الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس: فكرة التفريق بين العقائد والأحكام
ثم جاء الأشاعرة وظنوا أنهم توسطوا فقالوا. نقول بأنه لا يجوز الاستدلال بخبر الواحد في العقائد لأنه ظني الدلالة ولا يفيد العلم، لكننا نأخذ به في الأحكام. فوقعوا في تناقض عظيم لما يلي:
1) أنهم أتوا بتفريق لم يسبقهم إليه أحد من السلف ولا يخلو من تناقضات واعتراضات كثيرة. فالأئمة الذين شددوا على وجوب الأخذ بخبر الواحد الثقة كالشافعي وأحمد ومالك وغيرهم: لم يفرقوا في قبوله بين العقيدة والأحكام. وإنما طرأت فكرة التفريق عند الأشاعرة.
أ- فقالوا إن خبر الواحد ظني لا يفيد العلم وإنما يفيد العمل.
- أن الظن مذموم بعمومه في الشرع كما قال تعالى وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم: 28] فجعلوه مغنياً من الحق في الأحكام غير مغن في الحق في العقائد؟.
- أن الظن وهم خرص كما قال تعالى إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلَاّ تَخْرُصُونَ [الأنعام: 148] لا منزلة له في الدين لا في العقائد ولا في الأحكام.
- أن المشركين اتبعوا الظن في العقائد والأحكام. فقالوا في العقائد لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام: 148] وفي الأحكام وَلَا حَرَّمْنَا [الأنعام: 148] فأجابهم الله إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلَاّ تَخْرُصُونَ [الأنعام: 148] فالظن لا يعمل به لا في العقائد ولا في الأحكام. بالدليل من هذه الآية.
ب- قولهم أنه يفيد العمل ولا يفيد العلم قول ضعيف. فإن العمل بالشيء فرع عن العلم به.
2) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوفد آحاد الصحابة إلى الأمصار والقرى يعلمونهم العقائد والأحكام. فلو كان خبرهم لا يفيد العلم لما أرسلهم.
3) أن موقفهم هذا أدى إلى الطعن في أكثر أحاديث الشيخين اللذين اتفقت الأمة على صحتها وتلقتها بالقبول. وهؤلاء يثيرون الشك في أوثق مصدرين لهذه الأمة بعد كتاب الله عز وجل. ولم يستفيدوا من هذه الوسوسة إلا التشويش والتهويل على أهل السنة. وفتح ثغرة أمام المستشرقين والطاعنين بالسنة، وإلا فقد رأيناهم في مسائل التوسل والاستغاثة بالأموات يحتجون بما هو أدنى من خبر الواحد، رأيناهم يحتجون بالضعيف بل وبالموضوع من الروايات.
4) أن أهل الحديث أجازوا العمل بالحديث الضعيف في حدود ضيقة. ومنعوه في جوانب أخرى وليس ذلك إلا لعدم صحته. وأما هؤلاء فقد جعلوا حديث الواحد الصحيح شبيهاً به. فمع وصفهم له بأنه "صحيح" إلا أنهم ينزلونه منزلة الحديث الضعيف فصار بذلك صحيح مجازاً ضعيف حقيقة!.
5) أن أهل الحديث كأحمد ومالك والشافعي أولى بالحكم على خبر الواحد من أهل الكلام والجدل الذين هم أبعد الناس عن فن الحديث، ورأيهم في خبر الواحد هو الأولى بالأخذ وليس رأي أتباع المعتزلة والجهمية. أو أعدائهما ممن يلتزمون منهجهما في الكلام والمنطق.
6) أنهم لم ينقذوا الأمة من معرض التجهم والفلسفة والاعتزال، وإنما قاموا فقط بتعديل طفيف على انحراف المعتزلة من غير أن يقضوا عليه. وشككوا في غالب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7) أنهم قد فتحوا بهذه البدعة ثغرة على الدين نفذ منها المستشرقون وطعنوا في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ونسبوا الإسلاميين إلى التناقض حين جعلوا الصحيح ظنياً. وهؤلاء لا يقدرون على الإجابة على شبهات المستشرقين وإنما يقدر عليها من سلم من أحكام أهل الكلام المتناقضة وأثبت خبر الواحد على طريقة أحمد والشافعي.- فثبت أن هذه البدعة لم ترفع الشك ولم تدفع وسوسة ووهم التجسيم بل أثبتتهما كلاهما وفتحت باباً للطعن في هذا الدين. والذي يدفع وهم الوسوسة هو الاستعاذة بالله. وتذكر آيات التنزيه. فإن الإنسان قد يتعرض لوساوس من نوع آخر كما قال أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ((إني أحدث نفسي بالشيء لو خر إلى السماء أحب إليه من أن يتكلم به. قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك صريح الإيمان)) (1). أي أن إنكاره والخوف منه صريح الإيمان.
- والقيد الذي أفاده قول الشافعي "خبر الواحد العدل" يفيد بأنه ليس كل خبر واحد يقبل مطلقاً وإنما خبر الواحد الثقة العدل الضابط المتصل السند. وإلا فالخبر ثلاثة أنواع:
= ما اتصل سنده وثبتت روايته. فهذا حجة ومقبول.
= ما انقطع إسناده وضعفت روايته فهذا مردود.
= ما لا أصل لسنده وعرف وضعه وكذبه. فهذا تحرم روايته والأخذ به. وأبو بكر بن فورك يكثر من الإتيان بهذين النوعين الأخيرين من خبر الواحد ويتعسف تأويلها، وقد كان ضعف سندها كافٍ في ردها من غير ضرورة إلى هذا الاعتساف.
فالحقيقة أن ما صح سنده فهو قطعي الثبوت سواء أكان متواتراً أو آحاداً. وهذا وسط بين من نفوا خبر الواحد. ومن تناقضوا بين نفيه وإثباته من جهة، وبين من أثبتوه كله من غير نظر إلى سلامته من العلل القادحة فيه.
المصدر:
شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية - ص 231
(1) رواه أحمد (2/ 397)(9145)، قال الألباني في ((كتاب السنة)) (654): إسناده صحيح على شرط مسلم.