الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة خواطر الحياة
نشأت في بلدة من بلاد الجريد بالقطر التونسي يقال لها "نفطة"(1)، وكان للأدب المنظوم والمنثور في هذه البلدة نفحات تهبُّ في مجالس علمائها، وكان حولي من أقاربي (2) وغيرهم من يقول الشعر، فتذوقت طعم الأدب من أول نشأتي.
وحاولت في سن الثانية عشرة نظم الشعر، وفي هذا العهد انتقلت أسرتي إلى مدينة تونس، والتحقت بطلاب العلم بجامع الزيتونة (3)، وكان من أساتذة الجامع ومن هم في الطبقة العالية من طلاب العلم من أولعوا بالأدب، والتنافس في صناعة القريض إلى شأو غير قريب، فاقتفيت أثرهم، وكنت أنظم قصائد تهنئة لبعض أساتذتي عند إتمام دراسة بعض الكتب، ولكني أقبلت على طلب العلم، وتغلب ارتياحي له على ارتياحي للأدب حتى زهدت في صناعة النظم، إلا في أوقات تقتضي أن أهنئ صديقاً حميماً، أو في مجالس تجري فيها
(1) بلدة صحراوية في جنوب تونس، أطلق عليها اسم: الكوفة الصغرى؛ لمكانتها العلمية آنذاك.
(2)
وفي مقدمتهم أستاذه وخاله العلامة محمد المكي بن عزوز.
(3)
بناه الأمير حسان بن النعمان الغساني عام 79 هـ، وأتم بناءه الأمير عبد الله بن الحبحاب عام 141 هـ، ثم أحدثت به أبنية فخمة من المرمر والرخام.
محاورات أدبية، فتحرك داعية النظم لأن أقول البيت أو البيتين أو الثلاثة.
ولقلة إقبالي على نظم الشعر، أو لأنني كنت أرى أن ما أنظمه منه ليس أهلاً لأن يحتفظ به، لم يصحبني منه عندما رحلت (1) من تونس إلى الشام غير شذرات علقت بذاكرتي، أو شذرات وجدتها مبعثرة في كتب استصحبتها في رحلتي.
نزلت دمشق وللشعر فيها سوق غير كاسدة، ولكني آثرت أن أصرف القريحة في البحث العلمي، أو في العمل للقضية الإِسلامية، بقدر ما أستطيع، وربما نزعت نفسي إلى أن أقول شعراً، فأرخي لها العنان، وأقول: هو فن من فنون الأدب الجميل، وللنفس فيه سلوة، ولا سيما شعراً أطرقُ به ناحية خلقية، أو أشارك به العاملين لإصلاح الحالة المدنية، أو أودعه صورة معنى لا أذكر أني لمحته فيما طالعته من المنشآت الشعرية أو النثرية.
ثم هبطت مصر (2)، وكانت صناعة القريض قد ارتقت فيها إلى ما يطمح إليه الشاعر العبقري، فازددت زهدًا في النظم، وقلت يومئذ: أَجوده ليس في متناول قريحتي، وغير الأجود تتسامى عنه همتي، وربما خطرت لي صور من المعاني في أوقات أبتغي فيها راحة، فألبسها ثوياً من الكلام الموزون.
ولم يلم بخاطري في يوم أن أجمع ما نظمته، وأخرجه للناس، حتى اقترح عليّ طائفة من إخواني الفضلاء أن أجمعه من أوراقه المتفرقة، وأصدره إلى عالم الأدب في صفحات متتالية، فما وسعني إلا أن تقبلت اقتراحهم، وقلت: هو كلام موزون، إن لم يجد فيه الأديب ما يروقه من لفظ أنيق، أو
(1) خلال شهر كانون الأول 1912 م الموافق 1331 هـ.
(2)
عام 1339 هـ، 1920 م.
معنى رشيق، فقد يرى فيه المؤرخ أشياء يهمه أن يتعرفها من مصادر متعددة.
وعمدت إلى ما نشر في بعض الصحف، أو احتوته بعض المذكرات، وضممت بعضه إلى بعضه، مرتباً له على حروف المعجم، ومنبهاً على المناسبة التي دعت إلى نظم القصيدة أو المقطَّعة، ثم عرضت على من اقترحوا علي جمعه، فأطلقوا عليه اسم: ديوان، ولقبوه بـ:"خواطر الحياة"(1).
ودونك ما جمعت ورتبت، فانقده بفكرك الثاقب، وميزان منطقك العادل، عسى أن تنبه على خلل في تأليف الكلام، أو عيب في تصوير المعاني، فإن فعلتَ، فما هو بأول شعر كشف النقد البريء عما انطوى عليه من هفوات، وإذا محضتك الشكر، فما أنا أول من شكر الناقد البصير على إخلاصه للأدب، وإيثاره الصراحة في الحق على كتم ما تقع فيه الأفكار أو الألسنة من عثرات، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
محمّد الخضر حسين
"بنت عزّوز" لقد لقَّنتنا
…
خشية الله وأن نرعى الذِّماما
ودرينا منك أن لا نشتري
…
بمعالينا من الدنيا حُطاما
ودرينا منك أن الله لا
…
يخذل العبد إذا العبدُ استقاما
ودرينا كيف لا نعنو لمن
…
حارب الحق وإن سلّ الحساما
"من قصيدة للشاعر في رثاء والدته"
(1) صدرت الطبعة الأولى من الديوان بالقاهرة عام 1399 هـ، 1946 م، وأعيد طبعه للمرة الثانية بالقاهرة عام 1373 هـ، 1953 م، وعلق عليه فضيلة الأستاذ الشيخ محمد علي النجار.