الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السادس: عقيدتهم في التستر والكتمان
(السرية والكتمان عند الدروز ليستا من باب التقية، وإنما هي سرية مشروعة في أصول عقيدتهم، وأصول عقيدتهم – كما هو معروف – خليط من نظريات وأفكار الفلاسفة القدامى من يونان وفرس وهنود وفراعنة، ولعل الدروز قد عمدوا إلى السرية التي ضربوها على مذهبهم تمشيًا مع بعض آراء الفلاسفة القدامى الذين كانوا يوصون بحجب آرائهم وسترها عن جمهور الناس)(1).ويقول الدكتور سامي مكارم في معرض رده على الأستاذ عبد الله النجار: (لقد أصاب باعتبار أفلاطون، وأتباع فيثاغورس من مصادر السرية في مسلك التوحيد، ولكن لم يصب في تجاهله مصادر أخرى لهذه السرية كان لها من الأهمية ما لأفلاطون وفيثاغورس وأتباعه، فهناك هرمس، وهو معروف بصيانته الشديدة للأسرار، وهو مكرم عند الدروز، ينظرون إليه بعين التقديس ويجعلونه في مصاف الأنبياء)(2). (ولذلك فالدروز يحرصون أشد الحرص على كتمان عقائدهم السرية، وينكرون ما يؤخذ منها، بل قد يذمونها أمام المعترضين رياء واستتارا، وقد حرص الدروز على هذا الكتمان المطبق لأصول مذهبهم وعقائدهم طيلة القرون، ولم تعرف خفايا مذهبهم إلا منذ قرن حينما غزا إبراهيم باشا مناطقهم الجبلية)(3)، ووقع الغزاة على بعض كتبهم المقدسة، وعرفت محتوياتها) (4)، وهكذا نرى أن الكتمان لا يعني إلا التظاهر بشيء أو تفسير الرموز بشيء والاحتفاظ بشيء آخر، فأصبح عادة مستحكمة تحمل على النفاق، وتفرض على الشخص أن يغاير ما بنفسه، ويتظاهر بما لا يؤمن فهو درس في وجوب الكذب الصريح. يقول حمزة في (رسالة الموسومة بحفظ الأسرار): (أن أكثر الآثام وأعظمها إظهار سر الديانة وإظهار كتب الحكمة، والذي يظهر شيئًا من ذلك يقتل حالاً اتجاه الموحدين ولا أحد يرحمه
…
ويقول: عليكم أيها الإِخوان الموحدون في دفن هذه الأسرار ولا يقرأها إلا الإِمام على الموحدين في مكان خفي، ولا يجوز أن تظهر كتب الحكمة الذي كلها رسم ناسوت مولانا سبحانه، وإن وجد شيء من هذه الأسرار في يد كافر فيقطع إربًا إربا، فأوصيكم أيها الموحدون بكتم الأسرار) (5).ويقول أيضًا في (رسالة التحذير والتنبيه):(وصونوا الحكمة عن غير أهلها، ولا تمنعوها لمستحقها، فإن من منع الحكمة عن أهلها فقد دنس أمانته ودينه، ومن سلمها إلى غير أهلها فقد تغير في اتباع الحق بيقينه، فعليكم بحفظها وصيانتها عن غير أهلها والاستتار بالمألوف عند أهله، ولا تنكشفوا عند من غلبت عليه شقوته وجهله، فأنتم ترونهم من حيث لا يرونكم، وأنتم بما في أيديهم عارفون، وعلى ما ألقوه من زخرف قولهم مطلعون، وهم عما في أيديكم غافلون، وعما اقتبستموه من نور الحكمة محجوبون، ولقد أخرسوا ونطقتم، وأبكموا وسمعتم، وعموا وأبصرتم، وجهلوا وعرفتم)(6).
(1) د. مصطفى الشكعة: ((إسلام بلا مذاهب))، (ص 276).
(2)
د. سامي مكارم: ((أضواء على مسلك التوحيد))، (ص 145).
(3)
مع أن الكتب التي كتبت عنهم، قبل حملة إبراهيم باشا، ذكرت شيئا من عقائدهم.
(4)
محمد عبد الله عنان: ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية))، (ص 203).
(5)
مخطوط (لبعضهم قول وجيز) مكتبة القديس بولس في الجامعة الأمريكية ببيروت رقم 206 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 715.
(6)
رسالة ((التحذير والتنبيه)).
وفي شرح الميثاق، يعتبر – كاتبه – التستر والكتمان من صحة العقيدة، ويقول:(حتى ولو أخر الإِنسان بعض رسائل الحكمة بلا حفظ، ويحفظ عوض ما يقيم المساترة، كان ذلك واجب، لأن الإِنسان إذا غرس بستان ولم يصنه بشيء لم يسلم أبدًا، وإذا غرسه ونقص بعض غراسه، وجعل عوض ذلك النقص حاجزًا يصونه كان ذلك أرب لسلامته وأنتج فيه. وكذلك مذهب التوحيد ما يصح لأحد كاملة إلا بالاستتار، والاستتار بالمألوف هو: إن كان المحق ساكنًا بين أهل الظاهر التنزيلية (1) فليتساتر بمذهبهم من صلاة وصيام وحج وتقديم أبي بكر وعمر وعثمان على علي بن أبي طالب وغيره.
وإن كان ساكنًا بين التأويلية في بلاد غالب عليه الشيعة، فليتساتر في مذهب التأويل، ويتزايا بزيهم ويقدم علي بن أبي طالب على الصحابة كلهم، ويسب أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة، ويكون موافقهم في دينهم في ظاهر الأمر. وإن كان بين النصارى فيتزايا بزيهم وهذا الحال رحمة من الله على أهل التوحيد، أن يكون توحيده في قلوبهم، ويتزايوا بزي كل طائفة (2) في ظاهرهم (3).ويورد الدكتور عبد الرحمن بدوي شرحا آخر للميثاق (4)، ومما جاء فيه عن هذا الموضوع ما يلي: لا يحل لأحد يتمسك بدين التوحيد أن يهمل المساترة، بل يجب عليه أن يعرف موجبات الصلاة والوضوء ونواقضه، ويقرأ ما تيسر من القرآن قراءة صحيحة على شيخ، وإن كان ذا يسر فيزكي من ماله، ويعرف أمر الصيام ومفطراته، بحيث لا ينكشف عند الشرائع أمر دين التوحيد) (5).
وإنكار ألوهية الحاكم – في ظاهر الأمر – يعتبر أيضًا من المساترة، وهذا ما تضمنه شرح الميثاق كذلك حيث يقول:(إن أنكر ألوهية الحاكم سبحانه بحضرة الضد فيجوز له ذلك، وليس يقع في ذلك ارتداد في الحقيقة، لأن المقر بألوهية الحاكم تعالى، الكاتب على نفسه الميثاق أمر بالمساترة عند الشرائع، وإنكار ألوهية الحاكم سبحانه باللسان، وهذا مشروع في الدين من غيبة الحاكم سبحانه إلى يوم القيامة. ولا جناح على الموحدين في إنكار الحاكم بحضرة الشرائع، إذ سئل وطلب منه مثل ذلك، وأما من تلقاء نفسه، أعني نفوس الموحدين بلا طلب ولا سبب فلا يجوز اللفظ بالإنكار ألبتة، كما لا يجوز اعتقاد بشريته)(6).وكذلك سب ولعن (حمزة) ظاهرًا لا بأس به، يقول بهاء الدين في منشور الغيبة:(فمن وقعت به منكم محنة، وطلب منكم سب هذا العبد (حمزة) فتبرءوا منه وسبوه، وإن طلب منكم لعنه فالعنوه، هذا عند الإضرار، والله يعلم بما تظهرون وتكتموه) (7).
ويتحدث تقرير قدمته الاستخبارات الفرنسية أثناء الاستعمار الفرنسي على سوريا ولبنان عن طبيعة الدروز فيقول: (إن الدروز مرنون بحق، فهم يتبعون حرفيًا نصيحة مؤسس دينهم: اتبعوا كل أمة أقوى من أمتكم، وحافظوا علي داخل قلوبكم. لذلك فعندما يحتكون بطوائف أقوى من طائفتهم كالمسلمين أو المسيحيين فإنهم يتظاهرون بالتسليم ببعض معتقداتهم وهكذا، فمثلاً يرددون بكل طيبة خاطر الشهادتين (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
(1) يقصد المسلمين.
(2)
يلاحظ هنا مطاطية هذا التعبير، والذي يمكن أن يؤخذ على تأويلات كثيرة.
(3)
شرح الميثاق: محمد حسين، مخطوط في جامعة شيكاغو رقم 3737 – ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية رقم 29.
(4)
نقلا عن مخطوط في المكتبة الأهلية بباريس (رقم 1436) عربي.
(5)
د. عبد الرحمن بدوي: ((مذاهب الإسلاميين))، (ص 688).
(6)
((شرح الميثاق)): محمد حسين.
(7)
منشور الغيبة.
مما تقدم يتضح أن التستر والكتمان نهج أساسي من أصول عقيدتهم، فهم دوما مع القوي والمتمكن، يتظاهرون بالدين الغالب في أي قطر، ومصداق ذلك ما نراه منهم في فلسطين المحتلة بإخلاصهم التام لليهود هناك. كذلك فهم في كثير من الأحيان لا يناقشون من يكتب عن ديانتهم مناقشة موضوعية بل يحاولون أن يلصقوا به الصفات القبيحة ويشتمونه بأقدح الشتائم متسترين بهذه الألفاظ على حقيقة دينهم وما يحويه من كفر، وهذا ما حدث مع الشيخ زيد بن عبد العزيز الفياض عندما بدأ بكتابة حلقات عن حقيقة مذهبهم في مجلتي المنهل وراية الإِسلام (1) اللتين كانتا تصدران في جدة والرياض ردًا على فتوى شيخ الأزهر باعتبارهم مسلمين (2).فقامت حينئذ ضجة شديدة بين الدروز وقدم كبارهم الاحتجاج، وأصدر شيخ العقل في لبنان فتوى ضده، وردوا على الشيخ الفياض بأقذع الألفاظ والشتائم في عدة صحف ومنها صحيفة الصفاء التي كانت تصدر في بيروت سنة 1961 م والتي كان مدير تحريرها شخص اسمه محمد آل ناصر الدين، حيث لم يستطيعوا أن ينفوا هذه الحقائق عن دينهم، فما كان منهم إلا أن يناقشوه بالسب والشتم ليتستروا بذلك على الحقيقة المرة فاتهموه بالإِلحاد والزندقة والصهينة وغير ذلك من الاتهامات التي لا يجوز ذكرها (3).وكان أن قام الأستاذ عبد الله النجار وهو من طائفة الدروز بعد هذه الحادثة بسنوات قليلة بإصدار كتابه (مذهب الدروز والتوحيد) والذي يبين بقلم درزي حقيقة هذا المذهب، وقامت ضجة أشد من الأولى على هذا الكتاب وصاحبه، وحاكمه مشايخ الدروز لفضحه أسرار المذهب وجمعوا نسخ الكتاب من الأسواق وأحرقوها، وصدر بأمر من مشيخة العقل كتاب ألفه الدكتور سامي مكارم وقدم له الأستاذ كمال جنبلاط يرد فيه على كتاب الأستاذ النجار (4).
ويظهر أن الدروز قد غيروا هذه المرة من استراتيجيتهم فعملوا بشيء من الموضوعية، ولكن للأسف كانت هذه الموضوعية ستارًا يتسترون به على ما يريدون القيام به، حيث يقال أنهم استغلوا أحداث لبنان الأخيرة وقاموا باغتيال الأستاذ النجار.
وهذه الأمثلة تدل دلالة ساطعة على خطورة موضوع التستر في عقيدتهم، وعن كيفية تعاملهم مع من يكشف عن حقيقة دينهم.
(1) انظر ((المنهل)) جزء 3 مجلد 20 شهر ربيع ثاني 1379 هـ، وراية الإسلام، الأعداد الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر من السنة الأولى عام 1380 هـ، والعددان الأول والثاني من السنة الثانية عام 1381 هـ.
(2)
كان شيخ الأزهر قد أعلن عام 1379 هـ الموافق 1959 م أن الدروز موحدون مسلمون مؤمنون؟! فقد نقلت جريدة السياسة اللبنانية بلسان صاحبها أسعد المقدم في العدد 810 تاريخ 26 محرم 1379 هـ، آب 1959 م ما يلي: بعد أن تحدث فضيلة شيخ الأزهر عن اقتراح تقدم به لسيادة الرئيس جمال عبد الناصر بإنشاء مجمع علمي أكاديمي يضم علماء الشيعة والسنة يلتقون فيه لتحقيق الوحدة المنشودة. سأله أسعد المقدم: هل ستدعون علماء الدروز إلى المجمع الذي ذكرتموه، وهل تشمل دعوتكم إلى الوحدة إخواننا أبناء الطائفة الدرزية؟.أجاب: لقد أرسلنا من الأزهر بعض العلماء كي يتعرفوا أكثر على المذهب الدرزي وجاءت التقارير الأولى: تبشر بالخير فالدروز موحدون مسلمون؟! نقلا عن مجلة المنهل الصادرة في جدة، ج 3 مجلد 20 ربيع ثاني 1379 هـ.
(3)
انظر ((صحيفة الصفاء البيروتية)) العدد (رقم 3185) وتاريخها 31 كانون الثاني 1961 م.
(4)
انظر كتاب ((أضواء على مسلك التوحيد الدرزية)).
ومما يذكر في هذا المجال أن أقلامًا عديدة من الدروز طالبوا بشدة مشيخة عقل الدروز بالإِفراج والإِعلان عن حقيقة العقيدة الدرزية، ولكن مشيخة العقل أصمت أذنيها عن كل هذه الأصوات وخاصة أصوات الدروز في المهجر وفي مقدمتهم الدكتور نجيب العسراوي الذي ما فتأ يطالب بذلك، وعندما يئس من ذلك أصدر كتابًا عن هذه العقائد باللغة البرتغالية حتى لا يقرأه كل إنسان.
وقد ذكر هذا الموضوع بتفصيل صاحب مذكرة (أيها الدرزيّ عودة إلى عرينك) ومما قاله: (الدكتور نجيب العسراوي رئيس الرابطة الدرزية بالبرازيل استشار الأمير شكيب أرسلان عام 1927 بشأن الإِفراج عن العقائد الدرزية المدفوعة بالرسائل فأجابه: بعدها عجرا؟
وكأن العسراوي وأمثاله كعدنان بشير رشيد رئيس الرابطة الدرزية في استراليا وجدوا تلك العجرا أصبحت سائرة في طريق النضوج، فأخذوا يكاتبون مشيخة العقل طالبين شيئًا يعرضونه على أطفالهم الذين يعرفون الدرزية بـ (ليست إسلامية ولا مسيحية ولا يهودية)، كتبوا هذا وطالبوا وأصروا بل وتذمروا
…
إلى أن يقول: خشي نجيب العسراوي – أحد لامعي المهاجرين في البرازيل وعدنان بشير رشيد رئيس الرابطة الدرزية في أستراليا عاقبة هذا البعد وألحا عن مشيخة العقل طالبين تأليف ما يستطيع منه الدروز فهم دينهم، ولكن هذه اعتصمت بالمواعيد، فاضطر العسراوي أن يصدر كتابه (الدرزية) باللغة البرتغالية، ومنه عرف الناس شيئًا.
جعلت مشيخة العقل أصابعها في آذانها واستهانت بأصوات المنادين بوجوب التأليف حول الدرزية، ولم تعترف بجهود العسراوي رغم أنه سد ثغرة كانت هي الأجدر بسدادها، وبعد أن صدر عبد الله النجار كتابه تزحزحت وكلفت سامي مكارم بتأليف كتاب (أضواء على مسلك التوحيد) بعد اعتذار عجاج نويهض. ألف مكارم وجنبلاط ولكن لا ليسدا فراغا بل ليردوا على عبد الله النجار في كتابه المحجوز الذي سد فراغا أو بعض الفراغ، وباركا الكتمان والتمسا عذرا للدرزية، ورأياها نابعة عن العقل الأرفع الذي لا يحتمل الخطأ
…
أما سواها من أهل المذاهب والأديان فمن العقل الطبيعي المعرض للخطأ) (1).
المصدر:
عقيدة الدروز عرض ونقض لمحمد أحمد الخطيب – ص 174
(1)((أيها الدرزي عودة إلى عرينك))، (ص 123).