الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنها تثبت أن عليا أو بعض الصحابة كان قد كتب القرآن في مصحف. لكنها لا تعطي هذا المصحف تلك الصفة الإجماعية ولا تخلع عليه تلك المزايا التي للصحف أو المصحف المجموع في عهد أبي بكر. بل هي مصاحف فردية ليست لها تلك الثقة ولا هذه المزايا. وإذا كانت قد سبقت في الوجود وتقدم بها الزمان فإن جمع أبي بكر هو الأول من نوعه على كل حال. وقد اعترف علي بن أبي طالب نفسه بهذه الحقيقة في الحديث الذي أخرجه ابن أبي داود في المصاحف بسند حسن آنفا إذ قال: أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله.
فهذا اعتراف صريح من أبي الحسن بالأولية لجمع أبي بكر على النحو الآنف رضوان الله عليهم أجمعين.
جمع القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه
اتسعت الفتوحات في زمن عثمان واستبحر العمران وتفرق المسلمون في الأمصار والأقطار ونبتت ناشئة جديدة كانت بحاجة إلى دراسة القرآن. وطال عهد الناس بالرسول والوحي والتنزيل. وكان أهل كل إقليم من أقاليم الإسلام يأخذون بقراءة من اشتهر بينهم من الصحابة فأهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب وأهل الكوفة يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود وغيرهم يقرأ بقراءة أبي موسى الأشعري. فكان بينهم اختلاف في حروف الأداء ووجوه القراءة بطريقة فتحت باب الشقاق والنزاع في قراءة القرآن أشبه بما كان بين الصحابة قبل أن يعلموا أن القرآن نزل على سبعة أحرف بل كان هذا الشقاق أشد لبعد عهد هؤلاء بالنبوة وعدم وجود الرسول بينهم يطمئنون إلى حكمه ويصدرون جميعا عن رأيه. واستفحل الداء حتى كفر بعضهم بعضا وكادت تكون فتنة في الأرض وفساد كبير. ولم يقف هذا الطغيان عند حد،
بل كاد يلفح بناره جميع البلاد الإسلامية حتى الحجاز والمدينة وأصاب الصغار والكبار على سواء.
أخرج ابن أبي داود في المصاحف من طريق أبي قلابة أنه قال: لما كانت خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل والمعلم يعلم قراءة الرجل فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين حتى كفر بعضهم بعضا فبلغ ذلك عثمان فخطب فقال: أنتم عندي تختلفون فمن نأى عني من الأمصار أشد اختلافا.
وصدق عثمان فقد كانت الأمصار النائية أشد اختلافا ونزاعا من المدينة والحجاز. وكان الذين يسمعون اختلاف القراءات من تلك الأمصار إذا جمعتهم المجامع أو التقوا على جهاد أعدائهم يعجبون من ذلك
وكانوا يمعنون في التعجب والإنكار كلما سمعوا زيادة في اختلاف طرق أداء القرآن. وتأدى بهم التعجب إلى الشك والمداجاة ثم إلى التأثيم والملاحاة. وتيقظت الفتنة التي كادت تطيح فيها الرؤوس وتسفك الدماء وتقود المسلمين إلى مثل اختلاف اليهود والنصارى في كتابهم. كما قال حذيفة لعثمان في الحديث الآتي قريبا.
أضف إلى ذلك أن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن لم تكن معروفة لأهل تلك الأمصار ولم يكن من السهل عليهم أن يعرفوها كلها حتى يتحاكموا إليها فيما يختلفون. إنما كان كل صحابي في إقليم يقرئهم بما يعرف فقط من الحروف التي نزل عليها القرآن. ولم يكن بين أيديهم مصحف جامع يرجعون إليه فيما شجر بينهم من هذا الخلاف والشقاق البعيد.
لهذه الأسباب والأحداث رأى عثمان بثاقب رأيه وصادق نظره أن يتدارك الخرق قبل أن يتسع على الراقع وأن يستأصل الداء قبل أن يعز الدواء فجمع أعلام
الصحابة وذوي البصر منهم وأجال الرأي بينه وبينهم في علاج هذه الفتنة ووضع حد لذلك الاختلاف وحسم مادة هذا النزاع. فأجمعوا أمرهم على استنساخ مصاحف يرسل منها إلى الأمصار وأن يؤمر الناس بإحراق كل ما عداها وألا يعتمدوا سواها. وبذلك يرأب الصدع ويجبر الكسر وتعتبر تلك المصاحف العثمانية الرسمية نورهم الهادي في ظلام هذا الإختلاف ومصباحهم الكشاف في ليل تلك الفتنة وحكمهم العدل في ذاك النزاع والمراء وشفاءهم الناجع من مصيبة ذلك الداء.
تنفيذ عثمان لقرار الجمع:
وشرع عثمان في تنفيذ هذا القرار الحكيم حول أواخر سنة أربع وعشرين وأوائل سنة خمس وعشرين من الهجرة فعهد في نسخ المصاحف إلى أربعة من خيرة الصحابة وثقات الحفاظ وهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وهؤلاء الثلاثة الأخيرون من قريش.
وأرسل عثمان إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر فبعثت إليه بالصحف التي عندها وهي الصحف التي جمع القرآن فيها على عهد أبي بكر رضي الله عنه. وأخذت لجنة الأربعة هؤلاء في نسخها وجاء في بعض الروايات أن الذين ندبوا لنسخ المصاحف كانوا اثني عشر رجلا. وما كانوا يكتبون شيئا إلا بعد أن يعرض على الصحابة ويقروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على هذا النحو الذي نجده الآن في المصاحف.
دستور عثمان في كتابة المصاحف:
ومما تواضع عليه هؤلاء الصحابة أنهم كانوا لا يكتبون في هذه المصاحف إلا ما تحققوا أنه قرآن وعلموا أنه قد استقر في العرضة الأخيرة وما أيقنوا صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم مما لم ينسخ. وتركوا ما سوى ذلك نحو قراءة فامضوا إلى ذكر الله بدل كلمة {فَاسَعَوْا} ونحو {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً}
بزيادة كلمة صالحة إلى غير ذلك. وإنما كتبوا مصاحف متعددة لأن عثمان رضي الله عنه قصد إرسال ما وقع الإجماع عليه إلى أقطار بلاد المسلمين وهي الأخرى متعددة وكتبوها متفاوتة في إثبات وحذف وبدل وغيرها لأنه رضي الله عنه قصد اشتمالها على الأحرف السبعة. وجعلوها خالية من النقط والشكل تحقيقا لهذا الاحتمال أيضا. فكانت بعض الكلمات يقرأ رسمها بأكثر من وجه عند تجردها من النقط والشكل نحو {فَتَبَيَّنُوا} من قوله تعالى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} فإنها تصلح أن تقرأ فتثبتوا عند خلوها من النقط والشكل وهي قراءة أخرى وكذلك كلمة ننشرها من قوله تعالى {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} فإن تجردها من النقط والشكل كما ترى يجعلها صالحة عندهم أن يقرؤوها {نُنْشِزُهَا} بالزاي وهي قراءة واردة أيضا وكذلك كلمة {أُفٍّ} التي ورد أنها تقرأ بسبعة وثلاثين وجها.
أما الكلمات التي لا تدل على أكثر من قراءة عند خلوها من النقط والشكل مع أنها واردة بقراءة أخرى أيضا فإنهم كانوا يرسمونها في بعض المصاحف برسم يدل على قراءة وفي بعض آخر برسم آخر يدل على القراءة الثانية كقراءة وصى بالتضعيف وأوصى بالهمز وهما قراءتان في قوله سبحانه: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ}
وكذلك قراءة تحتها الأنهار وقراءة {مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} بزيادة لفظ {مِنْ} في قوله تعالى في سورة التوبة: {لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} وهما قراءتان أيضا.
وصفوة القول: أن اللفظ الذي لا تختلف فيه وجوه القراءات كانوا يرسمونه بصورة واحدة لا محالة. أما الذي تختلف فيه وجوه القراءات فإن كان لا يمكن رسمه في الخط محتملا لتلك الوجوه كلها فإنهم يكتبونه برسم يوافق بعض الوجوه في مصحف ثم يكتبونه برسم آخر يوافق بعض الوجوه الأخرى في مصحف آخر. وكانوا يتحاشون أن
يكتبوه بالرسمين في مصحف واحد خشية أن يتوهم أن اللفظ نزل مكررا بالوجهين في قراءة واحدة وليس كذلك. بل هما قراءتان نزل اللفظ في إحداهما بوجه واحد وفي الثانية بوجه آخر من غير تكرار في واحدة منهما.
وكذلك كانوا يتحاشون أن يكتبوا هذا اللفظ في مصحف واحد برسمين: أحدهما في الأصل والآخر في الحاشية لئلا يتوهم أن الثاني تصحيح للأول. أضف إلى ذلك أن كتابة أحدهما في الأصل والآخر في الحاشية دون العكس تحكم أو ترجيح بلا مرجح وذلك نحو كلمة وصى بالتضعيف وأوصى بالهمز كما سبق.
أما اللفظ الذي تختلف فيه القراءات ويدل عليه الرسم بصورة واحدة تحتمل هذا الاختلاف ويساعدهم عليه ترك الإعجام والشكل نحو {فَتَبَيَّنُوا} وننشرها كما سلف بيانه فتكون دلالة الخط الواحد على كلا اللفظين المنقولين شبيهة بدلالة المشترك اللفظي على كلا المعنيين المعقولين. والذي دعا الصحابة إلى انتهاج هذه الخطة في رسم المصاحف وكتابتها أنهم تلقوا القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع وجوه قراءاته وبكافة حروفه التي نزل عليها فكانت هذه الطريقة أدنى إلى الإحاطة بالقرآن على وجوهه كلها حتى لا يقال: إنهم أسقطوا شيئا من قراءاته أو منعوا أحدا من القراءة بأي حرف شاء على حين أنها كلها منقولة نقلا متواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "فأي ذلك قرأتم أصبتم فلا تماروا" وكان من الدستور الذي وضعه عثمان رضي الله عنه لهم في هذا الجمع أيضا أنه قال لهؤلاء القرشيين إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
وفي ذلك يروي البخاري في صحيحه بسنده عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك. فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا. وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق اهـ.
تحريق عثمان للمصاحف والصحف المخالفة:
بعد أن أتم عثمان نسخ المصاحف بالصورة السابقة عمل على إرسالها وإنقاذها إلى الأقطار وأمر أن يحرف كل ما عداها مما يخالفها سواء كانت صحفا أم مصاحف. وذلك ليقطع عرق النزاع من ناحية وليحمل المسلمين على الجادة في كتاب الله من ناحية أخرى فلا يأخذوا إلا بتلك المصاحف التي توافر فيها من المزايا ما لم يتوافر في غيرها.
وهذه المزايا هي:
1-
الاقتصار على ما ثبت بالتواتر دون ما كانت روايته آحادا.
2-
وإهمال ما نسخت تلاوته ولم يستقر في العرضة الأخيرة.
3-
وترتيب السور والآيات على الوجه المعروف الآن. بخلاف صحف أبي بكر رضي الله عنه فقد كانت مرتبة الآيات دون السور.
4-
وكتابتها بطريقة كانت تجمع وجوه القراءات المختلفة والأحرف التي نزل عليها القرآن على ما مر بك من عدم إعجامها وشكلها ومن توزيع وجوه القراءات على المصاحف إذا لم يحتملها الرسم الواحد.
5-
وتجريدها من كل ما ليس قرآنا كالذي كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة شرحا لمعنى أو بيانا لناسخ ومنسوخ أو نحو ذلك.
وقد استجاب الصحابة لعثمان فحرقوا مصاحفهم واجتمعوا جميعا على المصاحف العثمانية. حتى عبد الله بن مسعود الذي نقل عنه أنه أنكر أولا مصاحف عثمان وأنه أبى أن يحرق مصحفه رجع وعاد إلى حظيرة الجماعة حين ظهر له مزايا تلك المصاحف العثمانية واجتماع الأمة عليها وتوحيد الكلمة بها.
وبعدئذ طهر الجو الإسلامي من أوبئة الشقاق والنزاع وأصبح مصحف ابن مسعود ومصحف أبي بن كعب ومصحف عائشة ومصحف علي ومصحف سالم مولى أبي حذيفة. أصبحت كلها وأمثالها في خبر كان مغسولة بالماء أو محروقة بالنيران. {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} .
ورضي الله عن عثمان فقد أرضى بذلك العمل الجليل ربه وحافظ على القرآن وجمع كلمة الأمة وأغلق باب الفتنة ولا يبرح المسلمون يقطفون من ثمار صنيعه هذا إلى اليوم وما بعد اليوم.
ولن يقدح في عمله هذا أنه أحرق المصاحف والصحف المخالفة للمصاحف العثمانية فقد علمت وجهة نظره في ذلك. على أنه لم يفعل ما فعل من هذا الأمر الجلل إلا بعد أن استشار الصحابة واكتسب موافقتهم بل وظفر بمعاونتهم وتأييدهم وشكرهم.
روى أبو بكر الأنباري عن سويد بن غفلة قال: سمعت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يقول: "يا معشر الناس: اتقوا الله وإياكم والغلو في عثمان وقولكم: حراق مصاحف فوالله ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وعن عمر بن سعيد قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان" رضي الله عن الجميع وجزاهم أحسن الجزاء على هذا الصنيع.
فذلكة:
تستطيع مما سبق أن تفرق بين مرات جمع القرآن في عهوده الثلاثة: عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعهد عثمان رضي الله عنهما فالجمع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان عبارة عن كتابة الآيات وترتيبها ووضعها في مكانها الخاص من سورها ولكن مع بعثرة الكتابة وتفرقها بين عسب وعظام وحجارة ورقاع ونحو ذلك حسبما تتيسر أدوات الكتابة وكان الغرض من هذا الجمع زيادة التوثق للقرآن وإن كان التعويل أيامئذ كان على الحفظ والاستظهار.
أما الجمع في عهد أبي بكر رضي الله عنه فقد كان عبارة عن نقل القرآن وكتابته في صحف مرتب الآيات أيضا مقتصرا فيه على ما لم تنسخ تلاوته مستوثقا له بالتواتر والإجماع. وكان الغرض منه تسجيل القرآن وتقييده بالكتابة مجموعا مرتبا خشية ذهاب شيء منه بموت حملته وحفاظه.
وأما الجمع في عهد عثمان رضي الله عنه فقد كان عبارة عن نقل ما في تلك الصحف في مصحف واحد إمام واستنساخ مصاحف منه ترسل إلى الآفاق الإسلامية ملاحظا فيها تلك المزايا السالف ذكرها مع ترتيب سوره وآياته جميعا. وكان الغرض منه إطفاء الفتنة