الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس: اضطراب المنهج الأشعري وتناقضه في الأدلة
لقد أفرط الأشاعرة كغيرهم من علماء الكلام في الاعتماد على الأدلة العقلية والتقليل من شأن الأدلة السمعية، مع أن الأدلة العقلية التي سلكوها في معارضة الشرع كلها غير مستقيمة.
والمقصود في هذا المبحث بيان بعض صور الاضطراب والتناقض عندهم في مسألة الاعتماد على الدليل العقلي، وذلك في خمس مسائل:
المسألة الأولى: قولهم بعدم التيقن من انتفاء المعارض العقلي في الدليل النقلي مع الجزم بانتفائه في الدليل العقلي. مما اشترطه الأشاعرة في الدليل النقلي ليتم الاستدلال به على وجه القطع واليقين: العلم بعدم المعارض، وذكروا بأنه على فرض وجود القرائن المرجحة لإفادة الأدلة النقلية القطع، إلا أنه يبقى "في إفادتها لليقين في العقليات نظر لأنه مبني على أنه هل يحصل بمجردها الجزم بعدم المعارض العقلي؟ وهل للقرينة مدخل في ذلك؟ وهما مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه" (1) وهذا الذي قاله الأشاعرة علق عليه ابن القيم بقوله:"ولا ريب أن هذا القول من أفسد أقوال العالم، وهو من أعظم أصول أهل الإلحاد الزندقة، وليس في عزل الوحي عن مرتبته أبلغ من هذا"(2) اهـ.
وهذا الذي قاله الأشاعرة في الدليل النقلي يلزمون به في الدليل العقلي، إذ أين الدليل على عدم وجود المعارض العقلي فيه؟ فإن قالوا: إنه لا دليل على وجود المعارض العقلي، فيدل على عدمه، قيل لهم: لقد أثبتم أنتم أنفسكم ضعف هذا الدليل، فقد قال الإيجي: "المقصد الخامس: وههنا طريقان ضعيفان:
الأول: قالوا: ما لا دليل عليه يجب نفيه
…
الثاني: قياس الغائب على الشاهد" (3) ولم يبق بعد هذا كله إلا قولهم: "عدم المعارض والغلط في المقدمات القطعية ضروري" (4) اهـ وهذا الجواب صحيح، ولكن يقال لهم: أليس التجويز قائماً عقلاً بوجود المعارض العقلي؟ مثاله ما ذكره الرازي من أنه إذا رأى شخص شخصاً أمامه، ثم أغمض عينه، ثم نظر إليه ثانياً، فإنه يحتمل أن يكون شخصاً آخر يماثله، إذ أن الله يقدر على إفناء الشخص الأول في تلك اللحظة اللطيفة ويوجد شخصاً آخر يماثله (5) ومع بقاء هذا الاحتمال قالوا: "إنه لا يمتنع أن يكون الشيء معلوم الجواز والإمكان، ومع ذلك فإنه يكون الجزم والقطع حاصلاً بأنه لم يوجد ولم يحصل" (6) وقالوا:"قد يحصل القطع والجزم مع قيام مثل هذا التجويز"(7) اهـ. فعندئذ يقال لهم: أليس اختياركم هذا مناقضاً لما ذهبتم إليه من أن الدليل النقلي لا يكفي بمجرده في الجزم بعدم المعارض العقلي ولو كانت القرائن شاهدة على إفادته اليقين؟ لاشك أن هذا تناقض بين.
(1)((المواقف في علم الكلام)) للإيجي (ص: 40).
(2)
((الصواعق المرسلة)) (2/ 732).
(3)
((المواقف في علم)) الكلام للإيجي (ص: 37).
(4)
((المواقف في علم الكلام)) للإيجي (ص: 37).
(5)
انظر: ((المطالب العالية)) (8/ 97 - 98).
(6)
قاله الرازي في ((المطالب العالية)) (8/ 97).
(7)
قاله الرازي أيضاً في ((المطالب العالية)) (8/ 99).
المسألة الثانية: قطعهم بعلمهم بالآخرة مع عدم تيقنهم بانتفاء المعارض العقلي في الدليل النقلي: إن المتكلم الأشعري بقوله إن الدليل النقلي لا يكفي بمجرده في الجزم بعدم المعارض العقلي يلزم القول بأن الأدلة النقلية كلها إما: "أنها تفيد ظناً أو لا تفيد علماً ولا ظناً، فإن قال: لا تفيد علماً ولا ظناً، فهو مع مكابرته للعقل والسمع والفطرة والإنسانية من أعظم الناس كفراً وإلحاداً، وإن قال: بل تفيد ظناً غالباً وإن لم تفد يقيناً قيل له: فالله سبحانه قد ذم الظن المجرد وأهله فقال تعالى: إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم: 28] فأخبر أنه ظن لا يوافق الحق ولا يطابقه، وقال تعالى: إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى [النجم: 23] وقال أهل النار إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32] ولكان قوله عن المؤمنين: وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة: 4] خبراً غير مطابق، فإن علمهم بالآخرة إنما استفادوه من الأدلة اللفظية، لا سيما وجمهور المتكلمين يصرحون بأن المعاد إنما علم بالنقل"(1)." (2) اهـ.
فلا شك في وقوعهم في التناقض عندئذ في إثبات السمعيات بصورة قاطعة مع قولهم إن الدليل النقلي لا يكفي بمجرده في الجزم بعدم المعارض، إذ تصور تجويز إمكانه وارد على أصلهم فيسوغ تأويل السمعيات، فإن منعوا تأويلها وقعوا في التناقض.
المسألة الثالثة: الاضطراب في تحديد ما يستدل له بدليل العقل فقط أو بدليل النقل فقط:
فهم قد اتفقوا مثلاً على أن صفات الحياة والعلم والقدرة والإرادة أدلتها عقلية فقط، والسمع إنما يأتي على وجه التأكيد، ثم اختلفوا بعد ذلك في صفات البصر والسمع والكلام هل هي سمعية أو عقلية؟ ويظهر مثل هذا الاضطراب في مثل جواز إثبات رؤية الله تعالى – فمنهم من أثبت جواز وقوعها بالسمع فقط ومنهم من أثبت جواز وقوعها بالعقل (3).
المسألة الرابعة: تناقضهم في أصل الأدلة عندهم (دليل الحدوث):
(1) انظر: ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (ص: 103).
(2)
((الصواعق المرسلة)) (2/ 739 - 740).
(3)
انظر: ((نهاية الإقدام)) (ص: 369).
إن الأصل الذي لأجله أول الأشاعرة النصوص الواردة بالصفات الفعلية هو نفي حلول الحوادث – فإن إثباتها يؤدي إلى إبطال دليل الحدوث الذي أثبتوا به وجود الله تعالى، فظهر من هذا أن أكبر مشكلة واجهتهم هي هذه، لأنها منافية لدليل الحدوث، ولكن مع هذا كله يبقى الكلام في أنه هل من حاجة إلى هذا الدليل؟ الجواب: لا، وذلك لأمرين: الأمر الأول: إن إثبات وجود الله أمر فطري، وقد أقر بهذا كبار علماء الأشاعرة كما تقدم النقل عن الشهرستاني (1). ومن هؤلاء الرازي فإنه عدد أصناف الناس من أهل الدنيا كلها ثم قال:"وكلهم مطبقون على وجود الإله"(2) وقال عن الوحدانية: "اعمل أنه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكاً يساويه في الوجود والقدرة والعلم والحكمة، وهذا مما لم يوجد إلى الآن، لكن الثنوية يثبتون إلهين، أحدهما حكيم يفعل الخير، والثاني سفيه يفعل الشر، وأما الاشتغال بعبادة غير الله الذاهبين إليه كثرة."(3).الأمر الثاني: إن كبار المتبحرين في علم الكلام والغائصين في العقليات، جزموا بأن طريقة القرآن أقرب على الحق والصواب وأن طرق المتكلمين لا تخلوا من إشكال قال الرازي:"إن الدلائل التي ذكرها الحكماء والمتكلمون وإن كانت كاملة قوية، إلا أن هذه الطريقة المذكورة في القرآن عندي: أنها أقرب إلى الحق والصواب، وذلك لأن تلك الدلائل دقيقة، وبسبب ما فيها من الدقة انفتحت أبواب الشبهات وكثرت السؤالات، وأما الطريق الوارد في القرآن فحاصله راجع إلى طريق واحد، وهو المنع من التعمق، والاحتراز عن فتح باب القيل والقال، وحمل الفهم والعقل على الاستكثار من دلائل العالم الأعلى والأسفل، ومن ترك التعصب وجرب مثل تجربتي علم أن الحق ما ذكرته، ولما ثبت أن هذا الطريق الذي ذكره الله في القرآن أنفع، وفي القلوب أرجح، لا جرم أفردنا له باباً مستقلاً"(4).
فظهر من مجموع الأمرين السابقين؛ الفطرة مع كفاية دليل الآيات عن دليل الحدوث: أن الاعتماد على دليل الحدوث في إثبات وجود الله قول غير مستقيم، وكان عليهم أن يؤمنوا بما جاء به الكتاب والسنة من إثبات الصفات، إذ قد سلم بعضهم بأن دليل الحدوث ليس هو العمدة في إثبات وجود الله لما يرد عليه من إشكالات. فإن لم يرجعوا كان هذا تناقضاً واضطراباً.
المسألة الخامسة: القول بأن العقل هو العمدة مع بقاء إشكالات لم يستطيعوا الإجابة عنها عقلاً:
(1) انظر ((كلام الإيجي في المواقف)) (ص: 279).
(2)
((المطالب العالية)) (1/ 252).
(3)
((مفاتيح الغيب)) للرازي، وهو تفسيره الكبير (13/ 37) وانظر منه كذلك (2/ 122).
(4)
((المطالب العالية)) (1/ 236).
مع شدة الوثوق بدليل العقل بقيت إشكالات على الأشاعرة لم يستطيعوا الإجابة عنها، فيقعون إما في الحيرة أو الرجوع إلى دليل السمع. فمن ذلك أن الشهرستاني لما ذكر ما أورد على الأشاعرة في مسألة تعلقات الكلام بأنه يلزمهم إثبات صفة واحد أو نفي كل الصفات قال:"ثم هل تشترك هذه الحقائق والخصائص في صفة واحدة؟، فتلك الطامة الكبرى على المتكلمين، حتى فر القاضي أبو بكر الباقلاني رضي الله عنه منها إلى السمع، وقد استعاذ بمعاذ والتجأ إلى ملاذ والله الموفق"(1) ولم يعقب بشيء، وفي إقراره للباقلاني بالاستدلال بدليل السمع يفيد أن له شعوراً عميقاً بعدم الوثوق بالأدلة العقلية الوثوق التام. ومن ذلك قول الشهرستاني نفسه لما أوردت شبهات كثيرة في مسألة جواز وقوع الرؤية عقلاً فقال:"واعلم أن هذه المسألة سمعية، أما وجود الرؤية فلا شك في كونها سمعية، وأما جواز الرؤية فالمسلك العقلي ما ذكرناه، وقد وردت عليه تلك الإشكالات، ولم تسكن النفس في جوابها كل السكون ولا تحركت الأفكار العقلية إلى التفصي عنها كل الحركة، فالأولى بنا أن نجعل الجواز أيضاً مسألة سمعية"(2)!!
أليس هذا الكلام يناقض دعوى الوثوق بالعقل وأنه العمدة؟ - ثم على فرض أنه لا مدخل للعقل في إثبات جواز الرؤية، إلا أنه بقي شرط في الاستدلال بالدليل النقلي، وهو عدم وجود المعارض العقلي، كيف وهو قائم – على زعمهم – أليس هذا هو التناقض؟!.ومن ذلك أيضاً ما ذكره الرازي في المقابلة بين أدلة أصحابه الأشاعرة وبين أدلة المعتزلة في مسألة التحسين والتقبيح العقليين ثم قال بعدها:"واعلم أن هذه المذاهب لما تلخصت على هذا الوجه، وظهر ما في كل واحد منها من المدائح والقبائح، فعند هذا قال أصحاب الحيرة والدهشة: إن هذه الدلائل ما بلغت في الوضوح والقوة إلى حيث تزيل الشك وتقطع العذر وتملأ بقوتها ونورها العقل، بل كل واحد منها يتوجه فيه نوع غموض، واللائق الرحيم الكريم أن يعذر المخطئ في أمثال هذه المضائق وعند هذا أتضرع وأقول: إلهي حجتي: حاجتي، وعدتي: فاقتي، ووسيلتي إليك: نعمتك علي، وشفيعي عندك: إحسانك إلي. إلهي أعلم أنه لا سبيل إليك إلا بفضلك، ولا انقطاع عنك إلا بعدلك، إلهي، لي علم كالسراب وقلب من الخوف خراب، وأنواع من المشكلات بعدد الرمل والتراب، ومع هذا فأرجوا أن أكون من الأحباب فلا تخيب رجائي، يا كريم يا وهاب. إلهي إنك تعلم أن كل ما قلته وكتبته ما أردت به إلا الفوز بالحق والصواب والبعد عن الجهل والارتياب، فإن أصبت فاقبله مني بفضلك، وإن أخطأت فتجاوز عني برحمتك وطولك يا ذا الجود يا مفيض الوجود"(3) اهـ.
المصدر:
منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 649
(1)((نهاية الإقدام)) (ص: 236 - 237).
(2)
((نهاية الإقدام في علم الكلام)) (ص: 369).
(3)
((المطالب العالية)) (4/ 426 - 427).