الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: المرحلية في الدعوة
كانت الدعوة تجري على نسق الجمعيات السرية، لها نظامها الخاص وشعائرها ولها درجات من الوظائف والمعرفة متدرجة في المعرفة والخطورة، كان الدعاة يعرضون هذه الدرجات والمراتب بالتدرج، طبقاً لاستعداد المدعوين وأهليتهم لتلقيها. ولذا فإن هناك وسائل وأساليب معينة يلتزم بها الداعي في دعوته، فأولاً يتحتم عليه كما يقول القاضي النعمان:"اختيار أمر من يدعوه، ويتعرف أحوالهم رجلاً رجلاً، وتمييز كل امرئ منهم ومعرفة ما يصلح له أن يؤتى إليه ويحمله عليه من أمر الله وأمر أوليائه ومقدار ما يحمله من ذلك وقدر قوته وطاقته، ومتى يوصل ذلك إليه، وكيف يغزوه به، وامتحان الرجال وتعرف الأحوال، ومقدار القوى، ومبلغ الطاقات"(1).
ويؤكد القاضي النعمان في مكان آخر من كتابه على أهمية المرحلية والتدرج في الدعوة بقوله: "ولتثبت أمر أولياء الله حدود وشرائط وآداب ودرجات يرتقي فيها الداخل في ذلك، فإذا لم يقف على ذلك أولاً فأول ويرتقيه درجة درجة، ووصل إليه منه الشيء قبل وصول ما يجب أن يصل إليه قبله هلك، كما أن الطفل لو حُمل عليه طعام في حين ولادته لهلك. ولذلك كان علم أولياء الله غير مطلق إلا لمن أطلقوه له، لأنه لو كان مطلقاً لأهلك بعض الناس به بعضاً
…
فلهذا ولامتحان العباد أسرَّ أولياء الله ذلك وأخفوه، ولو نشروه وأظهروه على حقيقة الواجب فيه لما تخلف أحد عنه" (2).
ونكتفي هنا بأن نقدم خلاصة وافية لمضمون الدعوة في مراحلها التسع وذلك على النحو الآتي:
المرحلة الأولى:
يحاول الداعي في هذه المرحلة أن يشكك المدعو في معتقداته، فيسأله في بعض المسائل الدينية والشرعية، وبعض المسائل الطبيعية والمشكلات الغامضة، موهماً إياه أن الدين أمر مكتوم، وأن أكثر الناس به جاهلون، فهو صعب مستصعب وعلم خفي غامض، وأن أصل الشر والخلاف في الأمة انصراف الناس عن الأئمة الصادقين الذين نُصبوا لهم، وأقيموا لحفظ شرائعهم يؤدونها على حقيقتها، ويحفظون معانيها، ويعرفون بواطنها، وأن الناس لما عدلوا عن الأئمة ونظروا في الأمور بعقولهم، وقلدوا سفلتهم، وأطاعوا سادتهم وكبراءهم اتباعاً للملوك وطلباً للدنيا، التي هي ملك الآثمين وأجناد الظلمة وأعوان الفسقة، الذين يحبون العاجلة، ويجتهدون في طلب الرياسة على الضعفاء، ومكايدة رسول الله وأمته، وتغيير كتاب الله عز وجل، وتبديل سنة نبيه، ومخالفة دعوته، وإفساد شريعته، ومعاندة الخلفاء الأئمة من بعده.
وأن دين محمد لن يجيء بما يحقق الأماني والشهوات الزائلة، ولا بما تعرفه الدهماء والكافة، وإنما هو علم خفي، وهو سر الله المكتوم الذي يرتفع عن الابتذال، ولا يطيق حمله وينهض بأعبائه إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن اصطفاه الله، فإن آنس الداعي من المدعو ارتياحاً وقبولاً، بدأ يسأله عن بعض المسائل الغامضة بغية إثارة حب استطلاعه.
(1)((الهمة في آداب أتباع الأئمة))، (ص138).
(2)
((الهمة في آداب أتباع الأئمة))، (ص53) ..
ما عذاب جهنم؟ وكيف يصح تبديل جلد مذنب بجلد لم يذنب حتى يُعذّب؟ وما سبعة أبواب النار وما ثمانية أبواب الجنة؟ ولم جُعلت السموات سبعاً والأرضون سبعاً والمثاني من القرآن سبع آيات؟ ولماذا خلق الله العالم في ستة أيام؟ وهل عجز عن خلقه في ساعة واحدة؟ وما معنى قول الفلاسفة: الإنسان عالم صغير، والعالم (الطبيعة) إنسان كبير؟ وما معنى الحروف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن مثل: الم، المص، كهيعص .. إلخ. وينتهي الداعي بعد هذه السلسلة الطويلة من الأسئلة الغامضة إلى القول بأن الله الذي خلق الإنسان حكيم غير مجازف، وأنه فعل جميع ذلك لحكمة، وله فيها أسرار خفية، حتى جمع ما جمع، وفرق ما فرق، فكيف يسع المرء الإعراض عن هذه الأمور؟! ألا يدل ذلك على أن الله أراد أن يرشدهم إلى بواطن الأمور الخفية وأسرار فيها مكتومة .. لو تنبهتم لها وعرفتموها لزالت عنكم كل حيرة، ودحضت كل شبهة، وظهرت لكم المعارف السنية
…
فإذا علم الداعي أن نفس المستجيب قد تعلقت بما سأله عنه وطلب منه الجواب عنه أمهله مدة ليستيقن أن المحاولة قد أثرت في نفسه، ثم يأخذ عليه العهد بألا يفشي لهم سراً ولا يظاهر عليهم أحداً ولا يطلب لهم غيلة ولا يكتمهم نصحاً ولا يوالي لهم عدواً (1).
ثم يطالبه بعد ذلك بمبلغ من المال كرسم لقبول عضويته في الدعوة، فإذا امتنع المدعو عن القيام بذلك وقف به الداعي عند هذا الحد، وإذا أجاب انتقل به إلى المرحلة الثانية.
المرحلة الثانية:
يتعلم المستجيب فيها أن فرائض الإسلام لا تؤدي إلى مرضاة الله إلا إذا كانت عن طريق أئمة نصبهم للناس وأقامهم لحفظ شريعته.
المرحلة الثالثة:
وفيها يتقرر عند المستجيب أن الأئمة سبعة، قد رتبهم الله كما رتب السموات والأرضين، والكواكب وغيرها من جلائل الموجودات وجعلها سبعاً، ويلقن المستجيب بعد ذلك معنى العدد سبعة في عالم المادة والمعنى، فإذا تقرر عند المستجيب أن الأئمة سبعة انحل عن معتقد الإمامية الإثنا عشرية، واعتقد أن أئمتهم الستة بعد جعفر الصادق، قد فقدوا العلوم الروحية في حين أن محمد بن إسماعيل عنده علم المستورات وبواطن المعلومات وعلم التأويل وتفسير علم الظاهر، وأن دعاته هم الوارثون لعلمه دون سائر طوائف الشيعة.
المرحلة الرابعة:
وهي بدء التحول إلى المراتب العليا، وفيها يلقن الداعي المستجيب أن الأنبياء المعتبرين، الناسخين للشرائع، الناطقين بالأمور، كالأئمة سبعة فقط، وكل منهم لابد له من صاحب يأخذ عنه دعوته ويحفظها على أمته، ويكون له ظهيراً في حياته ثم يخلفه بعد وفاته، ويتخذ له كنبيّه ظهيراً يخلفه، ويسير كل مستخلف على هذا المنوال، إلى أن يأتي منهم على تلك الشريعة سبعة، ويقال لهؤلاء السبعة الصامتون، لأنهم ثبتوا على شريعة واحدة واقتفوا أثراً واحداً ويقال لأولهم (السوس)، فإذا انقضى هؤلاء السبعة، فلابد من أن يبدأ دور ثان من الأئمة، يفتتحه نبي ناطق ينسخ شريعة من مضى، ويخلفه على النحو المتقدم سبعة من الصُمت، وهكذا حتى النبي السابع من "النطقاء فينسخ جميع الشرائع المتقدمة، ثم يقرر الداعي عند المستجيب أن السابع من النطقاء (الأنبياء) هو صاحب الزمان وهو محمد بن إسماعيل. يقول النويري: "فهذه درجة قررها الداعي عند المدعو بنبوة نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم وسهل بها طريق النقل عن شريعته .. فدخل المدعو بذلك في جملة الكفار المرتدين" (2).
(1) نجد صورة كاملة للعهد الذي يأخذ الداعي على المستجيب في كل من ((نهاية الأرب)) للنويري (23/ 58)، و ((كنز الغرر)) و ((جامع الدرر)) (6/ 67)، و ((الخطط)) للمقريزي (2/ 235)، و ((فضائح الباطنية)) للغزالي (18 - 19).
(2)
((نهاية الأرب)) (23/ 59).
وبظهور محمد بن إسماعيل الناطق الأخير والقائم أي صاحب الأمر تنتهي علوم الأولين وتبدأ العقيدة الباطنية وعلم التأويل.
المرحلة الخامسة: يُلقن فيها المستجيب المزيد من التعليمات فيما يتعلق بعلم الأعداد والتأويل على نحو يجعله يرفض الكثير من الأحاديث النبوية، فيفقد الكلام نهائياً بمنطوق كلام الله، إلى أن يصل في النهاية إلى رفض كافة تعاليم الإسلام (1).
كذلك يلقن الداعي المدعو أنه لابد مع كل إمام قائم حجج متفرقون في الأرض، وعددهم اثنا عشر رجلاً في كل زمان.
ويستدل الداعي على ذلك بأمور منها أن الله لم يخلق شيئاً عبثاً، ولابد في خلق كل شيء من حكمة، وإلا فليتأمل خلق النجوم التي بها قوام العالم سبعة، وجعل السموات سبعاً، والأرضين مثلهن، ونقباء بني إسرائيل اثني عشر، ونقباء رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار اثني عشر نقيباً .. إلى آخر الحجج التي تمتلئ بها كتب الإسماعيلية.
المرحلة السادسة:
يتعلم المستجيب في هذه المرحلة التأويل والمعنى المجازي لشرائع الإسلام من صلاة وزكاة وصوم .. إلخ، وأنها في الواقع ترجع على معان وحكم أخرى غير الظاهرة، وأنها وُضعت على سبيل الرمز لمصلحة العامة، فيضعف اعتقاد المستجيب في شرائع الدين وأركانه.
ثم ينتقل الداعي بالمستجيب إلى ميدان الفلسفة ونظريات الفلاسفة ويحضَّه على النظر في كلامهم،، والاقتداء بالأدلة العقلية والفلسفية والتعويل عليها، دون غيرها من الأخبار والأشياء المنقولة.
وفي هذه المرحلة تبدأ المهمة الحقيقية للدعاة، وهي العمل على هدم العقيدة الدينية.
المرحلة السابعة:
لم يصل إلى هذه المرتبة إلا كبار الدعاة، وفيها يُلقن المستجيب أن صاحب الشريعة لا يستغني بنفسه، ولابد له من صاحب معه يعبر عنه ليكون أحدهما الأصل والآخر يَصْدُر عنه، ويستدل الداعي على ذلك بأن مدير العالم في أصل الترتيب وقوام النظام صدر عنه أو موجود بغير واسطة ولا سبب نشأ عنه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]. إشارة إلى أن الأول في الرتبة والآخر هو القدر الذي قال فيه تعالى بـ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49].
ويستدل أيضاً بأقوال وقرائن أخرى من كلام الفلاسفة والمتصوفة وغيرهم.
المرحلة الثامنة:
وفيها تتبلور العقيدة التي لُقنت للمستجيب في المرحلة السابقة، وفيها يعرف أن مدبر الوجود، والصادر عنه، إنما هو تقدم السابق على اللاحق، وتقدم العلة على المعلول، فكانت الأعيان كلها ناشئة وكائنة عن الصادر الثاني.
والسابق لا اسم له ولا صفة، ولا ينبغي لأحد أن يعبر عنه، أو يحدده، فلا يقال موجود، ولا معدوم، ولا عالم، ولا جاهل
…
وهكذا سائر الصفات، فإن الإثبات يقتضي شركة بينه وبين المحدثات، والنفي يقتضي التعطيل، وهو ليس بقديم ولا محدث، بل القديم أمره وكلمته، والمحدث خلقه وفطرته
…
كما أن الأنبياء الناطقين لا يأتون بمعجزات أو دلالات خارقة، إنما يأتون بأمور تُنظَّم بها السياسة ووجوه الحكم وتُرتب بها الفلسفة، تنبئ عن حقيقة ما يشتمل عليها العالم بأسره من الجواهر والأعراض، وأنها تكون إشارة ورموزاً يعقلها العالمون، وتارة تكون بإفصاح يعرفه كل الناس، ثم يشرح الداعي للمستجيب أمر القيامة وحصول الجزاء من الثواب والعقاب على أمور ليست مما يعتقده الموحدون في شيء.
المرحلة التاسعة:
(1) أي ليكون تعويله في حججه وبراهينه على كلام لا تربطه ألبته أي صلة بكلام الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهي المرحلة الأخيرة في التعليمات المذهبية لدى الإسماعيلية، حيث لا وجود لعقائد قطعية أو فرائض لازمة، بمعنى آخر لا وجود لعلم اليقين.
وتمثل هذه المرحلة أعلى مرتبة من مراتب العلم والمعرفة، وفيها يدخل المستجيب إلى دائرة الأسرار النهائية، ويحال المستجيب حينئذ على طلب الأمور وتحقيقها وحدودها والاستدلال عليها من طرق الفلسفة وإدراكها من كتبهم، ويصبح حراً في اختيار طريقه.
يقول النويري: "فربما صار البالغ في النظر في هذا إلى اعتقاد مذهب ماني وابن ديصان، وربما إلى مذهب المجوس، وربما دان بما يُحكى عن أرسطو طاليس، وربما صار إلى أمور تُحكى عن أفلاطون، وربما اختار من تلك معاني مركبة من هذه الأمور كما يجري كثير من هؤلاء المتحيرين".
وفي هذه المرحلة أيضاً يوقف المستجيب على السر النهائي المتمثل في أن الوحي إنما هو صفاء النفس، فيجدُّ النبي في فهم ما يوحى إليه، وينظم به الشريعة حسبما يرى من المصلحة في سياسة الكافة، ولا يجب العمل بهذه الشريعة إلا بحسب الحاجة في رعاية مصالح الدهماء، وليس على العارف المستنير أن يعمل بها.
ومن الملاحظ في ذلك كله إنما هو تغيب للعقل البشري الذي جعله الله نعمة للإنسان وكرمه به فيميز بين المنطقيات والبديهيات والنفعيات والمضرات فيستنير ويختار طريقه فإذا به يتأثر بتلك المراحل بمرور الوقت ويطرح الأفكار المتراكمة على فترات متتالية وتكون النتيجة انتكاسة للعقل في الدركات السفلى فإذا به يستحسن القبيح ويستقبح الحسن.
المصدر:
أسرار فرقة الحشاشين لمحمد هادي نزار- ص 65