الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبمثل ذلك تستطيع أن تستدل للملازمات وبطلان التوالي فيما نظمناه بين يديك من الأقيسة الاستثنائية. فتأمل.
10-
شبهات المخالفين وتفنيدها
استند مخالفو الجمهور إلى شبهات خمس لتأييد مذهبهم- وهو أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ- ولكنك سترى مصرع هذه الشبهات بين يديك:
الشبهة الأولى يقولون: إن الإجماع قد انعقد على عدم جواز إخراج السبب من حكم العام الوارد على سبب خاص إذا ورد مخصص. وذلك يستلزم أن العام مقصور على أفراد السبب لا يتناول غيرها لأنه لو لم يكن مقصورا عليها لتساوت هي وغيرها في جواز الإخراج عند المخصص. وذلك ممنوع للإجماع المذكور.
والجواب: أن الإجماع المذكور لا يستلزم قصر العام على إفراد الخاص كما يقولون بل هو واقف عند حدود معناه من أن أفراد السبب لا تخرج بالمخصص وذلك المعنى محقق لعدم التساوي بين أفراد السبب وغيرها في حالة الإخراج بالمخصص لكنه لا يمنع دخول غير أفراد السبب في حكم العام إذا تناوله اللفظ وذلك لأدلة الجمهور السابقة.
ويمكن أن تنظم في هذا قياسا استثنائيا يقول:
لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لجاز إخراج أفراد السبب إذا ورد مخصص لكن إخراج أفراد السبب عند وجود المخصص ممنوع لانعقاد الإجماع على امتناعه. فبطل ما أدى إليه وهو المقدم وثبت نقيضه وهو أن العبرة بخصوص السبب. دليل التلازم أن العام تستوي أفراده فإذا أخذنا بعموم اللفظ ولم نخصصه بالسبب
تساوت أفراد السبب وغيرها مما اندرج تحت ذلك العام فإذا جاء مخصص جاز أن يخرج أفراد السبب.
ويجاب بإبطال الملازمة ومنع أن أفراد العام متساوية. وسند المنع أن الإجماع منعقد على أن أفراد السبب تمتاز عن غيرها بأنها لا تخرج بالتخصيص. فإن تساوت هي وأفراد غير السبب دخولا فلن يتساوى الجميع خروجا. وإذن يبقى العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب للأدلة السابقة.
الشبهة الثانية يقولون: إن الرواة نقلوا أسباب النزول واهتموا بها وبتدوينها. ولا فائدة لذلك إلا ما نذهب إليه من وجوب قصر العام على أفراد سببه الخاص. وهذا معنى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. والجواب: أنه لا وجه لكم في أن تجعلوا فائدة نقل الأسباب هي قصر العام على أفراد سببه فإن لأسباب النزول والإحاطة بها علما عن طريق نقل الرواة فوائد عدة ومزايا جمة وذكرناها في مطلع هذا المبحث
وهي غير ما ذكرتم فارجعوا إليها إن شئتم.
ويمكن أن ننظم من ذلك قياسا استثنائيا أيضا هكذا لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لما نقله الرواة واهتموا ببيانه وتدوينه لكن التالي باطل بالحس والمشاهدة فثبت نقيض المقدم وهو أن العبرة بخصوص السبب دليل الملازمة أنه لا يفهم لنقل الرواة وعنايتهم ببيان الأسباب فائدة غير التخصيص.
والجواب: أننا نمنع دليل الملازمة كيف؟ ولأسباب النزول فوائد متعددة قد قصصناها عليك أول هذا المبحث فحذار أن تنسى.
الشبهة الثالثة يقولون: إن تأخير البيان عن وقوع الواقعة وتوجيه السؤال في العام الوارد على سبب يدل على أن العبرة بخصوص السبب لأن تأخير لفظ الشارع إلى ما بعد حدوث سببه يفهم منه أن السبب هو الملحوظ وحده للشارع في الحكم عليه بهذا اللفظ العام النازل فيه وإلا لما ربطه بالسبب بل لأنزله قبله أو أخره عنه.
والجواب أنه يكفي في حكمة تأخير البيان إلى ما بعد السبب أن يكون اللفظ العام بيانا له ولو مع ما يشابهه من كل ما يندرج تحت اللفظ العام ولا يستلزم أن يكون بيانا له وحده كما ذكرتم.
ويمكن أن تصوغ في هذا قياسا هكذا لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لما أخر البيان إلى وقوع الواقعة أو توجيه السؤال. لكن التالي باطل فثبت نقيض المقدم وهو المطلوب. دليل الملازمة أن تأخير لفظ الشارع إلى ما بعد وقوع الواقعة وتوجيه السؤال لا يفهم منه إلا أنه بيان لهذا السبب وحده وذلك معنى أن العبرة بخصوصه.
والجواب: أننا نمنع دليل الملازمة أي نمنع أنه لا يفهم من تأخير البيان إلى ما بعد وقوع الواقعة وتوجيه السؤال إلا أن يكون اللفظ العام النازل بسببهما بيانا لهذا السبب وحده. كيف؟ والتأخير يفهم منه أن اللفظ العام جاء بيانا له مع أشباهه من كل ما ينتظم وإياه في سلك العام للأدلة السابقة.
الشبهة الرابعة يقولون: قد اتفقت كلمة الفقهاء على أنه إذا دعا رجل رجلا آخر إلى طعام الغداء وقال له: تغد عندي فرفض وقال: والله لا أتغدى ولم يقل عندك ثم تناول الغداء عند غير هذا الداعي فإنه لا يحنث.
وما ذاك إلا لأن هذا اللفظ العام قد تخصص بسببه وهو كلمة تغد عندي التي خص بها الداعي نفسه فكأن الحالف قال: لا أتغدى عندك وحدك ولذلك لا يحنث بغدائه عند غيره.
والجواب: أن حكم الفقهاء في هذا المثال ليس مبنيا على أن كل عام يتخصص بسببه كما فهمتم بل هو مبني على أن هذا المثال وأشباهه تخصص بقرينة خارجة وهي حكم العرف هنا بأن الحالف إنما يريد ترك الغداء عند داعيه فقط. وليس كلامنا فيما تخصص بقرينة خارجة سواء أكانت العرف أم سواه فذلك محل وفاق.
ونظيره أن يقال لك كلم فلانا في واقعة معينة فتقول والله لا أكلمه أبدا فإنك لا تحنث إذا كلمته في غير تلك الواقعة لأن العرف يحكم أيضا بأنك تريد عدم تكليمه في خصوص تلك الواقعة لا مطلقا.
ويمكن أن تنظم من هذا قياسا استثنائيا يقول:
لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لكان من قال والله لا أتغدى ولم يقل عندك في إجابة من قال له تغد عندي حانثا إذا تغدى عند غيره. لكن التالي باطل لنص الفقهاء على عدم حنثه حينئذ فبطل المقدم وثبت نقيضه وهو المطلوب.
دليل الملازمة أن كلمة لا أتغدى شاملة للتغدي عند المخاطب وعند غيره لأن حذف المعمول يؤذن بالعموم.
وقد جاءت هذه الكلمة على سبب وهو دعوة المخاطب إياه للغداء. فلو أخذنا بعموم هذا اللفظ وأهملنا خصوص هذا السبب لكان يحنث بغدائه عند غيره لأنه فرد من أفراد ذلك العام.
والجواب: أن التخصيص بالسبب هنا لم يجيء من نفس السبب إنما جاء من قرينة خارجة هي حكم العرف بأن حالف مثل هذه اليمين إنما يقصد عدم التغدي عند من دعاه وحده. ولا كلام لنا في ذلك لأن التخصيص بالقرينة الخارجة محل وفاق كما تقدم.
الشبهة الخامسة يقولون: إن التطابق بين السؤال وجوابه واجب في نظر الحكمة وبحكم قانون البلاغة. وهذا التطابق لا يستقيم إلا بالتساوي بين لفظ العام وسببه الخاص. والتساوي لا يكون إلا إذا خصصنا اللفظ العام بسببه الخاص. لا سيما إذا وقع ذلك في كلام الشارع الحكيم وجاء في أرقى نصوص البلاغة وواحدها إعجازا وهو القرآن الكريم.
والجواب: أن طرد العام على عمومه لا يخل بمطابقته لسببه الخاص؟ لأن هذه المطابقة تحصل بكون اللفظ أعم من سببه كما تحصل بمساواته إياه فإن المقصود من المطابقة أن يكون اللفظ مبينا لحكم السبب وغير قاصر عن الوفاء به وهو إذا جاء أعم يكون قد وفى بالمراد وزاد.
ويمكن أن تسبك من هذا قياسا استثنائيا صيغته هكذا: لو لم تكن العبرة بخصوص السبب لكان اللفظ غير مطابق للسبب. لكن التالي باطل فثبت نقيض المقدم. دليل الملازمة: أن الكلام هنا مفروض في سبب خاص ولفظ عام ولا شك أن العام لا يطابق الخاص. ودليل بطلان التالي: أن عدم المطابقة مناف للحكمة ومخل بالبلاغة.
والجواب: أننا نبطل تلك الملازمة ونمنع دليلها وهو أن العام لا يطابق الخاص. كيف؟ والمطابقة كما تحصل بمساواة اللفظ للسبب عموما وخصوصا تحصل بكون اللفظ أعم من السبب لأن المراد من الجواب أن يتحدث عن السبب ويبين حكمه وذلك حاصل مع كونه أعم منه ولا يتوقف على مساواته إياه.
ملاحظة: يمكنك بعد هذا البيان أن تحول تلك الأقيسة الاستثنائية إلى أقيسة اقترانية ثم تستدل على مقدماتها بسهولة ويسر على نمط ما فعلناه بأدلة الجمهور. فأمامك المجال ولا داعي لإطالة المقال.
كما أرجو أن يعذرني القارئ الكريم إذا شق عليه بعض الشيء أن يهضم تلك الصناعة الفنية في صياغة الأدلة بعض الأحيان فإن للوسط قضاء لا يرد وللصناعة حكما لا ينقض. ومن واجبي أن أشبع حاجة هؤلاء وهؤلاء لذلك تراني طورا هنا وطورا هناك. والله هو الفتاح العليم وهو الموفق والمعين.