الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يستمد الحي حياته من ميت اقرأ إن شئت قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الخ. وقوله جل ذكره: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} ؟ الخ وقوله عز اسمه: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} الخ وهذه الآيات من سورة آل عمران. وقوله تعالت قدرته من سورة المائدة {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} الخ.
ثالثا: أن ما زعموه لو كان صحيحا لظهر أثر أهل الكتاب المدنيين فيمن معهم من عرب أهل المدينة وفيمن حولهم من أهل مكة وآفاق الجزيرة ولكانوا هم الأحرياء بهذه النبوة والرسالة ولسبق محمدا إليها كثير غيره من فصحاء العرب وتجار قريش الذين كانوا يختلطون بأهل الكتاب في المدينة والشام أيما اختلاط.
رابعا: أن القرآن تحدى الكافة من مكيين ومدنيين بل من جن وإنس فهلا كان أساتذته أولئك يستطيعون أن يجاروه ولو في مقدار سورة قصيرة واحدة يا لها فرية ثم يا لها صفاقة.
هذا كلام له خبئ
…
معناه ليست لنا عقول
الشبهة الرابعة
يقولون: إن القرآن أقسم كثيرا بالضحى والليل والتين والزيتون وطور سينين وكثير من المخلوقات. ولا ريب أن القسم بالأشياء الحسية يدل على تأثر القرآن بالبيئة في مكة لأن القوم فيها كانوا أميين لا تعدو مداركهم حدود الحسيات. أما بعد الهجرة واتصال محمد بأهل المدينة وهم قوم مثقفون مستنيرون،
فقد تأثر القرآن بهذا الوسط الراقي الجديد وخلا من تلك الأيمان الحسية الدالة على البساطة والسذاجة.
وهذه الشبهة مدفوعة أولا: بما قدمنا من أن أهل مكة كانوا أرقى ذوقا وأعلى كعبا وأعظم ذكاء من أهل المدينة وأن الخطاب معهم كان ملحوظا فيه اشتماله على أسرار وخصائص لا يدركها إلا المتفوقون والمتمهرون في صناعة البيان. فلا يستقيم إذن ما زعموه من أن مدارك أهل مكة كانت لا تعدو حدود الحسيات. والتاريخ خير شاهد وأعدل حاكم بامتياز العرب في مكة عن سائر القبائل على عهد نزول القرآن.
ثانيا: أن القسم بالأمور الحسية في القرآن كالضحى والليل ليس منشؤه انحطاط القوم كما يزعمون إنما منشؤه رعاية مقتضى الحل فيما سبق القسم لأجله وذلك أن القرآن كان بصدد علاج أفحش العقائد فيهم وهي عقيدة الشرك. ولا سبيل إلى استئصال هذه العقيدة وإقامة صرح التوحيد على أنقاضها إلا بلفت عقولهم إلى ما في الكون من شؤون الله وخلق الله وإلا بفتح عيونهم على طائفة كبيرة من نعم الخلق المحيطة بهم ليصلوا من وراء ذلك إلى أن يؤمنوا بالله وحده ما دام هو الخالق وحده لأنه لا يستحق العبادة عقلا إلا من كان له أثر الخلق في العالم فعلا. {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ؟.
فعرض بعض المخلوقات على أنظار الجاحدين بالتوحيد بعد إقرارهم أن ليس لها خالق إلا الله إلزام لهم بطرح الشرك وتوحيد الخالق. وهذا مطمح نبيل أجاد القرآن في أساليب عرض نعم الله عليهم من أجله وكان في إجادته هذه موفيا على الغاية وأصلا إلى قمة الإعجاب كعادته متفننا في ذكر النعم منوعا في سردها وبيانها
فمرة يحدث عن خلق السماء ومرة عن خلق الأرض وثالثة عن أنفسهم ورابعة عن أنواع الحيوان والنبات والجماد وهلم جرا. وتارة يختار القرآن في عرضه طريقة السرد والشرح،
وتارة يختار طريقة الحلف والقسم لأن في الحلف والقسم معنى العظمة التي أودعها الله في هذه النعم دالة على توحيده وعظمته حتى صح أن يدور القسم عليها وأن يجيء الحلف بها.
ومن هنا أقسم الله بما أقسم من الأمور الحسية والمعنوية فالأمور الحسية كما ذكرنا والمعنوية مثل القرآن الكريم في قوله سبحانه: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} لينبههم إلى مدى إنعامه عليهم بتلك الأقسام كلها حسيها ومعنويها فيرعووا عن شركهم بتلك الآلهة المزيفة التي لا تملك ضرا ولا نفعا وليس لها أي شأن في هذا الخلق. على حد قوله سبحانه في سورة الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} .
وأنت خبير بأن المصاب بداء الشرك لا سبيل إلى إنقاذه منه إلا بمثل هذه الطريقة المثلى التي سلكها القرآن بعرض دلائل التوحيد من آيات الله في الآفاق على أنظار المشركين وهذا سبيل متعين في خطاب كل مشرك ولو كان واحد الفلاسفة ووحيد العباقرة وأستاذ المثقفين والمستنيرين. فحلف القرآن بأمثال هاتيك المخلوقات والحسيات ليس دالا على سذاجة المخاطبين وانحطاطهم وليس بالتالي سبيلا إلى الطعن في القرآن بأنه كلام محمد المتأثر بانحطاط البيئة المكية كما يرجفون: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} .
ثالثا: أن في مضامين تلك الأقسام بالحسيات أسرارا تنأى بها عن السذاجة والبساطة وتشهد ببراعة المخاطبين بها وتفوقهم في الفهم والذكاء والفصاحة والبيان.
ذلك أن القسم بها كما قلنا إشارة إلى الأسرار العظيمة التي وضعها الله في تلك الأمور التي أقسم بها. حتى صح أن يكون مقسما بها. وتلك الأسرار لا يدركها إلا اللبيب لأنها غير مشروحة ولا مفسرة في القرآن الكريم فلا يفهمها إلا من كمل عقله وسلم ذوقه. ولنشرح لك بعض الأسرار ليتبين الحال ولا يبق للشبهة مجال.
المثال الأول: أقسم الله سبحانه بالضحى والليل في قوله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} وسبب نزول هذه الآيات: أن النبي صلى الله عليه وسلم فتر عنه الوحي مرة لا ينزل بقرآن فرماه أعداؤه بأن ربه ودعه وقلاه أي تركه وأبغضه فنزلت هذه الآيات مصدرة بهذا القسم مشيرة إلى أن ما كان من سطوع الوحي على قلبه صلى الله عليه وسلم بمنزلة الضحى تقوى به الحياة وتنمى به الناميات وما عرض بعد ذلك من فترة الوحي فهو بمنزلة الليل إذا سجى لتستريح فيه القوى وتستعد فيه النفوس لما يستقبلها من العمل. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لاقى من الوحي شدة أول أمره حتى جاء إلى خديجة رضي الله عنها ترجف بوادره كما هو معروف في حديث الصحيحين. فكانت فترة الوحي لتثبيته عليه الصلاة والسلام وتقوية نفسه على احتمال ما يتوالى عليه منه حتى تتم به حكمة الله في إرساله إلى الخلق. ولهذا قال له: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} أي إن كرة الوحي ثانيا سيكمل بها الدين وتتم بها نعمة الله على أهله وأين بداية الوحي من نهايته؟ وأين إجمال الدين الذي جاء في قوله {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} الخ من تفصيل العقائد والأحكام الذي جاء في مثاني القرآن ثم زاد الأمر تأكيدا بقوله {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} .
فمن هذا نعلم أن الحلف بالضحى والليل في هذا المقام ليس مجرد تذكير
بآياته ونعمه فحسب. بل هو أيضا إقامة دليل على أن تنزل الوحي أشبه بضحوة النهار وأن فترة الوحي أشبه بهدأة الليل فإذا كانوا يتقبلون الضحى والليل بالرضا والتسليم لما فيهما من نفع الإنسان بالسعي والحركة والحياة بالنهار والنوم والاستجمام بالليل يجب أن يتقبلوا أيضا ما يجري على محمد صلى الله عليه وسلم من نزول الوحي وفترته للمعنى الذي سلف.
المثال الثاني: أقسم الله سبحانه بالتين والزيتون في قوله جل ذكره: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} قال العلامة المرحوم الشيخ محمد عبده عند تفسيره لهذه السورة ما نصه:
وقد يرجح أنهما أي التين والزيتون النوعان من الشجر ولكن لا لفوائدهما كما ذكروا بل لما يذكران به من الحوادث العظيمة التي لها الآثار الباقية في أحوال البشر. قال صاحب هذا القول: إن الله تعالى أراد أن يذكرنا بأربعة فصول من كتاب الإنسان الطويل فإنه كان يستظل في تلك الجنة التي كان فيها بورق التين وعندما بدت له ولزوجته سوآتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق التين. والزيتون إشارة إلى عهد نوح عليه السلام وذريته وذلك أنه بعد أن فسد البشر وأهلك من أهلك منه بالطوفان ونجى نوح في سفينته واستقرت السفينة نظر نوح إلى ما حوله فرأى المياه لا تزال تغطي وجه الأرض فأرسل بعض الطيور لعله يأتي إليه بخبر انكشاف الماء عن بعض الأرض فغاب ولم يأت بخبر فأرسل طيرا آخر فرجع إليه يحمل ورقة من شجر الزيتون فاستبشر وسر وعرف أن غضب الله قد سكن وقد أذن للأرض أن تعمر ثم كان منه ومن أولاده تجديد القبائل البشرية العظيمة في الأرض التي امحى عمرانها فعبر عن ذلك الزمن بزمن الزيتون. والإقسام هنا بالزيتون للتذكير بتلك الحادثة وهي من أكبر ما يذكر من الحوادث.
{وَطُورِ سِينِينَ} إشارة إلى عهد الشريعة الموسوية وظهور نور التوحيد في العالم،