المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: ترجمة لأهم أعلام الأشاعرة مع بيان منهجهم - موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأول: مقدمة في الفرق

- ‌الفصل الأول: الهدف من دراسة الفرق

- ‌الفصل الثاني: أهمية دراسة الفرق ورد شبهة من يريد عدم دراستها

- ‌المبحث الأول: تعريف الافتراق لغة واصطلاحا

- ‌المبحث الثاني: الفرق بين الافتراق والاختلاف

- ‌المبحث الأول: النصوص التي جمعت بين الأمر بالجماعة والنهي عن الفرقة في موضع واحد

- ‌المبحث الثاني: الأمر بلزوم الجماعة والتحذير من الفرقة

- ‌المبحث الثالث: بيان حال أهل الفرقة والاختلاف

- ‌المبحث الرابع: التأكيد على أسباب الاجتماع وبيان طرق تأليف قلوب المسلمين

- ‌المبحث الخامس: الفرقة والاختلاف عذاب وعقوبة

- ‌المبحث السادس: الإخبار أن الفرقة واقعة لا محالة ليعلم هذا ويحذر

- ‌المبحث السابع: الأصل في البشرية هو الوحدة والجماعة على التوحيد

- ‌المبحث الثامن: وصية الله لأنبيائه ورسله بالاجتماع على التوحيد الخالص لله رب العالمين ونبذ الفرقة واطراحها

- ‌المبحث التاسع: تبرئة الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الافتراق

- ‌المبحث العاشر: النهي عن مشابهة المشركين وأهل الكتاب في تفرقهم واختلافهم

- ‌المبحث الحادي عشر: التفريق بين المسلمين من غايات وأهداف المنافقين والكافرين

- ‌المبحث الثاني عشر: الفرقة من وسائل الشيطان ومكائده التي ينصبها للمسلمين على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة

- ‌المبحث الأول: الجهل

- ‌المبحث الثاني: الابتداع وعدم الاتباع

- ‌المبحث الثالث: تقديم الرأي على قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: الجدل والخصومات في الدين، والتأويل الفاسد

- ‌المبحث الخامس: الغلو في الدين، وردود الأفعال

- ‌المبحث السادس: التعصب المذهبي والطائفي، والتقليد للرجال، وتقديم أقوالهم على قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث السابع: التنازع على السلطة والملك وحب الرئاسة والظهور والبغي

- ‌المبحث الثامن: الخروج عن طاعة أولي الأمر (العلماء والأمراء)

- ‌المبحث التاسع: التشنيع على أولي الأمر والتقول عليهم، وتأليب الناس ضدهم وتتبع زلاتهم والاحتجاج بها

- ‌المبحث العاشر: التشبه بالكافرين، واتباع سننهم

- ‌المبحث الحادي عشر: اتباع الهوى

- ‌المطلب الأول: ضرر الفرقة على الفرد المفارق

- ‌المطلب الثاني: ضرر الفرقة على المجتمع المسلم

- ‌المبحث الثاني: سلامة الصحابة رضي الله عنهم من الفرقة

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: من هي الفرقة الناجية

- ‌المبحث الثاني: معنى قوله صلى لله عليه وسلم: ((كلها في النار إلا واحدة))

- ‌المبحث الثالث: منهج العلماء في عدَّ الفرق

- ‌الفصل الأول: الأخطار التي تحيط بأهل السنة والجماعة

- ‌الفصل الثاني: عقيدة فرقة السلف أهل السنة والجماعة

- ‌المبحث الأول: الألقاب الصحيحة

- ‌المبحث الثاني: الأسماء والألقاب الباطلة التي ينبز بها أهل الباطل أهل الحق من السلف الصالح

- ‌الفصل الرابع: أقوال السلف في وجوب التمسك بالسنة والحذر من البدع

- ‌الفصل الخامس: لزوم السلف جماعة المسلمين وتحذيرهم من التفرق وأدلتهم على ذلك

- ‌الفصل السادس: الثناء على السلف رحمهم الله تعالى

- ‌المبحث الأول: الجهود الحربية

- ‌المبحث الثاني: جهودهم في خدمة العقيدة

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: وسطيتهم بالنسبة للإيمان بذات الله تعالى

- ‌المطلب الثاني: وسطيتهم بالنسبة للإيمان بالأنبياء

- ‌المطلب الثالث: وسطيتهم في عبادة الله تعالى

- ‌المطلب الرابع: وسطيتهم في صفات الله تعالى بين أصحاب الأديان المحرفة

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: وسطيتهم بالنسبة لأسماء الله تعالى وصفاته بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام

- ‌المطلب الثاني: وسطيتهم في الحكم على أصحاب المعاصي

- ‌المطلب الثالث: وسطيتهم في الإيمان بالقدر

- ‌المطلب الرابع: وسطيتهم في موقفهم من الصحابة رضي الله عنهم

- ‌الفصل التاسع: علامات وسمات الفرقة الناجية وعلامات وسمات الفرق الهالكة (مزايا العقيدة السلفية وأصحابها)

- ‌المبحث الأول: أشهر الأئمة

- ‌المبحث الثاني: أهم مؤلفات علماء السنة في بيان العقيدة السلفية والرد على المخالفين

- ‌الفصل الحادي عشر: تنبيهات مهمة على مسائل في العقيدة

- ‌المبحث الأول: تعريف الأشاعرة

- ‌المبحث الثاني: التعريف بأبي الحسن الأشعري

- ‌المطلب الأول: المراحل الاعتقادية التي مر بها أبو الحسن الأشعري

- ‌المطلب الثاني: سياق الأدلة على إثبات المرحلة الثالثة الأخيرة للأشعري

- ‌المبحث الثالث: ظهور علم الكلام

- ‌المبحث الرابع: نشأة المذهب الأشعري وانتشاره

- ‌المبحث الخامس: أسباب انتشار المذهب الأشعري

- ‌المبحث السادس: تطور مذهب الأشاعرة

- ‌المبحث السابع: بيان درجات التجهم ومنزلة الأشعرية فيه

- ‌الفصل الثاني: ترجمة لأهم أعلام الأشاعرة مع بيان منهجهم

- ‌المبحث الأول: حقيقة توحيد الربوبية عند الأشاعرة

- ‌المبحث الثاني: مقتضيات الإقرار لله تعالى بالربوبية عند الأشاعرة

- ‌المبحث الثالث: منزلة توحيد الربوبية عند الأشاعرة

- ‌المبحث الأول: التوحيد عند الأشاعرة

- ‌المبحث الثاني: عدم وضوح المنهج الأشعري في توحيد الألوهية وأسباب ذلك

- ‌المبحث الثالث: اعتراضات المتأخرين من الأشاعرة على إدخال توحيد الألوهية ضمن أنواع التوحيد

- ‌المبحث الرابع: الشبهات الرئيسة للمتأخرين من الأشاعرة في بعض مظاهر الشرك

- ‌المبحث الخامس: الدليل المعتمد في إثبات استحقاق الله تعالى للعبودية دون ما سواه

- ‌المبحث السادس: منع المتأخرين من الأشاعرة حمل الآيات التي نزلت في المشركين على من عمل عملهم ممن انتسب إلى الإسلام

- ‌المبحث السابع: تبرير متأخري الأشاعرة بعض صور الشرك بأدلة عقلية

- ‌المبحث الثامن: صلة الأشعرية بالصوفية، وأثر هذه الصلة

- ‌المبحث الأول: المسائل المتعلقة بالأسماء الحسنى عند الأشاعرة

- ‌المبحث الثاني: المسائل المتعلقة بالصفات عند الأشاعرة

- ‌المطلب الأول: صفتا السمع والبصر:

- ‌المطلب الثالث: كلام الله

- ‌المسألة الأولى: نشأة قول الأشاعرة في كلام الله، وأسبابه

- ‌المسألة الثانية: الرد عليهم في قولهم بالكلام النفسي

- ‌المسألة الثالثة: هل كلام الله بحرف وصوت

- ‌المسألة الرابعة: القرآن العربي كلام الله وغير مخلوق

- ‌المطلب الرابع: بين اللفظية والأشاعرة

- ‌المطلب الخامس: الحقيقة والمجاز

- ‌المطلب السادس: الصفة النفسية

- ‌المطلب السابع: الصفات السلبية

- ‌المطلب الثامن: أسماء الله وصفاته التي تسمى واتصف بمثلها المخلوقون هل هي من قبيل المشترك أو المتواطئ أو المشكك

- ‌المطلب التاسع: هل الصفة هي الموصوف أو غيره

- ‌المطلب العاشر: قاعدة التنزيه في الصفات عند الأشاعرة

- ‌المطلب الحادي عشر: التفصيل في النفي مع الإجمال في الإثبات

- ‌المطلب الأول: الأدلة العقلية ومنزلتها من الاستدلال

- ‌المطلب الثاني: أنواع الأدلة العقلية:

- ‌المطلب الثالث: الأدلة النقلية ومنزلتها من الاستدلال

- ‌المطلب الرابع: توهم التعارض بين الأدلة النقلية والعقلية وما يسلكونه من الطرق عندئذ

- ‌المطلب الخامس: المسلكان المأخوذان تجاه الأدلة النقلية عند التعارض

- ‌المسلك الأول: مسلك التفويض:

- ‌المسلك الثاني: مسلك التأويل

- ‌المطلب السادس: هل قال الإمام أحمد بالتأويل

- ‌المطلب السابع: قاعدة: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر

- ‌المطلب الثامن: الرد عليهم في نفيهم للصفات الاختيارية

- ‌المطلب التاسع: أدلة نفاة الصفات الاختيارية ومناقشتها

- ‌المطلب العاشر: الصفات الاختيارية تفصيلا

- ‌المطلب الحادي عشر: الصفات الخبرية

- ‌المطلب الثاني عشر: العلو

- ‌المبحث الرابع: منشأ ضلال الأشاعرة في باب الصفات

- ‌المطلب الأول: معنى المتشابه، وهل الصفات أو بعضها منه

- ‌المطلب الثاني: منهج الأشاعرة في النفي في باب الصفات

- ‌المطلب الثالث: أن الصفات ليست من المتشابه

- ‌المطلب الرابع: أيهما الأصل العقل أم الشرع

- ‌المطلب الخامس: نقد القاعدة الكلية للرازي

- ‌المطلب السادس: فكرة التفريق بين العقائد والأحكام

- ‌المبحث الخامس: دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند فرق المبتدعة

- ‌المطلب الأول: شرح دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند الكلابية والأشعرية

- ‌المطلب الثاني: الرد على استدلال المبتدعة بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام على مذهبهم

- ‌المطلب الثالث: الرد الإجمالي على استدلال المبتدعة بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام على مذهبهم

- ‌المطلب الرابع: الرد التفصيلي على استدلال المبتدعة بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام على مذهبهم

- ‌المطلب الخامس: الرد على استدلال المبتدعة بقول إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: هَذَا رَبِّي [الأنعام: 76] على شرعية دليل الأعراض وحدوث الأجسام:

- ‌المطلب السادس: الرد على استدلال المبتدعة بقول الخليل عليه السلام: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76] على نفي قيام الصفات الاختيارية بذات الله تعالى

- ‌المطلب الأول: بيان موافقة أبي الحسن الأشعري للسلف في إثبات الصفات الخبرية لله تعالى كالوجه واليدين والعينين وإبطال تأويلها

- ‌المطلب الثاني: بيان موافقة أبي الحسن الأشعري للسلف في عدم التفريق بين صفة وأخرى

- ‌المطلب الثالث: بيان بطلان أن يكون للأشعري قولان في الصفات وبيان خطأ من حكى عنه ذلك

- ‌المطلب الرابع: اضطراب المنهج الأشعري وتناقضه في بعض مسائل توحيد الألوهية:

- ‌المطلب الخامس: اضطراب المنهج الأشعري وتناقضه في توحيد الأسماء والصفات

- ‌المطلب السادس: اضطراب المنهج الأشعري وتناقضه في الأدلة

- ‌المبحث الأول: انقطاع صلة الأشاعرة بأبي الحسن الأشعري في أكثر المسائل

الفصل: ‌الفصل الثاني: ترجمة لأهم أعلام الأشاعرة مع بيان منهجهم

‌الفصل الثاني: ترجمة لأهم أعلام الأشاعرة مع بيان منهجهم

أبو الحسن الطبري: توفي بحدود سنة 380هـ.

قال عنه السبكي: " كان من المبرزين في علم الكلام، والقوامين بتحقيقه،

وكان مفتنا في أصناف العلوم"، وذكر الأسنوي عن أبي عبد الله الأسدي أنه قال في كتاب (مناقب الشافعي):" كان شيخنا وأستاذنا أبو الحسن بن مهدي حافظا للفقه والكلام والتفاسير والمعاني وأيام العرب، فصيحا مبارزا في النظر ما شوهد في أيامه مثله، مصنفا للكتب في أنواع العلم، صحب أبا الحسن الأشعري في البصرة مدة"، ولم يؤرخ ولادته ولا وفاته، إلا أن الصفدي ذكر أنه توفي في حدود سنة 380هـ.

عقيدته:

بما أن علي بن محمد الطبري يعتبر من تلامذة الأشعري فهو يمثل مرحلة متوسطة بين الأشعري والباقلاني، وعرض عقيدته وآرائه يفيد في بيان مستوى النقلة من المؤسس الأول إلى أتباعه من بعده، وكيف تلقى تلاميذ الأشعري أقواله، وهل تابعوه فيها من خلال المرحلة الأولى من رجوعه أم المرحلة الأخيرة؟

1 -

كتب أبو الحسن الطبري في بداية كتابه ما يبين سبب تأليفه حين قال: " أما بعد فإنك كتبت إليّ شكوى مافشا بالناحية من معتقد الفرقة المنتسبة إلى الحديث، المنتحلة الأثر، حتى مالوا إلى قوم من ضعفة المسلمين بمعاهدتهم بالتلبيس والتمويه"، ثم يصف هؤلاء الذين يوردون الأخبار فقط بأنهم: "تقصر معرفتهم عن استخراج تأويلها

لقلة عنايتهم بمعرفة مصادر الكلام وموارده، وظاهره وباطنه، ومجازه وحقيقته واستعارته، وما يجوز إطلاقه في القديم ومالا يجوز إطلاقه"، ثم يقول عنهم:" قد قنع الواحد منهم من العلم برسمه، ومن الحديث بجمعه واسمه، فأبعد غاية هذه الطائفة أن يكتبوا أجزاء من الحديث وأجلادا من القصص ثم يقبلوا على تفسيرها بغير ما أذن الله بها".

ثم يذكر تأثير هؤلاء بأنهم: " يتقربون إلى الرعاع والهمج من أهل الحديث بذلك، وإن من عدل عن هذا المنهج والسير فقد خالف المشايخ والقدماء والأسلاف من العلماء".

ثم يذكر نماذج من الأحاديث التي يوردونها، ويبين أنه لابد من تفسيرها بـ:" ما يوافق المعقول من الأصول، والمعمول به من اللغات".

فأبو الحسن الطبري في هذه المقدمات يعرض بأهل الحديث ويستخدم المنهج العقلي في تأويل النصوص الدالة على الإثبات دون أن يفرق بين الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة والأحاديث الثابتة، بل واضح من كلامه أن حذره من التشبيه أكثر من حذره من التعطيل.

2 -

يحتج على إثبات الصانع بخلق الإنسان من نطفة ثم من علقة، ثم يحتج على الوحدانية بدليل التمانع، وهذه نفسها أدلة الأشعري، ويقول: إن الله ليس بجسم ويحتج لذلك بأن الله لم يسم نفسه به ولا اتفق المسلمون عليه، ويعلل منع إطلاقه بأن حقيقة منع إطلاقه بأن حقيقة الجسم أن يكون طويلا عريضا عميقا وهذا يخالف وصف الله بأنه واحد.

3 -

أما مذهب أبي الحسن الطبري في الصفات فقد فصله في كتابه، ويمكن تلخيص ذلك فيما يلي:

أ - بالنسبة للصفات الخبرية فهو يثبتها مع نفي أي دلالة فيها على التجسيم أو التبعيض - على حد زعمه - فمثلا حين يتكلم على صفة اليدين وقوله تعالى: وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67]، إن الطي أريد به الفناء والذهاب، ويذكر أدلة ذلك من الشعر ثم يقول:" ومن الناس من يقول: مطويات بيمينه أي ذاهبات بقسمه لأنه أقسم ليفنيها".

ويقول: إن الله راء بلا عين، ويرد على أدلة من يسميهم بالمشبهة الذين أثبتوا لله عينا ويتأول النصوص الواردة في ذلك من الكتاب والسنة، كما يتأول " القدم" ويذكر له عدة تأويلات ولا يثبت هذه الصفة كما يليق بالله تعالى.

ص: 220

ب - يثبت أبو الحسن الطبري صفة الاستواء والعلو لله تعالى، يقول:" اعلم عصمنا الله وإياك من الزيغ برحمته أن الله سبحانه في السماء فوق كل شيء، مستو على عرشه بمعنى أنه عال عليه، وبمعنى الاستواء الاعتلاء، كما يقول: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح يعني علوته، واستوت الشمس على رأسي واستوى الطير على قمة رأسي بمعنى علا في الجو فوجد فوق رأسي، والقديم جل جلاله عال على عرشه لا قاعد ولا قايم ولا مماس له ولا مباين، والعرش ما تعقله العرب وهو السرير، يريد بذلك أيضا على أنه في السماء عال على عرشه قوله سبحانه: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [الملك: 16]، وقوله تعالى: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: 55]، وقوله: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50]، وقوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، وقوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة: 5] "، ثم رد على البلخي وغيره من المعتزلة في تأويلهم الاستواء بالاستيلاء واحتجاجهم بقولهم: استوى بشر على العراق - وغيره - فقال: " فيقال لهم: ما أنكرتم أن يكون عرش الله جسما مجسما، خلقه وأمر ملائكته بحمله، وتعبدهم بتعظيمه كما خلق في الأرض بيتا وامتحن بني آدم بالطواف - حوله وبقصده من الآفاق، ويدل على ذلك قوله تعالى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر: 75]، وقال في موضع آخر: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة: 17]، ففي كل هذا دلالة أن العرش ليس بالملك وأنه سرير"، ثم قال:"ومما يدل على أن الاستواء ها هنا ليس بالاستيلاء أنه لو كان كذلك لم يكن ينبغي أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه، وليس للعرش مزية على ما (وصفت) "، فبان بذلك فساد قوله، ثم يقال له أيضا:"إن الاستواء ليس هو بالاستيلاء في قول العرب: استوى فلان على كذا أي استولى عليه، إذا تمكن منه بعد أن لم يكن متمكنا، فلما كان الباري سبحانه لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكنا لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء، وحدثنا الشيخ أبو عبد الله الأزدي الملقب بنفطويه قال: حدثنا أبو سليمان، قال كنا عن ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما معنى قوله سبحانه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، قال: إنه مستو على عرشه كما أخبر، فقال له الرجل: إنما معنى استوى استولى فقال له ابن الأعرابي: ما يدريك ما هذا، العرب لا تقول استوى على العرش حتى يكون فيه مضاد له، فأيهما غلب قيل: قد استولى عليه، والله سبحانه لا مضاد له، وهو مستو على عرشه كما أخبر، والاستيلاء يكون بعد المغالبة" ثم يقول: " فإن قيل فما تقول في قوله سبحانه: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: 16]، قيل له معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش، كما قال: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ [التوبة: 2]، أي على الأرض

".

ص: 221

وكلامه في ذلك طويل حيث رد على الذين يقولون: إن الله في كل مكان، كما رد على من تأول رفع المسلمين أيديهم إلى السماء عند الدعاء بأن ذلك لأن أرزاقهم في السماء أو لأن الملائكة الحفظة في السماء، فقال:"بأن ذلك لو جاز لجاز أن تخفض أيدينا في الأرض نحو الأرض من أجل أن الله تعالى يحدث فيها النبات والأقوات والمعايش وأنها قرار، ومنها خلقوا وإليها يرجعون، ولأنه يحدث فيها آيات كالزلازل والرجف والخسف، ولأن الملائكة معهم في الأرض، الذين يكتبون أعمالهم، فإذا لم يجب خفض الأيدي نحو الأرض لما وصفنا لم تكن العلة في رفعها نحو السماء ما وصفه البلخي، وإنما أمرنا الله تعالى برفع أيدينا قاصدين إليه برفعهما نحو العرش الذي هو مستو عليه كما قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ".

هذا رأي الطبري في مسألة العلو والاستواء، وهذه النصوص تدل على استقرار هذه المسألة وفق مذهب السلف عند تلامذة الأشعري، وهذا ما سنجده أيضا عند الباقلاني - كما سيأتي -.

جـ- يتأول أبو الحسن الطبري النصوص الواردة في الضحك والعجب، والفرح، ففي صفة الضحك الواردة في الأحاديث يذكر المعاني المجازية للضحك مثل قول العرب ضحكت الأرض إذا تبدى نباتها، وضحك طلع النخل إذا بدا كافوره، ويقال هذا طريق ضاحك أي ظاهر واضح، ثم يقول: "فمرجع الضحك في هذا كله إلى البيان، ومعنى الخبر والله أعلم بالمراد: يضحك الله أي يبين الله ثواب هذين الرجلين المقتولين

فإذا وجدنا للضحك معنى صحيحا تعرفه العرب في لغتها غير الكشر عن الأسنان عند حلول التعجب منه كانت إضافة ذلك إلى ربنا سبحانه أولى مما أضافت إليه المشبهة، نعوذ بالله من الحيرة في الدين وهو ولي المعونة"، وهذا تأويل واضح لهذه الصفة، وفي صفة العجب يذكر عدة تأويلات منها: أن معنى عجب ربك أي عظم عنده، وقيل معناه رضي وأثاب، وقيل: جازاه على عجبه، ولا يذكر إثبات هذه الصفة كما يليق بجلال الله وعظمته، كما يؤول الفرح بالرضا.

ص: 222

د- أما الصفات الاختيارية التي تقوم بالله تعالى كالنزول والمجيء والإتيان فيتأولها ولا يثبتها كما يليق لله وعظمته، وهذا بناء على نفي حلول الحوادث، يقول عن النزول: "ولا يجوز حمل ذلك على النزول والنقلة

لما فيه من تفريغ مكان وشغل آخر، والقديم قد جل أن يكون موصوفا بشيء من ذلك، كذلك وقد حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام: 76]"، واحتجاجه بهذه الآية هنا هو احتجاج جمهور الأشاعرة الذين يزعمون أن إبراهيم عليه السلام استدل بتغير وتحرك النجم على أنه لا يصلح أن يكون إلها، وبنوا على ذلك نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى. ويقول أبو الحسن الطبري عن الإتيان والمجيء، "فإن قيل: فما تقول في قوله تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 26]، وفي قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر:] 2 وفي قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة: 210]، وفي قوله تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:26]، وفي قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22]، وفي قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة: 210]، قيل له: إن الله سبحانه قد صح أنه لا يجوز وصفه بالإتيان والمجيء الذي بمعنى الانتقال والزوال، إذ كان ذلك من صفات الأجسام تعالى الله أن يكون جسما أو عرضا، وكلام العرب واسع له ظهر وبطن لاتباع العرب في المجازات وطرق الكلام. ومعنى البيان في قوله: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ [النحل: 26]، الاستئصال في الهلاك والدمار بإرساك العذاب

وأما قوله: وَجَاءَ رَبُّكَ، فمعناه جاء حكم ربك وأمر ربك، ألا ترى أن الخاص والعام يقول: ضرب الأمير زيدا، وإن كان الأمير لم يباشر زيدا بالضرب، بل كان ذلك بأمره وحكمه عليه، وقد قال الله تعالى في قصة لوط فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ [القمر: 37]، وإن كان الطمس للأعين للملائكة بأمر الله، وأما قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة:210]، فمعناه هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالحساب في ظلل من الغمام، يراد به بظلل من الغمام، وأن الفاء بمعنى الباء

"، هذا هو مذهبه في تأويل هذه الصفات.

4 -

يثبت أبو الحسن الطبري الرؤية ويرد على المعتزلة المنكرين لها، لكن الملاحظ أنه أورد سؤالا حولها يتعلق بأنه يلزم من إثباتها المقابلة، فأجاب بما يدل على أنه يقول بأنه لا يلزم من الرؤية المقابلة، ومما قاله - وهو يرد على المعتزلة - "وقد زعمتم أن معنى ترون ربكم: تعلمون ربكم، ولم تلزموا أنفسكم أنكم تعلمونه مقابلا لكم".

5 -

هذه أقوال أحد تلامذة الأشعري، ممن جاء قبل الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري، وهذه النصوص التي نقلت من كلام أبي الحسن الطبري تمثل مرحلة جاءت بين علمين مهمين من أعلام الأشاعرة.

‌المصدر:

موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 2/ 516

الباقلاني: ت 403 هـ.

حياته: هو الإمام القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر قاسم البصري، ثم البغدادي، ابن الباقلاني، لم يعرف تاريخ ولادته، كان من أهل البصرة، وسكن بغداد، وقد كانت وفاته سنة 403 هـ.

ص: 223

مجمل عقيدته ومنهجه، ودوره في تطوير المذهب الأشعري:1ـ يبتدئ الباقلاني كتبه بالحديث عن المقدمات حول حقيقة العلم ومعناه، فيذكر أن حده "معرفة المعلوم على ما هو به"(1)، ثم يقسم العلوم إلى قسمين: علم الله القديم، وعلم الخلق، ويقسم علم الخلق إلى علم اضطرار وعلم نظر واستدلال، ثم يشرح ذلك، ثم يذكر الاستدلال فيعرفه، ثم يعرف الدليل ويقسمه إلى ثلاثة أقسام: عقلي، وسمعي شرعي، ولغوي. ثم يذكر أقسام المعلومات وأنها قسمان: معدوم وموجود ولا ثالث لهما.

ثم يقسم الموجودات ويقول: إنها ضربين: قديم لم يزل ومحدث لوجوده على أول، ثم يقسم المحدثات إلى ثلاثة أقسام: جسم مؤلف، وجوهر منفرد، وعرض موجود بالأجسام والجواهر.

فالباقلاني يقول بالجوهر الفرد ويدلل على إثباته بـ "علمنا بأن الفيل أكبر من الذرة، فلو كان لا غاية لمقادير الفيل ولا لمقادير الذرة لم يكن أحدهما أكثر مقادير من الآخر، ولو كان كذلك لم يكن أحدهما أكبر من الآخر".

كما يرى الباقلاني أن الأعراض لا يصح بقاؤها فهي لا تبقى زمانين.

2ـ ويرى أن أول الواجبات النظر فيقول: "أول ما فرض الله عز وجل على جميع العباد: النظر في آياته والاعتبار بمقدوراته والاستدلال عليه بآثار قدرته، وشواهد ربوبيته؛ لأنه سبحانه غير معلوم باضطرار، ولا مشاهد بالحواس، وإنما يعلم وجوده وكونه على ما تقتضيه أفعاله بالأدلة القاهرة، والبراهين الباهرة".

3ـ يذكر دليل حدوث العالم، ويستدل لذلك بدليل حدوث الأجسام ويبنيه على دليل ثبوت الأعراض، فيذكر دليل ثبوت الأعراض، ثم يذكر أنها حادثة، ويستدل على ذلك ببطلان الحركة عند مجيء السكون، ثم يذكر دليل حدوث الأجسام وهو أنها لم تسبق الحوادث، ولم توجد قبلها، وما لم يسبق المحدث، ويفصل القول في ذلك. والباقلاني يرى ضرورة دليل حدوث الأجسام، وأن الأشعري لا يرى هذا الدليل ضرورياً وأن الرسل لم تدع إليه، وذلك في (رسالته إلى أهل الثغر)، لكن الباقلاني في شرحه لـ (اللمع) - للأشعري - يفسر كلامه في إثبات الصانع واستدلاله على ذلك بالنطفة وتغيرها وانتقالها من حال إلى حال فيقول: "اعلم أن هذا الذي ذكره هو المعول عليه في الاستدلال على حدوث الأجسام

" (2)، ويرى الباقلاني أن الخليل عليه السلام احتج بهذا الدليل في قوله: هَذَا رَبِّي [الأنعام:76]، والآيات بعدها.

4ـ ويحتج لإثبات الصانع بأن الكتابة لا بد لها من كاتب، ولا بد للصورة من مصور، وللبناء من بان، ويستدل أيضاً بوجود المحدثات متقدمة ومتأخرة مع صحة تأخر المتقدم وتقدم المتأخر، كما يحتج لإثبات وحدانيته بدليل التمانع ويحتج له بقوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22].

5ـ أما رأيه في الصفات فيمكن توضيحه كما يلي:

(1)((التمهيد)) (ص 6) و ((الحرة)) (ص13).

(2)

((شرح اللمع)) عن ((الدرء)) لابن تيمية (8/ 315) وانظر ((التمهيد)) (ص 48،49، 301)، ((الحرة)) (ص30).

ص: 224

أـ يثبت الباقلاني الصفات عموماً ولا يقتصر على إثبات الصفات السبع، ويقسم الصفات إلى صفات ذات وصفات فعل فيقول:" صفات ذاته هي التي لم يزل ولا يزال موصوفاً بها، وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان، والغضب والرضى، وهما الإرادة على ما وصفناه - وهي الرحمة والسخط والولاية والعداوة والحب والإيثار والمشيئة - وإدراكه تعالى لكل جنس يدركه الخلق من الطعوم والروائح والحرارة والبرودة وغير ذلك من المدركات، وصفات فعله هي الخلق والرزق، والعدل، والإحسان والتفضل والإنعام، والثواب والعقاب، والحشر والنشر، وكل صفة كان موجوداً قبل فعله لها، غير أن وصفه لنفسه بجميع ذلك قديم، لأنه كلامه الذي هو قوله: إني خالق رازق باسط، وهو تعالى لم يزل متكلماً بكلام غير محدث ولا مخلوق".

ويتبين من ذلك أنه يثبت الصفات لله تعالى، ولا يفرق بين الصفات العقلية والصفات الخبرية.

ب ـ يستدل للصفات السبع وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة بأدلة نقلية وعقليه؛ ففي (التمهيد) يقتصر على الأدلة العقلية لهذه الصفات، أما في (رسالة الحره) فيحتج بالأدلة من القرآن وبأدلة العقول.

جـ ـ يؤول صفات الغضب والرضى بأن المقصود بهما: إرادته لإثابة المرضي عنه وعقوبة المغضوب عليه، وهو بذلك يقول بقول الأشعري - كما سبق -.

د ـ يرى أن صفة البقاء من صفات الذات لله، وأنه ليس باقياً ببقاء، فهي صفة نفسية وليست صفة زائدة على الذات.

هـ ـ يثبت الصفات الخبرية لله تعالى كالوجه واليدين والعينين، يقول:"وأخبر أنه ذو الوجه الباقي بعد تقضي الماضيات، كما قال عز وجل: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]، وقال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27]، واليدين اللتين نطق بإثباتهما له القرآن في قوله عز وجل: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة: 64]، وقوله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، وإنهما ليستا بجارحتين، ولا ذوي صورة وهيئة، والعينين اللتين أفصح بإثباتهما من صفاته القرآن، وتواترت بذلك أخبار الرسول عليه السلام، فقال عز وجل: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39]، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14]،وإن عينه ليست بحاسة من الحواس، ولا تشبه الجوارح والأجناس"، وفي (التمهيد) يستدل ببعض هذه الأدلة، ثم يرد على من أول اليدين بالقدرة أو النعمة فيقول:" يقال لهم: هذا باطل، لأنه قوله: " بيدي" يقتضي إثبات يدين هما صفة له، فلو كان المراد بهما القدرة، لوجب أن يكون له قدرتان وأنتم فلا تزعمون أن للباري سبحانه قدرة واحدة، فكيف يجوز أن تثبتوا له قدرتين؟ وقد أجمع المسلمون، من مثبتي الصفات والنافين لها على أنه لا يجوز أن يكون له تعالى قدرتان، فبطل ما قلتم، وكذلك لا يجوز أن يكون الله تعالى خلق آدم بنعمتين؛ لأن نعم الله تعالى على آدم وعلى غيره لا تحصى

"، وكلام الباقلاني يدل على أنه في زمنه لم يكن أحد يؤول اليدين بالقدرة إلا المعتزلة، ولهذا قال لهم: "وأنتم لا تزعمون أن للباري قدرة واحدة"، وعلى ذلك فالتأويل لهذه الصفات - أعني صفة الوجه واليدين والعين - عند الأشعرية جاء بعد الباقلاني.

ص: 225

وـ كما يثبت الباقلاني صفة العلو والاستواء لله تعالى، ويرد على الذين يؤولون الاستواء بالاستيلاء، وعلى الذين يقولون إن الله في كل مكان، يقول:" فإن قالوا: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ لله، بل هومستو على العرش، كما أخبرّ في كتابه فقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، وقال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، وقال: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [الملك: 16]، ولو كان في كل مكان لكان في جوف الإنسان وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها تعالى عن ذلك، وأوجب أن يزيد بزيادة الأماكن إذا خلق منها ما لم يكن خلقه، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وشمائلنا، وهذا ما قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله"، ثم يرد على من اعترض بالنصوص الدالة على أن الله في السماء إله وفي الأرض إله، وأنه مع المؤمنين وغيرها من النصوص الدالة على المعية، ويبين أنه لا دلالة فيها. ثم يقول: " ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه، كما قال الشاعر:

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف أو دم مهراق

لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر، والله تعالى لم يزل قادراً قاهراً، عزيزاً مقتدراً، وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [لأعراف: 54]، يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن فبطل ما قالوه".

والباقلاني وإن كان يثبت الاستواء والعلو إلا أنه يرى عدم إطلاق الجهة على الله تعالى، يقول:"يجب أن يعلم أن كل ما يدل على الحدوث أو على سمة النقص فالرب تعالى يتقدس عنه، فمن ذلك: أنه تعالى متقدس عن الاختصاص بالجهات والانصاف بصفات المحدثات، وكذلك لا يوصف بالتحول والانتقال، ولا القيام ولا القعود، لقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11]، وقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الاخلاص: 4]، ولأن هذه الصفات تدل على الحدوث، والله تعالى تقدس عن ذلك، فإن قيل: أليس قد قال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]، قلنا: بلى، قد قال ذلك، ونحن نطلق ذلك وأمثاله على ما جاء في الكتاب والسنة لكن ننفي عنه أمارة الحدوث، ونقول: استواؤه لا يشبه استواء الخلق، ولا نقول: إن العرش له قرار ولا مكان، لأن الله تعالى كان ولا مكان، فلما خلق المكان لم يتغير عما كان"، ثم ينقل عن أبي عثمان المغربي أنه قال:" كنت أعتقد شيئاً من حديث الجهة، فلما قدمت بغداد وزال ذلك عن قلبي، فكتبت إلى أصحابنا: إني قد أسلمت جديداً". ولفظ الجهة -كما سيأتي - لفظ مجمل.

زـ أما رأيه في كلام الله تعالى فهو يقول: " اعلم أن الله تعالى متكلم، له كلام عند أهل السنة والجماعة، وأن كلامه قديم، ليس بمخلوق ولا مجعول ولا محدث، بل كلامه قديم، صفة من صفات ذاته، كعلمه وقدرته وإرادته ونحو ذلك من صفات الذات، ولا يجوز أن يقال: كلام الله عبارة ولا حكاية

"، ويقول: " ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف على الحقيقة"، و"مسموع لنا على الحقيقة لكن بواسطة وهو القاري"، وحقيقة الكلام عنده - على الإطلاق في حق الخالق والمخلوق - " إنما هو المعنى القائم بالنفس، لكن جعل لنا دلالة عليه تارة بالصوت والحروف نطقاً، وتارة بجمع الحروف بعضها إلى بعض كتابة دون الصوت ووجوده، وتارة إشارة ورمزاً دون الحرف والأصوات ووجودهما "، وكلام الله عنده ليس بحروف ولا أصوات، ولا يحل في شيء من المخلوقات.

ص: 226

هذه خلاصة أقوال الباقلاني في كلام الله، ولكن إذا كان الكلام هو المعنى القائم في النفس، فالكلام النازل علينا كلام من؟، سبق قبل قليل أن الباقلاني يقول: إن كلام الله مكتوب في المصاحف على الحقيقة، ومتلو بالألسن على الحقيقة، لكنه بعد ذلك يقول كلاماً خطيراً حيث يزعم

إن كلام النازل كلام جبريل، يقول الباقلاني:" ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى منزل على قلب النبي نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال"، ثم يقول بعد كلام: "والنازل على الحقيقة المنتقل من قطر إلى قطر قول جبريل عليه السلام، يدل على ذلك قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ الأيات: [الحاقة 38 - 43]، وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ

الآيات: [التكوير:15 - 29]، يقول الباقلاني معلقاً على هذا:"هذا إخبار من الله تعالى بأن النظم العربي الذي هو قراءة كلام الله تعالى قول جبريل لا قول شاعر ولا قول كاهن"، ثم يقول - بعد كلام- "فحاصل هذا الكلام أن الصفة القديمة كالعلم والكلام ونحو ذلك من صفات الذات، لا يجوز أن تفارق الموصوف، لأن الصفة إذا فارقت الموصوف اتصف بضدها، والله تعالى متنزه عن الصفة وضدها، فافهم ذلك، فجاء من ذلك أن جبريل عليه السلام علم كلام الله وفهمه، وعلمه الله النظم العربي الذي هو قراءته، وعلم هو القراءة نبينا، وعلم النبي أصحابه

لكن المقروء والمتلو هو كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا يشبه كلام الخلق ".

وهذا كلام عجيب، ولا شك أن الباقلاني متابع في هذا الأصل لشيوخه الأشاعرة.

ح ـ أما مسألة الصفات الاختيارية القائمة بالله تعالى، وهي المسماة بمسألة حلول الحوداث، فالباقلاني ينفيها بقوة، ويدل على ذلك:

1ـ قوله في النص السابق لما ذكر الصفات الفعلية قال: غير أن وصفه لنفسه بجميع ذلك قديم، لأنه كلامه الذي هو قوله: إني خالق، رازق، باسط، وهو تعالى لم يزل متكلماً بكلام غير محدث ولا مخلوق" فهو لا يرى أن الصفات الفعلية تقوم بالله، بل يجعل أمر الله وقوله أزلياً، وهو كلامه، أما المخلوق فهو منفصل عن الله لا يقوم به.

2ـ قوله عن صفات الله: "إنه لا يجوز حدوثها له، لأن ذلك يوجب أن تكون من جنس صفات المخلوقين، وأن تكون ذات أضداد كصفات المخلوقين، وأن يكون الباري سبحانه قبل حدوثها موصوفاً بما يضادها وينافيها من الأوصاف، ولو كان ذلك كذلك، لوجب قدم إضدادها، ولاستحال أن يكون القديم سبحانه موصوفاً بها في هذه الحال، وأن يوجد منه من ضروب الأفعال ما يدل على كونه عالماً قادراً حياً، وفي بطلان ذلك دليل على قدم هذه الصفات وأن الله سبحانه لا يجوز أن يتغير بها ويصير له حكم لم يكن قبل وجودها، إذ لا أول لوجودها" ويقول في كلامه عن نفي السنة والنوم عن الله عز وجل: "والمعتمد في هذا أنه سبحانه ذكر السنة والنوم تنبيهاً على أن جميع الأعراض ودلالات الحدوث لا تجوز عليه".

3ـ ويقطع في هذه المسألة عند كلامه عن كلام الله والرد على القول بخلق القرآن فيقول: "ويستحيل من قولنا جميعاً أن يفعله في نفسه تعالى لأنه ليس بمحل للحوادث".

ص: 227

4ـ ومن ذلك قوله في صفة المجيء والإتيان فقد ذكر فيهما عدة أقوال، وكلها ذكر فيها ما يدعم قوله في نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، يقول عن المخالفين المعترضين على آيات القرآن: "واعترضوا أيضاً (بـ) قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً [الفجر: 22]، وقوله: يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة:210]، قالوا: والمجيء والإتيان حركة وزوال وذلك عندهم محال في صفته، فالجواب عن هذا عند بعض الأمة: أنه يجيء ويأتي بغير زوال ولا انتقال ولا تكييف، بل يجب تسليم ذلك على ما ورد وجاء به القرآن، والجواب الآخر أنه يفعل معنى يسميه مجيئاً وإتياناً، فيقال: جاء الله، بمعنى أنه فعل فعلاً كأنه جائياً، كما يقال: أحسن الله وأنعم وتفضل، على معنى أنه فعل فعلاً استوجب به هذه الأسماء، ويمكن أن يكون أراد بذلك إتيان أمره وحكمه والأهوال الشديدة التي توعدهم بها وحذرهم من نزولها، ويكون ذلك نظيراً لقوله عز وجل: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: 2]، ولا خلاف في أن معنى هذه الآية: أنها أمره وحكمه إياهم، وعقوبته ونكاله، وكذلك قوله: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ [النحل: 26].

فهذه ثلاثة أقوال في معنى المجيء والإتيان: أحدهما: التسليم بهاتين الصفتين بشرط نفي ما يدل على قيام الحوادث بالله بحيث تكون بغير زوال ولا انتقال.

والثاني: جعلهما من صفات الفعل المنفصلة عن الله لا تقوم به مثل خلقه الخلق وإحسانه إليهم، وهذا يوافق ما نسب إليه من قوله عن الاستواء: إنه فعل فعله الله في العرش سماه استواء، وقد سبقت الإشارة إليه، والثالث: التأويل كما هو مذهب متأخري الأشعرية.

5ـ والباقلاني ممن يقول بالأحوال، ولكنه يخالف أبا هاشم الجبائي المعتزلي - أول من قال بالحال - في قوله: إن الحال لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، بل يرى أنها معلومة، ويرد ردوداً طويلة على الجبائي، ويقول بعد تقريره أن الحال لابد أن تكون معلومة:"وإن كانت هذه الحال معلومة، وجب أن تكون إما موجودة أو معدومة، فإن كانت معدومة استحال أن توجب حكماً وأن تتعلق بزيد دون عمرو، ويالقديم دون المحدث، وإن كانت موجودة وجب أن تكون شيئاً وصفة متعلقة بالعالم، وهذا قولنا الذي نذهب إليه إنما يحصل الخلاف في العبارة وفي تسمية هذا الشيء علماً أو حالاً، وليس هذا بخلاف في المعنى فوجب صحة ما نذهب إليه في إثبات الصفات"، وقد عرف الشهرستاني الحال عند القاضي بأنها:" كل صفة لموجود لا تتصف بالوجود فهي حال، سواء كان المعنى الموجب مما يشترط في ثبوته الحياة أو لم يشترط ككون الحي حياً وعالماً وقادراً وكون المتحرك متحركاً والساكن ساكناً والأسود والأبيض إلى غير ذلك ".

والباقلاني بذلك يعتبر من أوائل من قال بالحال من الأشاعرة، ومن المعلوم أن أبا الحسن الأشعري ممن ينكر الأحوال، والباقلاني يثبت الصفات ويقول بالأحوال إلا أنه يخص الأحوال بالأمور التي تتصف بالوجود كالعرضية واللونية والاجتماع والافتراق والقادرية والعالمية وغيرها مما به تتفق المتماثلات، وتختلف المختلفات، على أنه قد ذكر رجوعه عن القول بها.

ص: 228

6ـ أما رأيه في القدر فهو لا يختلف عن رأي الأشاعرة فهو يثبت القدر من الله تعالى وأن الله خالق كل شيء، كما أنه يقول بالموافاة وأن الله رضي في الأزل عمن علم أنه يموت مؤمناً وإن عاش أكثر عمره كافراً، وسخط في الأزل عمن علم أنه يموت كافراً وإن كان أكثر عمره مؤمناً، وهذا بناء على أنه ينفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، أما الاستطاعة والقدرة فلا تكون إلا مع الفعل، لكن الباقلاني خالف شيخه الأشعري بأن قال: إن قدرة العبد مؤثرة، يقول: "فإن قالوا: إن قلتم إن القادر منا على الفعل لا يقدر عليه إلا في حال حدوثه، ولا يقدر على تركه وفعل ضده، لزمكم أن يكون في حكم المطبوع المضطر إلى الفعل، قيل لهم: لا يجب ما قلتم لأنه ليس ها هنا مطبوع على كون شيء أو تولد عنه، أما المضطر إلى الشيء فهو المكره المحمول على الشيء الذي يوجد به، شاء أم أبى، والقدر على الفعل يؤثره ويهواه ولا يستنزل عنه برغبة ولا رهبة فلم يجز أن يكون مضطراً مع كونه مؤثراً مختاراً

"، وهذا يوافق ما ذكره عنه الشهرستاني، كما أنه ينفي تعليل أفعال الله كقول الأشاعرة، ويقول بالكسب، كما أنه يقول بإنكار الضرورة بين العلة والمعلول، ويرى إنكار السببية، وربط الأمر كله بالله، فالإحراق لا يكون بالنار وإنما يقع عندها لا بها، وهذا مبدأ السببية الذي اشتهر إنكاره عند الأشاعرة.

7ـ يثبت الرؤية بالنصوص الواردة، والله يرى لأنه موجود، ولكنه مع أنه يقول بالعلو والاستواء إلا أنه يلمح إلى أن الله تعالى يرى وليس حالاً في مكان أو مقابلاً أو خلفاً، أو عن يمين أو عن شمال، وهذه عبارات استخدمها نفاة العلو ممن يقول بالرؤية.

8 ـ أما الإيمان فهو عنده التصديق بالله تعالى، وهو العلم. والتصديق يوجد بالقلب، ويستدل لذلك بإجماع أهل اللغة قاطبة، وبأن الإيمان قبل بعثة النبي هو التصديق، كما يستدل بقوله تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: 17] وبقولهم: فلان يؤمن بالشفاعة أي يصدق، ويرى أن "ما يوجد من اللسان وهو الإقرار، وما يوجد من الجوارح وهو العمل، فإنما ذلك عبارة في القلب ودليل عليه".

ولا ينكر الباقلاني أن يطلق القول على الإيمان بأنه عقد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان، ويفسر ذلك بأن المقصود به الإيمان الذي ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة، كما أنه لا ينكر أن يطلق على الإيمان أنه يزيد وينقص على أن يرجع ذلك إما إلى القول والعمل دون التصديق، أو إلى الثواب والجزاء والمدح والثناء دون التصديق الذي إذا انخرم منه شيء بطل الإيمان.

9ـ أما الإمامة فيذهب فيها إلى ما يذهب إليه السلف، وله في (التمهيد) بحوث طويلة في الدفاع عن الصحابة، وخاصة عثمان وعلياً رضي الله عنهما، كما أنه يثبت إمامة الخلفاء الأربعة على الترتيب، ويرد على الرافضة ودعاواهم الباطلة.

10ـ ومن الأمور التي ركز عليها الباقلاني مسألة المعجزات، والفرق بينها وبين الكرامات والسحر، وقد فصل رأيه في ذلك في كتابه المتعلق بهذا الموضوع.

ويمكن تلخيص رأيه فيها بما يلي:

أـ أن الدلالة على صدق الرسول لا تتم إلا بالمعجزة، "فمتى أهله الله لهذه المنزلة وأحلّه في هذه الرتبة وألزم الأمم العلم بنبوته والتصديق بخبره، لم يكن بد له من آية تظهر على يده ما يفصل بها المكلفون لصدقه بينه وبين الكاذب المتنبئ، وإلا لم يكن لهم إلا فعل العلم بما كلفوه من صدقه وتعظيمه، والقطع على ثبوت نبوته وطهارة سريرته سبيل

وقد اتفق على أنه لا دليل يفصل بين الصادق والكاذب في إدعاء الرسالة إلا الآيات المعجزة "، ومعنى هذا إن الدلائل الأخرى العديدة للنبوات - غير المعجز الخارق للعادة - لا يثبت بها صدق الأنبياء.

ص: 229

ب ـ والمعجز لا يكون معجزاً "حتى يكون مما ينفرد الله عز وجل بالقدرة عليه ولا يصح دخوله تحت قدر الخلق من الملائكة والبشر والجن، ولابد أن يكون ذلك من حقه وشرطه "، ويعرض الباقلاني للرأي الآخر لبعض أصحابه الأشاعرة وجمهور القدرية وهو جواز أن يكون المعجز مما ينفرد الله بالقدرة عليه، كما يجوز أن يكون مما يدخل جنسه تحت قدر العباد، ومثال الأول: اختراع الأجسام وإبداع الجوارح والأسماع والأبصار، ورفع العمى، والزمانة وغيرهما من العاهات والضرب الآخر: شيء يقع مثله وما هو من جنسه تحت قدرة العباد، غير أنه يقع من الله على وجه يتعذر على العباد مثله، وذلك نحو تفريق أجزاء الجبال الصم، ورفعها إلى السماء، وتغييض ماء البحار، وحنين الجذع، ونظم القرآن

، ويرى الباقلاني أن هذا القول ليس ببعيد، لكنه يقيد ذلك بأن يمنعوا وأن يرفع عنهم القدرة على فعل مثل ذلك الذي جاء به النبي، ويمثل لذلك بأن النبي لو قال:"آيتي وحجتي أنني أقوم من مكاني وأحرك يدي، وأنكم لا تستطيعون مثل ذلك، فإذا منعوا من فعل مثل ما فعله، كانت الآية له خرق العادة بخلق المنع لهم من القيام وتحريك الجوارح ورفع قدرهم على ذلك مع كونه معتاداً من أفعالهم".

جـ ـ أما شروط المعجزة عنده فهي:

1ـ أن تكون مما ينفرد الله بالقدرة عليه.

2ـ أن يكون ذلك الذي يظهر على أيديهم خارقاً للعادة.

3ـ أن يكون غير النبي (ممنوعاً من إظهار ذلك على يده).

4ـ أن يقع عند تحدي النبي وادعائه النبوة وأن ذلك آية له.

د ـ ولكن كيف يفرق بين المعجزة وبين حيل المشعوذين وأصحاب الخوارق الشيطانية؟ يجيب الباقلاني بما أجاب به سابقاً، من أن معجزات الرسل لا يصح أن يقدر عليها إلا الله تعالى مثل إحياء الموتى واختراع الأجسام.

وكذلك بالنسبة لما يأتي به الساحر، ولكنه يقول:"إن الساحر إذا احتج بالسحر وادعى به النبوة أبطله الله تعالى عليه بوجهين: أحدهما: أنه إذا علم ذلك في حال الساحر وأنه سيدعي به النبوة أنساه عمل السحر جملة. والثاني: أن يجند خلق من السحرة يفعلون مثل فعله ويعارضونه بأدق مما أورده فينتقض بذلك ما ادعاه، أما الفرق بين المعجزة والكرامة فليس موجوداً في المطبوعة الناقصة من البيان، ولكن الباقلاني، ذكر ذلك في رسالته لأحد العلماء، وذكر فيها أن الفرق هو أن الأمر الخارق للنبي مقرون بالتحدي والاحتجاج، وأن صاحب الكرامة لا يدعي النبوة بكرامته ولو علم الله أنه يدعي بها النبوة لما أجراها على يديه".

دور الباقلاني في تطور المذهب الأشعري:

يعتبر الباقلاني المؤسس الثاني للمذهب الأشعري؛ والباقلاني تلميذ لتلامذة الأشعري فهو قريب العهد به، وعلى الرغم من أن تلامذة الأشعري كانوا أقوياء وذوي تأثير واسع إلا أن أحداً منهم لم يبلغ ما وصل إليه الباقلاني، ولعل الفترة التي عاشها الأشعري وتلامذته كان السائد فيها المذهب الكلابي، فكان المذهبان متداخلين، والأشعري وغيره من معاصريه كانوا تلامذة لابن كلاب، وتلامذة هؤلاء لم يتميزوا كأشاعرة وإنما كانوا كلابية لأن تتلمذهم لم يكن مقتصراً على الأشعري، وإنما كان عليه وعلى غيره من الكلابية، وهذا حسب الأغلب فقط.

فلما جاء الباقلاني جرد نفسه لنصرة أبي الحسن الأشعري ومذهبه، والعمل على دعمه بأوجه جديدة من الحجاج والمناظرات، وقد تمثل ذلك بعد طرق أهمها:

1ـ أن الباقلاني ربط اسمه بالأشعري، فصار علماً عليه يذكر في نسبه فيقال: أبو بكر بن الطيب الباقلاني الأشعري، وهذا موجود في الكتب التي ترجمت له، وفي صور عناوين مخطوطات كتبه، ولحماسة في الانتساب إلى الأشعري ونصرة مذهبه عده الأشاعرة المجدد على رأس المئة الرابعة بعد الأشعري الذي يعتبرونه مجدد المئة الثالثة.

ص: 230

2ـ مع انتسابه إلى الأشعري وطد علاقته بالحنابلة، تبعاً لأبي الحسن الأشعري الذي أعلن في (الإبانة) رجوعه إلى قول الإمام أحمد، وقد وصل الأمر بالباقلاني إلى أنه كان يكتب أحياناً في أجوبته: محمد بن الطيب الحنبلي، كما كان يكتب: الأشعري؛ لأن الأشعري وأصحابه كانوا منتسبين إلى الإمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة.

وكانت علاقة الباقلاني بالتميميين الحنابلة قوية، ويذكر ابن عساكر وغيره نماذج لهذه العلاقات الوطيدة بينهم، وقد استفاد الباقلاني من ذلك سمعة طيبة عند الحنابلة مع أنه أشعري جلد، كما أن بعض الحنابلة كالتميميين مالوا إلى بعض أقوال الأشاعرة، ولا شك أن علاقتهم بالباقلاني صاحب البلاغة والفصاحة والحجج المنطقية كان لها تأثير في ذلك.

3ـ حرص الباقلاني على مناقشة المبتدعة من المعتزلة وغيرهم، ومناظرتهم مناظرة علنية أمام السلاطين، ولذلك لما جاء خطاب عضد الدولة يدعوه إلى مجلسه في شيراز قال شيخ الباقلاني أبو الحسن الباهلي - وفي رواية أبو بكر بن مجاهد - وبعض أصحابه: هؤلاء قوم كفرة، فسقة، لأن الديلم كانوا روافض، لا يحل لنا أن نطأ بساطهم وليس غرض الملك من هذا إلا أن يقال: إن مجلسه مشتمل على أصحاب المحابر كلهم، ولو كان خالصاً لله لنهضت، قال القاضي (الباقلاني): فقلت لهم: كذا قال ابن كلاب، والمحاسبي، ومن في عصرهم: إن المأمون فاسق، لا يحضر مجلسه، حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس، وجرى عليه بعده ما عرف، ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر، وتبين لهم ما هم عليه من الحجة، وأنت أيضاً أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد، ويقولون بخلق القرآن، ونفي الرؤية، وها أنا خارج إن لم تخرج، فقال الشيخ: إذا شرح الله صدرك لهذا فاخرج، فخرجت مع الرسول إلى شيراز، وكان من نتيجة ذلك تلك المناظرات مع المعتزلة في مجلس عضد الدولة، ولما انتصر عليهم قربه الملك وأمره أن يعلم ولده، فألف له (التمهيد)، كما أن عضد الدولة أرسله إلى ملك الروم وجرت له مناظرات عديدة مع النصارى اشتهرت حكاياتها عند الناس.

فالباقلاني حين عزم على مناقشة المعتزلة، ومناظراتهم كان ذلك بناء على منهج اختطه لنفسه، ورأى أنه وسيلة لازمة لمقاومة مخالفيه من أهل البدع، ولذلك نعى على شيوخه كابن كلاب والمحاسبي حين تركوا المأمون ومن معه من أهل الاعتزال يفرضون على الناس مقالتهم الاعتزالية، وحين يضرب الباقلاني المثل بهذين كان يقصد أن تمكنهما من علم الكلام يعطيهما قدرة على مناقشة المعتزلة أصحاب الكلام والجدل العقلي فهو يرى أن الواجب عليهما أكبر من غيرهما.

ص: 231

4ـ كان للباقلاني دور واضح في تطوير المذهب الأشعري، ويكاد يجمع جميع الباحثين على أن له دوراً في ذلك، يقول ابن خلدون:"وكثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري، واقتفى طريقته من بعده تلميذه، كابن مجاهد وغيره، وأخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني، فتصدر للإمامة في طريقتهم، وهذبها، ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار، وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد، والخلاء، وإن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمانين، وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم، وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول" ثم يعقب ابن خلدون مشيراً إلى الظروف التاريخية للقول بهذه الأمور، فيقول:"وجملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية، إلا أن صور الأدلة فيها جاءت بعض الأحيان على غيرالوجه القناعي لسذاجة القوم، ولأن صناعة المنطق التي تسير بها الأدلة وتعتبر بها الأقيسة لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشيء، لم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة لعقائد الشرع بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك"، ويرى الدكتور إبراهيم مدكور أنه يعتبر:"الخليفة للأشعري، وأنه تأثر بالمعتزلة، فاعتنق نظرية الجوهر الفرد كما اعتنقها الأشعري، ودعمها وعمقها، وقال بفكرة الأحوال، وحاول أن يسوي بين الحال والصفة، ولا شك في أنه يعد أول من ثبت دعائم المذهب الأشعري، وأضاف إليه أسساً عقلية، وإن قال بمبدأ له خطره وهو: إن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول".

ويشير محققا (التمهيد) - أبو ريدة ومحمود الخضيري - إلى جوانب من دور الباقلاني في تطوير مذهب الأشاعرة، فيقولان:"أما القيمة الكبرى لعمل الباقلاني فهي .. كانت في التنهيج وفي بناء مذهب الأشاعرة الكلامي والاعتقادي بناء منظماً لا من حيث الطريقة المنطقية الجدل فحسب، بل من حيث وضع المقدمات التي تبني عليها الأدلة، ومن حيث ترتيب هذه المقدمات بعضها بعد بعض على نحو يدل على امتلاك ناصية الجدل وعلى طول اعتبار في أصول الاستدلال"، ثم يذكران قول ابن خلدون، وقبل ذلك ذكرا أن الباقلاني لم يكن "مجرد مواصل لحمل تراث الأشاعرة المتقدمية عليه، بل قد تم على يديه توضيح بعض النقط، وتحديد بعض المفهومات، مما أدى إلى تعديل مذهب الأشعري من بعض الوجوه وإلى تقريبه من رأي المعتزلة، وهذا ما لم يغفله بعض العلماء المتقدمين"، ثم ذكرا نماذج لتعليقات الغزالي والشهرستاني على مخالفة الباقلاني لشيخ الأشاعرة في مسائل: صفة البقاء، والحال، وتأثير القدرة الحادثة، وقد سبق ذكر ذلك عند شرح عقيدة الباقلاني وأقواله.

ويذكر أحمد صبحي أن الأشعري كان يعتمد على النقل كثيراً، لكن أتباعه عدلوا " ابتداء من الباقلاني عن الاستشهاد بدليل النقل إلا فيما ندر، مغلبين أدلة العقل .. وجاء الباقلاني ليختط منهجاً مغايراً لمنهج الأشعري دفاعاً عن المذهب، إذ وضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة كالحديث عن العلم وأقسامه، وعن الموجود قديمه وحديثه، وعن الجوهر والعرض والجسم".

وهذا ما سار عليه الأشاعرة من بعده، وواضح أن الباقلاني يستشهد بالأدلة النقلية في كتبه ولكن مناقشاته العقلية تطغى عليه كثيراً، حتى وهو يعرض أن يستشهد بالنصوص.

ويرى بروكلمان أن الباقلاني أتى بآراء جديدة أخذها عن الفلسفة اليونانية، أما مكارثي فيرى أنه يتصف ببعض الأصالة في مناقشته للبيان والمعجز، وأنه عمل كثيراً على نشر المذهب الأشعري، كما يرى فتح الله خليف أنه أدخل بعض التعديلات على مذهب الأشعري.

ص: 232

والمسألة التي اشتهر بها الباقلاني وهي أن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول لم نجد لها نصاً صريحاً فيما وصل من كتب الباقلاني، ولكن ابن خلدون ذكرها، ثم تناقلها عنه الباحثون، وقد حاول النشار، وتبعه محمد عبد الستار نصار أن يوجدا ما يدعم هذا القول في بعض مقدمات (التمهيد)، والذي يترجح أنها بنيت على قوله بوجوب المعجزات لثبوت نبوة الأنبياء لأن بطلان المعجزة يؤدي إلى بطلان نبوة الأنبياء، أو أنها بنيت على قوله بالجوهر الفرد وأن بطلانه يؤدي إلى بطلان دليل حدوث الأجسام.

ويتضح من خلال عرض عقيدة وأقوال الباقلاني، وأقوال الباحثين في ذلك أن الباقلاني قد طور المذهب الأشعري من خلال:

1ـ الميل في المناقشات إلى العقل، وضعف الاعتماد على النقل، وإن كان الأمر لم يصل إلى إهماله.

2ـ وضع المقدمات العقلية لمباحث العقيدة وعلم الكلام، مثل مباحث الجوهر والعرض، وأقسام العلوم، والاستدلال، والكلام عن الموجودات وأنواعها.

3ـ الميل إلى بعض أقوال المعتزلة وخاصة في بعض الصفات، وإذا كان الأشعري أخذ يبعد عن الاعتزال في آخر كتبه، فالباقلاني أعاد المنهج الأشعري ليقرب من أهل الكلام.

4ـ تقعيد بعض القواعد الكلامية، التي أصبحت فيما بعد أصول الأشاعرة مثل القول بالجوهر الفرد، وأن العرض لا يبقى زمانين، وأنه لا يقول بالعرض.

5 ـ التركيز على مبدأ إنكار العلة والسببية التي جعلها الله في الأشياء. كذلك القول في مسألة المعجزات والفرق بينها وبين السحر والكرامات والحيل.

‌المصدر:

موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 2/ 526

ابن فورك: ت 406 هـ:

هو محمد بن الحسن بن فورك، أبو بكر الأنصاري، الأصبهاني، ولا يعرف تاريخ ولادته، لكن المعروف عنه أنه أقام أولاً بالعراق ودرس بها مذهب الأشعري على أبي الحسن الباهلي - تلميذ أبي الحسن الأشعري، ثم ذهب إلى الري فسعت به الكرامية، ثم راسله أهل نيسابور فبنيت له فيها دار ومدرسة، وصار يدرس فيها وتخرج عليه جمهرة كبيرة من الفقهاء، وقد ذكر قصة له في سبب اشتغاله بعلم الكلام.

وفي آواخر عمره أنهى إلى السلطان محمود بن سبكتكين أنه يعتقد أن نبينا محمداً ليس نبياً اليوم، وأن رسالته انقطعت بموته، وقد امتحن وجرت له مناظرات مع محمود بن سبكتكين، وممن نسب إليه هذا القول ابن حزم حيث قال في الفصل:" حدثت فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (ليس هو الآن رسول الله) ولكنه كان رسول الله، وهذا قول ذهب إليه الأشعرية، وأخبرني سليمان بن خلف الباجي - وهو من مقدميهم اليوم - أن محمد بن الحسن ابن فورك الأصبهاني على هذه المسألة قتله بالسم محمود بن سبكتكين، صاحب ما دون وراء النهر من خراسان رحمه الله"، ثم ذكر ابن حزم السبب الذي أدى إلى هذه المقالة، وقد نفى السبكي بشدة نسبة هذه المقالة وشنع على ابن حزم والذهبي بسببها، وقال إن ابن فورك لما سأله ابن سبكتكين كذب الناقل، وإن السلطان عندما وضح له الأمر أمر بإعزازه وإكرامه، فلما أيست الكرامية دست له السم، وقول ابن حزم سبق نقله قريباً وقد نسبه إلى الباجي، أما الذهبي فقال:"ونقل أبو الوليد الباجي أن السلطان محموداً سأله عن رسول الله فقال: كان رسول الله، وأما اليوم فلا، فأمر بقتله بالسم"، وهذه المسألة من المسائل التي كانت سبباً في محنة الأشعرية زمن القشيري والجويني، وقد رد القشيري نسبتها إلى الأشعرية وبين بطلان نسبتها إليهم.

ص: 233

والذي يظهر أنه قد وقعت بين ابن فورك وابن سبكتكين مناظرات في موضوعات متعددة ولذلك ذكر ابن رجب مناظرة بينهما حول العلو، فروى في أثناء ترجمته لأبي الحسن العكبري أنه قال:"سمعت أبا مسعود أحمد بن محمد البجلي الحافظ قال: دخل ابن فورك على السلطان محمود، فتناظرا، قال ابن فورك لمحمود، لا يجوز أن تصف الله بالفوقية، لأنه يلزمك أن تصفه بالتحتية، لأنه من جاز أن يكون له فوق جاز أن يكون له تحت. فقال محمود: ليس أنا وصفته بالفوقية، فتلزمني أن أصفه بالتحتية، وإنما هو وصف نفسه بذلك، قال: فبهت".

ومن أبرز شيوخ ابن فورك إضافة إلى أبي الحسن الباهلي: عبد الله بن جعفر الأصبهاني الذي سمع منه مسند أبي داود الطيالسي، وابن خرزاد الأهوازي.

منهج ابن فورك ودوره في تطور المذهب الأشعري:

يعتبر ابن فورك من المعاصرين للباقلاني المتوفى سنة 403هـ، وكلاهما تتلمذ على يد أبي الحسن الباهلي، تلميذ أبي الحسن الأشعري، ولكن شيوخ الباقلاني في مسائل الكلام أكثر، كما أن عناية ابن فورك بالحديث أكثر، ويكفي أن أحد تلامذته الإمام البيهقي.

وإذا كان قد مضى تفصيل مذهب وأقوال الباقلاني، فسيقتصر البحث هنا في عقيدة ومنهج ابن فورك على عرض مقارنة بينه وبين الباقلاني، إذ هما يمثلان مرحلة واحدة في مسيرة مذهب الأشاعرة.

فمن المسائل التي يوافق فيها ابن فورك الباقلاني:

1ـ الاستدلال بدليل حدوث الأجسام المسمى دليل الأعراض، وهو دليل المتكلمين المشهور، وقد أشار إليه ابن فورك عرضاً في كتابه (مشكل الحديث) فقال:"إن الخلق عرفوا الله سبحانه وتعالى بدلالاته المنصوبة، وآياته التي ركبها في الصور، وهي الأعراض الدالة على حدوث الأجسام، واقتضائها محدثاً لها من حيث كانا محدثين".

2ـ نفي الصفات الاختيارية القائمة بالله تعالى، وهي المسألة المسماة بحلول الحوادث، وقد جاءت الإشارة إلى هذه المسألة عند ابن فورك في عدة مواضع.

ص: 234

3ـ يثبت ابن فورك من الصفات الخبرية: الوجه، واليدين، والعين، ويمنع من تأويلها، وينفي عنها أن تكون جارحة أو دالة على تجسيم أو أجزاء، وهذا ما يقوله الباقلاني - إلا أننا نرى ابن فورك يتأول ما عدا هذه الصفات الخبرية، فيتأول ما ورد من اليد، ويمين الرحمن، والكف، والقبضة، والقدم، والأصابع، والساق، ولم يجعلها مع اليدين والوجه والعين نسقاً واحداً في الإثبات مع عدم التمثيل، بل أوّل هذه ومنع تأويل تلك، وكأن ابن فورك شعر بالتناقض هنا فأورد سؤالاً وأجاب عليه حيث قال بعد إثباته صفة الوجه لله تعالى، ورده على المعتزلة الذين يتأولونه بأن معناه: أنه هو، وإن وجه الشيء قد يكون نفسه - قال: "فإن قال قائل: فإنه لا يعقل وجه، الجارحة أو بعض، أو نفس الشيء؟ قيل: في هذا جوابان: أحدهما: أنه إثبات وجه بخلاف معقول الشاهد، كما أن إثبات من أضيف إليه الوجه إثبات موجود بخلاف معقول الشاهد، والثاني: أن الوجه على الحقيقة لا يكون نفس الشيء، لما بينا أن ذلك لا يوجد في اللغة حقيقة أيضاً، وأما إطلاق البعض على الوجه الذي هو جارحة فتوسع عندنا، وإن كان حقيقة أيضاً

واعلم أن أحد أصولنا في هذا الباب أنه كلما أطلق على الله عز وجل من هذه الأوصاف والأسماء التي قد تجري على الجوارح فينا، فإنما يجري ذلك في وصفه على طريق الصفة، إذا لم يكن وجه آخر يحمل عليه، مما يسوغ فيه التأويل، وذلك لصحة قيام الصفة بذاته، فإن قيامها مما لا يقتضي انتقاض توحيده وخروجه عما يستحقه من القدم والإلهية، فأما وصفه بذلك على الحد الذي يتوهمه المشبهة الممثلة لربها بالخلق في إثبات الجوارح والآلات، فخلاف الدين والتوحيد، وحملها على ما ذهبت إليه المعتزلة فيه إبطال فائدتها، وإخراجها عن كونها معقولة مفيدة على وجه الحق

"، ثم يورد سؤالاً آخر فيقول: "فإن قيل: فلم لا تقولون على هذا الوصف:

"قدم" صفة و "صورة" صفة، لأن الإضافة قد حصلت في الخبر إليه على هذا الوجه؟ فقيل:"على صورته" وقيل: "قدمه"؟ قيل: إنما لم يحمل ذلك على الصفة لامتناع المعنى فيه، وإن الصفة ليست مما يوصف بالوضع في الأماكن، وقد وجدنا لذلك تأويلاً صحيحاً قريباً، يمنع هذه الشبهة، وهو ما ذكرنا قبل أن قدم المتجبر على الله عز وجل، يضعها على النار على استحقاق العقوبة على عتوه على الله .. وإنما حملنا ما أطلق من ذكر الوجه واليدين والعين على الصفة من حيث لم يوجد في واحد منها ما يستحيل ويمتنع، وليس كل ما أضيف إليه فهو عن طريق الصفة، بل ذلك ينقسم على أقسام: منها بمعنى الملك، ومنها بمعنى الفعل، ومنها بمعنى الصفة، وإنما يكشف الدليل، ويميز القرائن مواقعها على حسب ما بينا ورتبنا، فاعلمه إن شاء الله"، وواضح من منهجه هذا أن الصفة إذا كان لها وجه آخر تحمل عليه وجب حملها، بحيث لا تكون صفة لله تعالى، ومن تأمل تأويلاته لبعض الصفات الخبرية لا يجد بينها وبين تأويلات مخالفي ابن فورك لصفة اليدين والوجه والعين كبير فرق.

4ـ يؤول ابن فورك صفات النزول، والإتيان، والمجيء، والضحك، والعجب، والغضب، والفرح، وغيرها، وهذا ما نجده مماثلاً له عند الباقلاني، وهذا كله بناءً على أصلهما الذي هو أصل الأشاعرة وهو نفي ما يقوم بالله من الصفات الاختيارية.

ص: 235

5ـ يثبت صفة الكلام على مذهب الأشاعرة، ويشرح بعض الأمور المتعلقة به، فيقول: "فأما كلام الله الذي هو صفة من صفات ذاته، غير بائن منه: فكلام واحد، شيء واحد، يفهم منه ويسمع مالا يحصى ولا يعد من الفوائد والمعاني، ونظير ذلك ما نقول: إن علمه واحد، ولكنه يحيط بمعلومات لا تتناهى، والذي تقع عليه الكثرة والقلة من المعلومات دون العلم

"، وما نسمعه من كلام الله هو عبارة عنه، وكلام الله ليس بحرف ولا صوت، يقول: "اعلم أن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا صوت عندنا، وإنما العبارات عنه تارة تكون بالصوت والعبارات هي الدالة عليه، وأمارات له تظهر للخلق، ويسمعون عنها كلام الله فيفهمون المراد، فيكون ما سمع موسى عليه السلام من الأصوات مما سمع يسمى كلام الله عز وجل، ويكون ذلك في نفسه غير الكلام، ويحتمل أن يكون معناه: أن يسمي العبارة كلام الله، كما يسمي الدلالة على الشيء باسمه، وكما يسمي الواقع عن القدرة قدرة، والكائن عن الرحمة رحمة"، ويقول في موضع آخر "وقد بينا فيما قبل أن معنى ذلك راجع إلى العبارات والدلالات، التي هي الطريق إلى الكلام وبها يفهم مراده منه، لا أنه تعالى قوله إذا تكلم الله بالوحي، أنه يتجدد له كلام، ولكنه يتجدد إسماع وإفهام بخلق عبارات ونصب دلالات، بها يفهم الكلام، ثم يقال على طريق السعة والمجاز لهذه العبارات كلام من حيث أنها دلالات عليه

واعلم أنه لا يصح على أصلنا في قولنا: إن كلام الله غير مخلوق ولا حادث بوجه أن يقول: إن الله يتكلم كلاماً بعد كلام، لأن ذلك يوجب حدوث الكلام، وإنما يتجدد الإسماع والإفهام، ونصب العبارات وإقامة الدلالات على الكلام الذي لم يزل موجوداً وحدوث الدلالة والعبارة لا يقتضي حدوث المدلول المعبر عنه، كما أن حدوث الذكر والدعاء لا يقتضي حدوث المذكور والمدعو".

هذه بعض المسائل التي اتفق فيها الباقلاني وابن فورك، على أن ابن فورك تميز عن الباقلاني بما يلي:

1ـ الاستدلال بالسنة في دقائق مسائل الأسماء والصفات، مع أن له رأياً في أخبار الآحاد وأنها لا تفيد اليقين والعلم، لكنه يرى جواز ذكرها لإفادتها غلبة الظن، فهي من باب الجائز الممكن، يقول:"وأما ما كان من نوع الآحاد مما صحت الحجة به من طريق وثاقة النقلة، وعدالة الرواة، واتصال نقلهم، فإن ذلك - وإن لم يوجب العلم والقطع - فإنه يقتضي غالب ظن وتجويز حكم، حتى يصح أن يحكم أنه من باب الجائز الممكن، دون المستحيل الممتنع، والسبيل الأمثل فيها تخريجها وتأويلها، وليس إنكارها كما فعلت المعتزلة، ولا اعتقاد التشبيه بها كما فعلت المشبهة".

والمطلع على كتاب ابن فورك في مشكل الحديث يلحظ أمرين عجيبين:

أحدهما: البحث عن أوجه التأويل لكل حديث، والتكلف في ذلك، وهو يعتقد أن هذه مهمة طائفة من أهل الحديث، فقد قسمهم إلى فرقتين: فرقة هم أهل النقلة والرواية، وحصر أسانيدها، وتمييز صحيحها من سقيمها، وفرقة منهم يغلب عليهم تحقيق طرق النظر والمقاييس، والإبانة عن ترتيب الفروع على الأصول ونفي شبه الملبسين عنها، فالفرقة الأولى للدين كالخزنة للملك والفرقة الأخرى كالحرس الذين يذبون عن خزائن الملك، وواضح أن ابن فورك في كتابه جعل مهمته هدف الفرقة الثانية، ولذلك ذكر فيه ما يراه من مشكل الحديث.

ص: 236

والأمر الآخر: خلطه فيما يورده بين الأحاديث الصحيحة، والضعيفة والموضوعة، حيث جعلها نسقاً واحداً في الدلالة وضرورة التأويل، وإذا أشار إلى ضعف بعض الروايات لا يكتفي بذلك في ردها وبيان عدم الحاجة إلى بحث ما دلت عليه من الصفة لله تعالى، وإنما يشير إلى ضعفها - إن أشار - بكلمات ثم يجلب بخيله ورجله في تأويلها. ومن الأمثلة على ذلك - وهي كثيرة - تأويله لرواية ((الحجر الأسود يمين الله في أرضه، يصافح بها من شاء من خلقه)) (1)، فإنه قال - دون أن يتعرض لإسناده، وهل هو مرفوع أو موقوف -: "وقد تأول أهل العلم ذلك على وجهين من التأويل: أحدهما: أن المراد بذلك الحجر أنه من نعم الله على عباده، بأن جعله سبباً يثابون على التقرب إلى الله تعالى بمصافحته، فيؤجرون على ذلك، وقد بينا أن العرب تعبر عن النعم باليمين واليد .. وزعم بعضهم: أن هذا تمثيل وأصله أن الملك إذا صافح رجلاً، قبل الرجل يده، فكان الحجر لله تعالى بمنزلة اليمين للملك ليستلم ويلثم، وقد روى في الخبر أن الله عز وجل لما أوجده أخذ الميثاق من بني آدم وأشهدهم على أنفسهم الست بربكم؟ قالوا: بلى، جعل ذلك في الحجر الأسود، فلذلك يقال عنده: إيماناً بك ووفاءً بعهدك.

ويحتمل وجهاً آخر: وهو أن يكون قوله ((الحجر يمين الله في أرضه))، إنما إضافة إليه على طريق التعظيم للحجر، وهو فعل من أفعال الله عز وجل سماه يميناً، ونَسَبهُ إلى نفسه وأمر الناس باستلامه ومصافحته، ليظهر طاعتهم بالائتمار وتقربهم إلى الله عز وجل، فيحصل لهم بذلك البركة والسعادة". ولو أن ابن فورك بين درجته وضعفه - أو ضعف المرفوع منه - ثم بين وضوح دلالته وأن نص الحديث يدل على أن الحجر ليس يمين الله حقيقة والتي هي صفته القائمة به لأنه قال:"في الأرض"، لما احتاج إلى هذه التأويلات.

وأحياناً يستعين ببعض الروايات الشاذة أو الضعيفة، فمثلاً حين أوّلَ أحاديث النزول بعدة تأويلات قال:"وقد روى لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن النبي بما يؤيد هذا الباب، وهو بضم الياء من "ينزل" وذكر أنه قد ضبطه عمن سمعه عنه من الثقات الضابطين"، والروايات المتواترة جاءت بما هو مشهور، فكيف تمسك بهذه الرواية الشاذة، والمجهول رواتها؟ وفي تأويله للإتيان في قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة: 210]، ذكر رواية عن مجاهد أنه قال: يأتيهم بوعده ووعيده. مع أن المأثور عن مجاهد عكس هذا.

2ـ وابن فورك يؤول الاستواء والعلو، خلافاً للباقلاني الذي يثبتهما، وقد سبق نقل كلامه في ذلك، ولأهمية قول ابن فورك في هذه المسألة في تتبع تطور المذهب الأشعري نعرض لأقواله فيها، يقول عن الاستواء في معرض رده على ابن خزيمة في كتابه (التوحيد):"ثم ذكر صاحب التصنيف بابا ترجمه باستوائه على العرش، وأوهم معنى التمكين والاستقرار، وذلك منه خطأ، لأن استواءه على العرش سبحانه ليس على معنى التمكين والاستقرار، بل هو في معنى العلو بالقهر والتدبير، وارتفاع الدرجة بالصفة على الوجه الذي يقتضي مباينة الخلق"، وفي موضع آخر حين رد على أحمد بن إسحاق الصبغي - صاحب ابن خزيمة - أحال على تأويله للاستواء فيما سبق - والذي نقلناه قبل قليل -.

(1) رواه الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (6/ 326) من حديث جابر، وقال البغدادي: منكر، وكذا قال الألباني في ((السلسلة الضعيفة)) (223).

ص: 237

أما العلو: فله في تأويله أقوال كثيرة: أـ يقول في حديث الجارية حين قال لها رسول الله ((أين الله؟ قالت في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)) (1).، يقول ابن فورك:"إن ظاهر اللغة تدل من لفظة أين أنها موضوعة للسؤال عن المكان، ويستخبر بها عن مكان المسؤول عنه بأين .. غير أنهم قد استعملوها عن مكان المسؤول عنه في غير هذا المعنى توسعاً أيضاً تشبيهاً بما وضع له، وذلك أنهم يقولون - عند استعلام منزلة المستعلم عند من يستعمله -: أين منزلة فلان منك، وابن فلان من الأمير، واستعملوه في استعلام الفرق بين الرتبتين بأن يقولوا: أين فلان من فلان، وليس يريدون المكان والمحل من طريق التجاوز في البقاع، بل يريدون الاستفهام عن الرتبة والمنزلة، وكذلك يقولون: لفلان عند فلان مكان ومنزلة، ومكان فلان في قلب فلان حسن، ويريدون بذلك المرتبة والدرجة في التقريب والتبعيد، والإكرام والإهانة، فإذا كان ذلك مشهوراً في اللغة احتمل أن يقال: إن معنى قوله ((أين الله))؟ استعلام لمنزلته وقدره عندها وفي قلبها، وأشارت إلى السماء، ودلت بإشارتها على أنه في السماء عندها على قول القائل - إذا أراد أن يخبر عن رفعة وعلو منزلة -: فلان في السماء، أي هو رفيع الشأن، عظيم المقدار، كذلك قولها في السماء على طريقة الإشارة إليها، تنبيهاً عن محله في قلبها ومعرفتها به وإنما أشارت إلى السماء لأنها كانت خرساء، فدلت بإشارتها على مثل دلالة العبارة، على نحو هذا المعنى، وإذا كان كذلك لم يجز أن يحمل على غيره مما يقتضي الحد والتشبيه والتمكين في المكان والتكييف"، وبعد أن يقرر ابن فورك مذهبه هذا وتأويله - العجيب - لهذا الحديث، يذكر قولاً آخر لبعض الأشاعرة فيقول:"ومن أصحابنا من قال: إن القائل إذا قال: إن الله في السماء، ويريد بذلك أنه فوقها من طريق الصفة، لا من طريق الجهة، على نحو قوله سبحانه َمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: 17]، لم ينكر ذلك"، وقد يكون قصد ببعض أصحابه: الباقلاني، الذي صرح بنفي الجهة - وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.

ب ـ قال في معرض رده على المعتزلة الذين يذهبون إلى أن الله في كل مكان، وبيانه أن المسلمين يطلقون أن الله فوق خلقه، وأن "في" في قوله تعالى: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ بمعنى "على" غير أنه يعقب قائلاً: "واعلم أنا إذا قلنا: إن الله عز وجل فوق ما خلق، لم يرجع به إلى فوقية المكان، والارتفاع على الأمكنة بالمسافة، والإشراف عليها بالممارسة منها، بل قولنا إنه فوقها يحتمل وجهين:

أحدهما: أنه يراد به أنه قاهر لها، مسؤول عليها، إثباتاً لإحاطة قدرته بها، وشمول قهره لها، وكونها تحت تدبيره، جارية على حسب علمه ومشيئته.

والوجه الثاني: أن يراد أنه فوقها على معنى أنه مباين لها بالصفة والنعت، وأن ما يجوز على المحدثات من العيب والنقص والعجز والآفة والحاجة، لا يصح شيء من ذلك عليه، ولا يجوز وصفه به، وهذا أيضاً متعارف في اللغة أن يقال: فلان فوق فلان، ويراد بذلك رفعة المرتبة والمنزلة، والله عز وجل فوق خلقه على الوجهين جميعاً".

وإنما يمتنع الوجه الثالث: وهو أن يكون على معنى التحيز في جهة الاختصاص ببقعة دون بقعة، وإذا قلنا: إنه فوق الأشياء على هذا الوجه قلنا أيضاً في تأويل إطلاق القول بأنه فيها على مثل هذا المعنى".

(1) رواه مسلم (537) ، من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه.

ص: 238

جـ ـ ويقول في رده على ابن خزيمة: "واعلم أنه ليس ينكر قول من قال: إن الله في السماء، لأجل أن لفظ الكتاب قد ورد به وهو قوله: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: 16]، ومعنى ذلك: أنه فوق السماء لا على معنى فوقية المتمكن في المكان، لأن ذلك صفة الجسم المحدود المحدث، ولكن بمعنى ما وصف به أنه فوق من طريق الرتبة والمنزلة والعظمة والقدرة، ثم ذكر هذا القائل (ابن خزيمة) في ذلك قوله عز وجل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10]، وقوله: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158] وهذا منه غلط، من قبل (أن) صعود الكلم الطيب إليه على معنى صعود من سفل إلى علو، لاستحالة ذلك في الكلام لكونه عرضاً لا يبقى، وكذلك العمل الصالح وإنما معنى صعود الكلام إليه قبوله، ووقوعه منه موضع الجزاء والثواب، وقوله: (يرفعه) لا على معنى رفع من مكان إلى مكان، ولكن رفع له على معنى أنه قد تقبل، وأن الكلام إذا اقترن به العمل الصالح قُبلاً دون أن ينفرد الكلام من العمل. وأما قوله تعالى في قصة عيسى بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فمعناه: رفعه إلى الموضع الذي لا يعبد فيه إلا الله، ولا يذكر فيه غيره، لا على معنى أنه ارتفاع إليه كما يرتفع الجسم من سفل إلى جسم في علو، بأن تقرب منه بالمسافة والمساحة".

د ـ ويشير في مواضع أخرى إلى تأويله للعلو والفوقية. هذا في كتابه الذي وصل إلينا كاملاً، وقد ذكر شيخ الإسلام - نقلاً عن كتابه في أصول الدين - ما يدل على إثبات العلو والاستواء، وأنه قال فيه:"وإن سألت أين هو فجوابنا: أنه في السماء كما أخبر في التنزيل عن نفسه بذلك فقال - عز من قائل – أأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: 16]، وإشارة المسلمين بأيديهم عند الدعاء في رفعها إليه، وإنك لو سألت صغيرهم وكبيرهم فقلت: أين الله؟ لقالوا: إنه في السماء ولم ينكروا لفظ السؤال بأين، لأن النبي سأل الجارية التي عرضت للعتق فقال: أين الله؟ فقالت: في السماء: مشيرة بها، فقال النبي: ((اعتقها فإنها مؤمنة)) (1)، ولو كان ذلك قولاً منكراً لم يحكم بإيمانها ولأنكره عليها، ومعنى ذلك أنه فوق السماء، لأن في معنى فوق، قال الله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ [التوبة: 2] أي فوقها، وقال عن الاستواء"فإن قال: فعلى ما هو اليوم؟ قيل له: مستو على العرش كما قال سبحانه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ".

قال ابن تيمية معلقاً: "فيشبه - والله أعلم - أن يكون اجتهاده مختلفاً في هذه المسائل كما اختلف اجتهاد غيره، فأبو المعالي كان يقول بالتأويل ثم حرمه، وحكى إجماع السلف على تحريمه

".

ومما سبق يمكن تلخيص دور ابن فورك في تطور المذهب الأشعري بما يلي:

1ـ العناية بالحديث والاهتمام به، مع البقاء على منهج وطريقة أهل الكلام وتأويلاتهم، وبذلك خف الحاجز الذي كان يفصل بين أهل السنة من أهل الحديث الذين يثبتون ما دلت عليه النصوص، وأهل الكلام الذين كانوا بعيدين عن الاهتمام بعلم الحديث رواية ودراية، وهذا المنهج الذي سلكه ابن فورك هو ما سنجده بشكل أقوى وأوضح عند البيهقي.

2ـ الغلو في التأويل، وكأنه صار هو الأصل، والإثبات هو القليل.

3ـ تأويل صفة الاستواء والعلو، وهذا تطور خطير وكبير في المذهب الأشعري، وإن كان - كغيره من الأشاعرة - قد أثر عنه المنع من تأويلها.

‌المصدر:

موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 2/ 555

عبد القاهر البغدادي - ت 429هـ

(1) رواه مسلم (537) ، من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه.

ص: 239

هو عبد بن طاهر بن عبد الله، أبو منصور البغدادي، التميمي، لم يحدد تاريخ ولادته، لكن المعروف عنه أنه ولد في بغداد ونشأ بها، ثم رحل مع أبيه إلى نيسابور، حيث تتلمذ على يد أبي إسحاق الإسفراييني، وكان من أبرز شيوخه، ومنهم أيضاً، إسماعيل بن نجيد، وأبو عمرو محمد بن جعفر بن مطر، وأبو بكر الإسماعيلي، وأبو أحمد بن عدي وغيرهم.

وقد مدحه العلماء - خاصة علماء الأشاعرة - كابن عساكر والرازي والسبكي، وقال فيه شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني:"كان من أئمة الأصول، وصدور الإسلام، بإجماع أهل الفضل والتحصيل، بديع الترتيب، غريب التأليف والتهذيب، تراه الجلة صدراً مقدماً، وتدعوه الأئمة إماماً مُفخّماً، ومن خراب نيسابور اضطرار مثله إلى مفارقتها"، قال السبكي " قلت: فارق نيسابور بسبب فتنة وقعت بها من التركمان"، وكان استقراره آخر أمره في إسفراين حيث لم يبق فيها إلا يسيرا، فمات بها سنة 429هـ ودفن بجانب شيخه أبي إسحاق الإسفراييني.

منهج البغدادي ودوره في تطور المذهب الأشعري:

البغدادي أحد أعلام الأشاعرة في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس حيث كانت وفاته سنة 429هـ، وهو يمثل تقريباً مرحلة كل من الباقلاني - ت 403هـ- وابن فورك - ت 406هـ- وإن تأخر عنهما قليلاً، لكنه مثلاً يلتقي مع ابن فورك بكونهما شيخين للبيهقي، كما أنه يذكره في كتابه (أصول الدين)، ويذكر الباقلاني أيضاً، ويصفه بقوله:"قال قاضينا"، كما أن البغدادي ذكر أنه أدرك أبا عبد الله بن مجاهد، تلميذ أبي الحسن الأشعري.

والبغدادي يميزه كتبه خاصة "أصول الدين" إنه ينقل أقوال أصحابه من الكلابية والأِشعرية، ويذكر الخلاف بينهم إن وجد، لذلك فقد يتبادر إلى الناظر أنه مقلد للأشاعرة، وممن رأى هذا الرأي عبد الرحمن بدوي الذي قال:"لقد كان عبد القاهر البغدادي - بحسب ما لدينا من مؤلفاته - عارضاً لآراء الأشاعرة أكثر من مفكراً أصيلاً، ذا آراء انفرد بها، أو براهين جديدة ساقها"، وهذا الكلام فيه شيء من الحق لكن البغدادي - كما سيأتي - له ترجيحات خاصة تعتبر بمثابة منعطف في تطور المذهب الأشعري، صحيح أنه في غالب المسائل مقلد لشيوخه، لكن ليس فيها كلها.

ص: 240

والبغدادي لا يخالف من سبقه من الأشاعرة في مسائل العقيدة والكلام، فيرى أن أول الواجبات النظر، وأخبار الآحاد - إذا رواها الثقات - تقبل إذا كانت تحتمل تأويلاً يوافق المعقول، كما أنه يقول بالجزء الذي لا يتجزأ، وهو الجوهر الفرد، ويستدل له، كما يقول بأن الأعراض لا تبقى زمانين، كما أنه يحتج بدليل الأعراض وحدوث الأجسام ويحتج له ويطيل الكلام حوله، كما أنه ينفي ما يقوم بالله من الصفات الاختيارية، وهي مسألة حلول الحوادث، ولذلك تأوّل صفات المحبة، والرحمة، والغضب، والفرح، والضحك، كما أنه قال بكلام الله الأزلي وأنه قائم بالله وأنه أمره ونهيه وخبره ووعده ووعيده، ويربط ذلك بمسألة حلول الحوادث، لكنه لما ذكر ما وقع من الخلاف بين الكلابية والأِشعرية في أزلية الأمر والنهي، ذكر قوليهما دون ترجيح، أما الإيمان فهو عنده الطاعات فرضها ونفلها كما هو قول أهل الحديث والسنة، ويرجح هذا بعد ذكره لأقوال كل من الأشعري وابن كلاب، أما الاستثناء في الإيمان، فقد رتب الخلاف فيه ترتيباً حسناً على الخلاف في حقيقة الإيمان، وبما أنه رجح مذهب أهل الحديث فقد قال:"وكل من وافى ربه على الإيمان فهو مؤمن، ومن وافاه بغير الإيمان الذي أظهره في الدنيا، علم في عاقبته أنه لم يكن قط مؤمناً"، وهذا الكلام ليس هو قول أهل الحديث الذين يجيزون الاستثناء في الإيمان إذا لم يكن شقاً، أما الموافاة فهي من مسائل مذهب الأشاعرة بناءً على قولهم في منع حلول الحوادث، وأن غضب الله أو رضاه أزلي، فالكافر إذا مات على الكفر فهو مغضوب عليه غير مرضي عنه ولو عاش أغلب عمره مؤمناً، وعكسه المؤمن، أما مسألة القدر، فقد قال بالكسب وسار فيه على خطأ شيوخه في ذلك مع التجديد في العرض والاستدلال، أما ما يتعلق بالمعجزات وشروطها، فأقواله فيها جاءت على وفق ما ذهب إليه الباقلاني.

هذه خلاصة سريعة لبعض رؤوس المسائل التي وافق فيها شيوخه الأشاعرة أما الجوانب البارزة في منهجه، كمعالم على تطور المذهب الِأشعري فأهمها:

1ـ مخالفته صراحة لبعض أقوال شيخ الأشاعرة أبي الحسن الأشعري، فهو يعرض الأقوال ومنها قول الأشعري، ثم يرجح قولاً آخر قال به غيره كابن كلاب أو القلانسي، أو غيرهما، ومن ذلك مسألة إيمان المقلد، ومعنى "الإله"، والوقف على قوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 7]، ومخالفة البغدادي - في هذه المسائل أو غيرها - للأشعري له أهمية في تصور مدى المتابعة والتقليد لشيخهم في ذلك الزمن القريب من اِلأشعري، إذ أن الفرق بين وفاتيهما يتجاوز القرن بقليل، وهذه مدة زمنية قليلة نسبياً.

2ـ تبني دليل حدوث الأجسام بقوة، وهو من أدلة المعتزلة، وقد قال به بعض الأشاعرة قبل البغدادي، لكن شيخهم أبا الحسن الأِشعري رأى أنه دليل لم تدع إليه الرسل - كما سبق شرح ذلك - فالبغدادي لما عرض هذا الدليل عرضه وكأنه دليل مسلم لا يجوز الاعتراض عليه، بل قال:"وكل قول لا يصح معه الاستدلال على حدوث الأجسام وعلى حدوث الجواهر فهو فاسد"، وهذا الجزم بالقول بصحة هذا الدليل هو ما نجده إحدى مسلمات مذهب الأشاعرة فيما بعد.

3ـ تأييد القول بتجانس الأجسام كلها، وأن اختلافها في الصورة، ـ وهذا قد قال به بعض المعتزلة، وبنوا عليه نفي صفات الله حين قالوا: إثبات الصفات تجسيم والأجسام متماثلة.

ص: 241

4ـ أما مسألة الاستواء، فقد سبق بيان أن الباقلاني ومن قبله قالوا بإثباته بلا تأويل، وردوا على من أوّله بالاستيلاء، وأن ابن فورك مال فيه إلى التأويل، أما البغدادي فقد قال بالتأويل، مع أنه رد على المعتزلة الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء وقال:"زعمت المعتزلة أنه بمعنى استولى كقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق، أي استولى، وهذا تأويل باطل؛ لأنه يوجب أنه لم يكن مستولياً عليه قبل استوائه عليه"، ثم عرض أقوال أصحابه الأشاعرة فقال: "واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: إن آية الاستواء من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، وهذا قول مالك بن أنس وفقهاء المدينة والأصمعي

ومنهم من قال: إن استواءه على العرش فعل أحدثه في العرش ثم سماه استواء، كما أحدث في بنيان قوم سماه إتياناً، ولم يكن ذلك نزولاً ولا حركة، وهذا قول أبي الحسن الأشعري

ومنهم من قال: إن استواءه على العرش كونه فوق العرش بلا مماسة، وهذا قول القلانسي وعبد الله بن سعيد، ذكره في كتاب (الصفات)"، وبعد عرضه لهذه الأقوال يرجح فيقول: "والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك، كأنه أراد أن الملك ما استوى لأحد غيره وهذا التأويل مأخوذ من قول العرب: ثّلّ عرشُ فلان إذا ذهب ملكه

فصح بهذا تأويل العرش على الملك في آية الاستواء على ما بيناه"، ويقول في موضع آخر حول معنى آية الاستواء: " معناه عندنا على الملك استوى، أي استوى الملك للإله، والعرش هاهنا بمعنى الملك

".

أما مسألة العلو فهو من نفاته، ولذلك بوب لإحدى المسائل بقوله:"المسألة السابعة من الأصل الثالث في إحالة كون الإله في مكان دون مكان "، ثم ذكر أقوال الكرامية والمعتزلة والحلولية، ثم قال:"ودليلنا على أنه ليس في مكان بمعنى المماسة قيام الدلالة على أنه ليس بجوهر ولا جسم ولا ذي حد ونهاية، والمماسة لا تصح إلا من الأجسام والجواهر التي لها حدود"، ثم ذكر أنه أفرد هذه المسألة في كتاب مفرد، وفي موضع آخر يذكر أن الله كان ولا مكان وهو الآن على ما كان.

فالبغدادي من نفاة العلو ومؤولة الاستواء، وبهذا يتبين أن القول بذلك في المذهب الأشعري جاء قبل الجويني.

5ـ وأبرز تطور جاء على يد البغدادي هو قوله في الصفات الخبرية، وقد سبق ذكر أن الباقلاني وابن فورك ومن قبلهما أثبتوا لله الوجه واليدين والعين ومنعوا من تأويلها، وابن فورك - مثلاً - وإن قال بتأويل بعض الصفات الخبرية، كالقدم والإصبع واليمين - كما مر - إلا أن هذه الصفات - صفات الوجه واليدين والعين- لم يؤولها ولم يسلك فيها ما سلكه في غيرها بل نص على القول بالإثبات والمنع من التأويل، أما البغدادي فإنه قال:"المسألة الثالثة عشرة من هذا الأصل في تأويل الوجه والعين من صفاته"، ثم ذكر قول المشبهة ثم قال: "وزعم بعض الصفاتية أن الوجه والعين المضافين إلى الله تعالى صفات له، والصحيح عندنا أن وجهه ذاته، وعينه رؤيته للأشياء، وقوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27]، معناه ويبقى ربك، ولذلك قال: ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ، بالرفع لأنه نعت الوجه، ولو أراد الإضافة لقال ذي الجلال والإكرام، بالخفض

"، ثم ذكر المسألة الرابعة عشرة في تأويل اليد المضافة إلى الله تعالى، وبعد أن أبطل مذهب المشبهة قال: "وزعم بعض القدرية أن اليد المضافة إليه بمعنى القدرة، وهذا التأويل لا يصح على مذهبه مع قوله: إن الله تعالى قادر بنفسه بلا قدرة، وقد تأول بعض أصحابنا هذا التأويل، وذلك صحيح على المذهب، إذا أثبتنا لله القدرة، وبها خلق كل شيء، ولذلك قال في آدم عليه السلام خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75]، ووجه تخصيصه آدم بذلك أن خلقه بقدرته لا على مثال له سبق، ولا من نطفة، ولا نقل من الأصلاب إلى الأرحام، كما نقل ذريته من الأصلاب إلى الأرحام، وزعم بعض أصحابنا أن يديه صفتان، وزعم القلانسي أنهما صفة واحدة "، وكلامه هذا يدل على تأويل صريح لهذه الصفات، وقد بنى تأويله هذا على أن الله واحد فقال بعد ذكر بعض الصفات الخبرية ناسياً إثباتها إلى المشبهة: " ودليلنا على أن الله واحد في ذاته، ليس بذي أجزاء وأبعاض أنه قد صح أنه حي، قادر، عالم، مريد فلو كان ذا أجزاء وأبعاض لم يخل أن يكون في كل جزء منه حياة وقدرة وعلم وإرادة، أو تكون هذه الصفات في بعض أجزائه

"، ثم قال: "وأما قوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27]، فمعناه ويبقى ربك

(ثم ذكر التعليل السابق، ثم قال:) واليد المضافة إلى الله تعالى صفة له خاصة وقدرة له بها فعله"، كما أنه أوّل القدم والإصبع.

وبهذا يتبين أن البغدادي قال بتأويل الصفات الخبرية في وقت مبكر، وأن الجويني - المولود سنة 419 هـ والمتوفى سنة 478هـ - الذي اشتهر عنه أنه أول من أوّل الصفات الخبرية قد سبق إلى ذلك من جانب بعض أع

ص: 242