المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: منزلة توحيد الربوبية عند الأشاعرة - موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأول: مقدمة في الفرق

- ‌الفصل الأول: الهدف من دراسة الفرق

- ‌الفصل الثاني: أهمية دراسة الفرق ورد شبهة من يريد عدم دراستها

- ‌المبحث الأول: تعريف الافتراق لغة واصطلاحا

- ‌المبحث الثاني: الفرق بين الافتراق والاختلاف

- ‌المبحث الأول: النصوص التي جمعت بين الأمر بالجماعة والنهي عن الفرقة في موضع واحد

- ‌المبحث الثاني: الأمر بلزوم الجماعة والتحذير من الفرقة

- ‌المبحث الثالث: بيان حال أهل الفرقة والاختلاف

- ‌المبحث الرابع: التأكيد على أسباب الاجتماع وبيان طرق تأليف قلوب المسلمين

- ‌المبحث الخامس: الفرقة والاختلاف عذاب وعقوبة

- ‌المبحث السادس: الإخبار أن الفرقة واقعة لا محالة ليعلم هذا ويحذر

- ‌المبحث السابع: الأصل في البشرية هو الوحدة والجماعة على التوحيد

- ‌المبحث الثامن: وصية الله لأنبيائه ورسله بالاجتماع على التوحيد الخالص لله رب العالمين ونبذ الفرقة واطراحها

- ‌المبحث التاسع: تبرئة الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الافتراق

- ‌المبحث العاشر: النهي عن مشابهة المشركين وأهل الكتاب في تفرقهم واختلافهم

- ‌المبحث الحادي عشر: التفريق بين المسلمين من غايات وأهداف المنافقين والكافرين

- ‌المبحث الثاني عشر: الفرقة من وسائل الشيطان ومكائده التي ينصبها للمسلمين على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة

- ‌المبحث الأول: الجهل

- ‌المبحث الثاني: الابتداع وعدم الاتباع

- ‌المبحث الثالث: تقديم الرأي على قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: الجدل والخصومات في الدين، والتأويل الفاسد

- ‌المبحث الخامس: الغلو في الدين، وردود الأفعال

- ‌المبحث السادس: التعصب المذهبي والطائفي، والتقليد للرجال، وتقديم أقوالهم على قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث السابع: التنازع على السلطة والملك وحب الرئاسة والظهور والبغي

- ‌المبحث الثامن: الخروج عن طاعة أولي الأمر (العلماء والأمراء)

- ‌المبحث التاسع: التشنيع على أولي الأمر والتقول عليهم، وتأليب الناس ضدهم وتتبع زلاتهم والاحتجاج بها

- ‌المبحث العاشر: التشبه بالكافرين، واتباع سننهم

- ‌المبحث الحادي عشر: اتباع الهوى

- ‌المطلب الأول: ضرر الفرقة على الفرد المفارق

- ‌المطلب الثاني: ضرر الفرقة على المجتمع المسلم

- ‌المبحث الثاني: سلامة الصحابة رضي الله عنهم من الفرقة

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: من هي الفرقة الناجية

- ‌المبحث الثاني: معنى قوله صلى لله عليه وسلم: ((كلها في النار إلا واحدة))

- ‌المبحث الثالث: منهج العلماء في عدَّ الفرق

- ‌الفصل الأول: الأخطار التي تحيط بأهل السنة والجماعة

- ‌الفصل الثاني: عقيدة فرقة السلف أهل السنة والجماعة

- ‌المبحث الأول: الألقاب الصحيحة

- ‌المبحث الثاني: الأسماء والألقاب الباطلة التي ينبز بها أهل الباطل أهل الحق من السلف الصالح

- ‌الفصل الرابع: أقوال السلف في وجوب التمسك بالسنة والحذر من البدع

- ‌الفصل الخامس: لزوم السلف جماعة المسلمين وتحذيرهم من التفرق وأدلتهم على ذلك

- ‌الفصل السادس: الثناء على السلف رحمهم الله تعالى

- ‌المبحث الأول: الجهود الحربية

- ‌المبحث الثاني: جهودهم في خدمة العقيدة

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: وسطيتهم بالنسبة للإيمان بذات الله تعالى

- ‌المطلب الثاني: وسطيتهم بالنسبة للإيمان بالأنبياء

- ‌المطلب الثالث: وسطيتهم في عبادة الله تعالى

- ‌المطلب الرابع: وسطيتهم في صفات الله تعالى بين أصحاب الأديان المحرفة

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: وسطيتهم بالنسبة لأسماء الله تعالى وصفاته بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام

- ‌المطلب الثاني: وسطيتهم في الحكم على أصحاب المعاصي

- ‌المطلب الثالث: وسطيتهم في الإيمان بالقدر

- ‌المطلب الرابع: وسطيتهم في موقفهم من الصحابة رضي الله عنهم

- ‌الفصل التاسع: علامات وسمات الفرقة الناجية وعلامات وسمات الفرق الهالكة (مزايا العقيدة السلفية وأصحابها)

- ‌المبحث الأول: أشهر الأئمة

- ‌المبحث الثاني: أهم مؤلفات علماء السنة في بيان العقيدة السلفية والرد على المخالفين

- ‌الفصل الحادي عشر: تنبيهات مهمة على مسائل في العقيدة

- ‌المبحث الأول: تعريف الأشاعرة

- ‌المبحث الثاني: التعريف بأبي الحسن الأشعري

- ‌المطلب الأول: المراحل الاعتقادية التي مر بها أبو الحسن الأشعري

- ‌المطلب الثاني: سياق الأدلة على إثبات المرحلة الثالثة الأخيرة للأشعري

- ‌المبحث الثالث: ظهور علم الكلام

- ‌المبحث الرابع: نشأة المذهب الأشعري وانتشاره

- ‌المبحث الخامس: أسباب انتشار المذهب الأشعري

- ‌المبحث السادس: تطور مذهب الأشاعرة

- ‌المبحث السابع: بيان درجات التجهم ومنزلة الأشعرية فيه

- ‌الفصل الثاني: ترجمة لأهم أعلام الأشاعرة مع بيان منهجهم

- ‌المبحث الأول: حقيقة توحيد الربوبية عند الأشاعرة

- ‌المبحث الثاني: مقتضيات الإقرار لله تعالى بالربوبية عند الأشاعرة

- ‌المبحث الثالث: منزلة توحيد الربوبية عند الأشاعرة

- ‌المبحث الأول: التوحيد عند الأشاعرة

- ‌المبحث الثاني: عدم وضوح المنهج الأشعري في توحيد الألوهية وأسباب ذلك

- ‌المبحث الثالث: اعتراضات المتأخرين من الأشاعرة على إدخال توحيد الألوهية ضمن أنواع التوحيد

- ‌المبحث الرابع: الشبهات الرئيسة للمتأخرين من الأشاعرة في بعض مظاهر الشرك

- ‌المبحث الخامس: الدليل المعتمد في إثبات استحقاق الله تعالى للعبودية دون ما سواه

- ‌المبحث السادس: منع المتأخرين من الأشاعرة حمل الآيات التي نزلت في المشركين على من عمل عملهم ممن انتسب إلى الإسلام

- ‌المبحث السابع: تبرير متأخري الأشاعرة بعض صور الشرك بأدلة عقلية

- ‌المبحث الثامن: صلة الأشعرية بالصوفية، وأثر هذه الصلة

- ‌المبحث الأول: المسائل المتعلقة بالأسماء الحسنى عند الأشاعرة

- ‌المبحث الثاني: المسائل المتعلقة بالصفات عند الأشاعرة

- ‌المطلب الأول: صفتا السمع والبصر:

- ‌المطلب الثالث: كلام الله

- ‌المسألة الأولى: نشأة قول الأشاعرة في كلام الله، وأسبابه

- ‌المسألة الثانية: الرد عليهم في قولهم بالكلام النفسي

- ‌المسألة الثالثة: هل كلام الله بحرف وصوت

- ‌المسألة الرابعة: القرآن العربي كلام الله وغير مخلوق

- ‌المطلب الرابع: بين اللفظية والأشاعرة

- ‌المطلب الخامس: الحقيقة والمجاز

- ‌المطلب السادس: الصفة النفسية

- ‌المطلب السابع: الصفات السلبية

- ‌المطلب الثامن: أسماء الله وصفاته التي تسمى واتصف بمثلها المخلوقون هل هي من قبيل المشترك أو المتواطئ أو المشكك

- ‌المطلب التاسع: هل الصفة هي الموصوف أو غيره

- ‌المطلب العاشر: قاعدة التنزيه في الصفات عند الأشاعرة

- ‌المطلب الحادي عشر: التفصيل في النفي مع الإجمال في الإثبات

- ‌المطلب الأول: الأدلة العقلية ومنزلتها من الاستدلال

- ‌المطلب الثاني: أنواع الأدلة العقلية:

- ‌المطلب الثالث: الأدلة النقلية ومنزلتها من الاستدلال

- ‌المطلب الرابع: توهم التعارض بين الأدلة النقلية والعقلية وما يسلكونه من الطرق عندئذ

- ‌المطلب الخامس: المسلكان المأخوذان تجاه الأدلة النقلية عند التعارض

- ‌المسلك الأول: مسلك التفويض:

- ‌المسلك الثاني: مسلك التأويل

- ‌المطلب السادس: هل قال الإمام أحمد بالتأويل

- ‌المطلب السابع: قاعدة: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر

- ‌المطلب الثامن: الرد عليهم في نفيهم للصفات الاختيارية

- ‌المطلب التاسع: أدلة نفاة الصفات الاختيارية ومناقشتها

- ‌المطلب العاشر: الصفات الاختيارية تفصيلا

- ‌المطلب الحادي عشر: الصفات الخبرية

- ‌المطلب الثاني عشر: العلو

- ‌المبحث الرابع: منشأ ضلال الأشاعرة في باب الصفات

- ‌المطلب الأول: معنى المتشابه، وهل الصفات أو بعضها منه

- ‌المطلب الثاني: منهج الأشاعرة في النفي في باب الصفات

- ‌المطلب الثالث: أن الصفات ليست من المتشابه

- ‌المطلب الرابع: أيهما الأصل العقل أم الشرع

- ‌المطلب الخامس: نقد القاعدة الكلية للرازي

- ‌المطلب السادس: فكرة التفريق بين العقائد والأحكام

- ‌المبحث الخامس: دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند فرق المبتدعة

- ‌المطلب الأول: شرح دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند الكلابية والأشعرية

- ‌المطلب الثاني: الرد على استدلال المبتدعة بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام على مذهبهم

- ‌المطلب الثالث: الرد الإجمالي على استدلال المبتدعة بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام على مذهبهم

- ‌المطلب الرابع: الرد التفصيلي على استدلال المبتدعة بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام على مذهبهم

- ‌المطلب الخامس: الرد على استدلال المبتدعة بقول إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: هَذَا رَبِّي [الأنعام: 76] على شرعية دليل الأعراض وحدوث الأجسام:

- ‌المطلب السادس: الرد على استدلال المبتدعة بقول الخليل عليه السلام: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76] على نفي قيام الصفات الاختيارية بذات الله تعالى

- ‌المطلب الأول: بيان موافقة أبي الحسن الأشعري للسلف في إثبات الصفات الخبرية لله تعالى كالوجه واليدين والعينين وإبطال تأويلها

- ‌المطلب الثاني: بيان موافقة أبي الحسن الأشعري للسلف في عدم التفريق بين صفة وأخرى

- ‌المطلب الثالث: بيان بطلان أن يكون للأشعري قولان في الصفات وبيان خطأ من حكى عنه ذلك

- ‌المطلب الرابع: اضطراب المنهج الأشعري وتناقضه في بعض مسائل توحيد الألوهية:

- ‌المطلب الخامس: اضطراب المنهج الأشعري وتناقضه في توحيد الأسماء والصفات

- ‌المطلب السادس: اضطراب المنهج الأشعري وتناقضه في الأدلة

- ‌المبحث الأول: انقطاع صلة الأشاعرة بأبي الحسن الأشعري في أكثر المسائل

الفصل: ‌المبحث الثالث: منزلة توحيد الربوبية عند الأشاعرة

‌المبحث الثالث: منزلة توحيد الربوبية عند الأشاعرة

أما الأشاعرة فقد اختلفت عباراتهم في أول واجب على المكلف بعد أن اتفقوا على أن الأمر بعبادته ليس أول واجب.

فحكى الاشاعرة عن الأشعري القول بأن أول واجب على المكلف هو المعرفة. والمعرفة عندهم معناها معرفة وجود الله وتفرده بخلق العالم. فحكى الاشاعرة عن الأشعري القول بأن أول واجب على المكلف هو المعرفة (1). والمعرفة عندهم معناها معرفة وجود الله وتفرده بخلق العالم. وعند الباقلاني أول واجب: النظر (2) فقال: "أول ما فرض الله عز وجل على جميع العباد النظر في آياته

والثاني من فرائض الله عز وجل على جميع العباد الإيمان به والإقرار بكتبه ورسله" .. الخ (3).وأول واجب على المكلف عند الجويني القصد إلى النظر فقال: "أول ما يجب على العاقل البالغ باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعاً، القصد إلى النظر الصحيح

" (4).وقال شارح الجوهرة محاولاً الجمع بين هذه الأقوال: "والأصح أن أول واجب قصداً: المعرفة، وأول واجب وسيلةً قريبةً: النظر، ووسيلةً بعيدة: القصد إلى النظر" (5)، فظهر من هذا أن النزاع بينهم لفظي. والمراد بالنظر عندهم: "ترتيب أمرين معلومين ليتوصل بترتيبهما على علم مجهول" (6).

وواضح أن هذا من المقاييس العقلية، وليس المراد مجرد النظر في آيات الله المستلزم معرفة المراد دون توسط أي حد وسط، كما هو في القياس، وسيأتي بحث إثبات وجود الله تعالى وبيان صعوبته والإشكالات الواردة عليه، وما فيه من لوازم باطلة – إن شاء الله -.ولما عدد شارح الجوهرة المطالب السبعة التي يتوصل بها إلى إثبات وجود الله تعالى قال:"وهذه المطالب السبعة لا يعرفها إلا الراسخون في العلم! " ثم قال:"قال السنوسي: وبها ينجو المكلف من أبواب جنهم السبعة! "(7) اهـ ولم يتعقبه بشيء!، كأنه يقره على مقالته.

فانظر كيف جعل السنوسي عاقبة ترك هذه المطالب على المكلف سواء كان من العوام أو من العلماء الراسخين في العلم!، وانظر اعتراف الباجوري بأنه لا يعلمها إلا الراسخون في العلم!، فيكونون على هذا هم الناجين فقط دون سواهم!، ويكون العوام، وهم أكثر المسلمين ليسوا بناجين من النار، بل حتى العلماء الذين ليسوا براسخين في العلم!. وفي هذا تحجير لواسع وتضييق لرحمة الله، وابتداع لقول لم يسبقوا إليه.

المناقشة:

1 -

قولهم إن أول واجب على المكلف هو النظر الصحيح المفضي إلى معرفة الله يناقض أمرين:

أولهما: أن الإقرار بمعرفة الله أمر مركوز في الفطر.

وثانيهما: الأمر بعبادة الله أولاً.

أما كون الإقرار بالله مركوزاً في الفطر فقد تقدم دليله في الفصل السابق.

(1) انظر: ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 37).

(2)

وقد حكى عنه أن أول واجب هو أول النظر، أي المقدمة الأولى، وليس هناك كبير فرق انظر:((شرح الجوهرة)) (ص: 37).

(3)

((الإنصاف للباقلاني)) (ص: 33).

(4)

((الإرشاد)) (ص: 25).

(5)

((شرح جوهرة التوحيد للباجوري)) (ص: 38).

(6)

((شرح الجوهرة)) (ص: 37) وانظر ((الإرشاد للجويني)) (ص: 25).

(7)

((شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 42).

ص: 245

وتقدمت الإجابة عن اعتراضاتهم كذلك. وهنا لابد من الإشارة إلى اعتراف بعض حذاق علماء الأشاعرة بهذا الإقرار الفطري وهو: الشهرستاني حيث قال في كتابه (نهاية الإقدام في علم الكلام): "وأنا أقول: ما شهد به الحدوث أو دل عليه دليل الإمكان بعد تقديم المقدمات دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياج في ذاته إلى مدبر هو منتهى الحاجات فيرغب إليه ولا يرغب عنه، ويستغني به ولا يستغني عنه، ويتوجه إليه ولا يعرض عنه، ويفزع إليه في الشدائد والمهمات فإن احتياج نفسه أوضح له من احتياج الممكن الخارج إلى الواجب، والحادث إلى المحدث"(1).

فاعتراف الشهرستاني بدليل الفطرة وأن منزلته في الاستدلال فوق الاستدلال بدليل الحدوث والإمكان، وعلل ذلك بأن أصل دليل الفطرة مركوز في النفس لذلك كان أقوى من الدليل الذي يطلب من خارج – وهو واضح – وسيأتي ذكر اعترافات أخرى من غيره في الباب الرابع إن شاء الله.

وأما الأمر الثاني الذي ناقضوه بقولهم هذا فهو أن المعروف بالكتاب السنة والإجماع أن أول ما يجب على المكلفين هو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وقد مضى تحقيق هذه المسألة في الباب الأول – ولكن لا بأس من الإشارة هنا إلى بعض الأدلة:

فمن الكتاب قول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: 36] وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]، وهذا صريح في أن الرسل ما بعثوا إلا لعبادة الله وحده، وأفاد هذا الحصر الآية الثانية. وأما من السنة فقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى أهل اليمن:((فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)) (2). وقوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)) (3).وقد وردت في حديث معاذ جملة وهي: ((فإذا عرفوا الله)) فتمسك بها من قال إن أول واجب هو المعرفة (4)، والجواب كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:"إن الأكثر رووه بلفظ: ((فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك)) (5). ومنهم من رواه بلفظ: ((فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك)) (6)، ومنهم من رواه بلفظ: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله)) (7)، .... ووجه الجمع بينهما أن المراد بالعبادة: التوحيد، والمراد بالتوحيد: الإقرار بالشهادتين، والإشارة بقوله "ذلك" إلى التوحيد: وقوله ((فإذا عرفوا الله)) أي عرفوا توحيد الله، والمراد بالمعرفة: الإقرار والطواعية (8)، فبذلك يجمع بين الألفاظ المختلفة في القصة الواحدة .. "(9). اهـ.

(1)((نهاية الإقدام في علم الكلام)) (ص: 125).

(2)

رواه مسلم (19).

(3)

رواه البخاري (2946) ، ومسلم (33)(21) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

ونسب هذا القول إلى إمام الحرمين كما في ((فتح الباري)) (12/ 361).

(5)

رواه مسلم (19).

(6)

رواه البخاري (7372).

(7)

رواه البخاري (1458) ، ومسلم (19).

(8)

أي التوحيد الذي فسره بالإقرار بالشهادتين لا النظر ولا معرفة الوجود فقط كما زعم الجويني، وهو واضح.

(9)

((فتح الباري)) (13/ 367).

ص: 246

وعلى هذا فإن دلالة هذا الحديث على المطلوب واضحة، فلو كانت المعرفة هي أول واجب على المكلف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليها أولاً، ولما أمر بتوحيد الله في عبادته أولاً، لأنه لا يعقل أن يؤمر بعبادة الله من لا يقر به، وقد تقدم أن الإقرار به ومعرفته فطرية. وأما الحديث الثاني فدلالته أيضاً واضحة، ولكن أنقل هنا كلاماً لأبي المظفر السمعاني رحمه الله فقال بعد ذكره لهذا الحديث:"ومثل هذا كثير، ولم يرد أن دعائهم إلى النظر والاستدلال، وإنما يكون حكم الكافر في الشرع أن يدعى إلى الإسلام، فإن أبي وسأل النظرة والإمهال لا يجاب إلى ذلك، ولكنه إما أن يسلم أو يعطى الجزية أو يقتل، وفي المرتد إما أن يسلم وإما أن يقتل، وفي مشركي العرب على ما عرف. وإذا جعلنا الأمر على ما قاله أهل الكلام لم يكن الأمر على هذا الوجه، ولكن ينبغي أن يقال له - أعني الكافر – عليك النظر والاستدلال لتعرف الصانع بهذا الطريق، ثم تعرف الصفات بدلائلها، وطرقها، ثم مسائل كثيرة إلى أن يصل الأمر إلى النبوات، ولا يجوز على طريقهم الإقدام على هذا الكافر بالقتل والسبي إلا بعد أن يذكر له هذا ويمهل، لأن النظر لا يكون إلا بمهلة، خصوصاً إذا طلب الكافر ذلك، وربما لا يتفق النظر والاستدلال في مدة يسيرة فيحتاج إلى إمهال الكافر مدة طويلة تأتي على سنين ليتمكنوا من النظر على التمام والكمال، وهو خلاف إجماع المسلمين"(1).

2 -

ويقال للأشعرية ثانياً: قولكم إن النظر أول ما يجب على المكلف فيه مناقشة أيضاً من جهتين أخريين:

أولاهما: في نوع هذا النظر.

وثانيتهما: في إيجابه على كل المكلفين.

(1) رسالة (("الانتصار لأهل الحديث)) له – ضمن كتاب ((صوت المنطق والكلام)) للسيوطي (ص: 172) ونقله عنه أبو القاسم التيمي بإسناده عنه في كتابه ((الحجة في بيان المحجة)) (2/ 119).

ص: 247

أما الجهة الأولى: فقد تقدم مرادهم بهذا النظر – وسيأتي إيضاح طريقه إن شاء الله، وقد صرحوا هم بأن طريقة النظر طريقة معتاصة على الفهم حيث لا يعلمها إلا الراسخون في العلم! وهنا لابد من وقفات: الأولى: إن هذه الطريقة لم تنقل عن السلف مع اشتمالها على طرق محرمة كما قال الإمام أبو المظفر السمعاني: "وإنما أنكرنا طريقة أهل الكلام فيما أسسوا فإنهم قالوا: أول ما يجب على الإنسان النظر المؤدي إلى معرفة الباري عز وجل. وهذا قول مخترع لم يسبقهم إليه أحد من السلف وأئمة الدين." اهـ (1)، فتراه أنكر عليهم طريقتهم لاشتمالها على ما لم ينقل عن السلف من أن أول واجب على المكلف النظر، وهي كذلك تستلزم لوازم باطلة كنفي صفات الباري الاختيارية – وقد التزموا ذلك – بدعوى أنها لو ثبتت للزم قيام الحوادث به، وهذا يؤدي إلى تعطيل إثبات وجوده، الذي تم بإثبات أن كل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث! الثانية: وطريقتهم هذه في الأصل قد أخذوها من المعتزلة كما قال أبو جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة: "إن هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك. (2) " فإنهم قد أخذوها عنهم وحاولوا أن يخالفوهم في أصول أخرى كإثبات صفات المعاني فتناقضوا وحاولوا أن يخرجوا من هذا المضيق فأثبتوها كلها أو جلها – بطريقة لا تخلوا من مخالفة لأهل السنة كما سيأتي إن شاء الله. الثالثة: إن النظر الذي ذكر في القرآن ليس هو النظر الذي تواضع عليه هؤلاء المتكلمون، وإنما النظر فيه بذكر الآيات التي هي العلامات الدالة على ما هي آيات له، من غير حاجة إلى توسط حد كما هو في المقاييس العقلية، وقد تخلص بعضهم فقال إنه يصح الاستدلال بالدليل الإجمالي، "وهو المعجوز عن تقريره وحل شبهه"(3)، ومرادهم أن يعجز الإنسان بذكره على الوجه المعتبر عند المنطقيين (4).

وقد ترتب على إيجابهم النظر على جميع المكلفين اختلافهم في حكم التقليد في معرفة العقائد على ستة أقوال:-

أولها: الحكم بكفر المقلد مطلقاً.

وثانيها: الحكم بعصيانه مطلقاً.

وثالثهما: الحكم بعصيان من قلد وفيه أهلية للنظر.

ورابعها: صحة إيمان من قلد القرآن والسنة القطعية!! - فيما عدا الصفات النقلية.

وخامسها: صحة إيمان المقلد مطلقاً، لأن النظر شرط كمال. وسادسها: صحة إيمان المقلد مع تحريم النظر، وحملوه على المخلوط بالفلسفة. وأقوى هذه الأقوال عند المتأخرين القول الثالث (5).

ويلاحظ أن كل تلك الأقوال مبنية على أساس منهار وهو أن المعرفة نظرية لا فطرية!. وزعمهم بأن من تابع القرآن والسنة في المعرفة يكون مقلداً ناشئ من ظنهم أنهما دليلان لفظيان خبريان لا يتضمنان براهين عقلية وهذا ظن باطل – والتحقيق هو أن النظر يجب على من لم يحصل العلم والإيمان إلا به، على أن يكون هذا النظر صحيحاً غير ملتزم لباطلً.

الجهة الثانية من المناقشة: في إيجابهم النظر على كل مكلف من ذكر وأنثى:

(1) الانتصار لأهل الحديث – ضمن ((صوت المنطق والكلام للسيوطي)) (ص: 171)، ونقله عنه أبو القاسم التيمي في ((الحجة في بيان المحجة)) (2/ 117 - 118).

(2)

نقله عن الحافظ ابن حجر في ((فتح الباري)) (13/ 361).

(3)

((شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 21).

(4)

والتفريق بين الدليل الجملي والتفصيلي لم يرتضه بعض الأشاعرة – كالرازي – باعتبار أن الدليل إذا كان متركباً من عشر مقدمات –مثلاً- فإنه لا يقبل الزيادة لأنها كافية، ولا يقبل النقصان لأنه يؤدي إلى التقليد في بعض المقدمات! انظر ((المحصول في أصول الفقه للرازي)) (6/ 76 - 77).

(5)

انظر ((شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 34 - 35).

ص: 248

1 -

فإنا نسلم بأن النظر الوارد الأمر به في الآيات القرآنية واجب، فأما إيجابه على كل أحد فلا نسلم به بل ولا نسلم بأنه أول الواجبات، مع التفريق بين النظر الصحيح – فهو المأمور به -، وبين النظر المفضي إلى الباطل – فلا تدل عليه الآية. فالذي يلاحظ من القرآن هو أن النظر يجب على من لم يحصل له الإيمان إلا به، فمثال ذلك قول الله تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 185]، فهذه الآية والتي قبلها جاءت بعد قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 182 - 183].

ومثل هذه الآية قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ [الروم: 8]، فهذه جاءت بعد قوله: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم: 5 - 6].فمن آيتي الأعراف والروم السابقتين يعلم أن النظر واجب على المكذبين والذين لا يعلمون وكل من كان لا يقوم بالواجب عليه من عبادة الله إلا بعد النظر، فظهر من هذا أن هذا الوجوب جاء من جهة أنه واجب على كل من لا يؤدي واجباً إلا به، وعلق شيخ الإسلام على هذا القول بأنه:"أصح الأقوال"(1).2 - وقولهم عن أول واجب على المكلف هو النظر يشمل كل المكلفين، وبما أنه واجب فيلزم أن الشخص حال الاشتغال به يكون مقيماً على الطاعة ولو كان على غير ملة الإسلام! ولهذا ألزمهم أبو المظفر السمعاني قوله:"وينبغي على قولهم: إذا مات في مدة النظرة والمهلة قبل قبول الإسلام أنه ما مطيعاً له مقيماً على أمره، لابد من إدخاله الجنة كما يدخل المسلمين، وقد جعلوا غير المسلم مطيعاً لله مؤتمراً بأمره في باب الدين وأوجبوا إدخاله الجنة، وقد قال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [عمران: 85]." اهـ (2).

‌المصدر:

منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 314

(1)((درء تعارض العقل والنقل)) (8/ 8).

(2)

((الانتصار لأهل الحديث)) للسمعاني – ضمن كتاب ((صون المنطق للسيوطي)) (ص: 173) مختصراً.

ص: 249