الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورتي الضحى وألم نشرح من الوعود الكريمة والعطايا العظيمة. وطورا تأتيه التسلية عن طريق إبعاد أعدائه وإنذارهم نحو قوله تعالى في سورة القمر: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} وقوله سبحانه في سورة فصلت: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} . وطورا آخر ترد التسلية في صورة الأمر الصريح بالصبر نحو قوله جل شأنه في سورة الأحقاف: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} أو في صورة النهي عن التفجع عليهم والحزن منهم. نحو قول الله في سورة فاطر: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} ونحو قوله سبحانه في خواتم سورة النحل: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} .
ومن موارد تسلية الله لرسوله أن يخوفه عواقب حزنه من كفر أعدائه نحو: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} في فاتحة سورة الشعراء. ومنها أن يؤيسه منهم ليستريح ويتسلى عنهم نحو: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} . {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} من سورة الأنعام.
ويمكن أن تندرج هذه الحكمة بوجوهها الخمسة تحت قول الله في بيان الحكمة من تنجيم القرآن {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} من سورة الفرقان.
الحكمة الثانية
التدرج في تربية هذه الأمة الناشئة علما وعملا
. وينضوي تحت هذا الإجمال أمور خمسة أيضا:
أولها: تيسير حفظ القرآن على الأمة العربية وهي كما علمت كانت أمة أمية.
وأدوات الكتابة لم تكن ميسورة لدى الكاتبين منهم على ندرتهم وكانت مشتغلة بمصالحها المعاشية وبالدفاع عن دينها الجديد بالحديد والدم فلو نزل القرآن جملة واحدة لعجزوا عن حفظه فاقتضت الحكمة العليا أن ينزله الله إليهم مفرقا ليسهل عليهم حفظه ويتهيأ لهم استظهاره.
ثانيها: تسهيل فهمه عليهم كذلك مثل ما سبق في توجيه التيسير في حفظه.
ثالثها: التمهيد لكمال تخليهم عن عقائدهم الباطلة وعباداتهم الفاسدة وعاداتهم المرذولة. وذلك بأن يراضوا على هذا التخلي شيئا فشيئا بسبب نزول القرآن عليهم كذلك شيئا فشيئا فكلما نجح الإسلام معهم في هدم باطل انتقل بهم إلى هدم آخر وهكذا يبدأ بالأهم ثم بالمهم حتى انتهى بهم آخر الأمر عن تلك الأرجاس كلها فطهرهم منها وهم لا يشعرون بعنت ولا حرج وفطمهم عنها دون أن يرتكسوا في سابق فتنة أو عادة. وكانت هذه سياسة رشيدة لا بد منها في تربية هذه الأمة المجيدة لا سيما أنها كانت أبية معاندة تتحمس لموروثاتها وتستميت في الدفاع عما تعتقده من شرفها وتتهور في سفك الدماء وشن الغارات لأتفه الأسباب.
رابعها: التمهيد لكمال تحليهم بالعقائد الحقة والعبادات الصحيحة والأخلاق الفاضلة بمثل تلك السياسة الرشيدة السابقة. ولهذا بدأ الإسلام بفطامهم عن الشرك والإباحة وإحياء قلوبهم بعقائد التوحيد والجزاء من جراء ما فتح عيونهم عليه من أدلة التوحيد وبراهين البعث بعد الموت وحجج الحساب والمسؤولية والجزاء.
ثم انتقل بهم بعد هذه المرحلة إلى العبادات فبدأهم بفرضية الصلاة قبل الهجرة وثنى بالزكاة وبالصوم في السنة الثانية من الهجرة وختم بالحج في السنة السادسة منها. وكذلك كان الشأن في العادات زجرهم عن الكبائر وشدد النكير عليهم فيها. ثم نهاهم عن الصغائر في شيء من الرفق وتدرج في تحريم ما كان مستأصلا فيهم
كالخمر تدرجا حكيما حقق الغاية وأنقذهم من كابوسها في النهاية. وكان الإسلام في انتهاج هذه الخطة المثلى أبعد نظرا، وأهدى سبيلا وأنجح تشريعا وأنجع سياسة من تلكم الأمم المتمدنية المتحضرة التي أفلست في تحريم الخمر على شعوبها أفظع إفلاس وفشلت أمر فشل. وما عهد أمريكا في مهزلة تحريمها الخمر ببعيد.
أليس ذلك إعجازا للإسلام في سياسة الشعوب وتهذيب الجماعات وتربية الأمم بلى والتاريخ على ذلك من الشاهدين.
خامسها: تثبيت قلوب المؤمنين وتسليحهم بعزيمة الصبر واليقين بسبب ما كان يقصه القرآن عليهم الفينة بعد الفينة والحين بعد الحين من قصص الأنبياء والمرسلين وما كان لهم ولأتباعهم مع الأعداء والمخالفين وما وعد الله به عباده الصالحين من النصر والأجر والتأييد والتمكين. والآيات في ذلك كثيرة حسبك منها قول العلي الكبير في سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . وقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ويمكن أن تندرج هذه الحكمة الثانية بما انضوى تحتها في قول الله تعالى في سورة الإسراء: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} كما يمكن أن يفسر بها قوله تعالى في سورة الفرقان في بيان أسرار التنجيم {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} باعتبار أن التنوين للتعظيم إشارة إلى المعاني المنطوية تحت هذا الترتيل.