المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الشبهة الأولى وفي طيها شبهات يقولون: إن الباحث الناقد يلاحظ أن - مناهل العرفان في علوم القرآن - جـ ١

[الزرقاني، محمد عبد العظيم]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الأول

- ‌تصدير الطبعة الثالثة وفهرسها

- ‌مقدمة: في القرآن وعلومه ومنهجي في التأليف

- ‌المبحث الأول: في معنى علوم القرآن

- ‌مدخل

- ‌القرآن في الاصطلاح

- ‌القرآن عند المتكلمين

- ‌القرآن عند الأصوليين والفقهاء وعلماء العربية

- ‌هل القرآن علم شخص

- ‌هل يصاغ للأعلام تعاريف

- ‌إطلاق القرآن على الكل وعلى أبعاضه

- ‌ معنى علوم القرآن بالمعنى الإضافي

- ‌القرآن كتاب هداية وإعجاز

- ‌القرآن يحض على الانتفاع بالكون

- ‌إعجاز علمي للقرآن

- ‌ معنى علوم القرآن كفن مدون وموضوعه وفائدته

- ‌المبحث الثاني: في تاريخ علوم القرآن وظهور اصطلاحه

- ‌عهد ما قبل التدوين

- ‌عهد التمهيد لتدوين علوم القرآن

- ‌عهد التدوين لعلوم القرآن بالمعنى الإضافي

- ‌أول عهد لظهور هذا الاصطلاح

- ‌علوم القرآن في القرن الأخير

- ‌خلاصة

- ‌المبحث الثالث: نزول القرآن

- ‌معنى نزول القرآن

- ‌ تنزلات القرآن

- ‌كيفية أخذ جبريل للقرآن وعمن أخذ

- ‌ما الذي نزل به جبريل

- ‌مدة هذا النزول

- ‌دليل تنجيم هذا النزول

- ‌الحكم والأسرار في تنجيم القرآن

- ‌الحكمة الأولى: تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه

- ‌الحكمة الثانيةالتدرج في تربية هذه الأمة الناشئة علما وعملا

- ‌الحكمة الثالثة: مسايرة الحودث والطواىء في تجددها وتفرقها

- ‌الحكمة الرابعةالإرشاد إلى مصدر القرآن وأنه كلام الله وحده

- ‌المعركة الطاحنة أو الوحي بين معتقديه ومنكريه

- ‌مدخل

- ‌ حقيقة الوحي وأنواعه وكيفياته

- ‌ الوحي من ناحية العلم

- ‌ الوحي من ناحية العقل

- ‌ دفع الشبهات

- ‌المبحث الرابع: في أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن

- ‌مدخل

- ‌أول ما نزل على الإطلاق

- ‌آخر ما نزل على الإطلاق

- ‌مثلان من أوائل وأواخر مخصوصة

- ‌ملاحظة

- ‌المبحث الخامس: في أسباب النزول

- ‌مدخل

- ‌معنى سبب النزول

- ‌ فوائد معرفة أسباب النزول

- ‌ طريق معرفة سبب النزول

- ‌ التعبير عن سبب النزول

- ‌ تعدد الأسباب والنازل واحد

- ‌ تعدد النازل والسبب واحد

- ‌ العموم والخصوص بين لفظ الشارع وسببه

- ‌ عموم اللفظ وخصوص سببه

- ‌ أدلة الجمهور

- ‌ شبهات المخالفين وتفنيدها

- ‌ شبيه بالسبب الخاص مع اللفظ العام

- ‌المبحث السادس: في نزول القرآن على سبعة أحرف

- ‌مدخل

- ‌ أدلة نزول القرآن على سبعة أحرف

- ‌ شواهد بارزة في هذه الأحاديث الواردة

- ‌ معنى نزول القرآن على سبعة أحرف

- ‌ الوجوه السبعة في المذهب المختار

- ‌ لماذا اخترنا هذا المذهب

- ‌الذين قالوا بهذا المذهب

- ‌ النسبة بين هذه المذاهب ومذهب الرازي

- ‌ دفع الاعتراضات الواردة على هذا المذهب

- ‌ بقاء الأحرف السبعة في المصاحف

- ‌ الأقوال الأخرى ودفعها

- ‌ ردود إجمالية لهذه الأقوال الأخيرة

- ‌ علاج الشبهات الواردة

- ‌المبحث السابع: في المكي والمدني من القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌ الاصطلاحات في معنى المكي والمدني

- ‌ فائدة العلم بالمكي والمدني

- ‌ الطريق الموصلة إلى معرفة المكي والمدني

- ‌ الضوابط التي يعرف بها المكي والمدني

- ‌ السور المكية والمدنية والمختلف فيها

- ‌ أنواع السور المكية والمدنية

- ‌وجوه تتعلق بالمكي والمدني

- ‌فروق أخرى بين المكي والمدني

- ‌نقض الشبهات التي أثيرت حول هذا الموضوع

- ‌مدخل

- ‌الشبهة الأولى

- ‌الشبهة الثانية

- ‌الشبهة الثالثة

- ‌الشبهة الرابعة

- ‌الشبهة الخامسة

- ‌الشبهة السادسة

- ‌المبحث الثامن: في جمع القرآن وتاريخه والرد على ما يثار حوله من شبه ونماذج من الروايات الواردة في ذلك

- ‌مدخل

- ‌جمع القرآن بمعنى حفظه في الصدور

- ‌جمع القرآن بمعنى كتابته في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌لماذا لم يجمع القرآن أيامئذ في صحف ولا مصاحف

- ‌جمع القرآن على عهد أبي بكر رضي الله عنه

- ‌جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه

- ‌الرد على ما يثار حول جمع القرآن من شبه

- ‌الشبهة الأولى

- ‌الشبهة الثانية

- ‌الشبهة الثالثة

- ‌الشبهة الرابعة

- ‌الشبهة الخامسة

- ‌الشبهة السادسة

- ‌خط منيع من خطوط الدفاع عن الكتاب والسنة

- ‌مدخل

- ‌ الجبهة الأولى: أو الدواعي والعوامل في حفظ الصحابة للكتاب والسنة ونقلهم لهما

- ‌ الجبهة الثانية: أو عوامل تثبت الصحابة في الكتاب والسنة

- ‌المبحث التاسع: في ترتيب آيات القرآن وسوره

- ‌معنى الآية:

- ‌طريقة معرفة الآية:

- ‌عدد آيات القرآن:

- ‌فوائد معرفة الآيات:

- ‌ترتيب آيات القرآن

- ‌ترتيب السور

- ‌المبحث العاشر: في كتابة القرآن ورسمه ومصاحفه وما يتعلق بذلك

- ‌ الكتابة

- ‌ رسم المصحف

- ‌ الشبهات التي أثيرت حول كتابة القرآن ورسمه

- ‌ المصاحف تفصيلا

- ‌المبحث الحادي عشر: في‌‌ القراءاتوالقراء والشبهات التي أثيرت في هذا المقام

- ‌ القراءات

- ‌ القراء

- ‌ نقض الشبهات التي أثيرت في هذا المقام

الفصل: ‌ ‌الشبهة الأولى وفي طيها شبهات يقولون: إن الباحث الناقد يلاحظ أن

‌الشبهة الأولى

وفي طيها شبهات

يقولون: إن الباحث الناقد يلاحظ أن في القرآن أسلوبين متعارضين لا تربط الأول بالثاني صلة ولا علاقة مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا الكتاب قد خضع لظروف مختلفة وتأثر ببيئات متباينة فنرى أن القسم المكي منه يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة كما نشاهد القسم المدني منه تلوح عليه أمارات الثقافة والاستنارة. فالقسم المكي يتفرد بالعنف والشدة والقسوة والحدة والغضب والسباب والوعيد والتهديد مثل سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وسورة {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} وسورة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ومثل {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} .

والجواب: أن هذه الشبهة تتألف من شبهات أربع وإن شئت فقل: تتألف من مقدمات ثلاث كواذب تتأدى أو يريد صاحبها أن يتأدى بها إلى نتيجة هي الأخرى كاذبة.

فأما المقدمات الثلاث الكواذب فهي أن القسم المكي تفرد بالعنف والشدة وأن فيه سبابا وإقذاعا وأنه يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة. وأما النتيجة أو الهدف الذي يرمي إليه فهو أن القرآن مفكك الأجزاء غير متصل الحلقات وأنه خاضع للظروف متأثر بالبيئة.

وغرضهم من هذا معروف طبعا وهو أن القرآن ليس كلام الله وليس معجزا إنما هو كلام محمد الذي تأثر أولا بأهل مكة فكان كلامه خشنا بعيدا عن المعارف العالية التي اكتسبها من أهل الكتاب في المدينة.

ذلك كله ما يجب أن نحمل عليه انتقاد أولئك المضللين فإن قرينة عداوتهم للحق

ص: 206

وخصومتهم للإسلام ونقدهم للقرآن تبعد كلامهم عن كل تأويل حسن وتحمله على أسوأ فروضه.

ولنأت لك على بنيان هذه الشبهة من القواعد لتعلم إغراقها في البطلان وإغراق ذويها في الكذب والإسفاف.

1-

فأما قولهم: إن القسم المكي قد تفرد بالعنف والشدة فينقضه أن في القسم المدني شدة وعنفا فدعوى تفرد القسم المكي بذلك باطلة قال تعالى في سورة البقرة وهي مدنية: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وقال فيها أيضا {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} وقال فيها أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} .

وقال سبحانه في سورة آل عمران وهي مدنية كتلك {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ، قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} .

وإنما اشتمل القرآن الكريم بقسميه المكي والمدني على الشدة والعنف لأن ضرورة التربية الرشيدة في إصلاح الأفراد والشعوب وسياسة الأمم والدول تقضي أن يمزج المصلح في قانون هدايته بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد والشدة واللين.

ثم إن دعواهم انفراد المكي بالعنف والشدة يفهم منه دعوى انفراد المدني

ص: 207

باللين والصفح ودعوى خلو المكي من ذلك اللين والصفح. وهذا المفهوم باطل كمنطوقه أيضا. ودليل ذلك أن بين السور المكية آيات كريمة تفيض لينا وصفحا وتقطر سماحة وعفوا بل تنادي أن تقابل السيئة بالحسنة كما في قوله سبحانه في سورة فصلت المكية: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} .

وكما في قوله سبحانه في سورة الشورى المكية: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ. وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ. وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .

وكذلك قوله سبحانه في سورة الحجر المكية: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} إلى آخر السورة. ومثله قول الله جلت قدرته في سورة الزمر المكية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .

ص: 208

2-

وأما زعمهم أن في القسم المكي سبابا ويريدون من السباب معناه المعروف عندهم من القحة والبذاءة والخروج عن حدود الأدب واللياقة فقد {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} . ونحن نتحداهم أن يأتوا بمثال واحد في القرآن كله مكيه ومدنيه يكون من هذا اللون القذر الرخيص. وهل يعقل أن القرآن الذي جاء يعلم الناس أصول الآداب يخرج هو عن أصول الآداب إلى السباب؟ كيف وقد حرم على أتباعه المسلمين أن يسبوا أعداءه المشركين؟ فقال في سورة الأنعام: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} .

نعم إن في القرآن كله لا في القسم المكي وحده تسفيها لأحلام المتنطعين الذين يصمون آذانهم ويغمضون أعينهم عن الحق ويهملون الحجج والبراهين وهو في ذلك شديد عنيف بيد أنه في شدته وعنفه لم يخرج عن جادة الأدب ولم يعدل عن سنن الحق ولم يصدف عن سبيل الحكمة. بل الحكمة تتقاضاه أن يشتد مع هؤلاء لأنهم يستحقون الشدة ومن مصلحتهم هم ومن الرحمة بهم والخير لهم أن يشتد عليهم ليرعووا عن باطلهم ويصيخوا إلى صوت الحق والرشد ويسيروا على هدى الدليل والحجة على حد قول القائل:

فقسا ليزدجروا ومن يك حازما

فليقس أحيانا على من يرحم

أضف إلى ذلك أن هذا التفريع الحكيم تجده في السور المدنية كما تجده في السور المكية. وإن كان في المكي أكثر من المدني لأن أهل مكة كانوا أشداء العارضة صعاب المراس مسرفين في العناد والإباء لم يتركوا بابا من الشر إلا دخلوه على الرسول وأصحابه ولم يكفهم أن يخرج من بلده وأهله بليل بل وجهوا إليه الأذى في مهاجره.

ص: 209

والشاهد على أن في السور المدنية تنويعا عنيفا أيضا عند المناسبات قوله سبحانه من سورة البقرة المدنية في شأن المشركين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وقوله من سورة البقرة أيضا في شأن المنافقين: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} إلى تمام ثلاث عشرة آية مليئة بالتوبيخ والتعنيف لتلك الحشرات الآدمية الذين ينفثون سمومهم ويفسدون المجتمع بسلاح خطير ذي حدين هو سلاح النفاق والذبذبة. وكذلك تقرأ في هذه السورة المدنية نفسها في شأن اليهود آيات كثيرة من هذا الطراز تنقدهم وتنعي جرائمهم وتحمل عليهم حملة شعواء تقبيحا لجناياتهم وجنايات آبائهم من قبلهم. مثل قوله سبحانه: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} ومثل قوله: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} .

ومثل قوله تعالى في شأن النصارى من سورة آل عمران: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} الخ. وقوله فيهم أيضا من هذه السورة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} الخ.

ص: 210

أما السور والآيات التي اعتمدت عليها الشبهة فلا تدل على ذلك السباب الذي زعموه ووصموا به القرآن الكريم لأن سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} غاية ما اشتملت عليه أنها إنذار ووعيد لأبي لهب وامرأته جزاء ما أساءا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه كما يدل على ذلك سبب نزولها: أخرج الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: "يا بني فهر يا بني عدي" لبطون قريش حتى اجتمعوا. فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال صلى الله عليه وسلم: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي" قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". فقال أبو لهب: تبا لك ألهذا جمعتنا؟ فنزلت.

وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن زيد أن امرأة أبي لهب كانت تأتي بأغصان الشوك تطرحها بالليل في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم.

وروي عن مجاهد أنها كانت تمشي بالنميمة.

فهذه الأسباب مجتمعة تفيد أن السورة نزلت لمقابلة أبي لهب بما يستحق من إنذاره بالهلاك والقطيعة وأن ماله لا ينفعه ولا كسبه وأنه خاسر هو وامرأته وأن مصيرهما إلى النار وبئس القرار.

ولا ريب أن في هذا الوعيد العنيف ردعا له ولأمثاله وتسلية لمن أصيب بأذاهم من الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وذلك هو اللائق بالعدالة الإلهية والتربية الحكيمة الربانية.

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا

مضر كوضع السيف في موضع الندى

وأما سورة والعصر فليس فيها سباب ولا ما يشبه السباب. وكل ما عرضت له

ص: 211

أنها جعلت الناس قسمين: قسما غريقا في الخسران وقسما فاز ونجا من هذا الخسران وهم الذين جمعوا عناصر السعادة الأربعة. اقرأ قوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} فهل ترى فيها ظلا للسباب والإقذاع؟ ولكن القوم لا يستحون.

وأما سورة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} : فمبلغ ما تشير إليه أن المخاطبين شغلتهم الدنيا عن الدين وألهتهم الأموال عن رب الأموال حتى انتهت أعمارهم وهم على هذه الحال. وغدا يسألون عن هذا النعيم ويعاقبون على إهمال شكره بعذاب الجحيم.

وأما قوله سبحانه: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} فهي حكاية لما حل بالأمم السابقة كثمود وعاد حين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ليكون من هذا القصص والخبر عبرة لأولئك الكفار ومزدجر فلا يقعوا فميا وقع فهي أسلافهم لأن سنة الله واحدة في الأمم وميزان عدالته قائم في كل جيل وقبيل. {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} .

الخلاصة

والخلاصة أن القرآن كله قام على رعاية حال المخاطبين فتارة يشتد وتارة يلين تبعا لما يقتضيه حالهم سواء منهم مكيهم ومدنيهم بدليل أنك تجد بين ثنايا السور المكية والمدنية ما هو وعد ووعيد وتسامح وتشديد وأخذ ورد وجذب وشد كما سبق لك في الأمثلة والشواهد الكثيرة. وإذا لوحظ أن أهل مكة كثر خطابهم بالشدة والعنف فذلك لما مردوا عليه من أذى الرسول وأصحابه والكيد لهم حتى أخرجوهم من أوطانهم. ولم يكتفوا بذلك بل أرسلوا إليهم الأذى في مهاجرهم.

ص: 212

وكان القرآن في حملته عليهم وعلى أمثالهم بالقول بعيدا عن كل معاني السباب والإقذاع متذرعا بالحكمة والأدب الكامل في الإرشاد والإقناع حاثا على الصبر والعفو والإحسان حتى ليخاطب الله رسوله في سورة الأنعام المكية بقوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} .

ظاهرة مسكتة

على أننا نلاحظ في آفاق الآيات والسور المكية ظاهرة باهرة تسكت كل معاند وتفحم كل مكابر في هذا الموضوع. وهي أن القسم المكي خلا خلوا تاما من تشريع القتال والجهاد والمخاشنة كما خلت أيامه في مكة على طولها من مقاتلة القوم بمثل ما يأتون من التنكيل والمصاولة فلم يسمع للمسلمين فيها صلصلة لسيف ولا قعقعة لسلاح ولا زحف على عدو. إنما هو الصبر والعفو والمجاملة والمحاسنة بالرغم من إيغال الأعداء في أذاهم ولجاجهم في عتوهم وأساهم سبا وطعنا وقتلا ونهبا ومقاطعة ومهاترة ومصاولة ومكابرة.

3-

وأما زعمهم أن القسم المكي يمتاز بكل مميزات الأوساط المنحطة فهو مردود عليهم باطل من كل باب دخلوه وعلى أي وجه أرادوه لأنهم إن أرادوا بذلك ما توهموه من انفراده بالشدة والعنف أو السباب والإقذاع فقد علمت مبلغ

ص: 213

ما فيه من كذب وافتراء وجهالة بما جاء في القرآن من ترغيب وترهيب في شطريه المكي والمدني على السواء.

وإن أرادوا بانحطاطه الإشارة إلى قصر آياته أو إلى خلوه من التشريعات التفصيلية العملية فهذا لا يدل على الانحطاط بل قصر الآيات والخلو من تفاصيل التشريع لهما وجه آخر يظهر عند الكلام عليهما في الشبهات الآتية:

وإن أرادوا بما ذكروا أن أهل مكة كانوا منحطين في الفصاحة والبيان والذكاء والألمعية فتلك ثالثة الأثافي لأن التاريخ شاهد عدل بأن قريشا كانت في مركز الزعامة من جميع قبائل العرب يصدرون عن رأيها ويرجعون إلى حكمها ويأخذون عنها ويركبون ظهور الإبل إليها وينزلون على قولها فيما يعلو وينزل من منظوم ومنثور ويذعنون لها بالسبق في مضمار الفصاحة والبلاغة والذكاء والألمعية والشرف والنبل. وكان لها هذا الامتياز من قبل الإسلام. ثم دام لها وزاد عليها في الإسلام. واعترف لها به أهل المدينة وغيرهم من عرب وأعجام.

ثم إن وصف القسم المكي بميزات الأوساط المنحطة تهمة جريئة وطعنة طائشة وأكذوبة مكشوفة ما رضيها لأنفسهم أعداء الإسلام في فجر دعوته من مشركين وأهل كتاب وعرب وعجم وأميين ومثقفين على حين أن أولئك العرب كانوا على أميتهم أعرف الناس بانحطاط الكلام ورقيه وعلوه ونزوله. كما كانوا أحرص الناس على إحراج محمد ودحض حجته ونقض دينه والقضاء على الإسلام في مهده. ولكن سجيتهم لم تسمح بهذا الهراء الذي يهرف به الملاحدة في القسم المكي من القرآن. بل نعلم بجانب هذا أن القرآن كان له سلطان على نفوسهم إلى حد خارق مدهش يقودهم بقوته إلى الإسلام ويدفع المعاند منهم إذا استمع إليه أن يسجد لبلاغته ويهتز لفصاحته وأن يأخذ نفسه بالتشاغل عنه مخافة أن يؤمن عن طريق تأثره بسماعه.

ص: 214

وأما زعمهم انقطاع الصلة بين القسم المكي والمدني والتعارض بين أسلوبيهما فهو زعم ساقط مبني على الاعتبارات الخاطئة الماضية التي أثبتنا بطلانها. ثم هو دعوى ماجنة يكذبها الواقع ويفندها الذوق البلاغي المنصف. وأدل دليل على ذلك أن أساطين البلاغة من أعداء الإسلام في مكة نفسها أيام نزول القرآن لم يستطيعوا أن يتهموا أساليب التنزيل بمثل هذا الاتهام ولا كذبا لأنهم كانوا أعقل من ملاحدة اليوم يرون أن هذا الاتهام يكون كذبا مكشوفا وافتراء مفضوحا. بل هذا وحيدهم الوليد بن المغيرة يقول للملأ من قريش: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو وما يعلى.

ولما قالت قريش عندئذ: صبأ والله الوليد واحتالوا عليه أن يطعن في القرآن لم يجد حيلة إلا أن يقول: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} . ولم يستطع أن يرمي القرآن بالتهافت والتخاذل وانقطاع الصلة بين أجزائه وانحطاط شيء من أساليبه على نحو ما يرجف أولئك الخراصون. والله أعلم بما يبيتون.

4-

وإذا بطل هذا وما سبقه بطل ما زعموه من تأثر القرآن بالوسط والبيئة وما رتبوه عليه من أنه كلام محمد لا كلام رب العزة. ثم إنها اتهامات سخيفة لا تستحق الرد ما دام إعجاز القرآن قائما يتحدى كل جيل وقبيل ويفحم كل معارض ومكابر. ولمبحث إعجاز القرآن مجال آخر عسى أن يكون قريبا.

ولولا أن الشبيبة الحاضرة من أنصاف المتعلمين وأشباههم ينخدعون بمثل هذه الترهات ما أتعبنا أنفسنا في علاجها ولا أتعبناك فاصبر معنا على دفع هذا المصاب والله يتولى هدانا وهداك.

ص: 215