الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6-
النسبة بين هذه المذاهب ومذهب الرازي
ويذهب بعض الجهابذة إلى القول بالاتحاد بين هذه المذاهب الثلاثة ومذهب الرازي بل بينها جميعا وبين ما يشابهها ويجعل الخلاف بينها كلها لفظيا لا حقيقيا. وذلك تكلف بعيد فيما أرى لأننا نلاحظ وجها كاملا في كلام الرازي لم ينوه به واحد من أولئك الثلاثة. فهو فضلا عن أنه أدمج وجوههم السبعة في وجوه ستة بطريقته الدقيقة نجده قد عقد الوجه السابع لاختلاف اللهجات كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم ونحو ذلك.
على حين أننا ما رأينا واحدا من أولئك الأعلام الثلاثة عرض لهذا النوع من الاختلاف. بل وجدنا في كلامهم ما جعلهم يهملون هذا الوجه عن قصد وعمد.
فهذا ابن قتيبة يقول:
وأما نحو اختلاف الإظهار والإدغام. والروم والإشمام والتخفيف والتسهيل ونحو ذلك فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع في اللفظ والمعنى لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا اهـ.
ولكني أرى أن هذا العذر الذي قدمه ابن قتيبة لإهمال هذا الوجه لا يسوغ ذلك الإهمال. فإن المسألة ليست مسألة أسماء وعناوين يترتب عليها أن اختلاف اللهجات في اللفظ الواحد تخرجه عن أن يكون واحدا أو لا تخرجه بل المسألة مسألة رعاية أمر واقع تختلف به القراءات فعلا ويمكن أن يكون مثار النزاع السابق الذي دب بين الصحابة في اختلاف القراءات كما يكون أيضا مثارا للنزاع في كل عصر ومصر بين القراء إذا لم يعلموا أن الجميع من عداد الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن. وذلك لأن تحريف القرآن
يحرم بما يمس صورته وطريق أدائه وكيفية لهجاته كما يحرم بما يمس جوهره وتغيير حروفه وكلماته وحركاته وترتيبه.
أمر آخر: هو أن التيسير على الأمة وهي الحكمة البارزة في نزول القرآن على سبعة أحرف لا يتحقق على الوجه الأكمل إلا بحسبان هذا الوجه الذي نوه به الرازي وهو اختلاف اللهجات. بل هذا قد يكون أولى بالحسبان وأحرى بالرعاية في باب التخفيف والتيسير لأنه قد يسهل على المرء أن ينطق بكلمة من غير لغته في جوهرها ولا يسهل عليه أن ينطق بكلمة من غير لغته نفسها بلهجة غير لهجته وطريقة في الأداء غير طريقته. ذلك لأن الترقيق والتفخيم والهمز والتسهيل والإظهار والإدغام والفتح والإمالة ونحوها ما هي إلا أمور دقيقة وكيفيات مكتنفة بشيء من الغموض والعسر في النطق على من لم يتعودها ولم ينشأ عليها.
واختلاف القبائل العربية فيما مضى كان يدور على اللهجات في كثير من الحالات وكذلك اختلاف الشعوب الإسلامية وأقاليم الشعب الواحد منها الآن يدور في كثير من الحالات أيضا على اختلاف اللهجات.
وإذن فتخفيف الله على الأمة بنزول القرآن على سبعة أحرف لا يتحقق إلا بملاحظة الاختلاف في هذه اللهجات. حتى إن بعض العلماء جعل الوجوه السبعة منحصرة في اللهجات لا غير كما يأتي.
قال الإمام ابن قتيبة نفسه في كتاب المشكل ما نصه: فكان من تيسير الله تعالى أن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرئ كل أمة لعله يريد بالأمة القبيلة بلغتهم وما جرت به عادتهم فالهذلي يقرأ "عتى حين" يريد {حَتَّى حِينٍ} هكذا يلفظ بها ويستعملها أي يقلب الحاء عينا في النطق. والأسدي يقرأ {يَعْلَمُونَ، وَنَعْلَمَ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، أَلَمْ أَعْهَدْ} بكسر حروف المضارعة في ذلك كله والتميمي يهمز والقرشي لا يهمز. والآخر يقرأ {قِيلَ لَهُمْ وَغِيضَ الْمَاءُ} بإشمام الضم مع الكسر
و {بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} بإشمام الكسر مع الضم. و {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا} بإشمام الضم مع الإدغام.
ثم قال ابن قتيبة أيضا: ولو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا ويافعا وكهلا لاشتد ذلك عليه وعظمت المحنة فيه ولا يمكن إلا بعد رياضة للنفس طويلة وتذليل للسان وقطع للعادة. فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متسعا في اللغات ومتصرفا في الحركات كتيسيره عليهم في الدين اهـ.
فأنت تراه قد اعتبر اللهجات وطرق الأداء صراحة في هذه الكلمات.
وكذلك نجد العلامة ابن الجزري يعترف بهذا الاختلاف في اللهجات ويقول ما نصه: وهذا يقرأ {عَلَيْهِمْ} و {فِيهِمْ} بضم الهاء والآخر يقرأ عليهمو ومنهمو بالصلة. وهذا يقرأ {قَدْ أَفْلَحَ} و {قُلْ أُوحِيَ} {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} بالنقل والآخر يقرأ {مُوسَى} و {عِيسَى} بالإمالة. وغيره يلطف. وهذا يقرأ {خَبِيراً بَصِيراً} بترقيق الراء والآخر يقرأ {الصَّلاةَ} و {الطَّلاقَ} بالتفخيم إلى غير ذلك اهـ.
ولكن من العجب العاجب أن هذين الإمامين الجليلين اللذين اعترفا صراحة باختلاف اللهجات وطرق الأداء على هذا الوجه فاتهما أن ينظماه في سلك الوجوه السبعة التي نزل بها القرآن تيسيرا على الأمة. والعصمة لله وحده.
فالأحق والأدق ما ذهب إليه الرازي.
ولعل هذه الدقة وهذا الشمول الذي وفق إليه الرازي في الوجوه السبعة هو التنقيح الذي نوه به ابن حجر إذ قال: وقد أخذ أي الرازي كلام ابن قتيبة ونقحه. وليس معناه الاتحاد بينهما لما علمت من وضوح الفرق وأن كلام الرازي أعم من كلام أولئك الثلاثة عموما مطلقا.