الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الأولى: نشأة قول الأشاعرة في كلام الله، وأسبابه
قلما يعرض شيخ الإسلام لمسألة الكلام وأقوال الكلابية والأشاعرة فيه إلا ويعرض لنشأة مذهبهم في ذلك، تلك النشأة التي أصبحت تمثل مذهبا خاصا بهم، تميزوا به عن غيرهم.
وقد بين شيخ الإسلام أن قول الأشاعرة في كلام الله جزء من مذهبهم في الصفات الاختيارية القائمة بالله، والتي نفوها لأجل دليل حدوث الأجسام والأعراض الذي استدلوا به على حدوث العالم - وقد سبق شرحه عند الكلام على توحيد الربوبية، وعلى ما نفوه من الصفات - وأول من ابتدع مقالة نفي الصفات الفعلية القائمة بالله ومقالة القول بقدم كلام الله وأنه معنى واحد ليس بحرف ولا صوت ابن كلاب، وتبعه على ذلك الأشاعرة.
فإن الناس قبل ابن كلاب كانوا في الصفات على قولين:
- قول أهل السنة الذين يثبتون جميع الصفات، كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام والوجه واليدين والعين والمجيء والنزول والاستواء والغضب والمحبة وغيرها، دون أن يفرقوا بين صفات الذات، وصفات الفعل المتعلقة بمشيئته وقدرته.
- وقول الجهمية والمعتزلة الذين ينفون جميع هذه الصفات دون تفريق.
- ولم يكن هناك قول ثالث غيرهما حتى جاء ابن كلاب فأثبت لله الصفات المعنوية والذاتية كالعلم والإرادة والكلام والوجه واليدين، ونفي ما يتعلق بمشيئته وإرادته مما يقوم بذاته، من الصفات الاختيارية. وتبعه على ذلك الأشعري وجمهور الأشاعرة.
وكذلك كانوا في كلام الله على قولين:
- قول المعتزلة والجهمية الذين يقولون إن كلام الله مخلوق خلقه في غيره. ولذلك قالوا بخلق القرآن.
- قول أهل السنة الذين يثبتون صفة الكلام وأن الله يتكلم إذا شاء متى شاء، وأنه كلم موسى، ويكلم عباده يوم القيامة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهذا شامل لحروفه ومعانيه، وأن نوع الكلام قديم وجنسه حادث بناء على أن الله يتكلم بمشيئته وإرادته.
- ولم يكن هناك قول ثالث حتى جاء ابن كلاب فابتدع القول بأن كلام الله قديم، وأنه معنى واحد، وأنه لا يتعلق بمشيئة الله وإرادته. يقول شيخ الإسلام في جواب سؤال عن أن القول بأن كلام الله قديم، لا بصوت ولا حرف إلا معنى قائم بذات الله، هو قول الأشعرية - فقال: "هذا صحيح ولكن هذا القول أول من قاله في الإسلام عبدالله بن كلاب، فإن السلف والأئمة، كانوا يثبتون لله تعالى ما يقوم به من الصفات، والأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته. والجهمية تنكر هذا وهذا، فوافق ابن كلاب السلف على القول بقيام الصفات القديمة، وأنكر أن يقوم به شيء يتعلق بمشيئته وقدرته
…
" (1)، ثم ذكر أن الأشعري وافق ابن كلاب على قوله. وابن كلاب والأشعري إنما ابتدعا هذا القول - في كلام الله وفي الصفات الاختيارية - لتقصيرهما في علم السنة، وتسليمهما للمعتزلة أصولا فاسدة، فصارا يوافقان المعتزلة في بعض أصولهم وإن لم يكونا موافقين لهم بإطلاق (2).
(1)((المسألة المصرية في القرآن - مجموع الفتاوى -)) (12/ 178).
(2)
انظر: ((الاستقامة)) (1/ 212).
وقد نقل شيخ الإسلام نصا لأبي نصر السجزي في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد - والتي تسمى باسم: الرد على من أنكر الحرف والصوت - بين فيه نشأة قول ابن كلاب ومن اتبعه في كلام الله فقال: "اعلموا - أرشدنا الله وإياكم - أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والأشعري وأقرانهم - الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة، وهم معهم، بل أخس منهم في الباطن - من أن الكلام لا يكون إلا حرفا وصوتا، ذا تأليف واتساق، وإن اختلفت به اللغات، وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذين تكلموا في العقليات وقالوا: الكلام حروف منسقة،، وأصوات مقطعة، وقالت (العرب) - يعني علماء العربية -: الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فالاسم مثل زيد وعمرو، والفعل مثل جاء وذهب، والحرف الذي يجيء لمعنى مثل هل وبل وقد، وما شاكل ذلك، فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفا وصوتا.
فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه، وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل، وهم لا يخبرون أصول السنة، ولا ما كان السلف عليه، ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك، زعما منهم أنها أخبار آحاد وهي لا توجب علما، وألزمتهم المعتزلة أن الاتفاق حاصل على أن الكلام حرف وصوت، ويدخله التعاقب والتأليف
…
قالوا: فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى خلق له، أحدثه وأضافه إلى نفسه، كما نقول: خلق الله، وعبدالله، وفعل الله.
فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام لقلة معرفتهم بالسنن، وتركهم قبولها، وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل. فإلتزموا ما قالته المعتزلة، وركبوا مكابرة العيان، خرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة: المسلم والكافر، وقالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام، وإنما سمى ذلك كلاما على المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه، وحقيقة الكلام: معنى قائم بذات المتكلم، فمنهم من اقتصر على هذا القدر، ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد، فزاد فيه: "تنافي السكوت والخرس والآفات المانعة فيه من الكلام، ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم، وإثبات اللغة تشبيه، وتعلقوا بشبه منها قول الأخطل:
إن البيان من الفؤاد وإنما
…
جعل اللسان على الفؤاد دليلا (1)
(1) لم أجده في ديوانه - صنعة السكرى -، وكثيرا ما يورده الأشاعرة في كتبهم. انظر ((التمهيد للباقلاني)) (ص: 251) - ت مكارئي، و ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (ص: 75)، و ((غاية المرام)) (ص: 97)، وذكر المحقق في الحاشية أن بعض طابعي ديوان الأخطل أضافوا هذا البيت إلى ما نسب إليه. وانظر الرد على ((من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 92 - 93) - حاشية المحقق. وقال شيخ الإسلام في ((الإيمان)) (ص: 132) - ط المكتب الإسلامي: "من الناس من أنكر أن يكون هذا من شعره، وقالوا: أنهم فتشوا دواوينه فلم يجدوه. وهذا يروى عن أبي محمد الخشاب. وقال بعضهم: لفظه: إن البيان لفي الفؤاد
…
"، وانظر:((مجموع الفتاوى)) (6/ 296 - 297).
فغيره وقالوا: إن الكلام من الفؤاد (1) " (2).ثم نقل شيخ الإسلام نصوصا أخرى للسجزي وللكرجي، ولأبي حامد الإسفراييني الذي اشتهر عنه مخالفة ابن كلاب والأشاعرة في مسألة كلام الله، التي تطرق إليها في أصول الفقه عند الكلام على صيغ الألفاظ، وأن الأمر هل هو أمر لصيغته أو لقرينة تقترن به (3).
ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقا على هذه النصوص التي نقلها، مبينا الأصل والسبب الذي حدا بابن كلاب والأشعري إلى أن يقولا في كلام الله ما قالا، قال-: "وإنما اضطر ابن كلاب والأشعري ونحوهما إلى هذا الأصل، أنهم لما اعتقدوا أن الله لا تقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته، لا فعل ولا تكلم ولا غير ذلك، وقد تبين لهم فساد قول من يقول: القرآن مخلوق، ولا يجعل لله تعالى كلاما قائما بنفسه، بل يجعل كلامه ما خلقه في غيره، وعرفوا أن الكلام لا يكون مفعولا منفصلا عن المتكلم، ولا يتصف الموصوف بما هو منفصل عنه، بل إذا خلق الله شيئا من الصفات والأفعال بمحل كان ذلك صفة لذلك المحل، لا لله،
…
وهذا التقرير مما اتفق عليه القائلون بأن القرآن غير مخلوق من جميع الطوائف، مثل أهل الحديث والسنة، ومثل الكرامية والكلابية وغيرهم، ولازم هذا أن من قال: القرآن العربي مخلوق، أن لا يكون القرآن العربي كلام الله، بل يكون كلاما للمحل الذي خلق فيه
…
والمقصود هنا: أن عبدالله بن سعيد بن كلاب وأتباعه وافقوا سلف الأمة وسائر العقلاء على أن كلام المتكلم لابد أن يقوم به، فما لا يكون إلا بائنا عنه لا يكون كلامه، كما قال الأئمة: كلام الله من الله ليس ببائن منه، وقالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فقالوا:"منه بدأ" ردا على الجهمية الذين يقولون: بدأ من غيره. ومقصودهم أنه هو المتكلم به كما قال تعالى: تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر: 1] وقال تعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة: 13] وأمثال ذلك.
ثم إنهم - مع موافقتهم للسلف والأئمة والجمهور على هذا - اعتقدوا هذا الأصل، وهو أنه لا يقوم به ما يكون مقدورا له متعلق بمشيئته، بناء على هذا الأصل الذي وافقوا فيه المعتزلة، فاحتاجوا حينئذ أن يثبتوا ما لا يكون مقدورا مرادا، قالوا: والحروف المنظومة والأصوات لا تكون إلا مقدورة مرادة، فأثبتوا معنى واحدا، لم يمكنهم إثبات معان متعددة، خوفا من إثبات ما لا نهاية له، فاحتاجوا أن يقولوا معنى واحدا، فقالوا القول الذي لزمته تلك اللوازم التي عظم فيها نكير جمهور المسلمين، بل جمهور العقلاء عليهم.
وأنكر الناس عليهم أمورا:
- إثبات معنى واحد، هو الأمر والخبر.
- وجعل القرآن العربي ليس من كلام الله الذي تكلم به، وأن الكلام المنزل ليس هو كلام الله.
- وإن التوراة والإنجيل والقرآن إنما تختلف عباراتها، فإذا عبر عن التوراة بالعربية كان هو القرآن.
- وإن الله لا يقدر أن يتكلم، ولا يتكلم بمشيئته واختياره،
- وتكليمه لمن كلمه من خلقه - كموسى وآدم - ليس إلا خلق إدراك ذلك المعنى لهم، فالتكليم هو خلق الإدراك فقط.
ثم منهم من يقول: السمع يتعلق بذلك المعنى وبكل موجود، فكل موجود يمكن أن يرى ويسمع، كما يقوله أبو الحسن.
ومنهم من يقول: بل كلام الله لا يسمع بحال، لا منه ولا من غيره؛ إذ هو معنى، والمعنى يفهم ولا يسمع، كما يقوله أبو بكر ونحوه.
(1) في ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 92). إن الكلام من الفؤاد وإنما جعل اللسان على الكلام دليلا
(2)
((درء التعارض)) (2/ 83 - 86)، وقارن بـ ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 87 - 92). ط على الآلة الكاتبة.
(3)
انظر: ((درء التعارض)) (2/ 95 - 108).
ومنهم من يقول: إنه يسمع ذلك المعنى من القارئ مع صوته المسموع منه، كما يقول ذلك طائفة أخرى. وجمهور العقلاء يقولون: إن هذه الأقوال معلومة الفساد بالضرورة، وإنما الجأ إليها القائلين بها ما تقدم من الأصول التي استلزمت هذه المحاذير، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم
…
" (1).
فهذه الأصول الفاسدة - مع معدم المعرفة التامة بأصول السنة - هي التي أوقعت الكلابية والأشعرية في هذه البدعة الكبرى في كلام الله، كما شرحه قبل قليل السجزي المتوفى سنة 444هـ، ثم بينه وزاده تحقيقا شيخ الإسلام ابن تيمية. ومما سبق يتبين أن هذا القول بقدم القرآن وأنه معنى واحد أول من ابتدعه ابن كلاب (2)، وأن الذين اتبعوه في أقواله في كلام الله - بناء على نفي الصفات الاختيارية القائمة بالله - طائفتان.
الطائفة الأولى: الأشاعرة ومن اتبعهم، وهؤلاء قالوا بقول ابن كلاب تماماً، ولم يخالفوه إلا في ثلاث مسائل:
أ- إحداها: مسألة أزلية الأمر والنهي، أي هل كان في الأزل آمرا وناهيا؟ أو صار آمرا ناهيا بعد أن لم يكن، أي عند وجود المأمور والمنهي. الأولى - وهو القول بأزلية الأمر والنهي هو قول الأشعري، والثاني قول ابن كلاب (3).ب- والثانية: أن الكلام مع القول بقدمه وأزليته وأنه معنى واحد: هل هو صفة واحدة، أو خمس صفات، الأول هو قول الأشعري، والثاني قول ابن كلاب (4).
ج- والثالثة: أن القرآن حكاية عن كلام الله عند ابن كلاب، وعبارة عنه عند الأشعري. والطائفة الثانية: السالمية ومن اتبعهم، جعلوا الأزلية للحروف والأصوات، ليجمعوا بين: موافقة ابن كلاب على نفي أن تقوم بالله الصفات الاختيارية، وموافقة الجمهور على أن الكلام ألفاظ ومعاني (5).
وابن كلاب ومن اتبعه من هاتين الطائفتين مخالفون لأقوال جمهور السلف وأئمة الحديث والسنة، بل وجمهور العقلاء.
ومما سبق من بيان نشأة قول الأشاعرة في كلام الله وأسبابه والأصول التي قادتهم إلى أقوالهم يتبين ما يلي:
1 -
أن قولهم هذا مبتدع في الإسلام، خالفوا فيه إجماع الناس.
2 -
أن ادعاء الأشاعرة أن قولهم موافق لقول السلف غير صحيح؛ لأن مذهب السلف كان معروفا قبل ابن كلاب، ولما ابتدع مقالته تلك اشتد نكير جماهير السلف عليه وعلى أتباعه.
3 -
أن أتباع ابن كلاب انقسموا إلى طائفتين: الأشعرية، والسالمية، وكل طائفة تطعن في قول الطائفة الأخرى. وهذا يدل على بطلانهما جميعا.4 - بطلان دعوى الإجماع التي ادعوها على صحة قولهم (6).
(1)((درء التعارض)) (2/ 111 - 115).
(2)
انظر في ذلك: ((شرح الأصفهانية)) (ص: 324 - 325) - ت السعوي، و ((مجموع الفتاوى)) (12/ 301 - 302)، و ((شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى -)) (5/ 533، 552 - 553).
(3)
انظر ((الكيلانية - مجموع الفتاوى)) (12/ 376).
(4)
انظر: ((الكيلانية - مجموع الفتاوى -)) (12/ 376)، وانظر أيضا: في مذهب الكلابية والأشعرية في كلام الله: ((درء التعارض)) (2/ 172 - 173، 304 - 307)، ((شرح الأصفهانية)) (ص: 27) - ت مخلوف، ((التسعينية)) (ص: 85 - 87)، ((مجموع الفتاوى)) (6/ 251، 7/ 662، 12/ 245، 526)، ((جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى)) (17/ 53، 86 - 87)، ((الكيلانية - مجموع الفتاوى)) (12/ 392).
(5)
انظر في قول هذه الطائفة ومناقشتها: ((منهاج السنة)) (2/ 101 - 102) - ط الرياض الحديثة، و ((الكيلانية - مجموع الفتاوى)) (12/ 370 - 371)، ((التسعينية)) (ص: 96 - 101)، ((منهاج السنة)) (3/ 105) - ط بولاق، ((شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى -)) (5/ 556 - 557)، و ((مجموع الفتاوى)) (9/ 284).
(6)
أطال شيخ الإسلام في مناقشة هذه الدعوى، فناقشها في ((التسعينية))، الأوجه:((8/ 11، 26 - 29))، انظر الصفحات (147 - 151، 169 - 172). وهي مناقشات مهمة جدا ناقض فيها أيضا منهج الأشاعرة وأهل الكلام في دعواهم الإجماع على أقوالهم.