المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌تصدير الطبعة الثالثة وفهرسها

- ‌مقدمة: في القرآن وعلومه ومنهجي في التأليف

- ‌المبحث الأول: في معنى علوم القرآن

- ‌مدخل

- ‌القرآن في الاصطلاح

- ‌القرآن عند المتكلمين

- ‌القرآن عند الأصوليين والفقهاء وعلماء العربية

- ‌هل القرآن علم شخص

- ‌هل يصاغ للأعلام تعاريف

- ‌إطلاق القرآن على الكل وعلى أبعاضه

- ‌ معنى علوم القرآن بالمعنى الإضافي

- ‌القرآن كتاب هداية وإعجاز

- ‌القرآن يحض على الانتفاع بالكون

- ‌إعجاز علمي للقرآن

- ‌ معنى علوم القرآن كفن مدون وموضوعه وفائدته

- ‌المبحث الثاني: في تاريخ علوم القرآن وظهور اصطلاحه

- ‌عهد ما قبل التدوين

- ‌عهد التمهيد لتدوين علوم القرآن

- ‌عهد التدوين لعلوم القرآن بالمعنى الإضافي

- ‌أول عهد لظهور هذا الاصطلاح

- ‌علوم القرآن في القرن الأخير

- ‌خلاصة

- ‌المبحث الثالث: نزول القرآن

- ‌معنى نزول القرآن

- ‌ تنزلات القرآن

- ‌كيفية أخذ جبريل للقرآن وعمن أخذ

- ‌ما الذي نزل به جبريل

- ‌مدة هذا النزول

- ‌دليل تنجيم هذا النزول

- ‌الحكم والأسرار في تنجيم القرآن

- ‌الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه

- ‌الحكمة الثانيةالتدرج في تربية هذه الأمة الناشئة علما وعملا

- ‌الحكمة الثالثة: مسايرة الحودث والطواىء في تجددها وتفرقها

- ‌الحكمة الرابعةالإرشاد إلى مصدر القرآن وأنه كلام الله وحده

- ‌المعركة الطاحنة أو الوحي بين معتقديه ومنكريه

- ‌مدخل

- ‌ حقيقة الوحي وأنواعه وكيفياته

- ‌ الوحي من ناحية العلم

- ‌ الوحي من ناحية العقل

- ‌ دفع الشبهات

- ‌المبحث الرابع: في أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن

- ‌مدخل

- ‌أول ما نزل على الإطلاق

- ‌آخر ما نزل على الإطلاق

- ‌مثلان من أوائل وأواخر مخصوصة

- ‌ملاحظة

- ‌المبحث الخامس: في أسباب النزول

- ‌مدخل

- ‌معنى سبب النزول

- ‌ فوائد معرفة أسباب النزول

- ‌ طريق معرفة سبب النزول

- ‌ التعبير عن سبب النزول

- ‌ تعدد الأسباب والنازل واحد

- ‌ تعدد النازل والسبب واحد

- ‌ العموم والخصوص بين لفظ الشارع وسببه

- ‌ عموم اللفظ وخصوص سببه

- ‌ أدلة الجمهور

- ‌ شبهات المخالفين وتفنيدها

- ‌ شبيه بالسبب الخاص مع اللفظ العام

- ‌المبحث السادس: في نزول القرآن على سبعة أحرف

- ‌مدخل

- ‌ أدلة نزول القرآن على سبعة أحرف

- ‌ شواهد بارزة في هذه الأحاديث الواردة

- ‌ معنى نزول القرآن على سبعة أحرف

- ‌ الوجوه السبعة في المذهب المختار

- ‌ لماذا اخترنا هذا المذهب

- ‌الذين قالوا بهذا المذهب

- ‌ النسبة بين هذه المذاهب ومذهب الرازي

- ‌ دفع الاعتراضات الواردة على هذا المذهب

- ‌ بقاء الأحرف السبعة في المصاحف

- ‌ الأقوال الأخرى ودفعها

- ‌ ردود إجمالية لهذه الأقوال الأخيرة

- ‌ علاج الشبهات الواردة

- ‌المبحث السابع: في المكي والمدني من القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌ الاصطلاحات في معنى المكي والمدني

- ‌ فائدة العلم بالمكي والمدني

- ‌ الطريق الموصلة إلى معرفة المكي والمدني

- ‌ الضوابط التي يعرف بها المكي والمدني

- ‌ السور المكية والمدنية والمختلف فيها

- ‌ أنواع السور المكية والمدنية

- ‌وجوه تتعلق بالمكي والمدني

- ‌فروق أخرى بين المكي والمدني

- ‌نقض الشبهات التي أثيرت حول هذا الموضوع

- ‌مدخل

- ‌الشبهة الأولى

- ‌الشبهة الثانية

- ‌الشبهة الثالثة

- ‌الشبهة الرابعة

- ‌الشبهة الخامسة

- ‌الشبهة السادسة

- ‌المبحث الثامن: في جمع القرآن وتاريخه والرد على ما يثار حوله من شبه ونماذج من الروايات الواردة في ذلك

- ‌مدخل

- ‌جمع القرآن بمعنى حفظه في الصدور

- ‌جمع القرآن بمعنى كتابته في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌لماذا لم يجمع القرآن أيامئذ في صحف ولا مصاحف

- ‌جمع القرآن على عهد أبي بكر رضي الله عنه

- ‌جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه

- ‌الرد على ما يثار حول جمع القرآن من شبه

- ‌الشبهة الأولى

- ‌الشبهة الثانية

- ‌الشبهة الثالثة

- ‌الشبهة الرابعة

- ‌الشبهة الخامسة

- ‌الشبهة السادسة

- ‌خط منيع من خطوط الدفاع عن الكتاب والسنة

- ‌مدخل

- ‌ الجبهة الأولى: أو الدواعي والعوامل في حفظ الصحابة للكتاب والسنة ونقلهم لهما

- ‌ الجبهة الثانية: أو عوامل تثبت الصحابة في الكتاب والسنة

- ‌المبحث التاسع: في ترتيب آيات القرآن وسوره

- ‌معنى الآية:

- ‌طريقة معرفة الآية:

- ‌عدد آيات القرآن:

- ‌فوائد معرفة الآيات:

- ‌ترتيب آيات القرآن

- ‌ترتيب السور

- ‌المبحث العاشر: في كتابة القرآن ورسمه ومصاحفه وما يتعلق بذلك

- ‌ الكتابة

- ‌ رسم المصحف

- ‌ الشبهات التي أثيرت حول كتابة القرآن ورسمه

- ‌ المصاحف تفصيلا

- ‌المبحث الحادي عشر: في‌‌ القراءاتوالقراء والشبهات التي أثيرت في هذا المقام

- ‌ القراءات

- ‌ القراء

- ‌ نقض الشبهات التي أثيرت في هذا المقام

الفصل: ‌ رسم المصحف

ب -‌

‌ رسم المصحف

رسم المصحف يراد به الوضع الذي ارتضاه عثمان رضي الله عنه في كتابة كلمات القرآن وحروفه. والأصل في المكتوب أن يكون موافقا تمام الموافقة للمنطوق من غير زيادة ولا نقص ولا تبديل ولا تغيير. لكن المصاحف العثمانية قد أهمل فيها هذا الأصل فوجدت بها حروف كثيرة جاء رسمها مخالفا لأداء النطق وذلك لأغراض شريفة ظهرت وتظهر لك فيما بعد.

وقد عني العلماء بالكلام على رسم القرآن وحصر تلك الكلمات التي جاء خطها على غير مقياس لفظها. وقد أفرده بعضهم بالتأليف منهم الإمام أبو عمرو الداني إذ ألف فيه كتابه المسمى المقنع. ومنهم العلامة أبو عباس المراكشي إذ ألف كتابا أسماه: عنوان الدليل في رسوم خط التنزيل. ومنهم العلامة الشيخ محمد بن أحمد الشهير بالمتولي إذ نظم أرجوزة سماها اللؤلؤ المنظوم في ذكر جملة من المرسوم ثم جاء العلامة المرحوم الشيخ محمد خلف الحسيني شيخ المقارىء بالديار المصرية فشرح تلك المنظومة وذيل الشرح بكتاب سماه مرشد الحيران إلى معرفة ما يجب اتباعه في رسم القرآن.

قواعد رسم المصحف:

وللمصحف العثماني قواعد في خطه ورسمه حصرها علماء الفن في ست قواعد وهي الحذف والزيادة والهمز والبدل والفصل والوصل وما فيه قراءتان فقرئ على إحداهما. وهاك شيئا عنها بالإجمال ليكون الفرق بينها وبين مصطلح الخطوط في عصرنا على بال منك:-

قاعدة الحذف: خلاصتها أن الألف تحذف من ياء النداء نحو {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}

ص: 369

ومن ها التنبيه نحو {هَا أَنْتُمْ} ومن كلمة نا إذا وليها ضمير نحو {أَنْجَيْنَاكُمْ} 1 ومن لفظ الجلالة {اللَّهِ} ومن كلمة {إِلَهَ} ومن لفظي {الرَّحْمَنِ وَسُبْحَانَ} وبعد لام نحو كلمة {خَلائِفَ} وبين اللامين في نحو {الْكَلالَةِ} ومن كل مثنى نحو {رَجُلانِ} ومن كل جمع تصحيح لمذكر أو لمؤنت نحو {سَمَّاعُونَ} {الْمُؤْمِنَاتِ} ومن كل جمع على وزن مفاعل وشبهه نحو {الْمَسَاجِدِ} {وَالنَّصَارَى} ومن كل عدد نحو {ثَلاثَ} . ومن البسملة ومن أول الأمر من سأل وغير ذلك إلا ما استثني من هذا كله.

وتحذف الياء من كل منقوص منون رفعا وجرا نحو {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} .

ومن هذه الكلمات {وَأَطِيعُونِ، وَاتَّقُونِ، وَخَافُونِ، فَارْهَبُونِ، فَأَرْسِلُونِ، فَاعْبُدُونِ} إلا ما استثني.

وتحذف الواو: إذا وقعت مع واو أخرى في نحو: {لا يَسْتَوُونَ، فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} .

وتحذف اللام: إذا كانت مدغمة في مثلها نحو: الليل والذي إلا ما استثني.

وهناك حذف لا يدخل تحت قاعدة كحذف الألف من كلمة مالك وكحذف الياء من إبراهيم وكحذف الواو من هذه الأفعال الأربعة: ويدعو الإنسان ويمحو الله الباطل يوم يدعو الداع سندعو الزبانية.

قاعدة الزيادة. خلاصتها أن الألف تزاد بعد الواو في آخر كل اسم مجموع أو في حكم المجموع نحو: ملاقوا ربهم بنوا إسرائيل أولوا الألباب وبعد الهمزة المرسومة واوا نحو {تَاللَّهِ تَفْتَأُ} فإنها ترسم هكذا: تالله تفتؤا. وفي كلمات مائة ومائتين والظنون والرسول والسبيل في قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} . {وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} . {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} .

1 كل هذه الأمثلة ترسم بدون ألف هكذا: أنجينكم. الله. إله. الرحمن. الخ.

ص: 370

وتزاد الياء في هذه الكلمات: {نَبَأَ، آنَاءَ، مِنْ تِلْقَاءِ، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ، بِأَيْدٍ} من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} .

وتزاد الواو في نحو {أُولُو، أُولَئِكَ، أُولاءِ، أُولاتِ} .

قاعدة الهمز خلاصتها أن الهمزة إذا كانت ساكنة تكتب بحرف حركة ما قبلها نحو {ائْذَنْ، اؤْتُمِنَ، الْبَأْسَاءِ} إلا ما استثني. أما الهمزة المتحركة فإن كانت أول الكلمة واتصل بها حرف زائد كتبت بالألف مطلقا سواء أكانت مفتوحة أم مكسورة نحو {أَيُّوبَ، أُولُو، إِذَا، سَأَصْرِفُ، سَأُنْزِلُ، فَبِأَيِّ} إلا ما استثني.

وإن كانت الهمزة وسطا فإنها تكتب بحرف من جنس حركتها نحو {سَأَلَ، سُئِلَ، تَقْرَأَهُ} إلا ما استثني. وإن كانت متطرفة كتبت بحرف من جنس حركة ما قبلها نحو {سَبَأٍ، شَاطِئِ، لُؤْلُؤٌ} إلا ما استثني وإن سكن ما قبلها حذفت1 نحو {مِلءُ الْأَرْضِ، يُخْرِجُ الْخَبْءَ} إلا ما استثني. والمستثنيات كثيرة في الكل.

قاعدة البدل: خلاصتها أن الألف تكتب واوا للتفخيم في مثل الصلاة والزكاة والحياة إلا ما استثني وترسم ياء إذا كانت منقلبة عن ياء نحو {يَتَوَفَّاكُمْ يَا حَسْرَتَى يَا أَسَفَىْ} . وكذلك ترسم الألف ياء في هذه الكلمات: {إِلَى، عَلَى، أَنَّى -بمعنى كيف- مَتَى، بَلَى، حَتَّى، لَدَى} ما عدا {لَدَى الْبَابِ} في سورة يوسف فإنها ترسم ألفا.

وترسم النون ألفا في نون التوكيد الخفيفة وفي كلمة إذن.

وترسم هاء التأنيث تاء مفتوحة في كلمة {رَحْمَتَ} بالبقرة والأعراف وهود ومريم والروم والزخرف. وفي كلمة {نِعْمَةَ} بالبقرة وآل عمران والمائدة وإبراهيم والنحل ولقمان وفاطر والطور. وفي كلمة {لَعْنَةُ اللَّهِ} . وفي كلمة

1 أي حذفت من الحرف ورسمت مفردة.

ص: 371

معصية بسورة قد سمع. وفي هذه الكلمات: إن شجرة الزقوم قرة عين جنة نعيم بقية الله وفي كلمة امرأة أضيفت إلى زوجها نحو امرأة عمران امرأة نوح وفي غير ذلك.

قاعدة الوصل والفصل: خلاصتها أن كلمة أن بفتح الهمزة توصل بكلمة لا إذا وقعت بعدها. ويستثنى من ذلك عشرة مواضع. منها: أن لا تقولوا أن لا تعبدوا إلا الله.

وكلمة من توصل بكلمة ما إذا وقعت بعدها. ويستثنى {مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} في النساء والروم و {مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} في سورة المنافقين.

وكلمة من توصل بكلمة من مطلقا.

وكلمة عن توصل بكلمة ما. إلا قوله سبحانه {عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} .

وكلمة إن بالكسر توصل بكلمة ما التي بعدها إلا قوله سبحانه: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ} .

وكلمة أن بالفتح توصل بكلمة ما مطلقا من غير استثناء.

وكلمة كل توصل بكلمة ما التي بعدها إلا قوله سبحانه {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ} ، {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} .

وتوصل كلمات {نِعِمَّا، ورُبَمَا، وكَأَنَّمَا، وَيْكَأَنَّهُ} ونحوها.

قاعدة ما فيه قراءتان: خلاصتها أن الكلمة إذا قرئت على وجهين تكتب برسم أحدهما كما رسمت الكلمات الآتية بلا ألف في المصحف وهي: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ، وَوَاعَدْنَا مُوسَى، تُفَادُوهُمْ} ونحوها وكلها مقروءة بإثبات الألف وحذفها. وكذلك رسمت الكلمات الآتية بالتاء المفتوحة وهي غيابة الجب أنزل عليه آية في العنكبوت ثمرة من أكمامها في فصلت وهم في الغرفة آمنون

ص: 372

في سبأ. وذلك لأنها جمعاء مقروءة بالجمع والإفراد. وغير هذا كثير وحسبنا ما ذكرناه للتمثيل والتنوير.

مزايا الرسم العثماني:

لهذا الرسم مزايا وفوائد:

الفائدة الأولى: الدلالة في القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة بقدر الإمكان وذلك أن قاعدة الرسم لوحظ فيها أن الكلمة إذا كان فيها قراءتان أو أكثر كتبت بصورة تحتمل هاتين القراءتين أو الأكثر. فإن كان الحرف الواحد لا يحتمل ذلك بأن كانت صورة الحرف تختلف باختلاف القراءات جاء الرسم على الحرف الذي هو خلاف الأصل وذلك ليعلم جواز القراءة به وبالحرف الذي هو الأصل. وإذا لم يكن في الكلمة إلا قراءة واحدة بحرف الأصل رسمت به. مثال الكلمة تكتب بصورة واحدة وتقرأ بوجوه متعددة قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} رسمت في المصحف العثماني هكذا: إن هدان لساحران من غير نقط ولا شكل ولا تشديد ولا تخفيف في نوني إن وهذان ومن غير ألف ولا ياء بعد الذال من هذان.

ومجيء الرسم كما ترى كان صالحا عندهم لأن يقرأ بالوجوه الأربعة التي وردت كلها بأسانيد صحيحة.

أولها: قراءة نافع ومن معه إذ يشددون نون إن ويخففون هذان بالألف.

ثانيها: قراءة ابن كثير وحده إذ يخفف النون في إن ويشدد النون في هذان.

ثالثها: قراءة حفص إذ يخفف النون في إن وهذان بالألف.

ص: 373

رابعها: قراءة أبي عمرو بتشديد إن وبالياء وتخفيف النون في هذين فتدبر هذه الطريقة المثلى الضابطة لوجوه القراءة لتعلم أن سلفنا الصالح كان في قواعد رسمه للمصحف أبعد منا نظرا وأهدى سبيلا.

الفائدة الثانية:

إفادة المعاني المختلفة بطريقة تكاد تكون ظاهرة وذلك نحو قطع كلمة أم في قوله تعالى: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} ووصلها في قوله تعالى: {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} إذ كتبت هكذا أمن بإدغام الميم الأولى في الثانية وكتابتهما ميما واحدة مشددة فقط أم الأولى في الكتابة للدلالة على أنها أم المنقطعة التي بمعنى بل ووصل أم الثانية للدلالة على أنها ليست كتلك.

الفائدة الثالثة:

الدلالة على معنى خفي دقيق كزيادة الياء في كتابة كلمة أيد من قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} إذ كتبت هكذا {بِأَيْدٍ} وذلك للإيماء إلى تعظيم قوة الله التي بنى بها السماء وأنها لا تشبهها قوة على حد القاعدة المشهورة وهي: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.

ومن هذا القبيل كتابة هذه الأفعال الأربعة بحذف الواو وهي:

ويدعو الإنسان ويمحو الله الباطل يوم يدعو الداع سندعوا الزبانية فإنها كتبت في المصحف العثماني هكذا: {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ، وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ، يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} ولكن من غير نقط ولا شكل في الجميع.

ص: 374

قالوا: والسر في حذفها من {وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ} هو الدلالة على أن هذا الدعاء سهل على الإنسان يسارع فيه كما يسارع إلى الخير بل إثبات الشر إليه من جهة ذاته أقرب إليه من الخير. والسر في حذفها من {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} الإشارة إلى سرعة ذهابه واضمحلاله.

والسر في حذفها من {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} الإشارة إلى سرعة الدعاء وسرعة إجابة الداعين. والسر في حذفها من {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} الإشارة إلى سرعة الفعل وإجابة الزبانية وقوة البطش ويجمع هذه الأسرار قول المراكشي:

والسر في حذفها من هذه الأربعة سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل وشدة قبول المنفعل المتأثر به في الوجود اهـ.

الفائدة الرابعة:

الدلالة على أصل الحركة مثل كتابة الكسرة ياء في قوله سبحانه {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} إذ تكتب هكذا وإيتاءى ذي القربى ومثل كتابة الضمة واوا في قوله سبحانه: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} إذ كتبت هكذا سأوريكم ومثل ذلك الدلالة على أصل الحرف نحو الصلاة والزكاة إذ كتبا هكذا: الصلوة الزكوة ليفهم أن الألف فيهما منقلبة عن واو. من غير نقط ولا شكل كما سبق.

الفائدة الخامسة:

إفادة بعض اللغات الفصيحة مثل كتابة هاء التأنيث تاء مفتوحة دلالة على لغة طيىء وقد تقدمت الأمثلة لهذا النوع. ومثل قوله سبحانه: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} كتبت بحذف الياء هكذا يأت للدلالة على لغة هذيل.

ص: 375

الفائدة السادسة:

حمل الناس على أن يتلقوا القرآن من صدور ثقات الرجال ولا يتكلوا على هذا الرسم العثماني الذي جاء غير مطابق للنطق الصحيح في الجملة. وينضوي تحت هذه الفائدة مزيتان إحداهما التوثق من ألفاظ القرآن وطريقة أدائه وحسن ترتيله وتجويده. فإن ذلك لا يمكن أن يعرف على وجه اليقين من المصحف مهما تكن قاعدة رسمه واصطلاح كتابته. فقد تخطئ المطبعة في الطبع وقد يخفى على القارئ بعض أحكام تجويده كالقلقلة والإظهار والإخفاء والإدغام والروم والإشمام ونحوها فضلا عن خفاء تطبيقها.

ولهذا قرر العلماء أنه لا يجوز التعويل على المصاحف وحدها. بل لا بد من التثبت في الأداء والقراءة بالأخذ عن حافظ ثقة. وإن كنت في شك فقل لي بربك: هل يستطيع المصحف وحده بأي رسم يكون أن يدل قارئا أيا كان على النطق الصحيح بفواتح السور الكريمة؟ مثل {كهيعص، حم، عسق طسم} ؟ ومن هذا الباب الروم والإشمام في قوله سبحانه {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} من كلمة {لا تَأْمَنَّا} .

المزية الثانية اتصال السند برسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك خاصة من خواص هذه الأمة الإسلامية امتازت بها على سائر الأمم.

قال ابن حزم: نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاتصال خص الله به المسلمين دون سائر الملل. وأما مع الإرسال والإعضال فيوجد في كثير من كتب اليهود ولكن لا يقربون فيه من موسى قربنا من محمد صلى الله عليه وسلم. بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين موسى أكثر من ثلاثين عصرا. إنما يبلغون إلى شمعون ونحوه. ثم قال: وأما النصارى فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق. وأما

ص: 376

النقل المشتمل على طريق فيه كذاب أو مجهول العين فكثير في نقل اليهود والنصارى. وأما أقوال الصحابة والتابعين فلا يمكن اليهود أن يبلغوا صاحب نبي أو تابعي ولا يمكن النصارى أن يصلوا إلى أعلى من شمعون وبولص. اهـ.

هل رسم المصحف توقيفي؟

للعلماء في رسم المصحف آراء ثلاثة:

الرأي الأول: أنه توقيفي لا تجوز مخالفته. وذلك مذهب الجمهور. واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له كتاب يكتبون الوحي وقد كتبوا القرآن فعلا بهذا الرسم وأقرهم الرسول على كتابتهم ومضى عهده صلى الله عليه وسلم والقرآن على هذه الكتبة لم يحدث فيه تغيير ولا تبديل. بل ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يضع الدستور لكتاب الوحي في رسم القرآن وكتابته. ومن ذلك قوله لمعاوية وهو من كتبة الوحي: "ألق الدواة وحرف القلم وأنصب الباء وفرق السين ولا تعور الميم وحسن الله ومد الرحمن وجود الرحيم وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك".

ثم جاء أبو بكر فكتب القرآن بهذا الرسم في صحف ثم حذا حذوه عثمان في خلافته فاستنسخ تلك الصحف في مصاحف على تلك الكتبة وأقر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمل أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين وانتهى الأمر بعد ذلك إلى التابعين وتابعي التابعين فلم يخالف أحد منهم في هذا الرسم ولم ينقل أن أحدا منهم فكر أن يستبدل به رسما آخر من الرسوم التي حدثت في عهد ازدهار التأليف ونشاط التدوين وتقدم العلوم. بل بقي الرسم العثماني محترما متبعا في كتابة المصاحف لا يمس استقلاله ولا يباح حماه.

وملخص هذا الدليل أن رسم المصاحف العثمانية ظفر بأمور كل واحد منها يجعله

ص: 377

جديرا بالتقدير ووجوب الاتباع. تلك الأمور هي إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم عليه وأمره بدستوره.

وإجماع الصحابة وكانوا أكثر من اثني عشر ألف صحابي عليه ثم إجماع الأمة عليه بعد ذلك في عهد التابعين والأئمة المجتهدين.

وأنت خبير بأن اتباع الرسول واجب فيما أمر به أو أقر عليه لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} والاهتداء بهدي الصحابة واجب خصوصا الخلفاء الراشدين لحديث العرباض بن سارية وفيه يقول صلى الله عليه وسلم: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" ولا ريب أن إجماع الأمة في أي عصر واجب الاتباع خصوصا العصر الأول. قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} .

وممن حكى إجماع الأمة على ما كتب عثمان صاحب المقنع إذ يروي بإسناده إلى مصعب بن سعد قال: أدركت الناس حين شقق عثمان رضي الله عنه المصاحف فأعجبهم ذلك ولم يعبه أحد وكذلك يروي شارح العقيلة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عثمان أرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين مصحفا وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف الذي أرسل إليهم. ولم يعرف أن أحدا خالف في رسم هذه المصاحف العثمانية.

وانعقاد الإجماع على تلك المصطلحات في رسم المصحف دليل على أنه لا يجوز العدول عنها إلى غيرها. ويرحم الله الإمام الخراز إذ يقول:

وبعده جرده الإمام

في مصحف ليقتدي الأنام

ولا يكون بعده اضطراب

وكان فيما قد رأى صواب

ص: 378

وقصة اختلافهم شهيره

كقصة اليمامة العسيره

فينبغي لأجل ذا أن نقتفي

مرسوم ما أصله في المصحف

ونقتدي بفعله وما رأى

في جعله لمن يخط ملجأ

أقوال العلماء في التزام الرسم العثماني:

روى السخاوي بسنده أن مالكا رحمه الله سئل: أرأيت من استكتب مصحفا أترى أن يكتب على ما استحدثه الناس من الهجاء اليوم. فقال: لا أرى ذلك ولكن يكتب على الكتبة الأولى. قال السخاوي: والذي ذهب إليه مالك هو الحق إذ فيه بقاء الحالة الأولى إلى أن تعلمها الطبقة الأخرى ولا شك أن هذا هو الأحرى بعد الأخرى. إذ في خلاف ذلك تجهيل الناس بأولية ما في الطبقة الأولى.

وقال أبو عمرو الداني: لا مخالف لمالك من علماء الأمة في ذلك. وقال أبو عمرو الداني أيضا: سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كذلك؟ قال: لا. قال أبو عمرو: يعني الألف والواو المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ نحو أولوا.

وقال الإمام أحمد بن حنبل: تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ألف أو ياء أو غير ذلك.

وجاء في حواشي المنهج في فقه الشافعية ما نصه: كلمة الربا تكتب بالواو والألف كما جاء في الرسم العثماني ولا تكتب في القرآن بالياء أو الألف لأن رسمه سنة متبعة.

وجاء في المحيط البرهاني في فقه الحنفية ما نصه: إنه ينبغي ألا يكتب المصحف بغير الرسم العثماني.

ص: 379

وقال العلامة نظام الدين النيسابوري ما نصه: وقال جماعة من الأئمة إن الواجب على القراء والعلماء وأهل الكتابة أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف فإنه رسم زيد بن ثابت وكان أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتب وحيه.

وقال البيهقي في شعب الإيمان: من كتب مصحفا ينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف ولا يخالفهم فيه ولا يغير مما كتبوه شيئا فإنهم كانوا أكثر علما وأصدق قلبا ولسانا وأعظم أمانة فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم اهـ.

ويمكن مناقشة هذا الرأي الأول بأن الأدلة التي ساقوها لا تدل على تحريم كتابة القرآن بغير هذا الرسم إذ ليس فيها زجر الإثم ووعيده ولا نهي الحرام وتهديده. إنما قصاراها الدلالة على جواز الكتابة بالرسم العثماني ووجاهته ودقته. وذلك محل اتفاق وتسليم.

الرأي الثاني:

أن رسم المصاحف اصطلاحي لا توقيفي وعليه فتجوز مخالفته. وممن جنح إلى هذا الرأي ابن خلدون في مقدمته. وممن تحمس له القاضي أبو بكر في الانتصار إذ يقول ما نصه:

وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف.

وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص وحد محدود لا يجوز تجاوزه ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك ولا دلت عليه القياسات الشرعية.

ص: 380

بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه ولم يبين لهم وجها معينا ولا نهى أحدا عن كتابته. ولذلك اختلفت خطوط المصاحف فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح وأن الناس لا يخفى عليهم الحال. ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول وأن يجعل اللام على صورة الكاف وأن تعوج الألفات وأن يكتب على غير هذه الوجوه وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة وجاز أن يكتب بين ذلك.

وإذا كانت خطوط المصاحف وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة وكان الناس قد أجازوا ذلك وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته وما هو أسهل وأشهر وأولى من غير تأثيم ولا تناكر علم أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص كما أخذ عليهم في القراءة والأذان.

والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز فكل رسم دال على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكاتب به على أي صورة كانت.

وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه. وأنى له ذلك؟ اهـ بتلخيص.

ونوقش هذا المذهب:

أولا: بالأدلة التي ساقها جمهور العلماء لتأييد مذهبهم. وها هي بين يديك عن كثب بعضها من السنة وبعضها من إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم.

ثانيا: أن ما ادعاه من أنه ليس في نصوص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه مردود بما سبق من إقرار الرسول كتاب الوحي على هذا الرسم ومنهم زيد بن ثابت الذي كتب

ص: 381

المصحف لأبي بكر وكتب المصاحف لعثمان والحديث الآنف وفيه يقول الرسول لمعاوية: "ألق الدواة وحرف القلم" الخ. فإنه حجة على أنه صلى الله عليه وسلم كان واضع دستور الرسم لهم.

ثالثا: أن قول القاضي أبي بكر: ولذلك اختلفت خطوط المصاحف الخ لا يسلم له بعد قيام الإجماع وانعقاده ومعرفة الناس بالرسم التوقيفي وهو رسم عثمان على ما قرروه هناك.

ونزيدك هنا ما ذكره العلامة ابن المبارك نقلا عن العارف بالله شيخه عبد العزيز الدباغ إذ يقول في كتابه الإبريز ما نصه: رسم القرآن سر من أسرار الله المشاهدة وكمال الرفعة قال ابن المبارك فقلت له: هل رسم الواو بدل الألف في نحو "الصلاة، والزكاة، والحياة، ومشكاة". وزيادة الواو في "سأوريكم، وأولئك، وأولاء، وأولات". وكالياء في نحو "هديهم، وملائه، وبأبيكم، وبأييد". هذا كله صادر من النبي صلى الله عليه وسلم أو من الصحابة؟ فقال: هو صادر من النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي أمر الكتاب من الصحابة أن يكتبوه على هذه الهيئة فما نقصوا ولا زادوا على ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن جماعة من العلماء ترخصوا في أمر الرسم وقالوا: إنما هو اصطلاح من الصحابة مشوا فيه على ما كانت قريش تكتب عليه في الجاهلية. وإنما صدر ذلك من الصحابة لأن قريشا تعلموا الكتابة من أهل الحيرة وأهل الحيرة ينطقون بالواو في الربا فكتبوا على وفق منطقهم. وأما قريش فإنهم ينطقون فيه بالألف وكتابتهم له بالواو على منطق غيرهم وتقليد لهم حتى قال القاضي أبو بكر الباقلاني: كل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه فإنه ليس في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع ما يدل على ذلك؟. فقال:-

ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة وإنما هو توقيف من النبي وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها لأسرار

ص: 382

لا تهتدي إليها العقول وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية. وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضا معجز وكيف تهتدي العقول إلى سر زيادة الألف في مائة دون فئة. وإلى سر زيادة الياء في "بأييد وبأبيكم"؟ أم كيف تتوصل إلى سر زيادة الألف في "سعوا" بالحج ونقصانها من "سعو" بسبأ؟ وإلى سر زيادتها في "عتوا" حيث كان ونقصانها من "عتو" في الفرقان؟ وإلى سر زيادتها في "آمنوا" وإسقاطها من "باؤ، جاؤ، تبوؤ فاؤ" بالبقرة؟ والى سر زيادتها في {يَعْفُوا الذي} ونقصانها من {يَعْفُو عنهم} في النساء؟ أم كيف تبلغ العقول إلى وجه حذف بعض أحرف من كلمات متشابهة دون بعض كحذف الألف من "قرءانا" بيوسف والزخرف وإثباتها في سائر المواضع؟ وإثبات الألف بعد واو "سموات" في فصلت وحذفها من غيرها. وإثبات الألف في "الميعاد" مطلقا وحذفها من الموضع الذي في الأنفال وإثبات الألف في "سراجا" حيثما وقع وحذفه من موضع الفرقان وكيف تتوصل إلى فتح بعض التاءات وربطها في بعض؟ فكل ذلك لأسرار إلهية وأغراض نبوية. وإنما خفيت على الناس لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني فهي بمنزلة الألفاظ والحروف المتقطعة التي في أوائل السور فإن لها أسرارا عظيمة ومعاني كثيرة. وأكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها ولا يدركون شيئا من المعاني الإلهية التي أشير إليها فكذلك أمر الرسم الذي في القرآن حرفا بحرف.

وأما قول من قال: إن الصحابة اصطلحوا على أمر الرسم المذكور فلا يخفى ما في كلامه من البطلان لأن القرآن كتب في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه. وحينئذ فلا يخلو ما اصطلح عليه الصحابة إما أن يكون هو عين الهيئة أو غيرها فإن كان عينها

ص: 383

بطل الاصطلاح لأن أسبقية النبي صلى الله عليه وسلم تنافي ذلك وتوجب الاتباع. وإن كان غير ذلك فكيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم كتب على هيئة كهيئة الرسم القياسي مثلا والصحابة خالفوا وكتبوا على هيئة أخرى فلا يصح ذلك لوجهين: أحدهما نسبة الصحابة إلى المخالفة وذلك محال ثانيهما: أن سائر الأمة من الصحابة وغيرهم أجمعوا على أنه لا يجوز زيادة حرف في القرآن ولا نقصان حرف منه. وما بين الدفتين كلام الله عز وجل فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أثبت ألف الرحمن والعالمين مثلا ولم يزد الألف في مائة ولا في ولأوضعوا ولا الياء في بأيد ونحو ذلك والصحابة عاكسوه في ذلك وخالفوه لزم أنهم وحاشاهم من ذلك تصرفوا في القرآن بالزيادة والنقصان ووقعوا فيما أجمعوا هم وغيرهم على ما لا يحل لأحد فعله ولزم تطرق الشك إلى جميع ما بين الدفتين لأنا مهما جوزنا أن تكون فيه حروف ناقصة أو زائدة على ما في علم النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ما عنده وأنها ليست بوحي ولا من عند الله ولا نعلمها بعينها شككنا في الجميع. ولئن جوزنا لصحابي أن يزيد في كتابته حرفا ليس بوحي لزمنا أن نجوز لصاحبي آخر نقصان حرف من الوحي إذ لا فرق بينهما وحينئذ تنحل عروة الإسلام بالكلية.

ثم قال ابن المبارك بعد كلام.. فقلت له: فإن كان الرسم توقيفيا بوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كألفاظ القرآن فلم لم ينقل تواترا حتى ترتفع عنه الريبة وتطمئن به القلوب كألفاظ القرآن؟ فإنه ما من حرف إلا وقد نقل تواترا لم يقع فيه اختلاف ولا اضطراب. وأما الرسم فإنه إنما نقل بالآحاد كما يعلم من الكتب الموضوعة فيه. وما نقل بالآحاد وقع الاضطراب بين النقلة في كثير منه. وكيف تضيع الأمة شيئا من الوحي؟. فقال: ما ضيعت الأمة شيئا من الوحي والقرآن بحمد الله محفوظ ألفاظا ورسما. فأهل العرفان والشهود والعيان حفظوا ألفاظه ورسمه ولم يضيعوا منها شعرة واحدة وأدركوا ذلك بالشهود والعيان الذي هو فوق التواتر. وغيرهم حفظوا ألفاظه الواصلة إليهم بالتواتر واختلافهم

ص: 384

في بعض حروف الرسم لا يقدح ولا يصير الأمة مضيعة كما لا يضر جهل العامة بالقرآن وعدم حفظهم لألفاظه اهـ.

الرأي الثالث:

يميل صاحب التبيان ومن قبله صاحب البرهان إلى ما يفهم من كلام العز ابن عبد السلام من أنه يجوز بل تجب كتابة المصحف الآن لعامة الناس على الاصطلاحات المعروفة الشائعة عندهم ولا تجوز كتابته لهم بالرسم العثماني الأول لئلا يوقع في تغيير من الجهال. ولكن يجب في الوقت نفسه المحافظة على الرسم العثماني كأثر من الآثار النفيسة الموروثة عن سلفنا الصالح فلا يهمل مراعاة لجهل الجاهلين بل يبقى في أيدي العارفين الذي لا تخلو منهم الأرض. وهاك عبارة التبيان في هذا المقام إذ يقول ما نصه:

وأما كتابته أي المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء فقد جرى عليه أهل المشرق بناء على كونها أبعد من اللبس وتحاماه أهل المغرب بناء على قول الإمام مالك وقد سئل. هل يكتب المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء؟ فقال: لا: إلا على الكتبة الأولى. قال في البرهان: قلت: وهذا كان في الصدر الأول والعلم حي غض. وأما الآن فقد يخشى الالتباس ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح الأئمة لئلا يوقع في تغيير من الجهال. ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه لئلا يؤدي إلى دروس العلم. وشيء قد أحكمته القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين. ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجة اهـ.

أقول: وهذا الرأي يقوم على رعاية الاحتياط للقرآن من ناحيتين: ناحية كتابته في كل عصر بالرسم المعروف فيه إبعادا للناس عن اللبس والخلط في القرآن وناحية إبقاء

ص: 385