المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الأول: صفتا السمع والبصر: - موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأول: مقدمة في الفرق

- ‌الفصل الأول: الهدف من دراسة الفرق

- ‌الفصل الثاني: أهمية دراسة الفرق ورد شبهة من يريد عدم دراستها

- ‌المبحث الأول: تعريف الافتراق لغة واصطلاحا

- ‌المبحث الثاني: الفرق بين الافتراق والاختلاف

- ‌المبحث الأول: النصوص التي جمعت بين الأمر بالجماعة والنهي عن الفرقة في موضع واحد

- ‌المبحث الثاني: الأمر بلزوم الجماعة والتحذير من الفرقة

- ‌المبحث الثالث: بيان حال أهل الفرقة والاختلاف

- ‌المبحث الرابع: التأكيد على أسباب الاجتماع وبيان طرق تأليف قلوب المسلمين

- ‌المبحث الخامس: الفرقة والاختلاف عذاب وعقوبة

- ‌المبحث السادس: الإخبار أن الفرقة واقعة لا محالة ليعلم هذا ويحذر

- ‌المبحث السابع: الأصل في البشرية هو الوحدة والجماعة على التوحيد

- ‌المبحث الثامن: وصية الله لأنبيائه ورسله بالاجتماع على التوحيد الخالص لله رب العالمين ونبذ الفرقة واطراحها

- ‌المبحث التاسع: تبرئة الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الافتراق

- ‌المبحث العاشر: النهي عن مشابهة المشركين وأهل الكتاب في تفرقهم واختلافهم

- ‌المبحث الحادي عشر: التفريق بين المسلمين من غايات وأهداف المنافقين والكافرين

- ‌المبحث الثاني عشر: الفرقة من وسائل الشيطان ومكائده التي ينصبها للمسلمين على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة

- ‌المبحث الأول: الجهل

- ‌المبحث الثاني: الابتداع وعدم الاتباع

- ‌المبحث الثالث: تقديم الرأي على قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: الجدل والخصومات في الدين، والتأويل الفاسد

- ‌المبحث الخامس: الغلو في الدين، وردود الأفعال

- ‌المبحث السادس: التعصب المذهبي والطائفي، والتقليد للرجال، وتقديم أقوالهم على قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث السابع: التنازع على السلطة والملك وحب الرئاسة والظهور والبغي

- ‌المبحث الثامن: الخروج عن طاعة أولي الأمر (العلماء والأمراء)

- ‌المبحث التاسع: التشنيع على أولي الأمر والتقول عليهم، وتأليب الناس ضدهم وتتبع زلاتهم والاحتجاج بها

- ‌المبحث العاشر: التشبه بالكافرين، واتباع سننهم

- ‌المبحث الحادي عشر: اتباع الهوى

- ‌المطلب الأول: ضرر الفرقة على الفرد المفارق

- ‌المطلب الثاني: ضرر الفرقة على المجتمع المسلم

- ‌المبحث الثاني: سلامة الصحابة رضي الله عنهم من الفرقة

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأول: من هي الفرقة الناجية

- ‌المبحث الثاني: معنى قوله صلى لله عليه وسلم: ((كلها في النار إلا واحدة))

- ‌المبحث الثالث: منهج العلماء في عدَّ الفرق

- ‌الفصل الأول: الأخطار التي تحيط بأهل السنة والجماعة

- ‌الفصل الثاني: عقيدة فرقة السلف أهل السنة والجماعة

- ‌المبحث الأول: الألقاب الصحيحة

- ‌المبحث الثاني: الأسماء والألقاب الباطلة التي ينبز بها أهل الباطل أهل الحق من السلف الصالح

- ‌الفصل الرابع: أقوال السلف في وجوب التمسك بالسنة والحذر من البدع

- ‌الفصل الخامس: لزوم السلف جماعة المسلمين وتحذيرهم من التفرق وأدلتهم على ذلك

- ‌الفصل السادس: الثناء على السلف رحمهم الله تعالى

- ‌المبحث الأول: الجهود الحربية

- ‌المبحث الثاني: جهودهم في خدمة العقيدة

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: وسطيتهم بالنسبة للإيمان بذات الله تعالى

- ‌المطلب الثاني: وسطيتهم بالنسبة للإيمان بالأنبياء

- ‌المطلب الثالث: وسطيتهم في عبادة الله تعالى

- ‌المطلب الرابع: وسطيتهم في صفات الله تعالى بين أصحاب الأديان المحرفة

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: وسطيتهم بالنسبة لأسماء الله تعالى وصفاته بين الفرق المنتسبة إلى الإسلام

- ‌المطلب الثاني: وسطيتهم في الحكم على أصحاب المعاصي

- ‌المطلب الثالث: وسطيتهم في الإيمان بالقدر

- ‌المطلب الرابع: وسطيتهم في موقفهم من الصحابة رضي الله عنهم

- ‌الفصل التاسع: علامات وسمات الفرقة الناجية وعلامات وسمات الفرق الهالكة (مزايا العقيدة السلفية وأصحابها)

- ‌المبحث الأول: أشهر الأئمة

- ‌المبحث الثاني: أهم مؤلفات علماء السنة في بيان العقيدة السلفية والرد على المخالفين

- ‌الفصل الحادي عشر: تنبيهات مهمة على مسائل في العقيدة

- ‌المبحث الأول: تعريف الأشاعرة

- ‌المبحث الثاني: التعريف بأبي الحسن الأشعري

- ‌المطلب الأول: المراحل الاعتقادية التي مر بها أبو الحسن الأشعري

- ‌المطلب الثاني: سياق الأدلة على إثبات المرحلة الثالثة الأخيرة للأشعري

- ‌المبحث الثالث: ظهور علم الكلام

- ‌المبحث الرابع: نشأة المذهب الأشعري وانتشاره

- ‌المبحث الخامس: أسباب انتشار المذهب الأشعري

- ‌المبحث السادس: تطور مذهب الأشاعرة

- ‌المبحث السابع: بيان درجات التجهم ومنزلة الأشعرية فيه

- ‌الفصل الثاني: ترجمة لأهم أعلام الأشاعرة مع بيان منهجهم

- ‌المبحث الأول: حقيقة توحيد الربوبية عند الأشاعرة

- ‌المبحث الثاني: مقتضيات الإقرار لله تعالى بالربوبية عند الأشاعرة

- ‌المبحث الثالث: منزلة توحيد الربوبية عند الأشاعرة

- ‌المبحث الأول: التوحيد عند الأشاعرة

- ‌المبحث الثاني: عدم وضوح المنهج الأشعري في توحيد الألوهية وأسباب ذلك

- ‌المبحث الثالث: اعتراضات المتأخرين من الأشاعرة على إدخال توحيد الألوهية ضمن أنواع التوحيد

- ‌المبحث الرابع: الشبهات الرئيسة للمتأخرين من الأشاعرة في بعض مظاهر الشرك

- ‌المبحث الخامس: الدليل المعتمد في إثبات استحقاق الله تعالى للعبودية دون ما سواه

- ‌المبحث السادس: منع المتأخرين من الأشاعرة حمل الآيات التي نزلت في المشركين على من عمل عملهم ممن انتسب إلى الإسلام

- ‌المبحث السابع: تبرير متأخري الأشاعرة بعض صور الشرك بأدلة عقلية

- ‌المبحث الثامن: صلة الأشعرية بالصوفية، وأثر هذه الصلة

- ‌المبحث الأول: المسائل المتعلقة بالأسماء الحسنى عند الأشاعرة

- ‌المبحث الثاني: المسائل المتعلقة بالصفات عند الأشاعرة

- ‌المطلب الأول: صفتا السمع والبصر:

- ‌المطلب الثالث: كلام الله

- ‌المسألة الأولى: نشأة قول الأشاعرة في كلام الله، وأسبابه

- ‌المسألة الثانية: الرد عليهم في قولهم بالكلام النفسي

- ‌المسألة الثالثة: هل كلام الله بحرف وصوت

- ‌المسألة الرابعة: القرآن العربي كلام الله وغير مخلوق

- ‌المطلب الرابع: بين اللفظية والأشاعرة

- ‌المطلب الخامس: الحقيقة والمجاز

- ‌المطلب السادس: الصفة النفسية

- ‌المطلب السابع: الصفات السلبية

- ‌المطلب الثامن: أسماء الله وصفاته التي تسمى واتصف بمثلها المخلوقون هل هي من قبيل المشترك أو المتواطئ أو المشكك

- ‌المطلب التاسع: هل الصفة هي الموصوف أو غيره

- ‌المطلب العاشر: قاعدة التنزيه في الصفات عند الأشاعرة

- ‌المطلب الحادي عشر: التفصيل في النفي مع الإجمال في الإثبات

- ‌المطلب الأول: الأدلة العقلية ومنزلتها من الاستدلال

- ‌المطلب الثاني: أنواع الأدلة العقلية:

- ‌المطلب الثالث: الأدلة النقلية ومنزلتها من الاستدلال

- ‌المطلب الرابع: توهم التعارض بين الأدلة النقلية والعقلية وما يسلكونه من الطرق عندئذ

- ‌المطلب الخامس: المسلكان المأخوذان تجاه الأدلة النقلية عند التعارض

- ‌المسلك الأول: مسلك التفويض:

- ‌المسلك الثاني: مسلك التأويل

- ‌المطلب السادس: هل قال الإمام أحمد بالتأويل

- ‌المطلب السابع: قاعدة: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر

- ‌المطلب الثامن: الرد عليهم في نفيهم للصفات الاختيارية

- ‌المطلب التاسع: أدلة نفاة الصفات الاختيارية ومناقشتها

- ‌المطلب العاشر: الصفات الاختيارية تفصيلا

- ‌المطلب الحادي عشر: الصفات الخبرية

- ‌المطلب الثاني عشر: العلو

- ‌المبحث الرابع: منشأ ضلال الأشاعرة في باب الصفات

- ‌المطلب الأول: معنى المتشابه، وهل الصفات أو بعضها منه

- ‌المطلب الثاني: منهج الأشاعرة في النفي في باب الصفات

- ‌المطلب الثالث: أن الصفات ليست من المتشابه

- ‌المطلب الرابع: أيهما الأصل العقل أم الشرع

- ‌المطلب الخامس: نقد القاعدة الكلية للرازي

- ‌المطلب السادس: فكرة التفريق بين العقائد والأحكام

- ‌المبحث الخامس: دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند فرق المبتدعة

- ‌المطلب الأول: شرح دليل الأعراض وحدوث الأجسام عند الكلابية والأشعرية

- ‌المطلب الثاني: الرد على استدلال المبتدعة بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام على مذهبهم

- ‌المطلب الثالث: الرد الإجمالي على استدلال المبتدعة بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام على مذهبهم

- ‌المطلب الرابع: الرد التفصيلي على استدلال المبتدعة بقصة إبراهيم الخليل عليه السلام على مذهبهم

- ‌المطلب الخامس: الرد على استدلال المبتدعة بقول إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: هَذَا رَبِّي [الأنعام: 76] على شرعية دليل الأعراض وحدوث الأجسام:

- ‌المطلب السادس: الرد على استدلال المبتدعة بقول الخليل عليه السلام: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام: 76] على نفي قيام الصفات الاختيارية بذات الله تعالى

- ‌المطلب الأول: بيان موافقة أبي الحسن الأشعري للسلف في إثبات الصفات الخبرية لله تعالى كالوجه واليدين والعينين وإبطال تأويلها

- ‌المطلب الثاني: بيان موافقة أبي الحسن الأشعري للسلف في عدم التفريق بين صفة وأخرى

- ‌المطلب الثالث: بيان بطلان أن يكون للأشعري قولان في الصفات وبيان خطأ من حكى عنه ذلك

- ‌المطلب الرابع: اضطراب المنهج الأشعري وتناقضه في بعض مسائل توحيد الألوهية:

- ‌المطلب الخامس: اضطراب المنهج الأشعري وتناقضه في توحيد الأسماء والصفات

- ‌المطلب السادس: اضطراب المنهج الأشعري وتناقضه في الأدلة

- ‌المبحث الأول: انقطاع صلة الأشاعرة بأبي الحسن الأشعري في أكثر المسائل

الفصل: ‌المطلب الأول: صفتا السمع والبصر:

‌المطلب الأول: صفتا السمع والبصر:

قال الأشاعرة في تعريف صفة البصر: "صفة أزلية قائمة بذاته تعالى تتعلق بالموجودات الذوات وغيرها"(1). وقالوا في تعريف صفة السمع: "صفة أزلية قائمة بذاته تعالى تتعلق بالموجودات والأصوات وغيرها كالذوات"(2).وهذه الطريقة سلكها السنوسي- فإنه قال: "والسمع والبصر المتعلقان بجميع الموجودات (3) ". وللسعد التفتازاني طريقة أخرى، وهي أن متعلق البصر المبصرات، ومتعلق السمع المسموعات (4).فعلى طريقة السنوسي يكون متعلق سمع الله وبصره واحداً، فهو يسمع ما نسمع جنسه وما نبصر جنسه، ويبصر ما نبصر جنسه وما نسمع جنسه (5).وحال الباجوري أن يوفق بين الطريقتين فقال موجهاً طريقة السعد:"ويحتمل أن مراده المبصرات في حق الله تعالى، وهي الموجودات الذوات وغيرها"(6) فتصير طريقته كطريقة السنوسي! ثم إن الأشاعرة أثبتوا للسمع والبصر ثلاثة تعلقات:- (7)

التعلق التنجيزي القديم: وهو التعلق بذات الله تعالى وصفاته. والتعلق الصلوحي القديم: وهو التعلق بالموجودات قبل وجودها. والتعلق التنجيزي الحادث: وهو التعلق بالموجودات بعد وجودها.

المناقشة:

ظهر من تعريف الأشاعرة لصفتي السمع والبصر الأمران الآتيان:-

الأول: اتحاد معلق السمع والبصر على طريقة السنوسي، بل وعلى طريقة السعد بجمع الباجوري.

الثاني: إنكار كون السمع والبصر صفتين ذاتيتين فعليتين فهما ذاتيتان فقط.

فقولهم باتحاد متعلق الصفتين لازمه اتحاد الصفتين، بل يلزم اندراجهما في صفة العلم إذ أثبتوا للجميع انكشافاً، ولكنهم يجيبون على ذلك بما يأتي:-

1 -

إن السمع والبصر ثابتان بالشرع فقط، بخلاف العلم فإنه ثابت بالعقل.2 - إن المدلول لغة للسمع غير المدلول لغة للبصر، وكذلك يقال في العلم، فإذا ثبت تغايرها لغة كانت متغايرة شرعاً (8).

والجواب من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: التفريق بين الصفات باعتبار الدليل فقط غير مسلم، ذلك لأن الدليل لا يقام إلا إذا تصور المستدل المستدل عليه، وأن الدليل دال عليه، فإذا كان السمع والبصر متحدين تعلقاً ويندرجان في تعلق العلم كانت الأدلة المتنوعة التي ذكروها دليلاً على شيء واحد لا على عدة أشياء، فيعود الإلزام السابق - وهو أن السمع والبصر راجعان إلى معنى العلم فلا تثبت بذلك صفتا السمع والبصر - وقد صرح بعض الأشاعرة بالتزام ذلك، فقال المكلاتي:"وقد تردد جواب أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه في ذلك، فتارة قال: إن كونه سميعاً بصيراً هما صفتان زائدتان على كونه عالماً، وإلى هذا المذهب ذهب القاضي. وأبو المعالي وجماعة من الأشعرية، وتارة صرف كونه سميعاً بصيراً إلى كونه عالماً، وإلى هذا ذهب أبو حامد وجماعة من الأشعرية وهذا المختار عندنا"(9)!

(1)((تحفة المريد)) (ص: 73).

(2)

((تحفة المريد)) (ص: 73).

(3)

((أم البراهين)) للسنوسي مع شرحها (ص: 18).

(4)

انظر ((شرح المقاصد)) للتفتازاني (4/ 138 - 139) و ((انظر تحفة المريد)) (ص: 73). وانظر: ((التنيبه)) في (ص: 11).

(5)

انظر ((الشرح الجديد على جوهرة التوحيد)) للعدوي (ص: 57).

(6)

((تحفة المريد)) (ص: 74).

(7)

انظر ((تحفة المريد)) (ص: 86) و ((شرح أم)) البراهين (ص: 18).

(8)

انظر ((تحفة)) المريد (ص: 86).

(9)

((لباب العقول)) للمكلاتي (ص: 213 - 214).

ص: 296

ثم يقال لهم: إذا عادت الصفتان إلى العلم - وقد أثبتم اتحاد متعلق العلم والكلام، عادت الصفات الأربع إلى صفة واحدة فيحصل بهذا زيادة تقارب مع المعتزلة! الوجه الثاني: يقال للأشاعرة: إذا كنتم متبعين للشرع حقاً في إثبات صفتي السمع والبصر فأين الدليل النقلي الذي يدل على اتحاد متعلقهما؟ ولا دليل لهم-. ثم هذه ثلاثة أدلة عامة تثبت التمييز بين صفتي السمع والبصر (1):

1 -

ظاهر القرآن يدل على أن متعلق السمع ما من شأنه أن يسمع - وهو القول، قال الله تعالى: لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء [آل عمران: 181]، وقال: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1].2 - إن الصحابة رضوان الله عليهم فهموا أن السمع هو إدراك المسموعات، فمن ذلك قول عائشة رضي الله عنها:((سبحان الذي وسع سمعه الأصوات)) (2)، ولم نقل الأصوات والمبصرات .. وهم أعرف الناس بربهم، وأعرف باللغة، مما يؤكد أن الأشاعرة لم يوافقوا اللغة ولا السلف ولا القرآن في ذلك.3 - قد ورد الجمع بين السمع والبصر في جملة واحدة مما يدل على الفرق، كما في قوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46]، والمعنى: أسمع القول وأرى العمل وإلا لما كانت فائدة من الجمع، قال ابن كثير في معنى الآية: "

فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه، وأرى مكانكما ومكانه" (3). ولما ناقش الدارمي بشراً المريسي قال:" .. ميز الله في كتابه السمع من البصر فقال: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46]، إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ [الشعراء: 15]، وقال: لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 77] ففرق بين الكلام والنظر دون السمع، فقال عند السماع والصوت: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1]، ولَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء [آل عمران: 181]، ولم يقل قد رأى الله قول التي تجادلك في زوجها، وقال في موضع الرؤية: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: 218 - 219]، وقال وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ [التوبة: 105]، ولم يقل: يسمع تقلبك ويسمع الله عملكم، لم يذكر الرؤية فيما يسمع، ولا السماع فيما يرى، لما أنهما عنده خلاف ما عندك"(4).

(1) انظر هذه الأدلة الثلاثة العامة في ((الشرح الجديد على جوهرة التوحيد)) للعدوي (ص: 57).

(2)

رواه البخاري تعليقا (7385) ، والنسائي (6/ 168)(3460)، وابن ماجه (188) بلفظ:(الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات .. ) والحديث صححه ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1/ 163) ، وابن حجر في ((تغليق التعليق)) (5/ 339) ، والألباني في ((صحيح النسائي)) و ((صحيح ابن ماجه)).

(3)

((تفسير ابن كثير)) (3/ 154) وانظر ((تفسير الطبري)) (9/ 16/170).

(4)

((النقض على بشر)) المريسي (ص: 22 - 23).

ص: 297

الوجه الثالث في مناقشة الأشاعرة: تفريقكم بين صفتي السمع والبصر باعتبار الدلالة اللغوية هو استدلال عليكم لا لكم، إذ السمع في اللغة: إدراك المسموعات، والبصر: إدراك المبصرات كما هو معلوم ضرورة، فتبين أنهم مخالفون للوضع اللغوي كذلك. وأما كون السمع والبصر صفتين ذاتيتين فعليتين، فإن الأشاعرة لا ينازعون في كونهما ذاتيتين، وإنما الكلام معهم في كونهما فعليتين أيضاً، وهم لا ينفون وجود تعلق بين السمع والمسموعات والبصر والمبصرات بعد حدوثها، فيقال لهم عندئذ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"هذا التعلق إما أن يكون وجوداً وإما أن يكون عدماً، فإن كان عدماً فلم يتجدد شيء، فإن العدم لا شيء، وإن كان وجوداً بطل قولهم" - إذ هو الفعل عينه الذي فروا من إثباته بدعوى تنزيه الله من حلول الحوادث به - "وأيضاًَ فحدوث تعلق هو نسبة وإضافة من غير حدوث ما يوجب ذلك ممتنع، فلا تحدث نسبة وإضافة إلا بحدوث أمر وجودي يقتضي ذلك"(1).ومن الأدلة الدالة على إثبات السمع والبصر الفعليين؛ ففي الرؤية والنظر قوله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 105]. فالسين من قوله: فَسَيَرَى اللهُ تمحض الفعل المضارع للاستقبال، وهذا يدل على أنه يرى أعمالهم بعد نزول الآية. ومن ذلك قول الله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 14]. فاللام في قوله لِنَنظُرَ هي لام كي الدالة على التعليل "وهذا يقتضي أن ما بعدها متأخر عن المعلول، فنظره كيف يعملون هو بعد أن جعلهم خلائف"(2).وأما في السمع فكقوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة: 1]. فأخبر الله أنه يسمع - بصيغة المضارع الدالة على الحال - تحاور المجادلة مع الرسول صلى الله عليه وسلم حين كانت تجادل وتشتكي إلى الله. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد يسمع الله لكم)) (3)، فقوله:((يسمع الله لكم)) إثبات لسمع يتضمن سمع القول وسمع قبوله وإجابته، وقد وقعت هذه الجملة جزاءً وجواباً للحمد، ومعلوم أن جواب الشرط والأمر يقع بعدهما، فدل ذلك على أن السمع هنا واقع بعد القول، وهذا إثبات للفعل (4).

‌المصدر:

منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله لخالد عبد اللطيف - 2/ 502

(1)((رسالة في الصفات الاختيارية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن ((جامع الرسائل)) (2/ 18).

(2)

((رسالة في الصفات الاختيارية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن ((جامع الرسائل)) (2/ 16).

(3)

رواه مسلم (404) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(4)

((انظر رسالة في الصفات الاختيارية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية ضمن ((جامع الرسائل)) (2/ 16).

ص: 298

أشار شيخ الإسلام إلى الخلاف فيهما (أي: السمع والبصر) فقال: "وأما السمع والبصر والكلام فقد ذكر الحارث المحاسبي عن أهل السنة في تجدد ذلك عند وجود المسموع المرئي قولين (1).والقول بسمع وبصر قديم يتعلق بها عند وجودها قول ابن كلاب وأتباعه والأشعري، والقول بتجدد الإدراك مع قدم الصفة قول طوائف كثيرة كالكرامية وطوائف سواهم، والقول بثبوت الإدراك قبل حدوثها وبعد وجودها قول السالمية، كأبي الحسن بن سالم وأبي طالب المكي، والطوائف الثلاثة تنتسب إلى أئمة السنة كالإمام أحمد، وفي أصحابه من قال بالأول، ومنهم من قال بالثاني، والسالمية تنتسب إليه"(2).وقد شرح شيخ الإسلام المذهب الحق في ذلك فقال: "وقد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة ودلائل العقل على أنه سميع بصير، والسمع والبصر لا يتعلق بالمعدوم، فإذا خلق الأشياء رآها سبحانه، وإذا دعاه عباده سمع دعاءهم وسمع نجواهم، كما قال تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة: 1] أي تشتكي إليه وهو يسمع التحاور - والتحاور تراجع الكلام - بينها وبين الرسول، قالت عائشة: ((سبحان الذي وسع سمعه الأصوات لقد كانت المجادلة تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في جانب البيت وإنه لخيفى على بعض كلامها فأنزل الله: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة: 1])) (3). وقال تعالى لموسى وهارون: قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] وقال: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80] "(4).فالله تعالى إذا خلق العباد فعملوا وقالوا، فلابد من القول أنه تعالى يرى أعمالهم ويسمع أقوالهم، ونفى ذلك تعطيل لهاتين الصفتين، وتكذيب لنصوص القرآن (5). خاصة وأن فهم هؤلاء الأشاعرة لصفة السمع والبصر ليس هو فهم السلف - الذي يقولون إنه يطلق بمعنى ما به يسمع ويبصر - بل يفسرونهما بمجرد الإدراك فقط.

(1) انظر: ((فهم القرآن للمحاسبي)) (ص:344 - 346).

(2)

((رسالة في تحقيق مسألة علم الله - جامع الرسائل -)) (1/ 181 - 182).

(3)

رواه البخاري تعليقا (7385) ، والنسائي (6/ 168)(3460)، وابن ماجه (188) بلفظ:(الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات .. ) والحديث صححه ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (1/ 163) ، وابن حجر في ((تغليق التعليق)) (5/ 339) ، والألباني في ((صحيح النسائي)) و ((صحيح ابن ماجه)).

(4)

((الرد على المنطقيين)) (ص: 465).

(5)

انظر: ((مجموع الفتاوى)) (6/ 288).

ص: 299

وقد بين شيخ الإسلام في رده على الأشاعرة أن بعض أئمتهم كالرازي اعترفوا بأنه لا مانع من التزام القول بحلول الحوادث هنا، وهذا نموذج لمنهج شيخ الإسلام العام في رده على الأشاعرة حين يذكر ردود بعضهم على بعض - وقد سبق تفصيل ذلك في منهجه العام في رده عليهم -.فإن شيخ الإسلام وهو يرد على الجويني في مسألة حلول الحوادث (1)، ألزمه ذلك في مسألة السمع والبصر فقال:"ما ذكره (أي الجويني) أن المعتزلة قصدهم من طرد الدليل في هذه المسألة (أي مسألة حلول الحوادث) أنه إذا لم يمتنع تجدد أحكام للذات من غير أن يدل على الحدوث، لم يبعد مثل ذلك في اعتوار الأعراض على الذات"(2) - قال ابن تيمية - يلزمه مثل ذلك في تجدد حكم السمع والبصر، فإنه إنما يتعلق بالموجود دون المعدوم، وأما أن يكون الرب بعد أن خلق الموجودات كحاله قبل وجودها في السمع والبصر، أو لا يكون. فإن كان حاله قبل كحاله بعد، وهو قبل لم يكن يسمع شيئا ولا يراه فكذلك بعد، لاستواء الحالين، فإن قيل: إن حاله بعد ذلك خلاف حاله قبل، فهذا قول بتجدد الأحوال والحوادث، ولا حيلة في ذلك، ولا يمكن أن يقال في ذلك ما قيل في العلم، لأن العلم يتعلق بالمعدوم، فأمكن المفرق أن يقول حاله قبل وجود المعلوم وبعده سواء" (3).وقول ابن تيمية هنا في "العلم" ليس رجوعا عن قوله السابق: إن الله يعلم الشيء كائنا بعد وجوده، مع علمه السابق وإنما قصد هنا أن مسألة السمع والبصر أكثر وضوحا من مسألة العلم ن لأن العلم يتعلق بالمعدوم، أما السمع والبصر فيتعلقان بالمسموع والمبصر من الموجودات، فلو احتج محتج على جواز تعلقهما بالمعدوم حتى لا يقال عند وجود المبصر والمسموع إنه تعالى حلت به الحوادث - على صفة العلم لم تقبل حجته، لأن العلم يجوز أن يتعلق بالمعدوم قبل وجوده ففارق السمع والبصر في ذلك، فابن تيمية قطع الاحتجاج بالعلم أولاً، مع أن التحقيق في مسألة العلم أنه لو احتج بها لم يكن له بها حجة، لأن القول بأن علمه تعالى بالشيء بعد وجوده هو نفس علمه به قبل وجوده قول غير صحيح، والدليل على ما قصده ابن تيمية أن الرازي في غالب كتبه سار على طريقة الأشاعرة في أن علم الله واحد لا يتغير مع وجود المعلوم (4)، إلا أنه في صفة السمع والبصر لم يحتج بالعلم، بل اعترف بضعف جواب المعترضين وقال: إن قول الكرامية بحلول الحوادث ليس محالا. وذلك أن شيخ الإسلام قال بعد الكلام السابق: "وقد ذكر هذا الإلزام أبو عبدالله الرازي والتزم قول الكرامية، بعد أن أجاب بجواب ليس بذلك؛ فإن المخالف احتج عليه بأن السمع والبصر يمتنع أن يكون قديما لأن الإدراك لابد له من متعلق، وهو لا يتعلق بالمعدوم، فيمتنع ثبوت السمع والبصر للعالم قبل وجوده، إذ هم لا يثبتون أمرا في ذات الله به يسمع ويبصر، بل السمع والبصر نفس الإدراك عندهم، ويمتنع أن يكون حادثا لأنه يلزم أن يكون محلا للحوادث، ويلزم أن يتغير وكلاهما محال، وقال - أي الرازي - في الجواب (5):

(1) وعلاقتها بصفة الكلام، انظر:((التسعينية)) (ص: 196) وما بعدها.

(2)

((التسعينية)) (ص: 202)، و ((كلام الجويني في الإرشاد)) (ص: 45).

(3)

((التسعينية)) (ص: 202).

(4)

وإن كان قد مال في بعض كتبه - كـ ((المطالب العالية))، و ((شرح الإرشادات)) - إلى جواز التغير، فإنه قال في ((شرح الإرشادات)) (1/ 76): بأن التغير في العلم تغير في الإضافة وذلك غير ممتنع، وقال في المطالب العالية عن الزركان ص: 309: "المذهب الصحيح هو قول أبي الحسين البصري وهو أن يتغير العلم عند تغير المعلوم".

(5)

في ((نهاية العقول)) (160 - ب) ..

ص: 300

"لم لا يجوز أن يكون الله سميعا بصيرا بسمع قديم وبصر قديم، ويكون السمع والبصر يقتضيان التعلق بالمرئي والمسموع بشرط حضورهما ووجودهما، قال: وهذا هو المعني بقول أصحابنا في السمع والبصر: إنه صفة متهيئة لدرك ما عرض له، فإن قال قائل: فحينئذ يلزم تجدد التعلقات. قلنا: وأي بأس بذلك إذا لم يثبت أن التعلقات أمور وجودية في الأعيان، فهذا هو تقرير المذهب، ثم (لئن) سلمنا فساد هذا القسم فلم لا يجوز أن يكون محدثا في ذاته على ما هو مذهب الكرامية. وقوله: يلزم أن يكون محلا للحوادث، قلنا: إن عنيتم حدوث هذه الصفات في ذاته تعالى بعد أن لم تكن حادثة فيها فهذا هو المذهب، فلم قلتم: إنه محال، وإن عنيتم شيئا آخر فبينوه لنتكلم عليه، هذا هو الجواب عن قوله: يلزم وجود التغير في ذات الله. قال شيخ الإسلام معلقا على قول الرازي هذا: "قلت: وقد اعترف في هذا الموضع بضعف الجواب الأول، وذلك أن قول القائل: صفة متهيئة لدرك ما عرض عليه

عند وجود هذا الدرك هل يكون سامعا مبصرا لما لم يكن قبل ذلك سامعا له مبصرا، أم لا يكون، فإن لم يكن كذلك لزم نفي أن يسمع ويبصر، وإن كان سمع ورأى ما لم يكن سمعه ورآه فمن المعلوم بالاضطرار أن هذا أمر وجودي، قائم بذات السامع والرائي، وأنه ليس أمرا عدميا، ولا واسطة بين الوجود والعدم" (1).فالأشاعرة فسروا السمع والبصر بالإدراك، ثم جعلوه ثابتا في العدم، ثم قالوا إنه لا يتعلق إلا بالموجود، وجعلوا تعلقه بالموجود عدماً محضاً، وهذه أقوال فاسدة (2). ولاشك أن اعتراف الرازي مهم جدا لأنه بين إلى أي حد كانت قناعة الأشاعرة بمنهجهم في إثباتهم لهذه الصفات.

‌المصدر:

موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود - 3/ 1049

(1)((التسعينية)) (ص: 202 - 203).

(2)

انظر: ((التسعينية)) (ص: 203).

ص: 301

المطلب الثاني: صفة العلم (1):

يقول شيخ الإسلام موضحا الخلاف في علم الله وتعلقه بالمستقبل: "الناس المنتسبون على الإسلام في علم الله باعتبار تعلقه بالمستقبل على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه يعلم المستقبلات بعلم قديم لازم لذاته، ولا يتجدد له عند وجود المعلومات نعت ولا صفة، وإنما يتجدد مجرد التعلق بين العلم والمعلوم، وهذا قول طائفة من الصفاتية من الكلابية والأشعرية، ومن وافقهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة، وهو قول طوائف من المعتزلة وغيرهم من نفاة الصفات، لكن هؤلاء يقولون: يعلم المستقبلات ويتجدد التعلق بين العالم والمعلوم، لا بين العلم والمعلوم.

وقد تنازع الأولون: هل له علم واحد أو علوم متعددة؟ على قولين: والأول قول الأشعري وأكثر أصحابه، والقاضي أبي يعلى وأتباعه، ونحو هؤلاء والثاني قول أبي سهل الصعلوكي.

والقول الثاني: أنه لا يعلم المحدثات إلا بعد حدوثها، وهذا أصل قول القدرية الذين يقولون: لم يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وأن الأمر أنف، لم يسبق القدر لشقاوة ولا سعادة، وهم غلاة القدرية .... والقول الثالث: أنه يعلمها قبل حدوثها، ويعلمها بعلم آخر حين وجودها" (2). وهذا قول السلف، وهو قول أبي البركات صاحب المعتبر من الفلاسفة، وقول الرازي في المطالب العالية، وهو مخالف لما ينسب إلى الجهم الذي يقول بتجدد علم قبل الحدوث، والذي في القرآن أن التجدد يكون بعد الوجود (3). يقول شيخ الإسلام: "لا ريب أنه يعلم ما يكون قبل أن يكون، ثم إذا كان: فهو يتجدد له على آخر؟ أم علمه به معدوما هو علمه به موجودا؟ هذا فيه نزاع بين النظار" ثم قال عن القول الأول – وهو أنه يتجدد له علم آخر – "وإذا كان هو الذي يدل عليه صريح المعقول، فهو الذي يدل عليه صحيح المنقول، وعليه دل القرآن في أكثر من عشر مواضع، وهو الذي جاءت به الآثار عن السلف" (4).فقول الأشاعرة إنه لا يتجدد له عند وجود المعلومات نعت ولا صفة هذا بناء على نفيهم لحلول الحوادث، لأنه يلزم من ذلك التغير في ذات الله، وقد ذكر شيخ الإسلام أن "التغير" من حجج الفلاسفة على نفي علم الله وأنهم قالوا: "العلم بالمتغيرات يستلزم أن يكون علمه بأن الشيء سيكون غير علمه بأنه قد كان، فيلزم أن يكون محلا للحوادث" (5). قال شيخ الإسلام:"وهم ليس لهم على نفي هذه اللوازم حجة أصلا – لا بينة ولا شبهة – وإنما نفوه لنفيهم الصفات، لا لأمر يختص بذلك" ثم قال: "بخلاف من نفي ذلك (أي التغير) من الكلابية ونحوهم، فإنهم لما اعتقدوا أن القديم لا تقوم به الحوادث قالوا: لأنها لو قامت به لم يخل منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث"(6)، ثم بين شيخ الإسلام أن الرازي والآمدى بينا فساد المقدمة الأولى – وهي أنه لو قامت به الحوادث لم يخل منها – وأن الفلاسفة وكثيرا من النظار منعوا المقدمة الثانية المبنية على منع حوادث لا أول لها، وقالوا إن القديم تحله الحوادث، وجوزوا حوادث لا أول لها (7).

(1) الأدلة النقلية على إثبات صفة العلم كثيرة، أما أدلة العقل فقد قررها شيخ الإسلام بعدة طرق، انظر:((درء التعارض)) (10/ 113 - 126)، و ((شرح الأصفانية)) (ص: 24 - 26)) – ت مخلوف -.

(2)

((رسالة في تحقيق علم الله جامع الرسائل)) (1/ 177 - 179) – ت رشاد سالم.

(3)

انظر: ((رسالة في تحقيق علم الله جامع الرسائل)) (1/ 179 - 181) – ت رشاد سالم -.

(4)

((درء التعارض)) (10/ 17).

(5)

((الرد على المنطقيين)) (ص: 463).

(6)

((الرد على المنطقيين)) (ص: 463).

(7)

((الرد على المنطقيين)) (ص: 463 - 464).

ص: 302

أما شبهة التغير في مسألة العلم – التي جاء بها الفلاسفة – المبنية على المقدمتين السابقتين: ما قامت به الحوادث لم يخل منها – وما لم يخل من الحوادث فهو حادث – فللنظار في جوابها طريقان: أحدهما: منع المقدمة الأولى بالنسبة للعلم وأنه لا يلزم منه حلول الحوادث، وهذا قول الأشاعرة الذين قالوا:"إن العلم بأن الشيء سيكون هو عين العلم بأنه قد كان، وأن المتجدد إنما هو نسبته بين المعلوم والعلم، لا أمر ثبوتي"(1).والثاني: منع المقدمة الثانية، وهي أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، فهؤلاء قالوا:"لا محذور في هذا، وإنما المحذور في أن لا يعلم الشيء حتى يكون، فإن هذا يستلزم أنه لم يكن عالما، وأنه أحدث بلا علم، وهذا قول باطل"(2)، وهذا قول هشام بن الحكم وابن كرام والرازي وطوائف غير هؤلاء.

(1)((الرد على المنطقيين)) (ص: 464).

(2)

((الرد على المنطقيين)) (ص: 464).

ص: 303

ومما سبق يتبين حقيقة الخلاف، وعلاقته بمسألة حلول الحوادث التي جعل الأشاعرة منعها أحد أصولهم التي لا يتنازلون عنها، ومما سبق أيضا يتبين المذهب الحق في ذلك، وأن الله يعلم الشيء كائنا بعد وجوده مع علمه السابق به قبل وجوده، وأن علمه الثاني والأول ليس واحدا، وهذا هو الذي دل عليه القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَاّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة: 143]، وقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142]، وقوله وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ – إلى قوله - وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت: 3 - 11] وقوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31]، وغيرها. يقول شيخ الإسلام حول هذه الآيات: "وعامة من يستشكل الآيات الواردة في هذا المعنى، كقوله: إِلَاّ لِنَعْلَمَ وحَتَّى نَعْلَمَ، ويتوهم أن هذا ينفي علمه السابق بأن سيكون، وهذا جهل؛ فإن القرآن قد أخبر بأنه يعلم ما سيكون في غير موضع، بل أبلغ من ذلك أنه قدر مقادير الخلائق كلها، وكتب ذلك قبل أن يخلقها، فقد علم ما سيخلقه علما مفصلا، وكتب ذلك، وأخبر بما أخبر به من ذلك قبل أن يكون، وقد أخبر بعلمه المتقدم على وجوه، ثم لما خلقه علمه كائنا مع علمه الذي تقدم أنه سيكون، فهذا هو الكمال، وبذلك جاء القرآن في غير موضع، بل وإثبات رؤية الرب له بعد وجوده، كما قال تعالى: وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 105]، فأخبر أنه سيرى أعمالهم

" (1).ثم ذكر شيخ الإسلام أقوال المفسرين في قوله إِلَاّ لِنَعْلَمَ [البقرة: 143] فقال: "وروى عن ابن عباس في قوله: إِلَاّ لِنَعْلَمَ أي لنرى، وروى لتميز وهكذا قال عامة المفسرين: إلا لنرى ونميز، وكذلك قال جماعة من أهل العلم، قالوا: لنعلمه موجودا واقعا بعد أن كان قد علم أنه سيكون، ولفظ بعضهم قال: العلم على منزلتين: علم بالشيء قبل وجوده، وعلم به بعد وجوده، والحكم للعلم به بعد وجوده لأنه يوجب الثواب والعقاب، قال فمعنى قوله لِنَعْلَمَ أي لنعلم العلم الذي يستحق به العامل الثواب والعقاب، ولا ريب أنه كان عالما سبحانه بأنه سيكون، لكن لم يكن المعلوم قد وجد، وهذا كقوله: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ [يونس: 18]، أي بما لم يوجد، فإنه لو وجد لعلمه، فعلمه بأنه موجود ووجوده متلازما، يلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر، ومن انتفائه انتفاؤه" (2).فالعقل والقرآن يدلان على أن علمه تعالى بالشيء بعد فعله قدر زائد عن العلم الأول (3). وتسمية ذلك تغيرا أو حلولا لا يمنع من القول به ما دام دالا على الكمال لله تعالى من غير نقص، وما دامت أدلة الكتاب والسنة تعضده.

‌المصدر:

موقف ابن تيمية من الأشاعرة لعبد الرحمن المحمود – 3/ 1054

(1)((الرد على المنطقيين)) (ص: 464 - 465).

(2)

((الرد على المنطقيين)) (ص: 466 - 467).

(3)

انظر: ((مجموع الفتاوى)) (16/ 304).

ص: 304

وقال الأشعري في أحد قوليه لا يقال (أي عن علم الله) هو الله ولا هو غير الله، وقال في قول له آخر وافقه عليه الباقلاني وجمهور أصحابه:"إن علم الله تعالى هو غير الله وخلاف الله وأنه مع ذلك غير مخلوق لم يزل""الفصل 2/ 126".

أما قولهم في أن ليس لله تعالى علم فمخالف للقرآن وما خالف القرآن فباطل، ولا يحل لأحد أن ينكر ما نص الله تعالى عليه، وقد نص الله تعالى على أن له علماً فمن أنكره فقد أنكر على الله تعالى، وأما اعتراضاتهم التي ذكرنا ففاسدة كلها وسنوضح فسادها إن شاء الله تعالى في إفسادها لقول الجهمية والأشعرية، لأن هذه الاعتراضات هي اعتراضات هاتين الطائفتين وبالله التوفيق "الفصل 2/ 127".

قول من قال أن علم الله تعالى هو غير الله تعالى وخلافه وأنه ما يزل مع الله تعالى.

هذا قول لا يحتاج في رده إلى أكثر من أنه شرك مجرد وإبطال للتوحيد، لأنه إذا كان مع الله تعالى شيء غيره لم يزل معه، فقط بطل أن يكون الله تعالى كان وحده بل قد صار له شريك في أنه لم يزل: وهذا كفر مجرد ونصرانية محضة مع أنها دعوى ساقطة بلا دليل أصلاً، وما قال بهذا أحد قط من أهل الإسلام قبل هذه الفرقة المحدثة بعد الثلاث مئة عام، فهو خروج عن الإسلام وترك للإجماع المتيقن.

وقد قلت لبعضهم: إذا قلتم إنه لم يزل مع الله تعالى شيء آخر هو غيره وخلافه، ولم يزل معه فلماذا أنكرتم على النصارى في قولها إن الله ثالث ثلاثة، فقال لي مصرحاً: ما أنكرنا على النصارى إلا اقتصارهم على الثلاثة فقط ولم يجعلوا معه تعالى أكثر من ذلك فأمسكت عنه أن صرح بأن قولهم أدخل في الشرك من قول النصارى، وقولهم هذا رد لقول الله عز وجل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1]، فلو كان مع الله غير الله لم يكن الله أحد.

وما كنا نصدق من أن ينتمي إلى الإسلام يأتي بهذا لولا أنا شاهدناهم وناظرناهم ورأينا ذلك صراحاً في كتبهم ككتاب السمناني قاضي الموصل في عصرنا هذا وهو من أكابرهم وفي كتاب (المجالس) للأشعري وفي كتب لهم آخر "الفصل 2/ 135".

ووجدنا المتأخرين من الأشعرية كالباقلاني وابن فورك وغيرهما قالوا: إن هذه الأسماء ليست أسماء الله تعالى، ولكنها تسميات له وأنه ليس لله إلا اسم واحد.

لكنه قول إلحاد ومعارضة الله عز وجل بالتكذيب بالآيات التي تلونا ومخالفة لرسول الله فيما نص عليه من عدد الأسماء وهتك لإجماع أهل الإسلام عامهم وخاصهم قبل أن تحدث هذه الفرقة.

وهذا لا يجوز البتة لأنه لم يصح به نص البتة، ولا يجوز أن يسمى الله تعالى بما لم يسم به نفسه، وقد قال تعالى وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] فصح أن القديم من صفات المخلوقين، فلا يجوز أن يسمى الله تعالى بذلك، وإنما يعرف القديم في اللغة من القديمة الزمانية أي أن هذا الشيء أقدم من هذا بمدة محصورة، وهذا منفي عن الله تعالى وقد أغنى الله عز وجل عن هذه التسمية بلفظة أول، فهذا هو الاسم الذي لا يشاركه تعالى فيه غيره وهو معنى أنه لم يزل "الفصل 2/ 151 - 152".

وقد رأيت لابن فورك وغيره من الأشعرية في الكلام في هذا الحديث أنهم قالوا في معنى قوله عليه السلام أن الله خلق آدم على صورته، إنما هو على صفة الرحمن من الحياة والعلم والاقتدار واجتماع صفات الكمال فيه وأسجد له ملائكته كما أسجدهم لنفسه وجعل له الأمر والنهي على ذريته كما كان لله كل ذلك.

هذا نص كلام أبي جعفر السمعاني عن شيوخه حرفاً حرفاً، وهذا كفر مجرد لا مرية فيه لأنه سوى بين الله عز وجل وآدم في الحياة والعلم والاقتداء واجتماع صفات الكمال فيهما، والله يقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11].

ثم لم يقنعوا بها حتى جعلوا سجود الملائكة لآدم كسجودهم لله عز وجل، ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن سجودهم لله تعالى سجود عبادة ولآدم سجود تحية وإكرام، ومن قال: إن الملائكة عبدت آدم كما عبدت الله عز وجل فقد أشرك "الفصل 2/ 168".

‌المصدر:

موقف ابن حزم من المذهب الأشعري لعبد الرحمن دمشقية - ص 33

ص: 305