الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: الفناء في ذات الرسول صلى الله عليه وسلم
وإذا كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه بهذه الصورة وهذه الصفات في نظر الختمية، فإنه لا غرابة أن جعلوه غاية فنائهم ومنتهى سيرهم، واعتبروا الفناء في ذاته موصلا إلى الله سبحانه وتعالى فيقول الميرغني:"الحمد لله الذي جعل التعلق بالذات المحمدية والصلاة عليها أقرب الطرق إلى حضرته العلية، وجعلها الواسطة والصلاة عليها أعظم واسطة إليها بهية"(1)، وأطلقوا عليه لفظ الحجاب الأعظم الذي يقوم بين السالك وبين الله سبحانه وتعالى. ويقول المحجوب: إن السالك الصادق، إذا توجه بكمال السير، وفنى عن السوي والغير انكشف له أنه صلى الله عليه وسلم قائم بين يدي الله، وأنه سبحانه متوجه إليه بالتجليات كلها لأنها مقصودة من الوجود، وما سواه فإنما تحصل له رشحات من ذلك تتميما لفيض فضله وتكميلا لعموم رحمته، فكل من رام حقيقة التجليات انحجب عنها بسيد السادات، فهو الحجاب الأعظم الذي لا يمكن قطعه" (2).
(1) مجموعة ((فتح الرسول)) محمد عثمان الميرغني (1367/ 1948)، مصطفى الحلبي، مصر، (ص 7).
(2)
((النفحات القدسية))، (ص 133).
ووفقا لهذا التصور فإن همة هؤلاء اتجهت إلى الاستغراق في الرسول صلى الله عليه وسلم سعيا إلى الفناء فيه وتوجهوا إلى الله بالدعاء أن يبلغهم هذه الغاية وينيلهم هذا المقصود: وهذا المحجوب في تعليقه على قول ابن مشيش "واجعل الحجاب الأعظم حياة روحي، وروحه صلى الله عليه وسلم سر حقيقتي، وحقيقته جامع عوالمي" ويقول: أي حاوي أسراري وأنواري كي لا تهيم روحي في محبة خالقها إلا بشوقه، ولا تنير حقيقتي إلا بغرام روحه، ولا يصير جامع عوالمي إلا حقيقة ذاته. ثم يردف قائلا: وإذا أذهب عينه من البين لم يبق إلا استعداد حائز الشرفين وسيد الكونين صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وعظم، وهذا كما يقول المحجوب مقام الفناء في الرسول صلى الله عليه وسلم الموصل إلى كمال الوصول. ويدافع المحجوب عن ابن مشيش وما اتهم به من أنه قدم الفناء في الله على الفناء في الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: فإن قيل: كيف يطلب الشيخ الفناء في الله بقوله: " وأغرقني في عين بحر الوحدة "، ثم يؤخر طلب الفناء في الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه عادة الله في أوليائه جارية بعكس هذا؟ قلت: هذا لا يصح إيراده لمن له ذوق عظيم وفهم مستقيم، لأن كلام الشيخ (ابن مشيش)، من أول الصلاة، فناء فيه صلى الله عليه وسلم. يعرف ذلك من كان من أربابه وقد تخلى من حجابه، وليس هذا إلا فناء خاصة يرقيه إلى مرتبة خاصة يشير إليها قوله صلى الله عليه وسلم:((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)) (1)، وقد جاءنا بثلاثة أشياء يفترض علينا محبتها ولزومها: الأول: ذاته الشريفة وقد بالغ في محبتها وجعلها حياة روحه التي بها ذكر، الثاني: صفاته المنيفة وقد أشار إلى محبتها بقوله: "وروحه سر حقيقتي"، والثالث: ما نبأنا به عن الله وهو شامل للكل وقد أومأ إليه بقوله: " وحقيقته جامع عوالمي " فإذا لا ذات له ولا صفة فضلا عن هوى، وهذه المرتبة هي الاستقامة " (2).وقد ردد الميرغني (الختم) في صلواته وأدعيته وأشعاره هذه المعاني طلبا للفناء في الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول في أحد صلواته: "اللهم صل وسلم وبارك عليه وببركة الصلاة عليه اجعله اللهم لي سمعا وبصرا وقوى لأفني لديه " (3)، ويقول أيضا: " وأن تجعله يا رب روحا لذاتي من جميع الوجوه في الدنيا قبل الآخرة يقظة ومناما ظاهرا وباطنا إنك على كل شيء قدير" (4)، ويقول: "وفرحني بالفناء والبقاء في نبيك الأعظم" (5).
وفي منظومة أسماء الله الحسنى من مجموع الأوراد الكبير يقول الميرغني سائلا المولى سبحانه وتعالى:
وتمنحنا حسن اليقين وتوبة
وتصحبنا تأديب حق النبوة
وتجلي لنا أسرار حضرة ذاتكم
تخلقنا بصفاتكم يا مثبت
وتمنحنا حسن الفناء في نبينا
وتبقينا فيه به بعناية (6)
وفي حديثه عن سر الطريقة الختمية يقول الميرغني: " واعلم أن كل الخير في العكوف على جانب الحبيب وهذا هو المقصود إلى هنا يا لبيب، وذلك أما تعلقا صوريا أو معنويا. فالصوري على نوعين: الأول: باتباع جميع أوامره واجتناب نواهيه وذلك بمواظبة سننه وآثاره والعكوف على ما ورد عنه لتحظى بأسراره وصحوب ارتكاب العزائم لتحظى بالمغانم. والثاني: الفناء في محبته وشدة الشوق والغيبة في مودته وكثرة تذكره والصلاة عليه ومداومة مطالعة المدائح المحركة للشوق إليه. والمعنوي أيضا على نوعين: الأول: استحضار صورته الشريفة وذاته المنيفة وحضرته العفيفة. والثاني: استحضار حقيقته العظيمة وهذا مشهد أهل الأحوال الكريمة واستمداد العالم منه محقق، فقد وقع لنا في الكشف أنه روح الكون، ونوره به قائم العالم"(7).
(1) رواه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (15) وقال ابن رجب ((جامع العلوم والحكم)) (2/ 393): تصحيح هذا الحديث بعيد جدا وقال الألباني: ضعيف.
(2)
((النفحات القدسية))، (ص 144).
(3)
((مجموعة فتح الرسول))، (ص 197).
(4)
((مجموع الأوراد الكبير)) محمد عثمان الميرغني (1358/ 1939)، مصطفى الحلبي، (ص 46).
(5)
((مجموع الأوراد الكبير))، (ص 55).
(6)
((مجموع الأوراد الكبير))، (ص 27).
(7)
((مجموعة فتح الرسول))، (ص 138).