الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن: الانتشار ومواقع النفوذ
تمهيد
لما كانت حركة القرامطة قد قامت في مناطق واسعة وفي عدة بقاع فقد نسب كل قسم إلى المنطقة التي قوي نفوذه فيها فيقال قرامطة اليمن وقرامطة البحرين وقرامطة العراق على الرغم من أن قيامهم كان في وقت واحد تقريبا وبعضهم على صلة ببعض ومع هذا فلم يؤلفوا حكومة واحدة تشمل البقاع التي سيطروا عليها كلها إذ لم تكن لهم مركزية في الحكم وما ذلك الاختلاف إلا بسبب الأطماع التي كانت في ذهن كل مجموعة منهم أو كل أسرة إذ لم يكن لهم هدف واحد معين يدعون له وكل ما جمعهم إنما هو الرغبة في اتباع الهوى وإرواء الغرائز ويجب ألا ننسى هدف المحركين الأساسيين من المجوس في تهديم الإسلام ولكن لا يمكن أن يستمر هذا التوافق بين القادة والأتباع إذ إن الأهداف المختلفة لا تلبث أن تظهر التباين ويظهر قادة جدد ينفصلون في بعض الجهات فتتجزأ الحركة الواحدة إلا أن التخطيط المجوسي يستطيع أن يستغل الطرفين حيث يسير الأتباع دون تخطيط ثم يكون الخلاف من جديد وهكذا.
المصدر:
القرامطة لمحمود شاكر – ص: 42
قرامطة اليمن
إن أول حركة قامت للقرامطة كانت باليمن إذ استطاع (الحسين بن حوشب) الملقب بـ (منصور اليمن) أن يجمع حوله عددا من القبائل اليمنية وأن يظهر الدعوة بينهم باسم الإمام الإسماعيلي المنتظر وقد تمكن عام 266هـ أن يؤسس أول دولة إسماعيلية أو أن الحركة قد استطاعت أن تكسبه إلى صفوفها بعد نشاط حركتها وغياب الشيعة وكان من أكبر أعوانه (علي ابن الفضل) واستطاع ابن حوشب أن يقوم بنشاط خارج اليمن وأن يرسل الدعاة إلى عدة جهات وكان من بينهم (أبو عبدالله الشيعي) الذي أرسله إلى بلاد المغرب إذ اختارها لبعدها عن مركز الدولة العباسية ولسهولة إقناع البربر بفكرته وجلبهم إلى صفوف دعوته لجهلهم وسذاجتهم الدينية بالإضافة إلى أنهم أهل قوة وعصبية فعندما يكسب بعض زعماء قبيلة ما لا يلبث أن ينضم إليه أفراد القبيلة كافة ويتحمسون لدعوتهم واستطاع أبو عبدالله الشيعي أن يكسب إلى جانبه قبيلة (كتامة) التي حملت الفكرة وعملت لها وما إن صول خبر نجاح الدعوة في المغرب إلى السلمية حتى انتقل إليها (عبدالله المهدي) الذي وضع لنفسه نسبا فاطميا وتسمى بالمهدي فادعى أنه عبيد الله بن الحسين بن أحمد بن عبدالله بن محمد بن إسماعيل وتسلم الأمر ولكن لم يلبث أن اختلف مع داعيته أبي عبدالله الشيعي الذي لم يتعرف عليه إذ كان غير الذي رآه في السلمية واستطاع عبيد الله أن يتخلص من أبي عبدالله وفي الوقت نفسه تمكن من إخماد حركة قبيلة كتامة التي ارتبطت بالدعوة مع أبي عبدالله. واختلف ابن حوشب مع قائد جيشه علي بن الفضل الذي خرج عن الجادة وافتتن بالتفاف الناس حوله فحكم البلاد ودخل (زبيد) و (صنعاء) وادعى النبوة وأباح المحرمات وكان المؤذن في مجلسه (وأشهد أن علي بن الفضل رسول)(1).
خذي الدف يا هذه والعبي
…
وغني هزريك ثم اطربي
تولى نبي بني هاشم
…
وهذا نبي بني يعرب
لكل نبي مضى شرعة
…
وهذي شريعة هذا النبي
فقد حط عنا فروض الصلاة
…
وحط الصيام ولم يتعب
إذا الناس صلوا فلا تنهضي
…
وإن صوموا فكلي واشربي
ولا تطلبي السعي عند الصفا
…
ولا زورة القبر في يثرب (2).
ثم امتد به عتوه فجعل يكتب إلى عماله (من باسط الأرض وداحيها ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده فلان) ثم مات مسموما عام 303هـ (3). ولم تلبث دولة القرامطة في اليمن أن زالت.
المصدر:
القرامطة لمحمود شاكر – ص: 52
قرامطة العراق
(1)((الأعلام)) للزركلي مادة علي بن الفضل.
(2)
((إسلام بلا مذاهب)) مصطفى الشكعة (ص: 220).
(3)
((الأعلام)) خير الدين الزركلي مادة علي بن الفضل.
كان جنوبي العراق مهد الشيعة الأول وأنصار هذه الفرقة كثيرون في هذه المنطقة وتلك الجهة قريبة من فارس مركز المجوس والجهل يخيم على تلك البقعة فيكم استغلال السكان وبخاصة الوافدين منهم – وما أكثرهم – والسير بهم حيث يريد المستغلون وعندما انقطعت الإمامة لدى الشيعة الإثنى عشرية كان المجال واسعا لانتشار الإسماعيلية والتحاق أعداد ليست قليلة بها من الشيعة وانضمام أفراد من السكان إلهيا باستمرار نتيجة الدعايات والعمل السري الدائم والتنظيم الدقيق والدعوة باسم الرضا من آل البيت وإذا كانت الحركة قد انتقلت بمركزها إلى (الأهواز) ثم إلى السلمية إلا أن جنوبي العراق قد بقي القاعدة الرئيسة للدعوة وبقعة النفوذ الأساسية لها.
كان من الدعاة الإسماعيليين (مهرويه) أحد الذين يخفون عقيدتهم المجوسية وهو من أصل فارسي و (حسين الأهوازي) وهو من الفرس أيضا وربما كانت نسبته إلى (الأهواز) لإخفاء شخصية (حسين) الذي كان رسولا متنقلا لإمام الإسماعيلية وقد يكون على صلة وثيقة بصاحب الدعوة الأول وكثيرا ما كان أصحاب الدعوات الذين يريدون إخفاء شخصياتهم ينتسبون إلى هذه المنطقة لذا نلاحظ هذه النسبة كبيرة بين رجالات الإسماعيلية.
كان عبدالله بن ميمون القداح رأس الدعوة الإسماعيلية وكان يريد أن يعمي على نفسه فوزع دعاته في الأمصار وبخاصة أبناءه حتى لا تتجه الأنظار إلى مقر إقامته فأرسل ابنه (أحمد) ليقيم في (الطالقان) من بلاد خراسان وطلب من دعاته أن يراسلوه إلى هناك كما أعلن عن موت ابنه (حسين) وعرف باسم (حسين الأهوازي) وربما كان هو بالذات حسين بن عبدالله بن ميمون القداح كما يقال إن حسين الأهوازي هو رسول الإمام أحمد بن عبدالله بن محمد بن إسماعيل وهنا يبدو تشابه الأسماء بين أسرة أحمد بن عبدالله بن محمد إسماعيل وأسرة أحمد بن عبدالله بن ميمون القداح ومن هنا جاء الاختلاف وادعاء النسب القداحي إلى آل البيت كما أنه شاع الإعلان عن موت الأشخاص ثم ظهورهم في مكان آخر باسم ثان وبخاصة عند الإسماعيليين الذين يعتقدون في الأصل أعلن عن موت ابنه إسماعيل وما هو كذلك وإنما انتقل سرا إلى السلمية.
عرف (حسين الأهوازي) كداعية إسماعيلي في جنوب العراق بغض النظر عن نسبه وأصله وقد التقى مرة بـ (حمدان بن الأشعث) الذي عرف باسم (قرمط) وهو في طريقه إلى السلمية حسبما تدعيه الرواية القرمطية وقد استطاع (حسين) استمالة (حمدان) إلى دعوته وسار معه إلى قرته حيث بدأ العمل هناك بنشاط إذ أن حمدان كان صاحب علاقات اجتماعية كثيرة حيث كان ناقما على المجتمع وكثير الكلام على الأوضاع وكان المحيط الذي يعيش فيه حاقدا على الحكم العباسي فيستمع إلى من تعود على النقد فتوسعت الدعوة بحيث لم يعد أحد ينكر مركزها وترقى حمدان في سلمي الدعوى ووصل إلى مكان مرموق فيها وهناك من يقول إن أصل حمدان يعود إلى الفرس المجوس الذين يكثرون في ذلك الوسط ويخططون للعمل ضد الدولة ويعملون على تهديم الإسلام وهناك من يقول إن أصل حمدان يرجع إلى يهود نجران الذين كانوا يشبهون المجوس في الخطة والهدف وكثيرا ما عمل الفريقان في مخطط واحد.
في هذا الوقت كانت حركة الزنج قائمة في جنوبي العراق وقد سيطرت على مدينة البصرة وامتد نفوذها واستطاعت الانتصار على الجيوش العباسية في عدد من الوقائع رغب (حسين الأهوازي) أن يشارك في هذه الحركة كمرحلة من مراحل عمله إذ لا يستطيع وحده آنذاك أن يقوم بعمل مثمر والحركات الانتهازية دائما يستغل بعضها بعضا أو يركب بعضها طريق الآخر حتى إذا تم له ما يريد انفرد وحده فالغاية عندهم تبرر الواسطة فالتقى حسين الأهوازي بصاحب الزند عام 266هـ وعرض عليه المساعدة مادامت الغاية واحدة والوسيلة واحدة إلا أن صاحب الزنج قد عرف رغبة الأهوازي في سرقة الثورة فرفض المساعدة حيث كان الزنج في أوج القوة التي وصلت إليها حركتهم فلم يبالوا بالعون.
لم تلبث حركة الزنج أن فشلت وقضى عليها العباسيون بعد أن عرفوا الأسباب التي دعت إليها فعندما حاولوا التخلص منها ودعوا إلى تطبيق الإسلام الذي يقضي عليها ووجد الدواء لها انفرط عقد الزنج وتخلص العباسيون من حركتهم عندما هدأت الأوضاع استطاع (حسين الأهوازي) أن يجدد نشاطه وأن يقنع أتباعه ويمنيهم بأنهم سيملكون الأرض وفرض دينارا على كل من أجابه لدعوته ليضمن نظمهم ووضع عنهم الصوم والصلاة والفرائض جميعا وأحل لهم أموال المخالفين لهم ودماءهم وأعراضهم ونظمهم تنظيما دقيقا إذ جعل منهم اثني عشر نقيبا وكان من أبرزهم (قرمط حمدان بن الأشعث).
مات (الأهوازي) فخلفه في رئاسة الدعوة (القرمطي حمدان بن الأشعث) فابتنى لأتباعه دارا للهجرة في سواد الكوفة عام 277هـ وسار على طريقة أستاذه الأهوازي وهكذا أصبح للدعوة القرمطية يؤمونه وقاعدة يمكنهم الانطلاق منها اختار القرمطي دعاته وكان من أشهرهم ابن عمه وصهره (عبدان) وهو الذي نسبت إليه كثير من كتب القرامطة و (زكرويه بن مهرويه) الذي أخذ الدعوة عن أبيه كما ورث عنه ما كان يشغل باله في القضاء على الإسلام وتأسيس أسرة فارسية يعود إليها الحكم و (أبو الفوارس) الذي قاد ثورة القرامطة عام 289هـ.
فرض القرمطي على أتباعه مبالغ عليهم أن يدفعوها وتصرف في هذه الأموال فجذب إليه الفقراء الذين قدم إليهم المساعدات واشترى السلاح فأخاف ني فالتحقوا بدعوته تخلصا من شره وطمعا في الغنائم التي مناهم بالحصول عليها من أموال المخالفين له وربما كان يعمل هذا القرمطي لنفسه أو أنه مقتنع بالعمل لإمامة الإسماعيلية الذين سيعملون بدورهم للغاية التي يعمل هو لها أو هكذا كان يظن.
كان القرامطة دعاة للإسماعيلية ثم انحرفوا عنهم عندما علموا أن الدعوة في السلمية لم تعد لأولاد محمد بن إسماعيل وإنما لأولاد عبدالله بن ميمون القداح وأصبح الاختلاف واضحا بين الفريقين في الوسائل التي اتخذوها وفي العقائد التي غدت للقرامطة وعدهم الإسماعيلية ملاحدة.
كان أتباع قرمط يتلقون التعليمات من السلمية ويسيرون حسبها بشكل دقيق ومنتظم وذات مرة أرسل قرمط رسوله إلى مقر الدعوة في السلمية والتقى الرسول هناك بصاحب الدعوة الأول وبينما كان الحديث يدور بينهما عن الإمام المنتظر إذ أجيب الرسول أن هذا الموضوع إنما هو خرافة والدعوة هي لأولاد عبدالله بن ميمون إذ ظن صاحب الدعوة الأول أن القرامطة قد التزموا بالخط تماما وأنهم أصبحوا مرتبطين به بشكل أكيد وقد آن له أن يفاتحهم بالأمر.
عاد الرسول إلى سواد الكوفة ونقل الخبر إلى (قرمط) الذي أدرك اللعبة وترك الصلة بالسلمية وبدأ العمل وحده منفردا ولنفسه وعندما حدث هذا التغير في طريقة (قرمط) حضر (أحمد بن عبدالله بن ميمون القداح) من (الطالقان) إلى الكوفة وهو كبير الدعاة للإسماعيلية وصلة الواصل بين السلمية ودعاتها فعاتب عبدان ابن عم قرمط وهو مفكر القرامطة عاتبه على السير على نهج خاص والعمل على انفراد وشق عصا الطاعة إلا أن عبدان قد عنفه وطرده من منطقة السواد إلا أن زكرويه بن مهرويه قد استقبله وتآمر الاثنان معا على قتل عبدان فثار أهل السواد حيث إن أكثرهم من أنصاره فخرج أحمد بن عبدالله بن ميمون القداح من تلك الجهات على غفلة من أهلها خائفا يترقب واختفى زكرويه وهنا يبدو اتفاق زكرويه والسلمية كمرحلة من مراحل العمل ولكن لأن كلا منهما يريد الاستقلال والعمل لنفسه ويبغي استغلال الطرف الآخر لمصلحته إذ أن زكرويه يريد أن يكسب السلمية مركز الدعوة إلى جانبه حتى يربح الأنصار ويبقى على رأس العمل والسلمية تريد ألا تخرج منطقة السواج من قبضتها وإنما تريد أن تحافظ على بعض الدعاة أمثال زكرويه الذي يمكنه كسب تأييد المجوس المتسترين كافة ودعم اليهود المادي ومع هذا الاتفاق المرحلي حرص كل طرف على كسب أنصار له في منطقة نفوذ الآخر ففي الوقت الذي حرصت فيه السلمية على وجود أعوان لها في جنوبي العراق رأى زكرويه أن بلاد الشام منطقة خصبة للعمل إذ إن ضعف الطولونيين يساعد على النشاط هناك بينما هو محصور في مخبئه في منطقة السواد خوفا من أنصار عبدان.
يبدو أن هذا الانقسام قد حدث في أكثر من منطقة نتيجة نقل الإمامة من أبناء محمد بن إسماعيل إلى أبناء عبدالله بن ميمون القداح دون معرفة الأتباع والدعاة فأبو عبدالله الشيعي الداعية الإسماعيلي في المغرب كان قد حضر مرة إلى السلمية والتقى بالإمام أو قدم إلى شخص عرف بأنه الإمام فلما نجح في دعوته في المغرب بين أفراد قبيلة كتامة وانتقل إليه عبيد الله المهدي على أنه الإمام رأى أنه غير الذي عرفه بالسلمية فأراد أن ينفصل عنه ويقوم ضده إلا أن عبيد الله قد عرف ذلك منه فقتله وقامت قبيلة كتامة تنصر داعيتها ولكن عبيد الله كان قد قويت جذوره فاستطاع إخماد ثورة كتامة وإطفاء تلك الفكرة التي شاعت بين الناس وعرف علي بن الفضل قرمطي اليمن الذي حدث في هذا الاختلاف فانفصل كذلك عن الدعوة القائمة في السلمية وبقيت حركته منفصلة عن غيرها في منطقة وحدها.
نقل زكرويه بن مهرويه نشاطه إلى بلاد الشام فأرسل ابنه الحسين إلى هناك عام 288هـ ومهد هذا ليحيى بن زكرويه كي يقوم بحركته في تلك الجهات كان زكرويه بن مهرويه وأبوه من قبل وأبناؤه من بعد يرغبون في أن يتزعموا الحركة المناهضة وأنه تكون لهم الدعوة التي يجب أن تسير حسب عقائدهم القديمة وآرائهم الخاصة ويبدو هذا من خلافهم مع عبدان فعلى الرغم من أنهم كانوا من قادة الحركة ودعاتها الكبار إلا أنهم رأوا عبدان وحمدان وأنصارهم هم أصحاب السلطة الأوائل ورجال الدعوة المحركين لها لذلك تخلصوا نهم وبدا لهم أن يبقوا على صلة مع السلمية ليستمر الدعم لهم سواء أكان من الناحية المادية أم من الناحية العسكرية ثم عادوا فاختلفوا مع السلمية عندما قوي مركزهم في بلاد الشام ونكلوا بآل المهدي عبيد الله الدعي لآل البيت وبآل البيت فعلا ثم ادعوا نسبا علويا حتى لا يفقدوا كل شيء يجعل منهم سادة تتجه نحوهم النظار ويقوي مركزهم بين ألئك الأتباع السذج الذين يسيرون وراء كل دعي.
بايع أتباع زكرويه ابنه يحيى في سواد الكوفة عام 289هـ ولقبوه الشيخ كما كان يعرف أبو القاسم على حيث بقي أبوه زكرويه في مخبئه ويبدو أن يحيى هذا هو الذي قتل عبدان داعية القرامطة الأول.
ادعى يحيى نسبا إسماعيليا فزعم أنه محمد بن عبدالله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وسار يحيى إلى دمشق بعد أن انتهب وانتهك حرمات البلاد التي مر عليها كلها وحاصرها عام 290هـ إلا أنه عجز عن فتحها إذ جاءتها نجدات من بغداد ومن مصر ولما عرف أنه مقتول لا محالة ادعى أنه سيطلع إلى السماء غدا وأنه سيبقى فيها أربعين يوما ثم يعود وأن أخاه الحسن سيأتي غدا في نجدة وكان قد بلغه ذلك فعليهم مبايعته والقتال معه والسير وراءه وفي معركة اليوم التالي قتل يحيى بن زكرويه على أبواب دمشق وعرف باسم صاحب الجمل حيث كان يمتطي جملا خاصا.
اجتمع القرامطة على الحسين زكرويه فادعى نسبا إسماعيليا وأنه أحمد بن عبدالله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ووضع شامة على وجهه لذا عرف باسم صاحب الخال أو أبو شامة وقال إنها آية لما يتم على يديه وزعم أنه قادر على القيام بمعجزات خرج الحسين في جهات الكوفة وسار نحو أخيه إلى دمشق ومر في طريقه على الرملة غربي بيت المقدس وكان عبيد الله المهدي مختبئا فيها في طريقه إلى المغرب خوفا من العباسيين الذي عرفوا مكانه بالسلمية وقد عرف الحسين مكان عبيد الله وعرف اختلاف القرامطة فعرج عليه لاسترضائه وإظهار الطاعة عسى أنه يستفيد منه وقد أبدى عبيد الله رضاءه ولكن ما إن تركه الحسين حتى خافه وخشي أن يقتله أو يخبر العباسيين بمكان وجوده إذ عرف رغبة أسرته في التفرد بالسلطة والرغبة في السيطرة والقضاء على كل من يقف في وجهها ومن جملتهم عبيد الله لذا فقد ترك الرملة مباشرة واتجه إلى مصر ومنها إلى المغرب حيث أقام دولته هناك.
سار الحسين من الرملة إلى دمشق فوجد أخاه يحيى قد قتل فالتف القرامطة حوله وحاصر بهم دمشق ولكنه عجز عن فتحها فطلبه أهل حمص فسار إليهم فأطاعوه ثم انتقل إلى السلمية فامتنعت عنه ثم فتحت له أبوابها بعد أن أعطى أهلها الأمان وما عن دخلت حتى نكل بقاطنيها فأحرق دورها وهدم القلاع فيها وقتل الهاشميين فيها دلالة على الحقد الذي في صدور القرامطة على آل البيت وإن ادعوا نسبا يتصل بهم وإظهارا لكراهيتهم للإسلام الذي قضى على المجوسية في فارس وكان الهاشميون قد قادوا الدعوة للإسلام ثم قتل آل عبيد الله المهدي جميعا دلالة على الخلاف بينهم على الرغم من أصول الدعوة الواحدة إذ أن كلا الأسرتين تريدان الزعامة والاحتفاظ بالدعوة وبالتالي التمكين لنفسها وبخاصة أن عبيد الله المهدي كان قد رفض إعطاء آل زكرويه مراكز هامة في الدعوة لما يتحسس منهم ويشعر عما في نفوسهم لذا نقموا عليه وبدأ الخلاف بين الطرفين وعندما التقى الحسين بالإمام عبيد الله المهدي في الرملة أظهر عبيد الله الإيجاب وأنه يحسن الظن بآل زكرويه وذلك حتى لا يضروه فهو غير قادر على مقاومتهم في بلاد الشام ولا يملك من القوة إلا القليل من الأتباع الذين لا يستطيعون الدفاع عنه إضافة إلى أنه يخشى على أهله في السلمية وقد غادرها وذلك إذا تمكن آل زكرويه من السيطرة عليها وهذا ما قد وقع.
سار الحسين بقرامطته إلى حماة والمعرة وبعلبك وقتل أهل كل بلد وصل إليها وأغارت جماعته على جهات حلب ولكنهم غلبوا لذا عادوا فاتجهوا إلى جهات الكوفة مقرهم الأصلي وهناك قاتلهم الخليفة العباسي المكتفي فوقع الحسين بن زكرويه أسيرا فحمل إلى بغداد حيث قتل وصلب فيها عام 291هـ وهكذا انفصلت دعوة آل زكرويه القرمطية عن دعوة عبيد الله القداحية.
وعندما قتل أولاد زكرويه خرج أبوهم من مخبئه الذي اختفى فيه مدة تقرب من ثلاث سنوات وعندما ظهر للناس سجد له أتباعه المقربون من الذين يبطنون المجوسية وهذا دليل على تأليه القرامطة لدعاتهم فأرسل زكرويه أتباعه إلى بلاد الشام فأمعنوا في القتل واعترض طرق القوافل والحجاج وارتكبوا من الفواحش ما يصعب وصفه وحاصروا مدينة دمشق ولكنهم عجزوا عن فتحها وأخيرا هزم زكرويه وقتل عام 301هـ بعد أن عاث في الأرض الفساد وتشتت أتباعه فمنهم من انتقل إلى البحرين الذين تجمعهم بهم رابطة الفكر ومنهم من اختفى ثم تحالف مع القبائل الضاربة في البوادي والقفار أو سار إلى أماكن نائية حيث ضاع فعله وعاش في عداد السكان الآخرين.
المصدر:
القرامطة لمحمود شاكر – ص:55
قرامطة البحرين
إن أول ما عرفت فكرة القرامطة في البحرين وإن لم تسم بهذا الاسم إذ لم يكن حمدان بن الأشعث القرمطي قد عرف بعد وأصبح رأس جماعة نسبت إليه أول ما عرفت تلك الفكرة كانت على يد شخص نزل البحرين وأعطى نفسه اسم يحيى بن المهدي فأظهر التشيع في بداية الأمر ثم أعلن أنه المهدي المنتظر فظهر أمره وأجابه عدد كبير إذ انضم إليه السوقة ومن ساءت حالتهم المعاشية وعدد من الشباب الذي أغراهم بالنساء التي جعلها مباحة بينهم كما مناهم بالمال وامتلاك الأرض وهيأ لهم طريق الشهرة بالقوة التي أظهرها إذ زاد عددهم وبدا لهم أنهم أصبحوا جماعة يخشى جانبها وكانت الدولة العباسية قد بدأت في مراحل ضعفها وشغلت بمشكلاتها الكثيرة والجنود هم الذين يسيطرون عليها ولا يهمهم سوى مصلحتهم الخاصة وتأمين أهوائهم والسير وراءها والناس في ترف فكري أشغلهم علم الكلام وزاد ترفهم القعود عن الجهاد وإهمال الحكم لهم لذا كان العوام يسيرون وراء كل من يحقق لهم مصالحهم أو يدعي أنه يعمل لذلك. وكان من الذين اتبعوا يحيى بن المهدي رجل اشتهر أمره كثيرا وهو الحسن بن بهرام الذي عرف باسم أبو سعيد الجنابي ويعود في أصله إلى فارس أيضا فهو من أهل (جنّابا) قرب سيراف وقد نزل البحرين منفيا من بلاده ويعمل بالفراء وينتقل من البحرين إلى سواد الكوفة وصحب عبدان أو حمدان وتأثر به وعندما عاد إلى منطقته بدأ يدعو إلى القرامطة كأنصار لرفاقهم في جنوبي العراق وعندما تجمع حوله عدد من الاتباع بدأ يعيث ورفاقه في الأرض الفساد فقتلوا وسبوا في بلاد هجر كثيرا عام 286هـ إذ قتل من حوله من أهل القرى ثم سار إلى القطيف فقتل من بها وأظهر أنه يريد البصرة فجهز إليهم الخليفة العباسي جيشا كثيفا جعل عليه العباس بن عمر الغنوي فانتصر عليه القرامطة وأسروا الجيش كله واستمر نشاطهم حتى عام 301هـ حيث قتل أبو سعيد الجنابي على يد خادمه بالحمام خارج الحمام وهمس في أذن رجل عظيم من رؤسائهم فقتله وخرج ودعا آخر من عظمائهم وفعل معه فعلته الأولى إلى أربعة منهم فلما استدعى الخامس فطعن لذلك فمسك يد الخادم وصاح فاجتمع النساء والرجال وحصل بينهم وبين الخادم مناظرات وقتلوه (1).
(1)((تاريخ أخبار القرامطة)) لابن سنان تحقيق سهيل زكار (ص: 36)
وعندما قاموا بحركاتهم وإنما اقتصروا على عملهم منفردين كدعوة خاصة لذا فهم أولى من غيرهم بالنسبة إلى حمدان قرمط كان أبو سعيد الجنابي قد عهد من بعده لابنه الأكبر سليمان الذي يكنى بأبي طاهر دخل أبو طاهر البصرة عام 311هـ في ألفين وسبعمائه رجل فقتل القرمطي من أهلها خلقا كثيرا وبقي فيها ثمانية عشر يوما يحمل منها ما يقدر على حمله من الأموال والأمتعة والنساء والصبيان ثم رجع إلى بلده وقطع عام 312هـ على الحجاج طريق عودتهم فأخذ منهم أزوادهم وأمتعتهم وترك من بقي منهم بلا ماء ولا طعام فمات أكثرهم ثم دخل الكوفة عام 313هـ وبقي فيها ستة أيام نقل خلالها أكثر ما فيها ثم عاد ودخلها في العام التالي وفعل فيها ما فعله في عامه السابق كما استولى على مدينة الأنبار وعين التمر.
هجم القرمطي أبو طاهر عام 317هـ على الحجاج يوم التروية 8 ذي الحجة في منى ونهب أموال الحجيج وقتل الحجاج حتى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه ورمى القتلى في بئر زمزم حتى امتلأت بالجثث وخلع باب الكعبة ووقف يلعب بسيفه على بابها وخلع الحجر الأسود وأخذه معه إلى بلده هجر.
واختلف بعض القرامطة مع بعض عام 326هـ إلا أن أبا طاهر قد استطاع الحفاظ على وضعه وتخلص من خصومه وهذا ما جعلهم يتمسكون في منطقتهم ويحافظون عليها ويمكثون فيها مدة ويتركون الفساد في الأرض وقطع الحجاج والقوافل.
وفي عام 332هـ مات أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي زعيم القرامطة فخلفه إخوته الثلاثة سعيد أبو القاسم وأحمد أبو العباس ويوسف أبو يعقوب وكانت كلمتهم متفقة وفي عام 339هـ رد القرامطة الحجر الأسود إلى مكانه بعد أن بقي اثنين وعشرين عاما.
امتد نفوذ قرامطة البحرين إلى نجد وكانت الدولة الأخيضرية هناك تحت إشرافهم كما أخضعوا الحجاز لهم ووصلوا إلى بلاد الشام عام 357هـ وكان أمرهم آنذاك إلى الحسن بن الحسن بن بهرام وقد دخل دمشق وولي عليها وشاح السلمي ثم عادوا إليها عام 360هـ وسار القرمطي إلى الرملة ومنها اتجه نحو القاهرة إلا أن جوهر الصقلي قد ردهم عنها وأخذ منهم دمشق وكانوا من قبل يمالئون الفاطميين إنما الذين أمروهم برد الحجر الأسود إلى مكانه بعد أن ساءت سمعتهم كثيرا في العالم الإسلامي ولحق الفاطميين في المغرب شيء من سوء تصرفهم.
مات الحسن الأعصم عام 366هـ وقام على أمر القرامطة من بعده ابن عمه جعفر بن الحسن بهرام وبدأ وضع القرامطة يضعف تدريجيا ولولا ضعف الدولة العباسية لا تنتهي أمرهم منذ منتصف القرن الرابع الهجري إلا أن التفكك الذي أصاب الدولة قد جعل أمرهم يطول ولكن أوضاعهم كانت مهلهلة والمناطق التي سيطروا عليها قد تجزأت وقام في النهاية بالبحرين أحد زعماء قبيلة بني عبد القيس المشهورة وهو عبدالله بن علي العيوني فاستعان الخليفة العباسي القائم بأمر الله وقد وجد تجاوبا كبيرا في نفسه لما يعلمه من أعمال القرامطة وتاريخهم الحافل بالفساد كما استعان بالسلطان السلجوقي (ملكشاه) الذي وجد عنده التجاوب نفسه بل كان هذا ضمن مخططه وجاءت القوات العباسية وساعدت عبدالله بن علي العيوني وقضت على القرامطة نهائيا وذلك عام 467هـ وزالوا نهائيا.
المصدر:
القرامطة لمحمود شاكر – ص:66