الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السابع: قاعدة: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر
هذا الأصل أو هذه القاعدة – من أعظم الأصول والقواعد في باب الأسماء والصفات، ومن أهمها في بيان تناقض الخصوم من أهل الكلام – على مختلف طبقاتهم ودرجاتهم في هذا الباب – كما أنها مشتملة على جوانب عظيمة في إقناع من يتردد في صحة مذهب السلف، أو يخالطه شك أو شبهة مما ينثره أهل الكلام في كتبهم ومقالاتهم.
وهذه القاعدة لم يفصل القول فيها أحد – فيما أعلم – قبل شيخ الإسلام، وإن كان قد ألمح إليها بعض الأشاعرة – إحساسا منه بالتناقض – أو بعض أهل السنة اقتناعا منه بتناقض خصومه -، أما الكلام فيها بهذه القوة والوضوح والإقناع فقد كان مما وفق الله هذا الإمام إليه، وهو سبحانه وتعالى المتفضل على عباده بما يشاء، فله الحمد والمنة.
وقبل الدخول في تفاصيل هذا الأصل – أو هذه القاعدة – يمكن إجمال ما اشتملت عليه من الأصول والقواعد بما يلي:
1 -
أن من نفى بعض الصفات وأثبت البعض الآخر، لزمه فيما أثبته نظير ما يلزمه فيما نفاه.
2 -
وأن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، لأنه قد يكون ثبت بدليل آخر غير هذا الدليل.
3 -
أن كل من أول صفة لزمه فيما أوله نظير ما ظن أنه يلزمه فيما فر منه.
4 -
أن دلالة السمع والعقل على الصفات واحدة:
أ- فإذا كان السمع قد دل على الصفات السبع، فقد دل أيضاً على غيرها، ووجه الدلالة وقوة النص واحدة.
ب- وإذا دل العقل على الصفات السبع، فيمكن أن يدل العقل على غيرها، مما ينفيه هؤلاء.
5 -
أنه يقال للأشعري نظير ما يقوله هو للمعتزلي في مسألة الأسماء.
6 -
أن هذا الأصل يمكن أن يرد به على جميع النفاة.
أ- الأشعري الذي يثبت بعض الصفات دون بعض.
ب- والمعتزلي الذي يثبت الأسماء وينفي الصفات.
ج- والجهمي الذي ينفي الأسماء والصفات ولكن يقر بأن الله شيء وأنه موجود.
د- والغلاة: الذين يسلبون النقيضين.
وقد استخدم شيخ الإسلام هذا الأصل في الرد على هؤلاء جميعا، وبين تناقضهم. وبالنسبة للأشاعرة – الذين هم مدار هذا البحث – فيمكن بيان منهجهه في تقرير هذا الأصل بذكر أحد ردوده العامة، ثم ذكر عدد من الأمثلة التي أوردها شيخ الإسلام في مناقشته لهم معتمدا على الأصل:
سبق – في مبحث الأسماء – أن الأشاعرة وإن أثبتوا أسماء الله بإجمال، إلا أنهم يتأولون – في بعض هذه الأسماء – ما تدل عليه من الصفات، فمثلا يثبتون من أسمائه تعالى: الرحيم، والعلي، والودود، ولكنهم حينما يفسرونها يتأولونها كما يتأولون صفة الرحمة، والعلو، والمحبة، وغيرها. أما العليم والقدير فلا يتأولونه، كذلك هم في الصفات يثبتون السمع والبصر والكلام والإرادة، ويتأولون غيرها كالرحمة والرضا والغضب وغيرها.
فشيخ الإسلام بين تناقضهم في ذلك كله فقال، "من أقر بفهم بعض معنى الأسماء والصفات دون بعض، فيقال له: ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته، أو أمسكت عن إثباته ونفيه؟ فإن الفرق:
- إما أن يكون من جهة السمع.
- أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر. وكلا الوجهين باطل بأكثر المواضع.
أما الأول: فدلالة القرآن على أنه: رحمن، رحيم، ودود، سميع بصير، عليّ، عظيم، كدلالته على أنه: عليم، قدير، ليس بينهما فرق من جهة النص، وكذلك ذكره لرحمته، ومحبته، وعلوه، مثل ذكره لمشيئته وإرادته.
وأما الثاني: فيقال من أثبت شيئا ونفى آخر: لم نفيت مثلا حقيقة رحمته، ومحبته، وأعدت ذلك إلى إرادته؟.
فإن قال: لأن المفهوم من الرحمة رقة تمتنع على الله.
قيل له: والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على الله.
فإن قال: إرادته ليست من جنس إرادة خلقه.
قيل له: ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه، وكذلك محبته.
وإن قال – وهو حقيقة قوله -: لم أثبت الإرادة وغيرها بالسمع، وإنما أثبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل، وكذلك السمع والبصر والكلام – على أحد الطريقتين-؛ لأن العقل دل على القدرة، والإحكام دل على العلم، والتخصيص دل على الإرادة.
قيل له: الجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الإنعام، والإحسان، وكشف الضر، دل أيضا على الرحمة، كدلالة التخصيص على الإرادة. والتقريب والإدناء وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب، تدل على المحبة، ومطلق التخصيص يدل على الإرادة، وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص. وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا. الثاني: يقال له: هب أن العقل لا يدل على هذا، فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة. والسمع دليل مستقل بنفسه، بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم، ودلالته أتم. فلأي شيء نفيت مدلوله، أو توقفت، وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة، مع أن النصوص لم تفرق؟ فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباتها الإرادة زيادة على الفعل" (1).
ثم ذكر شيخ الإسلام نموذجا لما يمكن أن يكون من مناقشة بين الأشعري والجهمي المعتزلي الذي ينكر صفة الإرادة فقال."الثالث: يقال له (أي للأشعري) إذا قال الجهمي (والمعتزلي): الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه، أو نفس الفعل والأمر به، وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذورا – إن قال بقدمها، ومحذورا إن قال بحدوثها (2) .... كان جوابه (أي جواب الأشعري للمعتزلي الجهمي): أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال، والنص قد دل عليها، والعقل أيضا. فإذا أخذ الخصم (أي المعتزلي) ينازع في دلالة النص أو العقل جعله مسفسطا أو مقرمطا (أي حكم الأشعري على المعتزلي بذلك). (فيقول أهل السنة للأشعري:) وهذا بعينه موجود في الرحمة، والمحبة،
…
" (3).
وقد أكمل شيخ الإسلام المناقشة لبيان بطلان مذهب المعتزلة والجهمية وغيرهم، ثم ذكر كلاما مجملا مهما، فقال:
"ونكتة هذا الكلام: أن غالب من نفي وأثبت شيئا مما دل عليه الكتاب والسنة، لابد أن يثبت الشيء لقيام المتقضي وانتفاء المانع، وينفي الشيء لوجود المانع، أو لعدم المقتضى، أو يتوقف إذا لم يكن له عنده مقتض ولا مانع:
فيبين له أن المقتضى فيما نفاه قائم، كما أنه فيما أثبته قائم، إما من كل وجه، أو من وجه يجب به الإثبات، فإن كان المقتضى هناك حقا فكذلك هنا، وإلا قدره ذاك المقتضى من جنس درء هذا.
وأما المانع فيبين أن المانع الذي تخيله فيما نفاه من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته؛ فإذا كان ذلك المانع المستحيل موجودا على التقديرين لم ينج من محذوره بإثبات أحدهما ونفي الآخر، فإنه إن كان حقا نفاهما، وإن كان باطلا لم ينف واحدا منهما، فعليه أن يسوي بين الأمرين في الإثبات والنفي، ولا سبيل إلى النفي فتعين الإثبات. فهذه نكتة الإلزام لمن أثبت شيئا وما من أحد إلا ولابد أن يثبت شيئا، أو يجب عليه إثباته" (4).
ثم ضرب شيخ الإسلام مثالا في الرد على متأخري الأشعرية – سبق نقله عند الكلام على شبهة التركيب -.
(1)((الإكليل في المتشابه والتأويل – مجموع الفتاوى)) (13/ 298 - 300).
(2)
أي المعتزلي، لأن القول بقدم الصفة – كالإرادة – يلزم منه تعدد القدماء، والقول بحدوثها يلزم منه حلول الحوادث، وكلاهما ممتنع عندهم، انظر ((الإكليل – مجموع الفتاوى)) (13/ 300).
(3)
((الإكليل في المتشابه والتأويل – مجموع الفتاوى –)) (13/ 300 - 301).
(4)
((الإكليل في المتشابه والتأويل – مجموع الفتاوى –)) (13/ 302).
وبعد هذه المقدمة العامة يمكن ذكر نماذج من تطبيق شيخ الإسلام لهذا الأصل في ردوده ومناقشاته للأشاعرة، ومنها:
1 -
إذا كان التجسيم لازما لبعض الصفات فهو لازم للصفات التي أثبتموها، وبالعكس، أي إذا لم يكن التجسيم لازما للصفات التي أثبتموها، فلا يلزم في الصفات التي نفيتموها، وهكذا. والنتيجة أنكم إما أن تثبتوا جميع الصفات لأنها لا تستلزم التجسيم، أو تنفوها كلها لاستلزامها التجسيم.
وهذا وارد في جميع الصفات التي نفاها متأخرو الأشاعرة كصفة الرضا، والغضب، والرحمة، والوجه، واليد، والاستواء، والمجيء وغير ذلك. وقد بدأ شيخ الإسلام تقرير هذا بأن نفاة الصفات من المعتزلة والجهمية والقرامطة والباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة، يقولون:"إذا قلتم: إن القرآن غير مخلوق، وإن لله تعالى علما، وقدرة، وإرادة، فقد قلتم بالتجسيم؛ فإنه قد قام دليل العقل على أن هذا يدل على التجسيم؛ لأن هذه معاني لا تقوم بنفسها، لا تقوم إلا بغيرها، سواء سميت صفاتا أو أعراضا، أو غير ذلك، قالوا: ونحن لا نعقل قيام المعنى إلا بجسم، فإثبات معنى يقوم بغير جسم غير معقول"(1).
(1)((مجموع الفتاوى)) (6/ 44 - 45).
هذه خلاصة شبهة واستدلال نفاة جميع الصفات، دون تفريق بين صفات المعاني وغيرها. وحينئذ فإن الأشعري سيرد عليهم بإثباتهم لأسماء الله وعدم استلزامها للتجسيم، فكذلك هذه الصفات التي أثبتها. فهو يقول:"بل هذه المعاني يمكن قيامها بغير جسم، كما أن عندنا وعندكم إثبات عالم، قادر، ليس بجسم"(1).وهذا جواب صحيح، ولذلك فالمثبت لجميع الصفات الواردة سيقول للأشعري معلقا على جوابه السابق لنفاه جميع الصفات:"الرضا، والغضب، والوجه، واليد، والاستواء والمجيء (وغيرها كذلك)، فأثبتوا هذه الصفات أيضا، وقولوا: إنها تقوم بغير جسم"(2).وحينئذ سيعترض الأشاعرة قائلين: "لا يعقل رضا وغضب إلا ما يقوم بقلب هو جسم، ولا نعقل وجها ويدا إلا ما هو بعض من جسم"(3).وحينئذ فيجيبهم أهل السنة بقولهم: "ولا نعقل علما إلا ما هو قائم بجسم، ولا قدرة إلا ما هو قائم بجسم، ولا نعقل سمعا وبصرا وكلاما إلا ما هو قائم بجسم، فلم فرقتم بين المتماثلين؟ وقلتم: إن هذه يمكن قيامها بغير جسم، وهذه لا يمكن قيامها إلا بجسم، وهما في المعقول سواء"(4).وهذا مما لا محيد للأشاعرة عنه، لأنه لا فرق بين ما نفوه وما أثبتوه، وقد صاغها شيخ الإسلام في مكان آخر بعبارة أخرى فقال:"إن من نفى شيئا من الصفات لكون إثباته تجسيما وتشبيها، يقول له المثبت: قولي فيما أثبته من الصفات والأسماء كقولك فيما أثبته من ذلك، فإن تنازعا في الصفات الخبرية، أو العلو، أو الرؤية أو نحو ذلك وقال له النافي: هذا يستلزم التجسيم والتشبيه؛ لأنه لا يعقل ما هو كذلك إلا الجسم، قال المثبت: لا يعقل ما له حياة وعلم وقدرة وسمع وبصر وكلام وإرادة إلا ما هو جسم، فإذا جاز لك ان تثبت هذه الصفات وتقول: الموصوف بها ليس بجسم، جاز لي مثل ما جاز لك من إثبات تلك الصفات مع أن الموصوف بها ليس بجسم، فإذن جاز أن يثبت مسمى بهذه الأسماء ليس بجسم. فإن قال له: هذه معان وتلك أبعاض، قال له: الرضا والغضب والحب والبغض معان، واليد والوجه – وإن كان بعضا – فالسمع والبصر والكلام أعراض لا تقوم إلا بجسم، فإن جاز لك إثباتها مع أنها ليست أعراضا ومحلها ليس بجسم، جاز لي أن أثبت هذه مع أنها ليست أبعاضا"(5).ولكن الأشاعرة يعترضون ويقولون: "الغضب هو غليان دم القلب لطلب الانتقام، والوجه هو ذو الأنف والشفتين واللسان والخد، أو نحو ذلك"(6).
فيجيبهم المثبتة بقولهم: "إن كنتم تريدون غضب العبد ووجه العبد، فوزانه أن يقال لكم: ولا يعقل بصر إلا ما كان بشحمه، ولا سمع إلا ما كان بصماخ، ولا كلاما إلا ما كان بشفتين ولسان، ولا إرادة إلا ما كان لاجتلاب منفعة أو استدفاع مضرة، وأنتم تثبتون لله السمع والبصر والكلام والإرادة على خلاف صفات العبد، فإن كان ما تثبتونه مماثلا لصفات العبد لزمكم التمثيل في الجميع، وإن كنتم تثبتونه على الوجه اللائق بجلال الله تعالى من غير مماثلة بصفات المخلوق، فأثبتوا الجميع على هذا الوجه المحدود، ولا فرق بين صفة وصفة، فإن ما نفيتموه من الصفات فيه نظير ما أثبتموه. فإما أن تعطلوا الجميع، وهو ممتنع، وإما أن تمثلوه بالمخلوقات وهو ممتنع، وإما أن تثبتوا الجميع على وجه يختص به لا يماثله فيه غيره، وحينئذ فلا فرق بين صفة وصفة، فالفرق بينهما بإثبات أحدهما ونفي الآخر فرارا من التشبيه والتجسيم قول باطل، يتضمن الفرق بين المتماثلين، والتناقض في المقالتين"(7).
(1)((مجموع الفتاوى)) (6/ 45).
(2)
((مجموع الفتاوى)) (6/ 45).
(3)
((مجموع الفتاوى)) (6/ 45).
(4)
((مجموع الفتاوى)) (6/ 45).
(5)
((درء التعارض)) (1/ 127 - 128).
(6)
((مجموع الفتاوى)) (6/ 45).
(7)
((مجموع الفتاوى)) (6/ 45 - 46).
ولا تحتاج هذه المناقشة إلى تعليق، لأن التناقض واضح في تفريقهم بين ما يلزم منه تجسيم وتشبيه وبين مالا يلزم منه ذلك، لأن هذه الصفات كلها يتصف بها المخلوق، فإن لزم في بعضها التشبيه لزم في الباقي، وإن لم يلزم في بعضها لم يلزم في الباقي.
ولذلك فإن الأشاعرة يرجعون في التفريق إلى دليل العقل، فيقولون: ما دل عليه العقل وجب إثباته، وما لم يدل عليه العقل فيجب نفيه، أو على الأقل التوقف فيه. يقول الأشعري – معللا تفريقه بين إثبات الصفات السبع ونفي ما عداها -:"تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام، أو ضد ذلك"(1).
وهناك يذكر شيخ الإسلام أن لسائر أهل الإثبات ثلاثة أجوبة: أحدها: أن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، وهذا مبني على مسألة واضحة جدا يقر بها كل عاقل، وهي أن عدم العلم ليس علما بالعدم (2)، فعدم علمي بوجود كتاب، أو مدينة من المدن المغمورة، أو وجود شخص ما - لا يعني أن هذه الأمور غير موجودة، بل قد تكون موجودة وقد يكون علمها غيري، فعدم علمي بها ليس علما بعدمها، وهذا لو أنكره إنسان لعد من أجهل الناس. ولذلك فإنه يقال لهؤلاء الأشاعرة: عدم الدليل المعين، الذي هو دليل العقل، والذي قلتم إنه لم يدل على ما عدا الصفات السبع، لا يستلزم عدم المدلول المعين الذي هو باقي الصفات، "فهب أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت"(3).الثاني: أن يقال: إذا كان دليل العقل لم يثبت هذه الصفات، - وعدم إثباته لها ليس دليلا على نفيها – فإن هناك دليلا آخر دل عليها، وهو دليل السمع "ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم"(4).وهذا الوجه الثاني مترتب على الوجه الأول، ولذلك جمع بينهما في وجه واحد في التدمرية، وأفردهما عن بعض في (مجموع الفتاوى) (5).الثالث:"أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكافرين يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في معقولاته ومأموراته – وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة – تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على المشيئة وأولى، لقوة العلة الغائية، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم وأعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة"(6).
(1)((التدمرية)) (ص: 33) – المحققة.
(2)
انظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: 100).
(3)
((التدمرية)) (ص: 33 - 34) – المحققة، وانظر في تقرير هذا الوجه:((شرح الأصفهانية)) (ص: 9) – ت مخلوف – و ((درء التعارض 4/ 59 - 60)، ((التسعينية)) (ص: 242 - 243، 258).
(4)
((التدمرية)) (ص: 34) – المحققة.
(5)
((قارن التدمرية)) (ص: 33 - 34) – المحققة، ((بمجموع الفتاوى)) (6/ 46).
(6)
((التدمرية)) (ص: 34 - 35) – المحققة.
ولا فرق بين استدلالهم بالعقل على الإرادة والعلم، وبين استدلال غيرهم به على الحب والبغض، والحكمة والرحمة وغيرها. وهذه الوجوه الثلاثة مبينة أن احتجاجهم بدليل العقل على الصفات السبع لا يدل على نفي ما عداها من الصفات الثابتة. ولكن لو عاد الأشعري وقال: صحيح أنني أثبت هذه الصفات بالعقل، ولكني أيضا نفيت ما عداها بالعقل لأنها تستلزم التجسيم. وحينئذ يعود الكلام إلى ما ذكر أولا في بداية هذه المناقشة ويقال له:"القول في هذه الصفات التي تنفيها كالقول في الصفات التي أثبتها، فإن كان هذا مستلزما للتجسيم فكذلك الآخر، وإن لم يكن مستلزما للتجسيم فكذلك الآخر"(1)، فدعواه التفريق بينهما باطل وهو متناقض كما تقدم. هذا هو أهم الأمثلة التي ذكرها شيخ الإسلام، وهو مثال شامل لجميع الصفات التي نفاها الأشاعرة (2). وهناك أمثلة أخرى ترجع إلى ما سبق ومنها:
2 -
تطبيقه في صفة النزول:
يقول شيخ الإسلام في شرح حديث النزول بعد تقريره لهذا الأصل وهو أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر: "ومثال ذلك أنه إذا قال: النزول والاستواء ونحو ذلك، من صفات الأجسام؛ فإنه لا يعقل النزول والاستواء إلا لجسم مركب، والله سبحانه منزه عن هذه اللوازم، فيلزم تنزيهه عن الملزوم، أو قال: هذه حادثة، والحوادث لا تقوم إلا بجسم مركب، وكذلك إذا قال: الرضا والغضب والفرح والمحبة ونحو ذلك من صفات الأجسام.
فإنه يقال له: وكذلك الإرادة، والسمع، والبصر، والعلم، والقدرة – من صفات الأجسام، فإنا كما لا نعقل ما ينزل، ويستوي، ويغضب، ويرضى، إلا جسما، لم نعقل ما يسمع، ويبصر، ويريد، ويعلم، ويقدر، إلا جسما. فإذا قيل: سمعه ليس كسمعنا، وبصره ليس كبصرنا، وإرادته ليست كإرادتنا، وكذلك علمه وقدرته. قيل له: وكذلك رضاه ليس كرضانا، وغضبه ليس كغضبنا، وفرحه ليس كفرحنا، ونزوله واستواؤه ليس كنزولنا واستوائنا
…
" (3) ثم أكمل الكلام بمثل ما سبق (4).
3 -
في نفيهم العلو:
(1)((مجموع الفتاوى)) (6/ 46 - 47).
(2)
انظر أيضا في تقرير هذا الأصل: ((درء التعارض)) (1/ 99 - 100)، ((الرسالة الأكملية – مجموع الفتاوى)) (6/ 75)، ((شرح الأصفهانية)) (ص: 27 - 28، 384) – ت السعوي، و ((الفرقان بين الحق والباطل – مجموع الفتاوى)) (13/ 165)، و ((منهاج السنة)) (2/ 84) – ط دار العروبة المحققة، و ((مجموع الفتاوى)) (6/ 40 - 41).
(3)
((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 352)
(4)
انظر: ((شرح حديث النزول – مجموع الفتاوى)) (5/ 35).
من شبه الأشاعرة في نفي العلو أنه يلزم منه أن يكون الله مركبا، منقسما، ذا قدر: وكان من مناقشة شيخ الإسلام أن ألزمهم ذلك بإثباتهم للصفات فقال: "وإذا جاز أن يقولوا: إن الموصوف الذي له صفات متعددة هو واحد غير متكثر ولا مركب ولا ينقسم، جاز أيضا أن يقال: إن الذي له قدر هو واحد غير متكثر ولا مركب ولا ينقسم، وإن كان في الموضعين يمكن أن يشار إلى شيء منه، ولا يكون المشار إليه هو عين الآخر"(1).ثم إن شيخ الإسلام ألزم الأشاعرة في إثبات علو الله وقيامه بنفسه بما أثبتوه أيضا من الصفات التي لا يجعلونها أعراضا وينكرون على من ألزمهم بذلك فكذلك يقال لهم: إذا ثبت أن الله تعالى بائن من خلقه قائم بنفسه لا يلزم أن يكون جسما مركبا، يقول شيخ الإسلام:"فيقال إذا كان القائم بغيره من الحياة والعلم والقدرة وإن شارك سائر الصفات في هذه الخصائص "ولم يكن عندك عرضا، فكذلك القائم بنفسه وإن شارك غيره من القائمين بأنفسهم فيما ذكرته، لم يجب أن يكون جسما مركبا منقسما، ولا فرق بين البابين بحال؛ فإن المعلوم من القائم بنفسه أنه جسم، ومن القائم بغيره أنه عرض، وأن القائم بنفسه لابد أن يتميز منه شيء عن شيء، والقائم بغيره لابد أن يحتاج على محله، فإذا أثبت قائما بغيره يخالف ما علم من حال القائم بنفسه في ذلك، فكذلك لزمه أن يثبت قائما بنفسه يخالف ما علم من حال القائمين بأنفسهم" (2).ومثل ذلك ما يقال من أن اختصاص الله تعالى بالوصف كاختصاصه بالقدر، فكيف يفرق بينهما من ينكر العلو والاستواء لاستلزامه القدر (3) .... 4 - في حديث الصورة: ((خلق الله آدم على صورته)) (4).ذكر شيخ الإسلام في رده على من تأوله فقال: "المحذور الذي فروا منه لتأويل الحديث على أن الصورة بمعنى الصفة، أو الصورة المعنوية، أو الروحانية، ونحو ذلك، يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فروا منه، وإذا كان مثل هذا لازما على التقديرين لم يجز ترك مقتضى الحديث ومفهومه لأجله، ولم يكن أيضا محذورا بالاتفاق
…
" (5).
5 -
القول في نصوص الصفات كالقول في نصوص المعاد: أي أن النصوص التي ثبتت بها الصفات هي مثل النصوص التي ثبت بها المعاد، فتفريق الأشاعرة – وغيرهم – بينهما بإثبات هذا ونفي هذه تناقض، بل يلزمهم أن يقروا بكل ما ورد من الصفات كإقرارهم بنصوص المعاد، خاصة وأن نصوص الصفات أكثر (6).
المصدر:
موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1186
(1)((نقض التأسيس)) – مطبوع (2/ 66).
(2)
((نقض التأسيس)) – مطبوع (2/ 67).
(3)
انظر: ((نقض التأسيس)) (2/ 199)، وانظر:((درء التعارض)) (3/ 372 - 385).
(4)
رواه البخاري (6227) ، ومسلم (2612) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
((نقض التأسيس)) – (مخطوط 3/ 273).
(6)
انظر: ((الفتوى الحموية – مجموع الفتاوى)) (5/ 33).