الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: دعاوى مشايخ الختمية وادعاء أتباعهم فيهم
يدعي مشايخ الختمية أنهم استمرار لمدد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبناء على ذلك فإنهم أعطوا لأنفسهم من الصفات ما أعطوه للنبي صلى الله عليه وسلم وأسبغوا على أنفسهم من القدرات ما أسبغوه على النبي صلى الله عليه وسلم، فادعوا بأنهم المدخل للحضرات الإلهية، وأن مقامهم برزخ بين النبوة والولاية، وادعوا التصرف في الكون وزعموا أنهم يغيثون من يلتجئ إليهم ويحتمي بحماهم فيزيلون كربات المكروبين وهم المهمومين وأنهم الوسيلة للسعادة في الدنيا والنجاة من العذاب يوم الدين. ومن ثم يدعون الناس إلى اتباعهم، ويدعون من تبعهم إلى الاعتقاد فيهم هذه المعتقدات الباطلة.
فالميرغني (الختم) يصف نفسه وآله في إحدى قصائده، بأنهم مفاتيح الحضرة الإلهية، وأنهم يعطون من يخلص إليهم ويسدون الباب أمام من لا يعتقد فيهم، ولن ينال شيئًا مهما اجتهد في نيله عن غيرهم.
نحن المفاتيح للحضرات أجمعها
ونحن باب الإله الواحد الصمد
ونحن بززخ بين النبوة والولاية
العظمى أي وبابه الحمد
فمن يريد لماذا نحن قلناه
يأتي (إلينا) بإخلاص بلا بدد
نعطيه مأموله ونوله فوقا
وذا بفضل مرقينا العلي سندي
ومن يقافي (يجافي) نسد الباب دونه
لا يجد دخولا ولو قد قام بالجهد
فقم مريد الغنى وديم فينا فنى
تلقى علوما تفوق الحصر والعدد
وقل إلهي بختم الأولياء أفض
محمد عبدكم عثمان للمدد
وقل به يا رسول الله أدركني
بما أرجيه من نيل كذا سعد
تجد مناك وكم من طالب أمنا
له النبي يوم أسبوع ذا ولد
أبقاه ربي وأحياه وحققه
باسمه عبده وهديه مددي (1)
ويورد الميرغني رواية عن شيخه أحمد بن إدريس يقول فيها: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبره أن محمد بن عثمان الميرغني أعظم الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد المنتظر وأنه من المصطفين منذ الأزل ومن ثم فلا عجب أن يفنى الناس فيه ويهيموا.
حديث أتانا عالي إسناد حكمة
به صرت ولهانا مع كل أخوة
خذ إسناده حديثا من غير مرية
محمد بارة، المدعو مني خليفة
(عن الشيخ ابن إدريس قطب الولاية)
يقول: لقد حدثني يوما مبشرا
أمام جميع الأولياء بلا مرا
عن المصطفى أنبأ له ليسطرا
يقول حلف والله والله كررا
(بأن أعظم الناس الأكابر حضرتي)
لدى الله من بعدي ومن بعد منتظرا
هو والله عثمان الخاتم الذي جرى
له الإصطفاء قدما ولم يكن مشهرا
بلا زمان ألست كان منظرا
(فبالله هيموا فيه ثم إخوتي (2))
…
وفي إحدى قصائده أو شطوحاته يؤكد الميرغني هذا المعنى ويدعي بأنه ختم الأولياء ومن ثم فهو أعظم من كل الأولياء السابقين، وإن مكانته تأتي بعد مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم ويدعو الناس من ثم أن يلوذوا به عند النزول وأن يستمدوا منه الكمال:
أنا ختم إذا ما كان دوري
سترأى يا فتى ماذا منالي
لكل الأولياء من عهد آدم
إلى دور "الوسيلة" في المآل
فيوض من بحار وهي قطر
من أسراري ولا يخفاك قالي
إذا قاموا جميعهم صفوفا
أضاهيهم وأعلاما ترى لي
فإني أحمد المولى تعالى
على كوني بإثر أولي الكمال
فدوري خلف دور المصطفى
مع قيام الكل خلفي في المجال
وصحبي ثاني الدور المعلى
وقرني ذاك قرن لا محال
ويشهد لي اقتفائي نسج طه
فمن مثلي وصحبي في المعالي
فلذ بي في نوازل كل ضيم
وأستمدد إذا رمت الكمال
بإمدادي وقل رب الورى هب
بختمك لي منائي والمجال (3)
(1) ديوان ((مجمع الغرائب المفرقات من لطائف الخرافات الذاهبات)) محمد عثمان الميرغني مصطفى الحلبي، (1355/ 1936)، (ص 60).
(2)
ديوان ((مجمع الغرائب)) (ص 62).
(3)
ديوان ((النفحات المدنية))، (ص 88).
وفي قصيدة أخرى يؤكد الميرغني هذه المعاني ويدعي أنهم ورثوا هذا المجد من عالم النور، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن مكانتهم في رؤيا منامية وذكر أن من زار عثمان فقد رأى الرسول ومن بايعه بايع الرسول. . إلخ.
ما الفخر إلا لنا من سابق الأزل
ما العز إلا بنا من حضرة الرسل
من عالم الذر مولى الخلق قدمنا
تقديم حق بلا ريب ولا زغل
فطالما أنبأ المختار من عظم
عنا وطال بناه دوحة الكمل
لنا وهو الصادق المصدوق في وعد
وقوله الصدق لا يدخله من خلل
ومن رآه مناما قد رآه بلا شك
كما جاء في متن الحديث عل
وكم مرارا يفيد الناس قائل ذا
من زار عثمان ابني زارني حصل
ومن يبايعه بايعني ومن يكن
صافحه صافحني بايعه على عجل
يدخل جنان نعيم نعم فردوس
جواره يحظى من غير ما ملل
بشرى لكم يا أصحاب الختم قاطبة
من مثلكم في الورى قد نال أو ينل (1)
ولم تقتصر هذه الدعاوى على الميرغني (الختم) وحده بل إن ابنه هاشم ادعى أيضا أنه الغوث والقطب المقدم الذي يرضى الله لرضاه ويغضب لغضبه وله التصرف في الكون، والإدخال في الحضرات وإنهم مدد للكثيرين:
أنا الغوث الذي ربي إلهي أتى
بي في الكيان بلا محال
أنا إن شئت أدعو الكون يرقص
بإذن الله وأسكن دع جدالي
أنا لرضائي يرضى الله ربي
لغضبي يغضب الله ذو الجلال
أنا الهادي أنا القطب المقدم
لأهل الله دع عنك الفضال
وأطع واسمع ولا تنكر وبادر
إلي لتستقي كأس الزلال
وأدخلك المسارع كل حضرة
بيدي لا تضام فخذ مقالي
أنا مقدام أهل الوقت جمعا
أنا متبوع فيهمو قطب وآل
ومن صغري استمد الكل مني
مدادي وارتقى سطح الكمال
وحالي ليس يدركه الطحاطح
تعلم حالتي واشطح بحال
أتدري من أنا يا من تفرد
وهو روحي ورب بلا محال (2)
وتبعا لهذا فإن آل الميرغني يدعون الناس طرا إلى اتباعهم والدخول في طريقتهم لكي ينالوا السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة فيقول الميرغني (الختم):
ألا يا معشر الناس
لنا الرحمن أجرا
مدادا ثم طه
تولانا وأمرا
فمن يأتي إلينا
بدنياه والأخرى
سيلقى كل عز
وإحسانا وبرا
علوا فوق خلق
وينجو يوم حشرا
وندخله الحضائر
ونعطي ما يسرا
ومن يعرض فحسبه
وبالآثام خسرا
وهما ثم غما
وخفضا معه ذعرا
وفي الأخرى سيلقى
من المختار زجرا
فهيا من يردنا
يجينا نحن أمرا
سنعطيه مراما
وفضلا نعم فخرا (3)
ويقول أيضا داعيا الناس إلى أن يلوذوا بهم ويدعوا ما سواهم حتى ينالوا المكارم لأنهم هم أهل الوقت:
فمن يتبع لأهل الوقت يحظى
ومن عنهم يجد يلقى بلايا
فيا إخوان يا أهل العصر لوذوا
بنا ودعوا سواناهم خوايا
فمن يشغل بقول أبي وشيخ
يقصر يا محبي في العطايا
ومن يخلص ينل عني المكارم
وحب الأولياء جمعا سمايا (4)
بل يدعي الميرغني الكبير أن مجرد رؤيته ينال بها المحظي الجنة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بشره بذلك وينقل عنه ابنه جعفر ذلك فيقول: (سمعته مرارا يقول: "من رآني أو رأى من رآني إلى خمسة لا تمسه النار"، يقول: قال لي جدي النبي المختار)(5). ويقول الميرغني نفسه ذلك ناسيا الوعد بإدخال من يراه الجنة إلى الله سبحانه وتعالى؛
لقد صار رب العزة سمعي وناظري
وقلبي ورجلي مع يدي ولساني
وأوعدني أن لا يعذب مسلما
رآني حقيقا أو رأى من رأني
وإني كبير الأولياء بأسرهم
جمعنا من العرفان كل بيان (6)
(1) ديوان ((النفحات المدنية))، (ص 93).
(2)
ديوان ((شفاء القلوب))، (ص 74)، وانظر أيضا (ص 76).
(3)
ديوان ((النفحات المدنية))، (ص 46).
(4)
ديوان ((النفحات المدنية))، (ص 55).
(5)
ديوان ((النفحات المدنية))، (ص 48).
(6)
ديوان ((النفحات المدنية))، (ص 98).
ويزعم أيضا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: "من صحبك ثلاثة أيام لا يموت إلا وليا"(1)، ويحكى أنه لما قدم المدينة قال له ساكنها عليه أفضل الصلاة والسلام في مكة:"إن من زارني في سنتك هذه والتي قبلها والتي بعدها عندنا مقبول"(2).
ودعاوى المراغنة هذه دعاوى عريضة تحتاج إلى إثبات، كما أنها مخالفة تماما للأدب الإسلامي الذي نهى عن تزكية المرء نفسه: أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا [النساء: 49 - 50]، فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 32]، كما أنها لا تتفق مع أدب المؤمن الذي ينبغي أن يكون دوما في مقام بين الخوف والرجاء، الخوف من أن لا يقبل عمله أو لا يختم له بالصالحات، والرجاء في القبول وحسن الخاتمة. فالاطمئنان التام والجزم بالنتائج بهذه الصورة التي يحملها أدب المراغنة مخالف حتى لسلوك كثير من المتصوفة. وتتضح عدم مصداقيته حين يصل إلى درجة الفخر والتباهي ودعوة الناس إلى التصديق بهم واتباعهم نتيجة لذلك. أما زعم الميرغني بأن الرسول صلى الله عليه وسلم بشره بأن من رآه أو رأى من رآه إلى خمسة لا تمسه النار. "فهذه دعوى تحتاج إلى برهان، وميزة لم تكن للنبي صلى الله عليه وسلم نفسه ولا لأحد من الأنبياء قبله، فهل الميرغني أفضل من الرسول صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه السلام كان يرى الكفار ويرونه كل يوم ولم يكن ينفعهم ذلك، بل إن الله سبحانه وتعالى أخبره أن استغفاره للكفار ودعاءه لهم لا ينفعهم، فقال سبحانه: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 80] لأن الجنة بعد تفضل الله تعالى بالأعمال: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72]، ورؤية الميرغني ليست من العمل في شيء.
نتيجة لهذا الفضل والميزة التي أسبغها أئمة الختمية على أنفسهم والمكانة عند الله والولاية التي ادعوها، ساد في أدبهم التوسل ببعضهم البعض، وساد في أدب أتباعهم التوسل بهم والتوجه إليهم بالدعاء وطلب العون والنصر وتفريج الكروب وإزالة الهموم وإغاثة الملهوف إلى غير ذلك من أنواع الدعاء والتوجه والعبادة التي لا ينبغي أن تكون إلا لله، والذي هو في واقع الأمر نوع من الشرك في العبادة. وقد كان مشايخ الطريقة قدوة لأتباعهم في هذا النهج والسلوك. فنجد الميرغني (الختم) يمدح شيخه ابن إدريس ويعتبره مقدما له وملجأ، وأن له يمينا إذا قبلها الشخص تمحو أوزاره!!
على من له يمن اليمين ومن له
يمين إذا ما قبلت تمحو للوزر
فيا عمدتي يا مركزي يا مقدمي
ويا ملجئي والله والله والطهر
ويذكر أنه لم يصحب شيخه لغاية دنيوية وإنما رغبة في أن يحضر الشيخ موته ويدفع عنه سوء الخاتمة، وأن يحضر شيخه والمصطفى صلى الله عليه وسلم ويؤنساه في وحشة قبره، وأن يدنيه شيخه منه في يوم الحشر:
نعم مرادي حين يحضرني موتي
تدافع عني السوء تختم لي عمري
بحسن ختام يحضر المجتبى أيضا
تدافعا عني لوحشة ذا القبر
وفي الحشر تدنيني لنحو لوائكم
تقول أيا ابن إدريس للمصطفى ذخر
محمد عثمان المسيء الذي له
من الذنب أوزار تفوق عن الحصر (3)
(1)((لؤلؤة الحسن الساطعة)) (ص 46).
(2)
((لؤلؤة الحسن الساطعة)) (ص 48).
(3)
ديوان ((مجمع الغرائب))، (ص 24)، وانظر أيضا صفحات (26 – 35).
ولا أدري كيف يتصور الميرغني أن شيخه سيقدم له كل هذه المساعدات والعون وهو ميت في قبره.
ونجد أيضا محمد سر الختم يصف جده السيد المحجوب بصفات تفوق صفات البشر، فينسب إليه معرفة حجب القلوب، وأنه يفرج الكربات إذا دعي اسمه، وينجد من يستنجد به حيا أو ميتا، على السواء، وأن إليه التصرف في الكون، لأنه كما يقول: من سلالة، من التجأ إلى حماها سعد، ومن الذين هم خزائن أسرار الإله:
يا رب أمدنا بفيض الميرغني
السيد المحجوب غوث اللاهف
كشاف حجب للقلوب فأصبحت
ملأى بنور الحق ذات تحائف
كم فرج الكربات إن دعي اسمه
يأتي كلمع البرق أرأف رائف
خلع الإله على اسمه خلع الرضا
وحباه كل مواهب وتحائف
نطق الجماد له وكان بمحضر
في شهر صوم في تلاوة عاكف
إذا ما تلا وأتى سلاما قالها
فأجابه الكون المقر لعارف
فاهتزت الأشجار والأحجار قائلة
سلاما كررت بمواقف
نجداته بحياته كمماته
جرب فسرعتها كبرق خاطف
إلى أن يقول:
هو صفوة الأخيار والأطهار من
قوم لهم في الدين حسن مواقف
من يلتجئ بحماهمو يلقى الهنا
فوق الرجا جادوا لنا بمضاعف
وهم الخزائن للإله وسره المكنون
في الملأ العلي الصائف
وهم العطية للرضا وكوثر
المختار في الذكر الحكيم الواصف (1)
ويمدح جعفر الميرغني والده محمد عثمان ويدعو مريديه أن يتوسلوا به لقضاء حاجاتهم وتحقيق آمالهم إذ هو الذي يغيث المكروب ويشفي السقيم وبجاهه تكون النجاة:
يا رب صلي على مقام الختم سيدنا
وحفه بالرضا يا واسع الكرم
بادر بصدق وود عالي الهمم
وأنزل بساحة ختم القوم من حرم
وحط رحلك في أبوابه فعسى
بجاهه ينجك المولى من العدم
وسل به كل ما ترجوه من أمل
فهو الذي جوده كالغيث والديم
غياث ذي كرب شفاء ذي وصب
غوث لذي نصب في السهل والأكم (2)
ويقول أيضا عن والده مادحا له واصفا له بصفات تتضمن معاني مخالفة لمقررات العقيدة الإسلامية فيقول: إنه ملاذ الخائفين، الذي يصفح عن الزلات، ويغيث المكروبين ولا أدري ماذا ترك هذا السيد لله سبحانه وتعالى من صفات:
أنت الغياث إذا ناداك ذو كرب
أنت العياذ ملاذ الخائف الحزن
أنت الصفوح عن الزلات يا أملي
كجدك المصطفى المعهود بالمنن (3)
ونجد أيضا محمد سر الختم يمدح والده (محمد عثمان الختم) مدعيا أن من لاذ به في الدنيا نجا، وفوق هذا فإنه يجادل عن من قصده في يوم الحشر:
من لاذ بالختم إذ نابته واقعة
مثل الحديد ورت نار الورى شرره
يكفيه ذاك وفي العقبى مجادلة
في الحشر يوم امتحان الله من وره (4)
ويقول محمد سر الختم الحفيد مادحا جده (محمد عثمان الختم) طالبا من الناس أن يلوذوا به ليحقق لهم مقاصدهم وأن ييمموا حماه ليجدوا ما يطلبون:
ختم الولاية والعرفان سيدنا
السيد السند القدسي عثمان
الميرغني الذي ما زال معتصما
بربه وله من شأنه شان
يمم حماه تجد ما أنت طالبه
ينصاع بالذكر من جدواه إنسان
ولذ به عندما أملت نيل مني
وحقق القصد فيه فهو محسان (5)
ويقول عثمان تاج السر يمدح عمه محمد الحسن الميرغني:
أضحت رقاب الخلق خاضعة له
والوحش في الفلوات والأفيال
فالملك والملكوت طوع يمينه
والكون والجبروت طوع شمال
يا واقفا عند المقام فلذ به
وأمدد أكف الفقر والإذلال
فالله يقبل كل من يسأل به
متوسلا ويجيبه في الحال (6)
(1) ملحقات ((القصائد المدنية)) محمد سر الختم ملحق، ((النور البراق))، (ص 106).
(2)
((الديوان الكبير))، المسمى ((رياض المديح)) جعفر الميرغني (ص 33).
(3)
((الديوان الكبير))، المسمى ((رياض المديح)) جعفر الميرغني (ص 73).
(4)
ديوان ((مجمع الغرائب))، (ص 141)(ملحقات).
(5)
((القصائد المدنية))، (ملحقات النور البراق)، (ص 108).
(6)
((النور البراق))، (ملحقات)، (ص 120).
هذه النقول المتنوعة من أدب مشائخ الختمية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن هؤلاء القوم يظنون في أنفسهم أنهم يجيبون دعوة المضطر، ويتصرفون في الكون، ويكشفون حجب الغيب، وينفسون كربات المكروبين وأنهم وسيلة يتوسل بها لقضاء الحاجات وإجابة الدعوات وأن بهم تنال السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة. وإذا كان هذا هو ظن المشائخ بأنفسهم ودعواهم، فلا عجب أن نجد أن الطريقة في جملتها دائرة حول أشخاصهم فيتخذهم الأتباع واسطة بينهم وبين الله، ويتوسل بهم المريدون، ويصفونهم بكل الصفات التي تحمل في طياتها معاني الشرك، وتمتلئ بالتصورات التي لا تليق إلا بذات الله سبحانه وتعالى.
فهذا أحد المريدين يقسم أن مقام محمد عثمان الختم لا يدانيه أحد، وأن من يرد السعادة في الدارين فعليه بهذا السيد الذي بشره الرسول بأن من رآه لا تمسه النار:
إن رمت أن تحظى بكل فضيلة
وتفوز في الدارين بالإسعاد
وتجار من ضيق الزمان وغدره
ومن العنا والضر والأنكاد
فعليك بالحبر الهمام أبي الوفا
الميرغني عثمان ذي الإسناد
قطب الورى وأميرهم والمرتضى
ختم الكرام القادة الأمجاد
تالله ما نال امرؤ كمقامه
وفضله لا يحصى بالتعداد (1)
إلى أن يقول:
قد بشر الهادي النبي المجتبى
المنتقى عثمان ذا الإرشاد
من رآه حقيقة بمحبة أو
من رأى فلخمسة يا حادي
ما مست النيران قطعا جسمه
فمكارم تبنى بكل سداد
وإذا تصبك ملمة فبه استغث
متصرخا ينجي كقدح زناد (2)
وهذا أبو بكر بن المتعارض خليفة الشيخ الحسن الميرغني يخاطب شيخه في لغة صوفية رمزية لا يخاطب بها إلا الله تعالى، ويقف، كما يقول، أمامه في ذلة وتجرد عن كل فعل وحس وروح وقلب، ذاهلا عن ثنويته، كما يقول، وعن وجوده، ويطلب منه أن يتجلى له تجلي الرسول لشيخه ويذيقه من الكأس التي أذاقه منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتحدث عن غيبة شيخه واحتجابه ويطلب منه في إلحاح أن يكشف عن ذاته ويظهر له بعض علاماته، ويبدل جسمه نورا بسيطا ويعلمه كتاب (الجفر) المحيط بالبواطن وأن يعدل حاله، ويسأل الله في إلحاح أن يزيل عنه حجاب البعد وكرمه برؤية ذات شيخه، وهكذا نجد بأن الشيخ تقمص صورة الرسول ونعته بنعوته فلنستمع إلى بعض ما يقول ابن المتعارض مخاطبا شيخه الحسن الميرغني:
على ذات الذوات إمام كل
بكنه الذات للذات التجلي
ببابك قد وقفت بكل ذل
وكل تجرد عن كل فعلي
وعن جسمي وروحي ثم قلبي
وعن سري وعن وصفي لقولي
وعن ثنويتي عن كل دعوى
ورؤية ذاك مني في التجلي
وعن كل التوهم عن وجودي
فأنت الأكرم الذاتي كن لي
كما كان الرسول حباك ذاتا
هي الكنه المحيط بكل كلي
ثم يقول:
منى يا أكرم الكرماء تمحو
بطلعة شمس ذاتك كل ظلي
تربينا بحجرك في سويدا
عميم الجود مرفوع المحلي
وتسقينا شرابا أحمديا
لإطلاقات كنه الكنه يعلي
وكم علمتنا حكما أفادت
بأنك أنت صرت عديم مثل
وأنك نلت سرا لا يضاهى
تلوت الأعظم الأسنى بشكل
ألوفا وانفردت بذات أحمد
بغير حجاب نور في التدلي
وأنا قد جزمنا واعتقدنا
يقينا غير منفك بحل
فهذا القول أين الفعل شيخي
وأستاذي متى ومتى تخلي
غيابك واضطراب القلب يسكن
خليلي قال لاطمئنان عقلي
وكم في الأرض قبلك من رجال
وكم نطقوا وكم قالوا بقولي
فإن كنت المشار إليه فاخرج
بخال الحسن بل بلباس نعل
وبدل جسمنا نورا بسيطا
يضيء كما السراج بجنح ليل
وعلمنا كتاب الجفر علما
محيطا بالبواطن والتجلي
وبدل هذه الأحكام وأظهر
وجود الله في أزل بعدل
فمالك في البشائر غير هذا
ظهرت أم اختفيت فأكشفن لي
نقاب الوجه أنظره عيانا
فأطرب حين أذكر أو أصلي
إلى كم تمنحني لست أقوى
لبلوى البعد عجل جمع شملي
(1) ديوان ((شفاء القلوب))، (ص 121).
(2)
ديوان ((شفاء القلوب))، (ص 121).
فإني طائح بالباب دهرا
أروم بمحض جودك كل فضل
إلى أن يقول سائلا الله تعالى:
وأكرمني برؤية ذات شيخي
بكل جواهري حجبي تولي (1)
وفي نفس الأسلوب وفي لغة مليئة بالخضوع والذل يخاطب عبد الله بن أبي بكر القلوصي جعفر الميرغني حين ودعه فيقول:
فها أنا الآن ملهوفا ومضطربا
أسامر النجم أدعو وقت أسحاري
أن يجمع الله شملي عن قريب بكم
بجاه طه وبالزهراء وأحبار
حتى أمرغ خدي في مواطئكم
وألثم النعل وأسعى سعي حمار
يا ابن غوث الورى عثمان من بهرت
أسراره وسمى قدرا بمقدار
يا جعفر الفضل جد بالفضل يا ثقتي
فإنك الميرغني غث عبدك العاري (2)
ويشيد أحد المريدين بآل الميرغني، مصرحا بأن من استجار بهم لا تسطو عليه حوادث الدهر، داعيا الله أن يفرج بهم كرباته ويحقق عن طريقهم رجاءه:
محبتهم فرض على كل مسلم
مودتهم في الله لله قربان
هم الصيد آل الميرغني معدن الحلي
إذا ما فاخر الأقران بالمجد وازدانوا
وهل نتقي من حادث الدهر سطوة
ونحن لسر الختم في مصر جيران
إلهي بهم فرج من الهم كربتي
وحقق رجائي والرجاء منك غفران (3)
وقد أصبحت هذه المعتقدات الباطلة والبدع المنكرة من الأتباع والشيوخ هي الطابع المميز لأصحاب الطريقة الختمية، فالأتباع والمريدون يدعون مشائخ الطريقة أحياءا وأمواتا، ويعتقدون أنهم ينجونهم من النار ويفرجون عنهم كرب الدنيا فيشفون مرضاهم، ويعينون محتاجهم، والمشائخ لا ينكرون هذا الأمر إن لم يشجعوه. وقد أشار الشيخ أبو الحسن الندوي في مذكراته إبان زيارته للسودان عام 1951م، أنه رأى أثناء خروجه من دار السيد علي الميرغني حلقة قائمة من الشباب يرددون في لحن:(شيئًا لله يا حسن. . أنت سلطان الزمن) فأنكر هذا النشيد الذي لا يرى له مبررا كما يقول، والذي يعارض التوحيد معارضة صريحة، وكيف تجوز الاستغاثة بشيخ ميت والاعتقاد بأنه سلطان الزمن وتساءل الأستاذ الندوي عما إذا كان السيد يعلم هذا فيوافقهم عليه أو لا يعلمه. . (4)، وقد رأينا من قبل الإجابة على هذا التساؤل، وتبين لنا أن الختمية جميعا سادة وأتباعا يعتقدون هذه الاعتقادات الباطلة المخالفة تماما لعقيدة التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى. وقد سرت هذه المعتقدات لدى عامة الختمية وأصبحوا يعبرون عنها في أشعارهم وأناشيدهم الشعبية ويتخذونها شعارا لهم، ولعل في المقاطع التالية من أدب الشايقية ما يكفي:
فيقول أحد شعراء الشايقية عن أئمة المراغنة:
ابن عثمان جدكم
والحقائق عندكم
والبفوت فوق حدكم
أسقوه كأس الحنظل
يا ابن عثمان الشريف
من حمو النار يا لطيف
في الصراط حالتنا كيف
في حوى السيد علي
ود عثمان قليبنا بريدوا
والختمية جملة عبيدو
جيد لينا بالسيدة مريم
ستي وقيعه ما بيندم
ستي يا بنت سيدي هاشم
وأبوك لابس الرجال خاتم (5)
(1) ديوان ((شفاء القلوب))، (ص 119).
(2)
((الديوان الكبير)) (ص 79).
(3)
ديوان ((مجمع الغرائب)) (156 – 158).
(4)
((مذكرات سائح في الشرق العربي)) (ط3 1398/ 1978)، مؤسسة الرسالة، بيروت (ص 208).
(5)
جريدة ((الراية السودانية)).
إن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الأنبياء والأولياء وسيد ولد آدم وهو المرسل من عند الله، لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا ولا يملك هداية شخص أو إلهامه، فمن باب أولى أن أهل الأرض جميعا لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، إلا بإذن الله، ومن ثم فإن دعوى أصحاب هذه الطريقة وغيرها من الطرق أنهم يستطيعون التصرف في أقدار الله الكونية وأن بيدهم النفع والضر والمنع والعطاء دعوى باطلة فاسدة مخالفة لتعاليم الإسلام وأصوله. بل إن مثل هذا الاعتقاد قد يؤدي إلى الكفر، وهو شبيه باعتقاد النصارى في المسيح وغلاة الشيعة في علي. يقول ابن تيمية في تفسير معنى كلمة، "الغوث":"مثل تفسير بعضهم أن الغوث هو الذي يكون مدد الخلائق بواسطته في نصرهم ورزقهم، حتى يقول: "إن مدد الملائكة وحيتان البحر بواسطته، فهذا من جنس قول النصارى في المسيح عليه السلام، والغالية في علي رضي الله عنه، وهذا كفر صريح يستتاب منه صاحبه، فإن تاب وإلا قتل فإنه ليس في المخلوقات لا ملك ولا بشر يكون إمداد الخلائق بواسطته". ويذكر ابن تيمية أيضا أن من بين أسباب المروق من الإسلام الغلو في بعض المشائخ بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح عليه السلام، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني أو ارزقني أو اجبرني، أو أنا في حسبك. ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يدعى معه إله آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح، والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم يقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3]، وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ [يونس: 18] فبعث الله رسله تنهى أن يدعي أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة"(1).
وهكذا يتبين لنا خطورة معتقدات أصحاب هذه الطائفة، وخطر آرائهم وفساد تصوراتهم وما تضمنته من غلو قد يؤدي إلى الشرك المحقق. وهي كما أسلفنا معتقدات مصادمة لصريح القرآن الذي دل في أكثر من آية على أن الله سبحانه هو وحده المتفرد بالخلق والتصرف والتدبير والتقدير، أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54]، ولِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [المائدة: 120]، ونفى أن يكون لغيره سبحانه تصرف في الكون وبين أن من غير الله عاجزون عن نصرة أنفسهم فهم عن نصرة غيرهم أعجز وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ [فاطر: 13]، ومن ثم فإن الاستغاثة بهم لا فائدة منها ولا جدوى، بل تقود إلى الشرك أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62]، قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام: 63 - 64]. وأفحش من هذا وأنكر توجيه دعائهم واستغاثتهم بالأموات من المشائخ، لأن الميت كما هو معلوم قد انقطع حسه وحركته وأمسك الله روحه اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [الزمر: 42]، ومن ثم فإن أعماله قد انقطعت فلا زيادة ولا نقصان بل إنه رهين بما كسب كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر: 38]، وفي الحديث:((إذا مات ابن آدم انقطع عمله. .)) (2) الحديث، فإذا كان الميت عاجزا عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره. ودعوى هؤلاء إن هذه كرامات للميتين، مجرد مغالطة واضحة، إذ أن الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياءه لا قصد لهم فيها ولا تحدي ولا قدرة ولا علم، بينما هؤلاء يخاطبون مشائخهم الميتين كأنهم يسمعون، ويستغيثون بهم كأنهم قادرون، ويلجأون إليهم ويستجيرون بهم كأنهم عالمون بأحوالهم وشئونهم، فيا بئس ما يقولون وما يعتقدون.
المصدر:
طائفة الختمية لأحمد محمد أحمد جلي – ص 75فما بعدها
(1) انظر: ((تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد)) الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ط 4، 1400هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق (ص 228).
(2)
رواه مسلم (2682) بلفظ (أحدكم) وورد بلفظ (الإنسان) في السنن وغيرها، والحديث صححه ابن عساكر وابن تيمية وابن خزيمة والألباني.