنك في هذا المقام أن تعرف أن إبتلاء الله لعباده ليس المراد منه أن يعلم سبحانه ما كان جاهلا منهم حاشاه حاشاه فقد وسع كل شيء علما. إنما المقصود منه إظهار مكنونات الخلق وإقامة الحجج عليهم من أنفسهم فلا يتهمون الله في عدله وجزائه إذا جعل من الناس أهلا لثوابه وآخرين لعقابه. {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} .

الرأي الثاني في فواتح السور أن لها معنى مقصودا معلوما. قالوا: لأن القرآن كتاب هداية والهداية لا تتحقق إلا بفهم المعنى خصوصا أننا أمرنا بتدبر القرآن والاستنباط منه وهذا لا يكون إلا إذا فهم المعنى أيضا.

غير أن أصحاب هذا الرأي تشعبت أقوالهم في بيان هذا المعنى المقصود بفواتح تلك السور فذهب بعضهم إلى أن فاتحة كل سورة اسم للسورة التي افتتحت بها واستدلوا بآثار تفيد ذلك منها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يس قلب القرآن" وقوله: "من قرأ السجدة حفظ إلى أن يصبح". ومنها اشتهار بعض السور بالتسمية بها. ثم إن ورودها في فواتح سور مختلفة بلفظ واحد ينافي كونها أسماء للسور. بل شأنها في ذلك شأن الأعلام المشتركة اشتراكا لفظيا كلفظ محمد المسمى به أشخاص كثيرون. فيضم إلى اسم كل منهم ما يميز مسماه عن غيره فيقال: محمد المصري ومحمد الشامي مثلا. وكذلك فواتح السور يقال فيها: الم البقرة والم آل عمران وحم السجدة وهلم جرا.

وبعضهم ذهب إلى أنها للحروف الهجائية التي وضعت بإزائها. وهؤلاء منهم من قال: إن المقصود من ذلك هو إفهام المخاطبين أن الذي سيتلى عليهم من الكلام الذي عجزوا عن معارضته والإتيان بمثله إنما تركب من مثل هذه الحروف التي في الفواتح وهي معروفة لهم يتخاطبون بما يدور عليها ولا يخرج عنها.

ص: 228

ومنهم من قال: إن المقصود منها هو الدلالة على انتهاء سورة والشروع في أخرى. ومنهم من قال: إن المقصود منها القسم بها لإظهار شرفها وفضلها إذ هي مبنى كتبه المنزلة. ومنهم من قال: إن المقصود منها بيان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من ناحية أنه ينطق بأسامي الحروف مع أنه أمي لم يقرأ ولم يكتب والمعروف أن النطق بأسامي الحروف من شأن القارئ وحده لا سبيل للأمي إلى معرفتها ولا النطق بها فإتيانه بها وترديده لها دليل مادي أمامهم على أنه لا يأتي بهذا القرآن من تلقاء نفسه إنما يتلقاه من لدن حكيم عليم.

ومنهم من قال: إن المقصود منها هو تنبيه السامعين وإيقاظهم. وذلك أن قرع السمع في أول الكلام بما يعيي النفوس فهمه أو بالأمر الغريب دافع لها أن تصغي وتتيقظ وتتأمل وتزداد إقبالا: فهي كوسائل التشويق التي تعرض في مقدمة الدرس على منهج التربية الحديثة في التعليم.

ومنهم من قال: إن المقصود منها سياسة النفوس المعرضة عن القرآن واستدراجها إلى الاستماع إليه. والمعروف أن أعداء الإسلام في صدر الدعوة كان يقول بعضهم لبعض: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} . فلما أنزلت السور المبدوءة بحروف الهجاء وقرع أسماعهم ما لم يألفوا التفتوا وإذا هم أمام آيات بينات استهوت قلوبهم واستمالت عقولهم فآمن من أراد الله هدايته وشارف الإيمان من شاء الله تأخيره وقامت الحجة في وجه الطغاة المكابرين وأخذت عليهم الطرق فلا عذر لهم في الدنيا ولا يوم الدين.

وقال العلامة المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره لسورة آل عمران ما نصه:

ص: 229

اعلم أن القرآن كتاب سماوي. والكتب السماوية تصرح تارة وترمز تارة أخرى. والرمز والإشارة من المقاصد السامية والمعاني والمغازي الشريفة. وقديما كان ذلك في أهل الديانات ألم تر إلى اليهود الذين كانوا منتشرين في المدينة وفي بلاد الشرق أيام النبوة كيف كانوا يصطلحون فيما بينهم على أعداد الجمل المعروفة اليوم في الحروف العربية فيجعلون الألف بواحد والباء باثنين والجيم بثلاثة والدال بأربعة وهكذا مارين على الحروف الأبجدية إلى الياء بعشرة والكاف بعشرين وهكذا إلى القاف بمائة والراء بمائتين وهكذا إلى الغين بألف كما ستراه في هذا المقام.

كذلك ترى أن النصارى في إسكندرية ومصر وبلاد الروم وفي سوريا قد اتخذوا الحروف رموزا دينية معروفة فيما بينهم أيام نزول القرآن. وكانت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية في مصر. وكانوا يرمزون بلفظ إكسيس لهذه الجملة: يسوع المسيح ابن الله المخلص فالألف من إكسيس هي الحرف الأول من لفظ إيسوس يسوع.

والكاف منها هي الحرف الأول من كرستوس المسيح. والسين منها هي حرف الثاء التي تبدل منها في النطق في لفظ ثبو الله. والياء منها تدل على ايوث ابن. والسين الثانية منها تشير إلى ثوتير المخلص. ومجموع هذه الكلمات: يسوع المسيح ابن الله المخلص. ولفظ إكسيس اتفق أنه يدل على معنى سمكة فأصبحت السمكة عند هؤلاء رمزا لإلههم.

فانظر كيف انتقلوا من الأسماء إلى الرمز بالحرف ومن الرمز بالحرف إلى الرمز بحيوان دلت عليه الحروف.

قال الحبر الإنجليزي صموئيل موننج: إنه كان يوجد كثيرا في قبور رومة صور أسماك صغيرة مصنوعة من الخشب والعظم. وكان كل مسيحي يحمل سمكة إشارة للتعارف فيما بينهم اهـ.

فإذا كان ذلك من طبائع الأمم التي أحاطت بالبلاد العربية وتغلغلت فيها ونزل

ص: 230

القرآن لجميع الناس من عرب وعجم كان لا بد أن يكون على منهج يلذه الأمم ويكون فيه ما يألفون

وستجد أنه لا نسبة بين الرموز التي في أوائل السور وبين الجمل عند اليهود ورموز النصارى إلا كالنسبة بين علم الرجل العاقل والصبي أو بين علم العلماء وعلم العامة. وبهذا تبين لك أن اليهود والنصارى كان لهم رموز وكانت رموز اليهود هي حروف الجمل.

قال ابن عباس رضي الله عنهما مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو سورة البقرة: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} ثم أتى أخوه حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه عن {الم} وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحق أنها أتتك من السماء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم كذلك نزلت". فقال حيي: إن كنت صادقا إني لأعلم أجل هذه الأمة من السنين. ثم قالوا: كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أجل أمته إحدى وسبعون سنة فضحك النبي صلى الله عليه وسلم. فقال حيي: فهل غير هذا؟ فقال: "نعم {المص} ". فقال حيي: هذا أكثر من الأول هذا مائة وإحدى وستون سنة فهل غير هذا؟ قال: "نعم {الر} " فقال حيي: هذا أكثر من الأولى والثانية فنحن نشهد إن كنت صادقا ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة. فهل غير هذا؟ فقال: "نعم {المر} ". قال حيي: فنحن نشهد أنا من الذين لا يؤمنون ولا ندري بأي أقوالك نأخذ. فقال أبو ياسر: أما أنا فأشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عن ملك هذه الأمة ولم يبينوا أنها كم تكون؟ فإن كان محمد صادقا فيما يقول إني لأراه سيجتمع له هذا كله. فقام اليهود وقالوا اشتبه علينا أمرك كله فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟

فبهذا تعرف أيها الذكي أن الجمل كانت للتعارف عند اليهود وهو نوع من

ص: 231

الرموز الحرفية فكانت هذه الحروف لا بد من نزولها في القرآن ليأخذ الناس في فهمها كل مذهب ويتصرف الفكر فيها.

ولأقتصر لك مما قرأته على ثلاث طرائق فيما ترمز إليه هذه الحروف:

الطريقة الأولى: أن تكون هذه الحروف مقتطعات من أسماء الله كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الألف آلاء الله واللام لطفه والميم ملكه. وعنه أن آلر وحم ون مجموعها الرحمن. وعنه أن آلم معناه أنا الله أعلم ونحو ذلك في سائر الفواتح. وعنه أن الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد أي القرآن منزل من الله بلسان جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام. أقول: إنما أراد ابن عباس بذلك أن تكون الحروف مذكرة بالله عز وجل في أكثر الأحوال وذكر الله أجل شيء. ويرجع الأمر إلى أنها أسماء مرموز لها بالحروف كما تقدم عن الأمم السالفة من النصارى في اسكندرية ورومة. ولكن لا بد أن يكون هناك ما هو أعلى وأجل.

الطريقة الثانية: أن هذه الحروف من أعجب المعجزات والدلالات على صدق النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مما ترضاه النفوس. ألا ترى أن حروف الهجاء لا ينطق بها إلا من تعلم القراءة. وهذا النبي صلى الله عليه وسلم الأمي قد نطق بها. والذي في أول السور أربعة عشر حرفا منها وهي كلها ثمانية وعشرون حرفا إن لم تعد الألف حرفا برأسه فالأربعة عشر نصفها. وقد جاءت في تسع وعشرين سورة وهي عدد الحروف الهجائية إذا عدت فيها الألف. وقد جاءت من الحروف المهموسة العشرة وهي فحثه شخص سكت بنصفها وهي الحاء والهاء والصاد والسين والكاف.

ومعلوم أن الحروف إما مهموسة أي يضعف الاعتماد عليها وهي ما تقدم وإما مجهورة وهي ثمانية عشر نصفها وهو تسعة ذكرت في فواتح السور ويجمعها "لن يقطع أمر".

ص: 232

والحروف الشديدة ثمانية وهي أجدت طبقك أربعة منها في الفواتح وهي "أقطك".

والحروف الرخوة عشرون وهي الباقية نصفها عشرة وهي في هذه الفواتح. يجمعها "حمس على نصره".

والحروف المطبقة أربعة الصاد والضاد والطاء والظاء. وفي الفواتح نصفها: الصاد والطاء.

وبقية الحروف وهي أربعة وعشرون حرفا تسمى منفتحة نصفها وهو اثنا عشر في الفواتح المذكورة.

فانظر كيف أتى في هذه الفواتح بنصف الحروف الهجائية إن لم تعد الألف وجعلها في تسع وعشرون سورة عدد الحروف وفيها الألف؟ وكيف أتى بنصف المهموسة ونصف المجهورة ونصف الشديدة ونصف الرخوة ونصف المطبقة ونصف المنفتحة؟.

ولقد ذكرت لك قلا من كثر مما ذكره العلماء في هذا المقام ولا أطيل عليك خيفة السآمة والملل وكفاك ما أمليته عليك في هذه الطريقة الثانية لتعرف كيف أتى بهذه الأوصاف؟ وكيف وضعت الحروف على هذا النظام؟.

وإني موقن أن المتعلم لو طلب منه أن يأتي بهذه الحروف منصفة على هذا الوجه ما استطاع إلى ذلك سبيلا فإنه إن راعى نصف الحروف المطبقة فكيف يراعي الحروف الشديدة؟ وكيف يراعي نصف المجهورة في نفس العدد؟.

إن ذلك دلائل على صدق صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم. ففائدة هذا الوجه أهم من الوجه الأول فالأول فائدته تذكير الإنسان بأسماء الله تعالى. وأما الوجه الثاني ففيه إعجاز للعقول وحيرة. فيقال: كيف تنصف الحروف الهجائية وتنصف أنواعها من مهموسة

ص: 233

وشديدة الخ. وهذه الأنواع لم يدرسها أحد في العالم أيام النبوة. ثم لما ظهرت تلك الدراسات وافقت تلك الحروف بأنصافها.

إن ذلك ليعطي العقول مثلا من الغرابة الدالة على أن هذا لا يقدر عليه المتعلمون فإذا هو من الوحي. وهذا الوجه على قوته يفضله ما بعده.

الطريقة الثالثة: أن الله تعالى خلق العالم منظما محكما متناسقا متناسبا. والكتاب السماوي إذا جاء مطابقا لنظامه موافقا لإبداعه سائرا على منهاجه دل ذلك على أنه من عنده. وإذا جاء الكتاب السماوي مخالفا لنهجه منافرا لفعله منحرفا عن سننه كان ذلك الكتاب مصطنعا مفتعلا منقولا مكذوبا {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} .

والعالم المشاهد فيه عدد الثمانية والعشرين. وذلك فيما يأتي:

1-

مفاصل اليدين في كل يد أربعة عشر.

2-

خرزات عمود ظهر الإنسان منها أربع عشرة في أسفل الصلب وأربع عشرة في أعلاه.

3-

خرزات العمود التي في أصلاب الحيوانات التامة الخلقة كالبقر والجمال والحمير والسباع وسائر الحيوانات التي تلد أولادها منها أربع عشرة في مؤخر الصلب وأربع عشرة في مؤخر البدن.

4-

عدد الريشات التي في أجنحة الطير المعتمدة عليها في الطيران أربع عشرة ريشة ظاهرة في كل جناح.

5-

عدد الخرزات التي في أذناب الحيوانات الطويلة الأذناب كالبقر والسباع.

6-

عمود صلب الحيوانات الطويلة الخلقة كالسمك والحيات وبعض الحشرات.

7-

عدد الحروف التي في لغة العرب التي هي أتم اللغات ثمان وعشرون حرفا.

ص: 234

منها أربعة عشرة يدغم فيها لام التعريف وهي: ت ث د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ل ن. وأربعة عشر لا تدغم اللام فيها وهي: أب ج ح خ ع غ ف ق ك م هـ وي.

8-

والحروف التي تخط بالقلم قسمان: منها أربعة عشر معلمة بالنقط وهي: ب ت ث ج خ ذ ز ش ض ظ غ ف ق ن وأربعة عشر غير معلمة وهي: اح د ر س ص ط ع ك وهـ ل م لا. وهذا الحرف هو الألف التي هي من حروف العلة. أما الأولى فهي الهمزة. فهذه أربعة عشر حرفا. وبقيت الياء وهي تنقط في وسط الكلمة ولا تنقط في آخرها. فأصبحت الحروف المعلمة أربعة عشر وغير المعلمة أربع عشر والحرف التاسع والعشرون معلم وغير معلم لتكون القسمة عادلة. والفضل في هذا العدل للحكيم الذي وضع حروف الهجاء العربية فإنه كان حكيما والحكيم هو الذي يتشبه بالله بقدر الطاقة البشرية. وهذا جعل ثمانية وعشرين حرفا مقسمة قسمين كل منها أربعة عشر كما في مفاصل اليدين وفقرات بعض الحيوانات.

9-

منازل القمر ثمان وعشرون منزلة في البروج الشمالية أربع عشرة وفي الجنوبية أربع عشرة. فهذا يفيد أن الموجودات التي عددها ثمانية وعشرون تكون قسمين كل منهما أربعة عشر. فهكذا هنا في القرآن جاءت الحروف العربية مقسمة قسمين قسم منهما أربعة عشر منطوق به في أوائل السور وقسم منهما أربعة عشر غير منطوق به في أوائلها. وكأنه تعالى يقول أي عبادي إن منازل القمر ثمان وعشرون وهي قسمان ومفاصل الكف ثمانية وعشرون وهي قسمان وهكذا. والحروف التي تدغم في حرف التعريف والتي هي معلمة كل منها أربعة عشر. وضدها أربعة عشر فلتعلموا أن هذا القرآن هو تنزيل مني لأني نظمت حروفه على هذا النمط الذي أخترته في صنع المنازل والأجسام الإنسانية والأجسام الحيوانية ونظام الحروف الهجائية فمن أين لبشر كمحمد أو غيره

ص: 235

أن ينظم هذا النظام ويجعل هذه الأعداد موافقة للنظام الذي وضعته والسنن الذي رسمته والنهج الذي سلكته؟ إن القرآن تنزيل مني وقد وضعت هذه الحروف في أوائل السور لتستخرجوا منها ذلك فتعلموا أني ما خلقت السموات والأرض وما بينهما باطلا بل جعلت النظام في العالم وفي الوحي متناسبا. وهذا الكتاب سيبقى إلى آخر الزمان ولغته ستبقى معه إلى آخر الأجيال. إن اللغات متغيرة وليس في العالم لغة تبقى غير متغيرة إلا التي حافظ عليها دين. وهل غير اللغة العربية حافظ عليها دين؟.

هذا ولا يخفى عليك أن ذاك الرأي الثاني في فواتح السور أبلغ في نقض الشبهة من الرأي الأول لأنه ينفي ما زعموه من أساس الاتهام وهو أنه ليس لهذه الفواتح معنى مفهوم ويقرر أن معانيها مفهومة على ما تبين في تلك الوجوه السابقة. وإذا كان بعض الناس لا يفهم تلك المعاني فليس ذلك عيبا في القرآن إنما هو عيب في استعداد بعض أفراد الإنسان. وكتاب الله خوطب به الخواص كما خوطب به العوام فلا بدع أن يكون فيه ألفاظ لا يفهمها إلا الخاصة دون العامة.

وعلى كلا هذين الرأيين يتضح لك أن اشتمال القرآن على هذه الألفاظ ليس من قبيل اشتماله على لغو الكلام أو إظهار القرآن بمظهر عميق مخيف ولا يفهم منه أنها رموز للمصاحف ألحقها مرور الزمن بالقرآن إلى غير ذلك من الهذيان. بل ثبوت هذه الفواتح لا يقدح في كون القرآن من عند الله سواء أفادت معنى ظاهرا أم لم تفد على ما بيناه من حكمة الله البالغة في إيرادها. والله هو الحكيم العليم.

ص: 236