الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الحاكم بأمر الله وعلاقته بعقيدة الدروز
لابد لمن يتصدى للتعريف بالمذهب الدرزي، من أن يلقي الضوء على شخصية ذلك الرجل الذي يدعي أتباعه الدروز، أن اللاهوت ظهر في صورته الناسوتية.
هذا الرجل هو أبو علي المنصور بن العزيز بالله بن المعز لدين الله الفاطمي، والذي لقب بـ (الحاكم بأمر الله).
ولد الحاكم بأمر الله سنة 375 هـ الموافق لعام 985 م، وقد تولى الملك بعد موت أبيه مباشرة في رمضان سنة 386 هـ، وكان سادس الملوك العبيديين. ولكي تتمكن من أخذ فكرة واضحة قدر الإِمكان عن حياة هذا الحاكم الغامض، قسمنا حياته إلى ثلاثة أقسام أو أدوار (1)، متمايزة عن بعضها تمام التمايز. فالدور الأول: وهو دور حداثته، يبدأ من توليه الملك في الحادية عشرة من عمره، وينتهي بمقتل (برجوان)(2) في سنة 390 هـ الموافق لعام (1000 م).
ويبدأ الدر الثاني: من تاريخ هذا الحادث حتى سنة 408 هـ الموافق لعام (1017 م)، وهي السنة التي ادعى فيها الألوهية على يد حمزة بن علي.
أما الدور الثالث: فيبدأ من سنة 408 هـ، حتى اختفائه ومقتله سنة 411 هـ الموافق لعام (1021).
الدور الأول من سنة 386 – 390 هـ (996 – 1000 م): (ولي الحاكم بأمر الله الخلافة حدثا دون الثانية عشرة، في نفس اليوم الذي مات فيه والده (العزيز)، وكانت أمه أم ولد (3)، وقد كانت حسبما تقول الرواية النصرانية المعاصرة، جارية رومية نصرانية من طائفة الملكية، وكان لها أيام العزيز نفوذ عظيم في الدولة، وكان لهذا النفوذ أثره بلا ريب في سياسة التسامح (4) الواضح التي اتبعها العزيز نحو النصارى، وفي تقوية جانبهم ونفوذهم، وتمكنهم من مناصب النفوذ والثقة) (5)
وأوصى العزيز قبل موته بولده ثلاثة من أكابر رجال الدولة وهم: (برجوان الصقلبي خادمه وكبير خزائنه، والحسن بن عمار زعيم كتامة، أقوى القبائل المغربية، وعماد الدولة الفاطمية منذ نشأتها، ومحمد بن النعمان قاضى القضاة، وكانت الوصاية الفعلية إلى الأول والثاني، ولم يلبث أن نشب الخلاف بين الرجلين واشتدت المنافسة بينهما.
وقام ابن عمار بتدبير الشؤون بادئ ذي بدء، ولقب في سجل تعيينه بأمين الدولة، وظهر ابن عمار بمظهر الطاغية المطلق، فكان يدخل القصر ويغادره راكبًا، وألزم جميع الناس بالترجل له، وأغلق بابه إلا على الخاصة والأكابر من شيعته. وأخيرًا وقع الانفجار، ووثبت جماعة كبيرة من الزعماء والجند بتحريض برجوان وتدبيره، وهاجمت الكتاميين في ظاهر القاهرة وأثخنت فيهم، فتوارى ابن عمار حينًا، واضطر أن يترك الميدان حرًا لمنافسه، عندئذ قبض برجوان على زمام الأمور) (6). (وأوصبح لبرجوان مطلق السلطان، وركبه الزهو والغرور، وانغمس في الملذات ينعم بثروته الطائلة)(7).
(1)(انظر ((دائرة المعارف الإسلامية)) (7/ 266 – 270)، التي قسمت حياة الحاكم إلى ثلاثة أدوار. وكذلك انظر ما قسمه الدكتور حسن إبراهيم حسن – في ((تاريخ الإسلام السياسي والديني)) (3/ 153) – لحياة الحاكم إلى أربعة أقسام، الأول من 386 هـ - 390، الثاني من 390 – 395 هـ، والثالث من 396 – 401 هـ، والرابع من 401 – 411 هـ.
(2)
أحد الأوصياء الثلاثة، الذين عهد إليهم العزيز برعاية الحاكم حتى بلوغه، وكان خصيا.
(3)
وهي المملوكة التي تبقى في الرق، ويكون لها أولاد من مالكها، وبعد موته تعتق لوجود ولد لها.
(4)
أو قل التخاذل لأن من سبقه في الدولة العبيدية كانوا متخاذلين حقا؟!.
(5)
محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 41 - 42).
(6)
محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 45 – 47).
(7)
((دائرة المعارف الإسلامية)) (7/ 267).
فماذا كان موقف الحاكم خلال هذه الفترة الأولى من ملكه؟ (ولقد كان برجوان بلا ريب يحجبه ما استطاع عن الاتصال برجال الدولة وشؤونها، ويدفعه ما استطاع إلى اللهو واللعب، ولم يلبث أن فطن الحاكم إلى موقف برجوان واستئثاره بالسلطة، واستبداده بالشؤون، وكان الحاكم قد أشرف – في ذلك الوقت – على الخامسة عشر من عمره، وأصبح الطفل فتى يافعًا شديد اليقظة والطموح، وبدأ يثور لسلطته المسلوبة، ولذلك فقد حكم على برجوان بالموت، فاستدعى الحاكم الحسين بن جوهر، وعهد إليه بتلك المهمة. ومنذ ذلك الحين تناول الحاكم إدارة الدولة بيديه، ونظم له مجلسًا ليليًا يحضره أكابر رجال الدولة، وتبحث فيه الشؤون العامة)(1).
الدور الثاني من سنة 390 – 408 هـ (1000 – 1017 م): افتتح الحاكم عهده الجديد كما ذكرنا بقتل برجوان وصيه ومدبر دولته، (غير أن الحاكم ما لبث أن اتبع ضربته بضربة دموية أخرى هي مقتل الحسن بن عمار زعيم كتامة – وأحد الأوصياء عليه – وفي سنة 393 هـ قتل الحاكم وزيره فهد بن إبراهيم النصراني، بعد أن قضى في منصبه زهاء ستة أعوام، وأقام الحاكم مكانه علي بن عمر العداس (2)، ولكن لم تمض أشهر قلائل حتى سخط عليه وقتله، وقتل معه الخادم ريدان الصقلي حامل المظلة. ثم قتل عددًا كبيرًا من الغلمان والخاصة سنة 394 هـ، ثم تبع بذلك بمقتلة أخرى كان من ضحاياها الحسين بن النعمان الذي شغل منصب القضاء منذ سنة 389 هـ، فقتل وأحرقت جثته، وزهق فيها عدد كبير من الخاصة والعامة، فقتلوا أو أحرقوا) (3).
ولكي نعطي صورة واضحة عن هذه الشخصية الغامضة، نستعرض فيما يلي أقوال بعض المؤرخين ممن كانوا معاصرين لعهد الحاكم، أو كانوا قريبين من عهده:
ونبدأ بابن تغري بردي في (النجوم الزاهرة) الذي ينقل عن أبي المظفر بن قرأوغلي في تاريخه (مرآة الزمان) ما يلي عن الحاكم:
(وقد كانت خلافته متضادة بين شجاعة وإقدام، وجبن وإحجام، ومحبة للعلم وانتقام من العلماء، وميل إلى الصلاح وقتل الصلحاء.
(1) محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 48 – 50).
(2)
أحد وزراء الدولة الفاطمية، تولى الوزارة لأول مرة بعد وفاة يعقوب بن كلس اليهودي أيام العزيز.
(3)
محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 54).
وكان الغالب عليه السخاء، وربما بخل بما لم يبخل به أحد قط، وأقام يلبس الصوف سبع سنين، وامتنع عن دخول الحمام، وأقام سنين يجلس في الشمع ليلاً ونهارًا، ثم عنَّ له أن يجلس في الظلمة فجلس فيها مدة، وقتل من العلماء والكتاب والأماثل ما لا يحصى، وكتب على المساجد والجوامع سب أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم في سنة خمس وتسعين وثلثمائة، ثم محاه في سنة سبع وتسعين. وأمر بقتل الكلاب، وبيع الفقاع (1) ثم نهى عنه، ورفع المكوس (2) عن البلاد وعما يباع فيها، ونهى عن النجوم وكان ينظر فيها. ونفى المنجمين، وكان يرصدها ويخدم زحل وطالعه المريخ، ولهذا كان يسفك الدماء (3).وبنى جامع القاهرة، وجامع راشدة على النيل بمصر، ومساجد كثيرة، ونقل إليها المصاحف المفضضة، والستور الحرير، وقناديل الذهب والفضة، ومنع من صلاة التراويح عشر سنين، ثم أباحها. وقطع الكروم ومنع من بيع العنب، ولم يبق في ولايته كرمًا، وأراق خمسة آلاف جرة عسل في البحر، خوفًا من أن تعمل نبيذًا، ومنع النساء من الخروج من بيوتهن ليلاً ونهارًا) (4).ويروي ابن خلطان عن الحافظ أبي الطاهر السِلَفي (5):
(1) شراب يتخذ من الشعير، يعلوه الزبد والفقاعات، ويشبه (البيرة) في الوقت الحاضر.
(2)
الجمارك.
(3)
كذا في مرأة الزمان، ولا يخفى ما في ذلك من مخالفة للشرع، فإن النجوم والمطالع لا ينسب إليها فعل أحد، فقد كان سفاكا للدماء بفعله القبيح، ونفسه المجرمة. ومن اعتقد في النجوم خلاف ذلك من تأثير على الناس في الحظوظ والسعادة والشقاء فقد كفر بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
(4)
ابن تغرى بردي ((النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة)). (ص 176 – 177).
(5)
هو الحافظ أبو الطاهر أحمد بن محمد السلفي، بكسر السين وفتح اللام، ولد في أصبهان سنة 475 على الأرجح وطلب الرحلة للحديث حتى استقر في الإسكندرية. توفي سنة 576 / انظر أبو الطاهر السلفي / د. حسن عبد الحميد صالح.
(أن الحاكم كان جالسًا في مجلسه العام وهو حفل بأعيان دولته، فقرأ بعض الحاضرين قوله تعالى فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65]، والقارئ في أثناء ذلك يشير إلى الحاكم، فلما فرغ من القراءة، قرأ شخص آخر يعرف بابن المشجر، وكان رجلاً صالحًا يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:16 - 73].فلما أنهى قراءته تغير وجه الحاكم، ثم أمر لابن المشجر المذكور بمائة دينار، ولم يطلق للآخر شيئاً، ثم إن بعض أصحاب ابن المشجر قال له: أنت تعرف الحاكم وكثرة استحالاته، وما نأمن أن يحقد عليك، وأنه لا يؤاخذك في هذا الوقت ثم يؤاخذك بعد هذا فتتأذى معه، ومن المصلحة عندي أن تغيب عنه. فتجهز ابن المشجر للحج، وركب في البحر فغرق، فرآه صاحبه في النوم، فسأله عن حاله، فقال: ما أقصر الربان معنا، أرسى بنا على باب الجنة، رحمه الله تعالى، وذلك ببركة جميل نيته وحسن قصده)(1).ويقول السيوطي: (إن الحاكم أمر الرعية إذا ذكره الخطيب على المنبر أن يقوموا على أقدامهم صفوفًا إعظامًا لذكره، واحترامًا لاسمه، فكان يفعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين. وكان أهل مصر على الخصوص إذا قاموا خروا سجدًا، حتى أنه يسجد بسجودهم في الأسواق وغيرهم، وكان جبارًا عنيدًا، وشيطانًا مريدًا، كثير التلون في أقواله وأفعاله)(2).ومن أفعاله (أنه كان يعمل الحسبة بنفسه، فكان يدور بنفسه في الأسواق على حمار له – وكان لا يركب إلا حمارًا -، فمن وجده قد غش في معيشة، أمر عبدًا أسود معه يقال له مسعود، أن يفعل به الفاحشة العظمى)(3).وقد بنى بين الفسطاط والقاهرة مسجدًا عظيمًا على ثلاثة مشاهد (4) كانت هناك، وجعل فيه سدنة وخدمًا يوقدون فيه السرج الليل كله، وكان يريد أن ينقل إليه جسد النبي صلى الله عليه وسلم، غير أن الله سبحانه دفع، وأظهر الله عز وجل أهل المدينة على ذلك) (5).
(1) ابن خلكان ((وفيات الأعيان)) (5/ 295).
(2)
السيوطي ((حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة)) (1/ 601 – 601).
(3)
ابن كثير ((البداية والنهاية)) (12/ 9).
(4)
المشاهد: هي القبور التي يبنى عليها، وتقصد للتبرك، بل إن كثيرا منها ليس فيه أحد مقبور، وإنما جعل من قبل أهل الضلال، ولا يكاد يخلو بلد من مشهد للحسين عند الشيعة، وللخضر وغيره عند جهال أهل السنة، طهر الله أرض المسلمين من هذه الأوثان، ومن جميع مظاهر الشرك.
(5)
الحميري / ((الروض المطار في خبر الأقطار)) (ص 450).
وكان يحتال بكل حيلة لإِقناع الناس بقدرته وعلمه، (ومن ذلك أنه أرسل مرة وراء بعض الأشقياء، وعلمهم أن يسرقوا من مخازن مصر في أحد الليالي أشياء معلومة فأطاعوا أمره، وكان قبل ذلك قد أمر الناس بترك بيوتهم ودكاكينهم مفتوحة طوال الليل بدعوى أن السرقة لا تجوز في أيامه، وتعهد لكل من يسرق له شيء برده ومعرفة السارق. فلما دار الذين استأجرهم للسرقة، وأخذوا ما أخذوه، تقدم إليه أصحاب الحاجيات يشكون إليه الأمر فقال: اذهبوا إلى أبى الهول الذي صنعته يخبركم بما تريدون، وكان قد صنع تمثالاً من النحاس على صورة أبي الهول، ووضع من داخله رجلاً يعرف أسماء السارقين، والذين سرقت الأشياء من دكاكينهم، فإذا جاء الرجل منهم وقص حكايته، أجابه الرجل من داخل الصنم أن اذهب إلى بيت فلان تجد حاجتك، وصحت أقاويله، فهال الناس الأمر واعتقدوا في الخليفة أشكالاً وألوانًا)(1).وينقل الأستاذ محمد عبد الله عنان عن كتاب (أخبار الدول المنقطعة) عن الحاكم وعن خطته الدموية ما يأتي: (وكان مؤاخذًا بيسير الذنب، حادًا لا يملك نفسه عند الغضب، فأفنى أمما وأباد أجيالاً، وأقام هيبة عظيمة وناموسًا، وكان يفعل عند قتله الشخص أفعالاً متناقضة وأعمالاً متباينة. وكان يقتل خاصته وأقرب الناس إليه، فربما أمر بإحراق بعضهم، وربما أمر بحمل بعضهم وتكفينه ودفنه وبنى تربة عليه، وألزم كافة الخواص ملازمة قبره والمبيت عنده، وأشياء من هذا الجنس يموه بها على عقول أصحابه السخيفة، فيعتقدون أن له في ذلك أغراضًا صحيحة استأثر بعلمها وتفرد عنهم بمعرفتها)(2).ومن حوادث القتل والسفك التي اقترفها الحاكم: (أنه في سنة 399 هـ قبض على جماعة كبيرة من الغلمان، والكتاب، والخدم الصقالبة بالقصر، وقطعت أيديهم من وسط الذراع ثم قتلوا. وقتل الفضل بن صالح (3) من أعظم قواد الجيش، وفي العام التالي وقعت مقتلة أخرى بين الغلمان والخدم، وقتل جماعة من العلماء السنية. وقبض على صالح بن علي الروذباري لأسابيع قليلة من عزله وقتل، وعين مكانه ابن عبدون النصراني، ثم صرف وقتل لأشهر قلائل، وخلفه أحمد بن محمد القشوري في الوساطة والسفارة، ثم صرف لأيام قلائل من تعيينه وضربت عنقه لأنه كان يميل إلى الحسين بن جوهر (4) ويعظمه. وللحاكم قصة دموية مروعة مع خادمه (غين) وكاتبه (أبي القاسم الجرجرائي)(5)، وكان غين من الخدم الصقالبة الذين يؤثرهم الحاكم بعطفه وثقته، فعينه في سنة 402 هـ للشرطة والحسبة ولقبه بقائد القواد، وعهد إليه بتنفيذ المراسيم الدينية والاجتماعية، وعهد بالكتابة إلى أبي القاسم الجرجرائي، وكان الحاكم قد سخط على غين قبل ذلك ببضعة أعوام وأمر بقطع يده، فصار أقطع اليد، ثم سخط عليه كرة أخرى وأمر بقطع يده الثانية، فقطعت وحملت إلى الحاكم في طبق، فبعث إليه الأطباء للعناية به ووصله بمال وتحف كثيرة، ولكن لم تمض أيام قلائل على ذلك حتى أمر بقطع لسانه، فقطع وحمل إلى الحاكم أيضًا، ومات غين من جراحه.
(1) كريم ثابت ((الدروز والثورة السورية)) (ص 17).
(2)
محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 59).
(3)
هو الفضل بن جعفر بن الفضل بن الفرات، كان في أيام الحاكم بأمر الله، وأمره بالجلوس للوساطة، فجلس خمسة أيام وقتله سنة 405 هـ.
(4)
قائد القواد في أيام الحاكم ولاه القيادة سنة 390 هـ، فأقام نحو ثلاث سنوات، ثم هرب خوفا من بطش الحاكم، حتى استطاع أن يظفر به وقتله سنة 401 هـ.
(5)
علي بن أحمد الجرجرائي، وزير، وتنقل في الأعمال أيام الحاكم، حتى قطع يديه سنة 404 هـ، ثم ولي بعد ذلك ديوان النفقات سنة 406 هـ ولقب سنة 407 هـ نجيب الدولة، توفي سنة 436 هـ.
وأما أبو القاسم الجرجرائي فقد أمر الحاكم بقطع يديه لوشاية صدرت في حقه، ولكنه أبقى على حياته، وعاش أقطع اليدين، وفي سنة 405 قتل الحاكم قاضى القضاة مالك بن سعيد الفارقي (1)، وقتل الوزير الحسين بن طاهر الوزان (2)، وعبد الرحيم بن أبي السيد الكاتب، وأخاه الحسين متولي الوساطة والسفارة، وقلد الوساطة فضل بن جعفر بن الفرات، ثم قتله لأيام قلائل من تعيينه. وهكذا استمر الحاكم في الفتك بالزعماء ورجال الدولة والكتاب والعلماء حتى أباد معظمهم، هذا عدا من قتل من الكافة خلال هذه الأعوام الرهيبة، وهم ألوف عديدة. وتقدر الرواية المعاصرة ضحايا الحاكم بثمانية عشر ألف شخص من مختلف الطبقات) (3).
وكان أشد الناس تعرضًا لهذه النزعات الدموية، أقرب الناس إلى الحاكم من الوزراء والكتاب والغلمان والخاصة، ولم يكن عامة الناس أيضًا بمنجاة منها، فكثيرًا ما عرضوا للقتل الذريع لأقل الريب والذنوب أو لاتهامهم بمخالفة المراسيم والأحكام الشاذة التي توالى صدورها طوال حكمه، وكان رجال الدولة ورجال القصر وسائر العمال والمتصرفين يرتجفون رعبًا وروعًا أمام هذه المذابح الدموية، وكان التجار وذوو المصالح والمعاملات يشاطرونهم ذلك الروع. ويروي لنا المُسبِّحي (4) صديق الحاكم ومؤرخه فيما بعد، أن الحاكم أمر سنة 395 هـ بعمل شونة كبيرة مما يلي الجبل ملئت بالسنط والبوص والحلفا (5)، فارتاع الناس وظنه كل من له صلة بخدمة الحاكم من رجال القصر أو الدواوين أنها أعدت لإعدامهم، وسرت في ذلك إشاعات مخيفة. فاجتمع سائر الكتاب وأصحاب الدواوين والمتصرفون من المسلمين والنصارى في أحد ميادين القاهرة، ولم يزالوا يقبلون الأرض حتى وصلوا القصر، فوقفوا على بابه يضجون ويتضرعون ويسألون العفو عنهم، ثم دخلوا القصر ورفعوا إلى أمير المؤمنين عن يد قائد القواد الحسين بن جوهر رقعة يلتمسون فيها العفو، فأجابهم الحاكم على لسان الحسين إلى ما طلبوا، وأمروا بالانصراف والبكور لتلقي سجل العفو. واشتد الذعر بالغلمان والخاصة على اختلاف طوائفهم، وتوالى صدور الأمانات لمختلف الطبقات) (6).
(1) من قضاة الديار المصرية، ولاه الحاكم القضاء سنة 398 هـ، ثم أضيف إليه النظر في المظالم سنة 401 هـ، وعلت منزلته عند الحاكم، واستمر في القضاء حتى 405 هـ حين ضرب الحاكم عنقه.
(2)
كان يتولى بيت المال في أوائل ملك الحاكم، ثم ولاه الوزارة سنة 403 هـ، وبينما كان مع الحاكم خارج القاهرة ضرب عنقه ودفنه في مكانه، وكان ذلك سنة 405 هـ.
(3)
محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 57 - 58).
(4)
هو محمد بن عبيد الله المسبحي، مؤرخ وعالم بالأدب، ولد بمصر سنة 366 هـ، اتصل بخدمة الحاكم، وحظي عنده وولاه ديوان الترتيب، له كتاب كبير في (تاريخ المغاربة ومصر) ويعرف بـ ((مختار المسبحي)) وكتب كثيرة أخرى، توفي سنة 420 هـ.
(5)
الشونة: المخزن الكبير، والسنط: نوع من الخشب يستعمل في البناء، والحلفا: نبات طويل الورق تصنع منه القفف وينبت بالمستنقعات.
(6)
محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 55).
هذه السجلات وأمثالها التي أصدرها الحاكم تدل على مدى خوف الناس من بطشه، حتى التمسوا منه إصدار سجلات الأمان. ولا يوجد ثمة ريب في أن القتل كان في نظر الحاكم خطة مقررة، ولم تكن فورة أهواء فقط، وقد لزم الحاكم هذه الخطة طوال حياته، وفي هذا المعنى يقول الكوثري:(من علم أن مدة الحاكم هذا من سنة 386 هـ إلى سنة 411 هـ، يرى الاعتذار عنه بأنه كان مجنونًا كلاما لا يلتفت إليه، لأن من المحال في جاري العادة أن يستبقي حاكم وهو مجنون مدة خمس وعشرين سنة)(1).
وينقل الأستاذ محمد عبد الله عنان عن المستشرق ميللر في الحاكم ما يلي: (وليس لدينا إلا أن نعتقد أنه إما باطني متعصب، توهم في نفسه الإِغراق والألوهية، وإما أمير ذكي بارع في تاريخ أسرته ومذهبها. اعتقد أنه يستطيع أن يسمو فوق البشر وأن يحتقرهم ويصنفهم كالشمع طوع إرادته، وربما كان يجمع في طبيعته المتناقضة بين شيء من هذا وشيء من ذاك)(2).
(1) محمد زاهد الكوثري ((من عبر التاريخ)) (ص: 9).
(2)
محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص: 96).
ولقد كانت معاملة الذميين من أهم ظواهر عصر الحاكم بأمر الله، وكانت بلا ريب سياسة مقررة، ولم تحمل في مجموعها طابع التناقض. ففي سنة 395 هـ أصدر الحاكم أمره للنصارى واليهود بلبس الغيار، وشد الزنار، ولبس العمائم السود. وفي سنة 399 هـ أمر بهدم كنائس القاهرة ونهب ما فيها، وصدر مرسوم خاص بهدم كنيسة القيامة في بيت المقدس. وفي العام التالي صدر مرسوم جديد بالتشديد على اليهود والنصارى في لبس الغيار وتقليد الزنار، وألغيت الأعياد النصرانية كعيد الصليب والغطاس، وعيد الشهيد (1).وقد خفت هذه المعاملة للذميين تباعًا، وخاصة قبل مقتل الحاكم سنة 411 هـ، إذ أصدر عدة سجلات بإلغاء ما أصدره من قبل في حقهم. ومما يلحظ في هذا الصدد، أن موقف الحاكم إزاء النصارى واليهود هو من المواقف القليلة التي ثبت فيها الحاكم على سياسة واحدة، وأنه لم يجنح فيه من الشدة إلى اللين إلا في أواخر عصره، حينما ظهر دعاة تأليهه، يدعون إلى دين جديد وعقائد جديدة) (2). فكان لابد من تغيير هذه المعاملة، محاولة منه لاستمالتهم إلى ما تصبو إليه نفسه؟.أما موقف الحاكم من أحكام وأركان الإسلام، (فقد أصدر سنة 400 هـ سجل بإلغاء الزكاة والنجوى (أو رسوم الدعوة)(3)، وأعيدت صلاة الضحى والتراويح (بعد أن منعها). وفي بعض الروايات أنه حاول أن يعدل بعض الأحكام الجوهرية كالصلاة والصوم والحج، وقيل إنه شرع في إلغائها، أو أنه ألغاها بالفعل. ومن ذلك أنه ألغى الزكاة كما رأينا، وألغى صلاة الجمعة (التي يصليها) في رمضان، وكذلك ألغى صلاته في العيدين، وألغى الحج، وأبطل الكسوة النبوية (4)، وفي سنة 395 هـ أمر بسب السلف (أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة ومعاوية وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وكتب ذلك على أبواب المساجد، ولاسيما جامع عمرو في ظاهره وباطنه، وعلى أبواب الحوانيت والمقابر، ولون بالأصباغ والذهب، وأرغم الناس على المجاهرة به ونقشه في سائر الأماكن)(5).وقد أمر نائبه على دمشق أن يضرب رجلاً مغربيًا، ويطاف به على حمار، ونودي عليه: هذا جزاء من أحب أبا بكر وعمر، ثم أمر به فضربت عنقه) (6).ولكنه في سنة 397 هـ أمر بمحو كل ما كتب على المساجد والدور وغيرها، وفي سنة 401 هـ قرئ بجامع عمرو سجل بالنهي عن معارضة أمير المؤمنين (الحاكم) فيما يفعل أو يصدر فيه من الأمور والأحكام، وترك الخوض فيما لا يعني.
(1) الذي ألغاه الحاكم هو السماح لهم بجعل هذه الأعياد الخاصة بهم، أعيادا شعبية يظهرون فيها التحدي للشعور الإسلامي العام من إظهار وشرب للخمر ورفع للصلبان
…
إلخ، والتي كان يسمح بها الحاكم ومن سبقه في الدولة العبيدية.
(2)
محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 78 – 71، 92).
(3)
يؤيد هذا ما ذكره الدكتور محمد كامل حسين معتمدا على رسائل الدروز أن بداية ادعاء الحاكم الألوهية كانت سنة 400 هـ.
(4)
إننا ونحن ننقل هذه الأشياء التي استنكرت من الحاكم، لأنها كانت متبعة من قبله وألفها الناس، من غير نظر لما فيها من مخالفات شرعية أو بدع ما أنزل الله بها من سلطان، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى كساء يطرح على قبره الشريف. بل نهى صلى الله عليه وسلم عن كل ذلك، ولو أن الحاكم امتنع عن هذه الأشياء اتباعا للدين وأوامره لمدحت منه، غير أنه كان يفعلها ليخالف المألوف وينقض المعروف، بناء على تصورين الأول ما ذكرته من أن هذا ليس اضطرابا بل خطة مقررة والثاني أن هذا اضطراب في عقله وتصرفاته لا يستغرب عنه.
(5)
محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 76 - 78).
(6)
آدم متز ((الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)) (1/ 132).
وكانت النفوس قد اضطربت من جراء هذه الأوامر والقيود المضنية، وأمر في نفس السجل بإعادة (حي على خير العمل) في الأذان، وإسقاط (الصلاة خير من النوم)(1)، والنهي عن صلاة التراويح والضحى) (2).
وأما عن شغفه بالليل، فقد كان من أظهر خواص هذا الدور من حكمه، (فقد كان يعقد مجالسه ليلاً، ويواصل الركوب كل ليلة، وينفق شطرًا كبيرًا من الليل في جوب الشوارع والأزقة. وجنح الحاكم في تلك الفترة إلى نوع من التصوف المدهش (3)، فأطلق شعره حتى تدلى على أكتافه، وأطلق أظافره، واستعاض عن الثياب البيضاء بثياب سود، فكان يرتدي جبة من الصوف الأسود العادي (4)، وقد لا يغيرها مدة طويلة حتى يعلوها العرق والرثاثة، وقد يرتدي أحيانًا جبة مرقعة من سائر الألوان. وأضرب عن جميع الملاذ الحسية والنفسية، واقتصر في طعامه على أبسط ما تقتضيه الحياة من القوت المتواضع. وفي سنة 405 هـ ازداد الحاكم شغفًا بالطواف في الليل، فكان يركب مرارًا في اليوم، بالنهار والليل، وكان يقصد غالبًا إلى المقطم (5) حيث أنشأ له منزلاً منفردًا يخلو فيه إلى نفسه ويهيم في عوالمه وتصوراته، ومرصدًا خاصًا يرصد منه النجوم ويستطلعها.
وكان يؤثر ركوب الحمير، ولاسيما الشهباء منها، ويخرج دون موكب ولا زينة ومعه نفر قليل من الركابية، وكان يبدأ كعادته بالتجوال في شوارع القاهرة، ويحادث الكافة، ويستمع إلى ظلامات المتظلمين.
وقد انتهت إلينا أحاديث ونوادر كثيرة عن المناظر التي كانت تقترن بهذا الطواف، وعما كان ينزع إليه الحاكم أحيانًا من الأهواء العنيفة خلال طوافه، ومن ذلك أنه كان يأمر بإحراق الشونة ليتمتع بمرأى النيران، وأنه لقي ذات مساء عشرة من الناس سألوه الإِحسان فأمر أن ينقسموا إلى فريقين يتقاتلان، حتى يغلب أحدهما فينعم عليه، فتقاتلا حتى فني منهم تسعة وبقي واحد، فألقى عليه الدنانير، فلما انحنى ليأخذها عاجله الركابية بقتله. وأنه مر ذات ليلة على دكان شواء، فانتزع منه سكينًا وقتله بها أحد الركابية المقربين لديه بغير ما سبب معروف، وقد تركت الجثة في موضعها، وفي اليوم التالي أنفذ الحاكم إليه كفنًا جليلاً، ودفن مع التكريم) (6). (ويحكى أنه عَنَّ له في أثناء ركوبه بالليل رأي سخيف، فكان يأمر أحد رجاله بأن يأتي شيخًا خليعًا بمشهد منه ومن الجمع الحاضر، ويضحك من هذا المنظر القبيح ويطرب له)(7).
(1) الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعلها في الأذان الأول في الفجر، ولم تستعمل في الأذان الثاني أو في الإقامة إلا بعد زمن طويل من وفاته صلى الله عليه وسلم.
(2)
محمد عبد الله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 66).
(3)
إن التصوف لم يكن في يوم من الأيام من شعائر الشيعة، بل لا يكاد يوجد بينهم متصوف واحد، ولعل ما يقصده الأستاذ محمد عبد الله عنان، ما ظهر به الحاكم من لباس مخالف للمألوف وشكل غريب، وهذا ما يظهر به المتصوفة في مصر وغيرها بثياب مخالفة للمألوف.
(4)
وهذا يدلنا على ما يتمسك به (أجاويد) طائفة الدروز حتى اليوم، من لبس الثياب السوداء من القماش المعروف بـ (كلمنظا) وهو قماش قطني رخيص متين.
(5)
بضم أوله، وفتح ثانيه، وهو الجبل المشرف على القرافة (مقبرة الفسطاط والقاهرة) وهو جبل يمتد من أسوان وبلاد الحبشة على شاطئ النيل الشرقي، حتى يكون منقطعه طرف القاهرة، ويسمى في كل موضع باسم وعليه مساجد وصوامع للنصارى، لكنه لا نبت فيه ولا ماء. انظر ((ياقوت الحموي)) في ((معجم البلدان)) (5/ 176).
(6)
محمد عبدالله عنان ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (62 - 63، 87، 111).
(7)
آدم متز ((الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)) (2/ 168).
هذا بعض ما أورده المؤرخون عن الحاكم، وما أوردناه لم يكن مجرد سرد تاريخي لحياة الحاكم، ولكنه من صلب العقيدة التي نتحدث عنها وهي عقيدة الدروز، حيث سترى بعد قليل أن هذه الوقائع التاريخية لحياة الحاكم كان لها أكبر الأثر في عقيدة هذه الطائفة، لأنهم أولوا جميع هذه الأعمال الشاذة على أنها دليل على ألوهيته وربوبيته، وليست كما يظهر لنا في الظاهر.
الدور الثالث: من سنة 408 – 411 هـ (1017 – 1021 م): في رسالة (مباسم البشارات) التي كتبها الكرماني، أحد أكابر الدعاة الإِسماعيليين في ذلك الوقت، والتي جاءت بعد اضطراب الأحوال في مصر حينما وفد إليها – الكرماني – سنة 408 هـ، إشارة واضحة إلى حالة الدعوة الإِسماعيلية، فقد جاء فيها:(بأن عهود الدعوة التي كانت قبل ذلك قد درست، وأن مجالس الحكمة التأويلية أبطلت، وتقلبت الأحوال بالناس، فالعالي قد اتضع، والسافل قد ارتفع، والذين آمنوا بالدعوة الفاطمية اضطربت أحوالهم، وكل واحد يرمي صاحبه بالإِلحاد، وبعضهم غالى في رأيه، والبعض الآخر خرج عن عقيدته .. إلى غير ذلك)(1).فالصورة التي صورها الكرماني لهذا الاضطراب الذي ظهر في المجتمع كان بسبب ظهور دعوة جديدة تقول: بأن الحاكم بأمر الله ما هو إلا ناسوت للإِله، ولاشك أن الدعاة الذين نادوا بهذه الدعوة الجديدة، ظلوا يعملون لها مدة طويلة في الخفاء، ويعدون عدتهم للظهور بها في الوقت الملائم) (2).
لذلك نستطيع أن نقول: إن سلوك الحاكم، إنما كان بتأثير فكرة الألوهية، وأن كل ما صدر عن الحاكم بأمر الله من أعمال وأقوال، إنما كان بدافع واحد هو تأليهه. (فالحاكم تولى مقاليد الحكم وهو صغير السن، وقد أحيط بهالة خاصة مما أسبغته العقيدة الإِسماعيلية عن أئمتها، فتأثر بهذه العقائد، إلى جانب أنه رأى حاشيته ورعيته يسجدون له كلما مر بهم، فشاع طموحه – وهو في مثل هذا السن الصغير – أن يكون إلهًا مثل الملوك الأقدمين – من الفراعنة -، واختمرت هذه الفكرة في نفسه، ولكنه لم يعلنها للناس، ولعله أسر بها إلى بعض الدعاة حوله، فتسابقوا إلى إشباع نزوته وتنميتها مع مرور الزمن)(3). (وربما أوحى بعض الدعاة إليه بكل ما قام به من أعمال، ولكن ليس لدينا من كتب التاريخ ما يؤيد أي افتراض، والشيء المؤكد أن هذه السياسة التي اتبعها الحاكم كانت مقررة، ليفهم من أفعاله أنه هو الخالق، وأنه هو المحيي والمميت، والرازق والوهاب، إلى غير ذلك من أسماء الله الحسنى، وصفاته العلى. فها هو الحاكم بأمر الله يسرف في القتل ليقال: إنه مميت، ويرزق الناس ويهبهم ليقال: إنه رزاق وهاب، ويعفو عمن يستحق القتل ليقال: إنه محيي)(4).
(1) أورد الأستاذ مصطفى غالب الرسالة بأكملها في كتابه ((الحركات الباطنية في الإسلام)) من (ص 205: 233).
(2)
محمد كامل حسين ((طائفة الدروز)) (ص 75).
(3)
أحمد الفوزان ((أضواء على العقيدة الدرزية)) (ص 23).
(4)
محمد كامل حسين ((طائفة الدروز)) (ص 44).
ويؤيد هذا ما ورد في رسالة (السيرة المستقيمة) التي ألفها حمزة بن علي، وجاء فيها: (ولكني أذكر لكم في هذه السيرة وجوها قليلة العدد، كثيرة المنفعة، لمن تفكر فيها، فأول ما أختصر في القول ما فعله المولى سبحانه مع برجوان وابن عمار، وهو يومئذ ظاهر لا يراه العامة إلا على قدر عقولهم، ويقولون صبي السن، وملك المشارقة كافة مع برجوان، ولابن عمار ملك المغاربة. فأمر مولانا بقتلهم فقتلوا قتل الكلاب، ولم يخش من تشويش العساكر والاضطراب، وأما أمر ملوك الأرض فما يستجري أحد منهم على مثل ذلك، ثم أمر بقتل ملوك كتامة وجبابرتها بلا خوف من نسلهم وأصلابهم، ويمشي أنصاف الليالي في أوساط ذراريهم وأولادهم بلا سيف ولا سكين. شاهدتموه في وقت أبي ركوة الوليد بن هشام الملعون، وقد أضرم ناره، وكانت قلوب العساكر تجزع في مضاجعهم مما رأوه من كسر الجيوش، وقتل الرجال، وكان المولي جلت قدرته يخرج أنصاف الليالي إلى صحراء الجب، ويلتقي به حسان بن عليان الكلبي في خمسمائة فارس، ويقف معهم بلا سلاح ولا عدة، حتى يسأل كل واحد منهم عن صاحبه، ثم إنه يدخل في ظاهر الأمر إلى صحراء الجب، وليس معه غير الركابية والمؤذنين
…
إلى أن يقول: (إنكم ترون من أمور تحدث بما شاهدتموه من المولى ما لا يجوز أن تكون أفعال أحد من البشر، لا ناطق، ولا أساس، ولا إمام، ولا حجة، فلم تزدادوا بذلك إلا عمى وقلة بصيرة)(1). (وقد بدأ ظهور المذهب الجديد، حينما قام الدرزي (وهو أحد دعاة المذهب في أول ظهوره)، وأعلن الدعوة سنة 407 هـ، ثم قام سنة 408 هـ ومعه خمسمائة من أصحابه وأتباعه بالحج إلى قصر الحاكم فهاجمهم الناس والجند) (2).
والمؤرخون يذكرون ثلاثة من الدعاة الكبار الذين أسسوا هذا المذهب، وهم: حمزة بن علي بن أحمد الزوزني (الذي أصبح إمام المذهب فيما بعد)، ومحمد ابن إسماعيل الدرزي المعروف بـ (نشتكين)، والحسن بن حيدرة الفرغاني المعروف بـ (الأخرم أو الأجدع). (ويرجح الدكتور محمد كامل حسين أنهم كانوا جميعًا من حاشية الحاكم الذين لم يفارقوه مدة الوصاية عليه، وخاصة حمزة بن علي، الذي استأثر بكل شيء وبالتمجيد كله)(3).
(1)((رسالة السيرة المستقيمة)).
(2)
أحمد الفوزان ((أضواء على العقيدة الدرزية)) (ص 16).
(3)
محمد كامل حسين ((طائفة الدروز)) (ص 75).
وقد وقع الخلاف بين حمزة، والدرزي منذ ذلك الحين، لتسرع الدرزي في الكشف عن المذهب الجديد، ولذلك نجد أن حمزة عمد إلى إظهار دعوى ألوهية الحاكم سنة 408 هـ، والتي يعتبرها الدروز أولى سني تقويمهم، وبعد هذه الدعوى اضطربت الأحوال في مصر، وهاجمت الناس هؤلاء الدعاة في كل مكان، مما دفع الدرزي إلى الاحتماء في قصر الحاكم، والهرب فيما بعد إلى الشام. واضطر حمزة بعد الذي حدث، أن يغيب عن الأنظار في سنة 409 هـ، والتي يعتبرها سنة غيبة. من كل هذا نرى أن الحاكم كان يقف من هذه الدعوة موقف التأييد والرعاية، ويشد أزرهم ويمدهم بالمال والنصح، ويسهر على حمايتهم من الناس، ويقول حمزة في رسالة (الغاية والنصيحة) مؤكدًا على حماية الحاكم له ولأتباعه، عندما هاجمهم الناس والجند في المسجد الذي كان يحتمي فيه:(وقد اجتمعت عند المسجد سائر الأتراك بالجيوش، والزرد، والخوذ، والتحافيف، ومن جميع العساكر والرعية زائدًا عن عشرين ألف رجل، فقد نصبوا على القتال بالنفط، والنار، ورماة النشاب، والحجار، ونقب الجدار والتسلق إلى الحيطان بالسلالم يومًا كاملاً، وجميع من كان معي في ذلك اليوم اثنتى عشر (1) نفسًا، منهم خمسة شيوخ كبار، وصبيان صغار لم يقاتلوا، فقتلنا من المشركين (2) ثلاث أنفس، وجرحنا منهم خلقًا عظيمًا لا يحصى، حتى طال على الفئة القليلة الموحدة القتال، وكادت الأرواح تتلاشى وتبلغ التراق، وخافوا كثرة الأضداد والمراق، وغلبة المنافقين والفساق، فناديتهم: معاشر الموحدين: اليوم أكملت لكم دينكم بالجهاد، وأتممت عليكم نعمته والسداد، وأرضى لكم التسليم لأمره بالجهاد، وما يصيبنا إلا ما كتب الله علينا هو مولانا وعليه فليتوكل المؤمنون. معاشر الموحدين قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (3)، قاتلوا أقوامًا نكثوا أيمانهم يعني عهدهم وهموا بإخراج الرسول، وهو قائم الزمان، وهم بدؤوكم أول مرة، يعني دفعة الجامع، فلا تخشوهم فمولانا جل ذكره أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم وينصركم عليهم ويشفي صدور قوم مؤمنين. فما استتميت (4) كلامي لهم، حتى صار مولانا جل ذكره وتجلى للعالمين بقدرته سبحانه، فصعقت من في السموات والأرض، فانقلبوا المنافقين على أعقابهم خائبين، فلمولانا الحمد والشكر أبد الآبدين) (5).ونستطيع أن نذهب إلى أبعد من ذلك، فنقول: أن الحاكم كان يشرف على توجيه الدعوة، ويشترك في تنظيمها وتغذيتها بطريقة فعلية، وهذا ما يذكره لنا حمزة في رسائله، فمثلاً في رسالة (البلاغ والنهاية) يقول ما يلي:(تأليف عبد مولا جل ذكره، هادي المستجيبين، المنتقم من المشركين بسيف مولانا جل ذكره، رفع نسختها إلى الحضرة اللاهوتية بيده في شهر المحرم الثاني من سنينه المباركة)(6).
(1) هكذا وردت، والصحيح (اثنا عشر).
(2)
يقصد المسلمين.
(3)
يبدأ حمزة بإيراد هذه الآيات من سورة التوبة بشكل محرف وحسب ما يريد ويبغي والآيات الصحيحة هي كما يلي: وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ * التوبة: 112 – 114 *.
(4)
هكذا وردت والصحيح (استتمت).
(5)
((رسالة الغاية والنصيحة)).
(6)
((رسالة البلاغ والنهاية)).
ويقول في رسالة (الصبحة الكائنة) ما يلي: (فتأييد مولانا سبحانه واصل إلي، ورحمته وأفضاله ظاهرة وباطنة علي، وجميع أصحابي المستجيبين عزيزين مكرمين في الشرطة، والولاية، وأصحاب السيارات، مقضون الحوائج دون سائر العالمين، ورسلي واصلة بالرسائل والوثائق إلى الحضرة اللاهوتية التي لا تخفى عنها خافية، لا في السر، ولا في العلانية، وقد أوعدني مولانا جلت قدرته في ظاهر الأمر مضافًا إلى مواعيده الحقيقة التأييدية، وهو منجز مواعيده وقت يشاء كيف يشاء بلا تقدير عليه)(1).
غير أن مطاردة دعاة الحاكم وتمزيقهم بهذه القسوة من الناس، دون اكتراث لما أولاهم به من رعاية ظاهرة، قد أثار في نفسه غضبًا على الجند والناس، لأنهم تجرؤوا على ذلك، وعول على الانتقام لنفسه وللدعاة.
وينقل الأستاذ محمد عبد الله عنان عن الوزير جمال الدين في (أخبار الدول المنقطعة) تفصيلاً دقيقًا لما حدث فيقول: (اعتزم الحاكم أن ينكل بمصر وأهلها، فاستدعى العرفاء والقادة ونظم معهم خطة العمل، وعهد إلى مقدمي العبيد وغيرهم من الطوائف بافتتاح الهجوم، فأخذوا يغيرون على أحياء مصر في هيئة عصابات، وينهبون الحوانيت والسابلة، ويخطفون النساء من الدور، والشرطة تغضي عن جرائمهم، والحاكم معرض عن كل شكاية وتضرع، وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة 411 هـ.
ثم اتسع نطاق الاعتداء، فهاجمت قوى العبيد والترك والمغاربة مصر من كل صوب، وأضرموا النار في أطرافها، وهب أهل مصر للدفاع عن أنفسهم، واستمرت المعارك بين الفريقين ثلاثة أيام، وألسنة اللهب تنطلق من المدينة القديمة إلى عنان السماء، والحاكم يركب كل يوم إلى الجبل، ويشاهد النار، ويسمع الصياح، ويسأل عن حقيقة الأمر، فيقال له: إن العبيد يحرقون مصر وينهبونها، فيظهر الأسف والتوجع، ويقول: ومن أمرهم بهذا لعنهم الله؟!.
(1)((رسالة الصيحة الكائنة)).
وفي اليوم الرابع اجتمع الأشراف والكبراء في المساجد ورفعوا المصاحف وضجوا بالبكاء والدعاء، فكف الأتراك والمغاربة عن متابعة الاعتداء، واستمر العبيد في عدوانهم، وأهل مصر يدفعونهم بكل ما استطاعوا. وطلب الأتراك والمغاربة إلى الحاكم أن يأمر بوقف هذا الاعتداء على أهل مصر، وعلى أموالهم، خصوصًا وأن لهم بين المصريين كثيرًا من الأصهار والأقارب، ولهم في مصر كثير من الأملاك، فتظاهر بإجابة مطلبهم، ولكنه أوعز إلى العبيد أن يستمروا في القتال، وأن يتأهبوا لمدافعة الترك والمغاربة، فاشتدت المعارك بين الفريقين، ودافع الترك والمغاربة عن أهل مصر، ومزقوا جموع العبيد ونكلوا بهم، ثم هددوا الحاكم باقتحام القاهرة وحرقها، إذا لم يوضع حد لتلك الجرائم، فخشي الحاكم العاقبة، وأمر العبيد بالتفرق ولزوم السكينة، واعتذر لأشراف مصر وزعماء الترك والمغاربة عما وقع، وتنصل من كل تبعة فيه، وأصدر أمانًا لأهل مصر قرئ على المنابر. وسكنت تلك الفتنة الشنعاء بعد أن لبثت الفسطاط بضعة أسابيع مسرحا لمناظر مروعة من السفك والعبث والنهب، وأحرقت معظم شوارعها ومبانيها، وخربت معظم أسواقها، ونهبت، وسبي كثير من نسائها، واعتدى عليهن، وانتحر كثير منهن خشية العار، وتتبع المصريون أزواجهم وبناتهم وأمهاتهم وافتدوهن من الخاطفين) (1).وبأسلوب آخر، يؤكد حمزة هذه الحوادث، وأنها كانت انتقامًا لما حصل للدعاة من تنكيل وتمزيق، فيقول في رسالة (الرضى والتسليم):(لأنه سبحانه أنعم عليكم ما لم ينعم على من في الأدوار، وأظهر لكم من توحيده وعبادته، ما لم يظهره في عصر من الأعصار، وأعزكم في وقت عبده الهادي ما لم يعز أحدًا في الأقطار، ولم يكن لصاحب الشرطة والولاية والسيارات عليكم سبيل إلا بطريق الخير، ثم إن المنافقين قتلوا من إخوانكم ثلاثة أنفر، فأمر مولانا جل ذكره بقتل مائة رجل منهم، والذي قال في القرآن النفس بالنفس لا غير فلم تشكروه على ذلك، ولم تعبدوه حق ما يجب عليكم من عبادته، ولم تكن نياتكم خالصة لوحدانيته)(2).
ويحاول عدد من الكتاب المعاصرين، الذين كتبوا عن الحاكم وعن الدروز، أن ينفوا عن الحاكم كل هذه الأمور، ويصوروها كأنها افتراءات من المؤرخين، أو يجعلوا لها تبريرًا لا يستسيغه عقل ولا منطق.
من هؤلاء الكتاب الدكتور أحمد شلبي، الذي حاول أن يصور أخبار شذوذ الحاكم واضطرابه، على أنه اتفاق بين المؤرخين، يأخذ الواحد قضية، فيسلم بها الآخر، وأن تاريخ الحاكم قد كتب أثر وفاته، وقد عادت السلطة إلى من اضطهدهم، الذين كان يهمهم أن يبرزوه معتوهًا أو مجنونًا أو مدعيًا للألوهية، ليصرفوا الناس عن البحث عن القتلة الذين قتلوا الحاكم؟!. بل يحاول الدكتور شلبي أن يبرر كل تصرفاته، حتى إنه يجعله مخلصًا لدولته كفؤا لحمل أعبائها، وهو في القمة من المفكرين في إنشائه دار الحكمة (3).
(1) محمد عبد الله عنان – ((الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية)) (ص 119 – 120).
(2)
((الرسالة الموسومة بالرضا والتسليم)).
(3)
د. أحمد شلبي ((التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية)) (ص 116 – 122).
ولا أدري على ماذا اعتمد الدكتور شلبي، في دفاعه القوي عن الحاكم، ولكن يبدو أن معلومات الدكتور فيليب حتي، أقوى عنده من كل ما كتبه المؤرخون؟! وهناك قضية أخرى يحاول بعض الكتاب إيرادها، وهي صلة الحاكم بحمزة بن علي وغيره من الدعاة، وهذا ما يحاول الأستاذ عبد الله النجار (1) أن ينفيه في كتابه (مذهب الدروز والتوحيد)، مع أن الدروز حتى الوقت الحاضر ينفون مثل هذه الأقوال، ويعتبرونها تقويضًا للمذهب التوحيدي، ففي كتاب (أضواء على مسالك التوحيد) يورد بايزيد في توطئته للكتاب، وفي معرض رده على ما كتبه الأستاذ عبد الله النجار في كتابه يقول:(ونرى المؤلف الكريم يسعى إلى التفرقة والفصل بين حمزة بن علي والحاكم بأمر الله، وإنكار صلة الحاكم بالمذهب وانتسابه إليه. وفي ذلك ما فيه، علاوة على نية تقويض أساس المعتقد العرفاني، والمذهب التوحيدي (أي الدرزية)، كما هو مشهور ومعلوم، قد أخذ وغرف المحتوى الأخير لمنهجه ولعقيدته ودعوته من مجالس الحكمة، التي كانت تعقد في حضرة مولانا الحاكم وتوجيهه، وفي دار الحكمة التي أسسها على غرار أكاديمية أفلاطون عليه السلام؟!) (2).وهناك رسالة من رسائل حمزة، عنوانها (الرسالة المنفذة إلى القاضي أحمد بن العوام)(3)، (تثبت أن حمزة أصبح في مكانة استطاع منها أن يخاطب قاضي القضاة بمثل هذا الخطاب)(4)، (وتدل على مدى المكانة التي بلغها حمزة في ذلك التاريخ)(5)، ولو لم يكن وراء حمزة من يحميه ويدفع عنه الأذى ما كان يجرؤ على كتابة مثل هذا الخطاب، يقول حمزة في هذه الرسالة: (توكلت على أمير المؤمنين جل ذكره، وبه أستعين في جميع الأمور، معل علة العلل، صفات العلة بسم الله الرحمن الرحيم.
(1) سياسي لبناني، من طائفة الدروز، تقلد عدة مناصب رفيعة في الدولة اللبنانية، وألف كتابا عن الدروز أسماه ((مذهب الدروز والتوحيد))، حاول فيه أن يبين ويظهر عقيدة طائفته للناس والجهال من طائفته، ولكن الدروز، وخاصة مشيخة العقل، هاجموه بشدة، وأتلفوا كتابه، حتى طبع مرة ثانية في مصر، ولكنهم عادوا وحاولوا جمع ما يستطيعون منه وإتلافه، وأصدروا كتابا للرد عليه اسمه ((أضواء على مسلك التوحيد)) للدكتور سامي مكارم، ولم يكتفوا بذلك، فاستغلوا أحداث لبنان الأخيرة وقتلوه غيلة عام 1978 م.
(2)
د. سامي مكارم ((أضواء على مسلك التوحيد)) (الدرزية)(ص 72 - 73).
(3)
أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي العوام السعدي. قاضي مصر وبرقة وصقلية والشام والحرمين، من فقهاء الحنابلة، مصري، ولي القضاء في أيام الحاكم بمصر سنة 405 هـ، وفي أيامه غاب الحاكم (أو قتل)، توفي سنة 418 هـ، انظر ((الأعلام للزركلي)) (1/ 104).
(4)
د. محمد كامل حسين ((طائفة الدروز)) (ص 81).
(5)
د. عبد الرحمن بدوي ((مذاهب الإسلاميين)) (2/ 600).
من عبد أمير المؤمنين ومملوكه حمزة بن علي بن أحمد هادي المستجيبين، المنتقم من المشركين بسيف أمير المؤمنين وشدة سلطانه، ولا معبود سواه، إلى أحمد بن محمد بن العوام، الملقب بقاضي القضاة، أما بعد: فقد تقدمت لنا إليك رسالة نسألك عن معرفتك بنفسك، فقصرت عن الإِجابة، قلة علم منك بالحق وإهجانا به، وكيف يجوز لك أن تدعي هذا الاسم الجليل وهو قاضي القضاة، وليس لك علم بحقائق القضايا والأحكام، فقد صح بأنك مدع لما أنت فيه، فيجب عليك أن تعلم نفسك وتدربها، فإن كنت قد جهلتها فأنت فرعون الزمان، وفعلك لاحق بعثمان بن عفان، فيجب عليك أن تقلع عما أنت فيه، وتتبع سير أصحابك المتقدمين أبي بكر وعمر (1)، وتزيل تلثيمة البياض عن رأسك والعمامة والطيلسان، وتلبس دنية سوداء بشقائق صفر طوال مدلاة على صدرك، وتلبس درَّاعة بلا جيب، بل تكون مشقوقة الصدر، وتكون مرقعة بالأحمر، والأصفر، والأديم الأسود الطائفي، وتكون قصيرة عليك لتلحق في الشكل بعمر بن الخطاب، ويكون لك درة على فخذك لتقيم بها الحدود على من تجب عليه وأنت جالس في الجامع، ويكون لك في كل سوق صاحب يتزين بزيك وبيده درة يقيم بها في سوقه الحدود على من وجبت عليه مثل الزاني والسارق والقاذف وشارب الخمر، ممن هو من أهل ملتك، وتكون تتولى الخطبة بنفسك، وتطلع على المنبر بلا سيف تتقلد به، ويكون ممرك ومجيئك من دارك إلى الجامع، وأنت ماش حافيًا لتكون في ذلك لاحقًا بأصحابك المتقدمين أبي بكر وعمر. وإياك ثم إياك أن تنظر لموحد في حكم لا أنت ولا عادلتك، في شهادة نكاح ولا طلاق، ولا وثيقة، ولا عتق، ولا وصية، ومن جلس بين يديك على حكم فتسأل عنه أن يكون موحدًا فترسله إليّ مع رجالتك لأحكم أنا عليه بحكم الشريعة الروحانية (2)، التي أطلقها أمير المؤمنين سلامة علينا، فانظر لنفسك فقد أعذرتك مرة بعد أخرى وأنذرتك) (3).وإلى هذه الرسالة يشير حمزة في رسالة (البلاغ والنهاية) فيقول:(وقد أرسلت إلى القاضي عشرين رجلاً إلى الحضرة (4) اللاهوتية، فأبى القاضي واستكبر، وكان من الكافرين، واجتمعت على غلماني ورسلي الموحدين لمولانا جل ذكره، زهاء مائتين من العسكرية والرعية، وما منهم رجل إلا ومعه شيء من السلاح فلم يقتل من أصحابي إلا ثلاثة نفر وسبعة عشر رجلاً من الموحدين، في وسط مائتين من الكافرين (5)، فلم يكن لهم إليهم سبيل حتى رجعوا إلى عندي سالمين) (6).وفي ختام هذا الفصل نقف وقفة طويلة مع رسالة حمزة بن علي بن أحمد الموسومة (بكتاب فيه حقائق ما يظهر قدام مولانا جل ذكره من الهزل)، وقد رأيت أن أنقل هنا نص هذه الرسالة، ليتبين لنا مدى تأثر العقيدة الدرزية بأفعال وأقوال الحاكم، والتي يعتبرونها دليلاً على ألوهيته، حيث تلمس لها حمزة تأويلات باطنية، (واتخذ منها دلالات على صدق ألوهية الحاكم، وأن كل ما أتى به الحاكم هو رمز وإشارة وله تأويل باطني لا يفقهه الناس)(7)،
(1) والملاحظ هنا، أن حمزة بن علي، مع طعنه بعثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد طلب من هذا القاضي أن يتشبه في زيه وعلمه بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا يخلو نصحه هذا من تبكيت وغمز بعمر وأبي بكر.
(2)
ومن هنا يظهر أن حمزة بن علي فرق بين (جماعته) من جهة، وبين السنة والشيعة من جهة أخرى، وذلك من منعه للقاضي أن يقضي بين الموحدين.
(3)
((الرسالة المنفذة إلى القاضي أحمد بن العوام)).
(4)
هكذا وردت في المخطوط، ولعله يقصد (من).
(5)
ويبدو أنه يشير إلى ثورة الناس على أتباعه، وقتلهم لهم، والنجاء الباقي إلى الحاكم.
(6)
((رسالة البلاغ والنهاية في التوحيد)).
(7)
د. محمد كامل حسين ((طائفة الدروز)) (ص 44) ..
ولهذه الرسالة أهمية خاصة فيما يتعلق بتأييد الأخبار المروية في كتب المؤرخين عن أفعال الحاكم الغريبة، إذ فيها تأييد لها وتوكيد، ودليل قاطع على أن هؤلاء المؤرخين لم يفتروا شيئًا ولم ينقلوا إشاعات كاذبة) (1).
وفيما يلي نص هذه الرسالة: (الحمد لمولانا وحده، وشدة سلطانه، توكلت على مولانا الباري العلام العلي الأعلى، حاكم الحكام، من لا يدخل في الخواطر والأوهام، جل ذكره عن وصف الواصفين وإدراك الأنام. بسم الله الرحمن الرحيم، صفات عبده الإِمام، الحمد والشكر لمولانا – جل ذكره – وبه أستعين في الدين والدنيا وإليه المعاد، الذي يحي ويميت، وهو الحي الذي لا يموت، الذي هو في السماء عال، وفي الأرض متعال، حاكمًا، عليه توكلت، وبه أستعين، وإليه المصير، وهو المعين، وصلوات مولانا جل ذكره وسلامه على الذي اصطفاه من خلقه واختاره من عبيده، وجعلهم الوارثين لديار أعدائهم بقوته وسلطانه، الحاكم، القادر، العزيز القاهر، وهو على كل شيء قدير. أما بعد، معاشر الإخوان الموحدين، أعانكم المولى على طاعته، إنه وصل إليّ من بعض الإِخوان الموحدين – كثر المولى عددهم وزكى أعمالهم، وحسن نياتهم – رقعة يذكرون فيها ما يتكلم به المارقون من الدين، الجاحدون لحقائق التنزيه، ويطلقون ألسنتهم بما يشاكل أفعاله الردية، وما تميل إليه أديانهم الدنية – فيما يظهر لهم من أفعال مولانا – جل ذكره – ونطقه، وما يجري قدامه من الأفعال التي فيها حكمة بالغة شتى فيما تغني النذر (2)، وتمييز العالم الغبي الذين من أعمالهم الهزل، وأقوال فيها صعوبة وعدل، ولم يعرفوا بأن أفعال مولانا – جل ذكره – كلها حكمة بالغة، جدًا كانت أم هزلاً، يخرج حكمة ويظهرها بعد حين، ولو تدبروا ما سمعوه من الأخبار المأثورة عن جعفر بن محمد بن علي بن عبد مناف بن عبد المطلب (3):(إياكم الشرك بالله والجحود له، بما يختلج في قلوبكم من الشك في أفعاله كيفما كانت، ولا تنكروا على الإِمام فعله، ولو رأيتموه راكبًا قصبة، وقد عقد ذيله خلف ثوبه، وهو يلعب مع الصبيان بالكعاب، فإن تحت ذلك حكمة بالغة للعالم وتمييزًا للمظلوم من الظالم).
فإذا كان هذا القول في جعفر بن محمد، وجعفر وآباؤه وأجداده كلهم عبيد لمولانا جل ذكره، فكيف أفعال من لا تدركه الأوهام والخواطر بالكلية، وحكمته اللاهوتية التي هي من رموزات وإشارات لبطلان النواميس، وهلاك الجواميش، وتمييز الطواويس، فلمولانا الحمد على ما أنعم به علينا بعد استحقاق نستحقه عنده، وله الشكر على ما أظهر لنا من قدرته خصوصًا دون سائر العالمين إنعامًا وتفضلاً، ونسأله العفو والمغفرة بما يجري منا من قبائح الأعمال وسوء المقال، ونعوذ به من الشرك والضلال، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو العلي المتعال، ولو نظروا إلى أفعال مولانا جلت قدرته بالعين الحقيقية، وتدبروا إشاراته بالنور الشعشعاني، لبانت لهم الألوهية والقدرة الأزلية، والسلطان الأبدية، وتخلصوا من شبكة إبليس وجنوده الغوية، ولتصور لهم ركوب مولانا – جل ذكره – وأفعاله، وعلموا حقيقة المحض في جده وهزله، ووقفوا على مراتب حدوده، وما تدل عليه ظواهر أموره، جل ذكره وعز اسمه ولا معبود سواه.
(1) د. عبد الرحمن بدوي ((مذاهب الإسلاميين)) (2/ 757).
(2)
يشير إلى الآية الكريمة حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ *القمر: 5 *.
(3)
والملاحظ هنا كيفية إيراده لنسب جعفر، ونسبة علي إلى جده عبد مناف، وسنلاحظ أن جميع رسائله يذكر نسب علي رضي الله عنه بهذا الشكل؟!.
فأول ما أظهر من حكمة ما لم يعرف له في كل عصر وزمان، ودهر وأوان، وهو ما ينكره العامة من أفعال الملوك: من تربية الشعر، ولباس الصوف، وركوب الحمار بسروج غير محلاة لا ذهب ولا فضة. والثلاث خصال معنى واحد في الحقيقة، لأن الشعر دليل على ظواهر التنزيل، والصوف دليل على ظواهر التأويل، والحمير دليل على النطقاء (الأنبياء)(1)، بقوله لمحمد: (يا بني أقم الصلاة وآت الزكاة، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر
…
، إن ذلك من عزم الأمور. ولا تصعر خدك للناس) (2)، إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا [لإسراء: 37].كل ذلك كان عند ربك محذورا، وانقص من مشيك، واغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) (3).والعامة (4) يرون أن هذه الآية حكاية عن لقمان الحكيم لولده، فكذبوا وحرفوا القول، إنما هو قول السابق، وهو سلمان، وإنما سمي الناطق ولده لحد التعليم والمادة، إذ كان سائر النطقاء والأوصياء أولاد السابق المبدع الأول، وهو سلمان، فقال لمحمد:
(أقم الصلاة) إشارة إلى توحيد مولانا جل ذكره، (وآت الزكاة) يعني طهر قلبك لمولانا جل ذكره ولحدوده ودعاته. (وأمر بالمعروف) وهو توحيد مولانا جل ذكره، (وانه عن المنكر) يعني شريعته وما جاء به من الناموس والتكليف، (إن ذلك من عزم الأمور) يعني الحقائق وما فيها من نجاة الأرواح من نطق الناطق، (ولا تصعر خدك للناس) وخده وجه السابق، وتصغيره ستره فضيلته، (ولا تمش في الأرض مرحًا) والمرح هو التقصير واللعب في الدين، والأرض هاهنا هو الجناح الأيمن، والأيمن هو الداعي إلى التوحيد المحض، (إنك لن تخرق الأرض) يعني بذلك، لن تقدر عليك تبطيل دعوة التوحيد، (ولن تبلغ الجبال طولا) والجبال هم الحجج الثلاثة الحرم، ورابعهم: السابق الذي يعبده العالم دون الثلاثة. وأجلهم الحجة العظمى، واسمه في الحقيقة: ذو معة، لأن قلبه وعى التوحيد والقدرة من مولانا جل ذكره بلا واسطة بشرية، (وانقص من مشيك)(5) يعني اخفض من دعوتك في الظاهر، الذي يمشي في العالم مثل دبيب النملة السوداء على المسح الأسود في الليلة الظلماء، وهو الشرك بذاته.
(1) يطلق حمزة غالب على الأنبياء هذا الاسم؟!.
(2)
* لقمان: 17 - 18 *، وقد أنقص من الآية الأولى بعد (انه عن المنكر)(واصبر على ما أصابك) وزاد (وآت الزكاة).
(3)
غير أن كلامه هنا يخالف نص القرآن الكريم في سورة لقمان بقوله تعالى: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ *لقمان: 17 - 19 *.
(4)
إن لفظ العامة عند إطلاقه عند عموم الشيعة يقصد به أهل السنة، ويقابله عندهم عن أنفسهم لفظ الخاصة.
(5)
حرفت الآية الكريمة والأصل وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ.
مثل النار إذا وقعت في التبن لا يشعر بضوئها إلا بعد هلاكه، كذلك محبة الشريعة والإِصغاء إلى زخرفه، والتعلق بناموسه، يعمل في الأعضاء ويجري في العروق، كما قال بلسانه وقوة بأسه وسلطانه، وألطافه تجري في العروق مجاري الدم حتى يتمكن في القلب ويغري سائر العالمين. وقال الناطق:(1)(ما زج حبي دماء أمتي ولحومهم، فهم يؤثرونني على الآباء والأمهات)، فرأينا الخبرين واحدا معناهما. وقد قال القرآن: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] ورب الناس هاهنا هو التالي، وهو في عصر محمد: المقداد (2)، مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:2 - 4] يعني زخرف الناطق، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس:5])، يعني الدعاة والمأذونين والمكاسرين، حتى يردهم عن توحيد مولانا الحاكم بذاته، المنفرد عن مبدعاته، جل ذكره.
والذات هو لاهوته الحقيقي، الذي لا يدرك ولا يحس، سبحانه وتعالى. وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ [لقمان:19] يعني بذلك اخفض وانقص واستر نطقك بالشريعة إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19] يعني الدعوة الظاهرة، لَصَوْتُ الْحَمِيرِ: يعنى بذلك أشر كلام وأفحشه نطق الشرائع المذمومة في كل عصر وزمان، فمنهم تظهر الشكلية والضدية والجنسية.
فأظهر مولانا جل ذكره لبس الصوف، وتربية الشعر وهو دليل على ما ظهر من استعمال الناموس الظاهر، وتعلق أهل التأويل بعلي بن أبي طالب وعبادته. وركوب الحمير دليل على إظهار الحقيقة على شرائع النطقاء، وأما السروج بلا ذهب ولا فضة فدليل على بطلان الشريعتين: الناطق والأساس (3).
واستعمال حلي الحديد على السروج دليل على إظهار السيف على سائر أصحاب الشرائع وبطلانهم. واستعمال الصحراء في ظاهر الأمر، وخروج مولانا جل ذكره في ذلك اليوم من السرداب إلى البستان، إلى العالم دون سائر الأبواب. والسرداب والبستان الذي يخرج مولانا جل ذكره منهما ليس لأحد إليهما وصول، ولا له بهما معرفة، إلا أن يكون كمن يخدمهما أو خواصهما. وهو دليل على ابتداء ظهور مولانا سبحانه بالوحدانية ومباشرته بالصمدانية بالحدين اللذين كانا خفيين عن سائر العالمين، إلا لمن يعرفهما بالرموز والإِشارات، وهما الإِرادة والمشيئة، كما قال: (إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده
…
كل شيء وإليه ترجعون) (4)، والإرادة هي ذو معة، والمشيئة تالية، كما قال: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30]، فليس يعرفهما إلا الموحدون لمولانا جل ذكره. ومن السرداب يخرج إلى البستان، كذلك العلم يخرج من ذي معة إلى ذي مصة، الذي هو بمنزلة الجنة صاحب الأشجار والأنهار، ثم يخرج منها إلى المقس (5)، فأول ما يلقى بستان برجوان (6)، وهو المعروف بالحجازي، فلا يدخله، ولا يدور حوله في مضيه، وهو دليل على الكلمة الأزلية.
(1) يعني محمد صلى الله عليه وسلم
(2)
هو المقداد بن عمرو، ويعرف بابن الأسود، صحابي، من الأبطال، وهو أحد السبعة الذين كانوا أول من أظهر الإسلام وهو أول من قاتل على فرس في سبيل الله، شهد بدرا وغيرها، وسكن المدينة وتوفي فيها سنة 33 هـ.
(3)
يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(4)
*يس: 82 *، وقد أسقطت من الآية كلمة (ملكوت) قبل (كل شيء).
(5)
مكان في الجهة الغربية للقاهرة، وكانت بساتين يحدها من الغرب النيل، وفيه جامع المقس، واسم المقس يطلق على المكس، والمقسم، وأم دنين أيضا، وهي واقعة على شاطئ النيل.
(6)
بستان برجوان، ويقصد برجوان الصقلبي الخادم، وحامل المظلة للحاكم، وقد قتله الحاكم وكان له بستان يعرف ببستان برجوان.
ثم يمضي إلى البستان المعروف (بالدكة) وهي دليل على السابق، وهو دكة العالم، وعلومهم منهم، وهذا البستان المعروف بالدكة، على شاطئ البحر، وكذلك علم التأويل ممثوله البحر، والمستجيب للعهد إذا بلغ علم السابق ومعرفته، حسب أنه قد بلغ الغاية والنهاية في العبادة.
وبستان الدكة، مع جلالته، ملاصق لموضع الفحشاء والمنكر، دون سائر البساتين، دليل على أن علم السابق واصل بالنطقاء، الذين هم معادن النواميس الفانية الحشوية، والأعمال الفاحشة الدنية.
والمقس دليل على الناطق، وما في المقس من الفحشاء والمنكر دليل على شريعته، والنساء الفاسدات اللواتي فيه، دليل على دعاة ظواهر شريعته، وارتكابهم الشهوات البهيمية في طاعته. ثم إنه علينا سلامه ورحمته، يخرج إلى الصناعة (1) ويدخل من بابها، ويخرج من الآخر. والصناعة دليل على صاحب الشريعة، والصناعة ممنوعة من دخول العالم فيها والخروج لإضافة الشريعة، فدخول مولانا جل ذكره فيها من باب وخروجه من باب، دليل على تحريم الشريعة وتعطيلها.
ثم إنه – علينا سلامه ورحمته – يدور حول البستان المعروف بالحجازي، وهو دليل على الكلمة الأزلية، والدوار حوله بلوغ إلى الكشف بلا سترة تحوط بالدين، ثم إنه – جل وعز سلطانه – يبلغ إلى القصور، وهما قصران عظيمان خرابان دليل على بطلان الشريعة وخرابها.
ثم إنه – علينا سلامه ورحمته – يدخل من باب البستان المعروف بالمختص، وهو دليل على التالي، إذ كان التالي مختصًا بعلمه الأساسي والتأويل. وأكثر العالم يميلون إليه، وهو هيولي العالم الجرماني. ومن الشيعة من يعتقد ويعبد التالي، ومن الشيعة من يقول بأن التالي مولانا، وهذا هو الكفر والشرك. وإنما هو التالي الذي عجز الناس عن معرفته، وهو الجنة المعروفة بالمختص، متصلة بالجنة المعروفة بالعصار. والعصار دليل على الناطق، لأنه يعصر علم التالي فيخرج منه الحقيقة والتوحيد، فيكتمه عن العالم الغبي ويظهر لهم الثفل، وهو الكسب (2) الذي لا ينتفع به غير البهائم.
كذلك البستان المعروف بالعصار، وهو خراب من الفواكه والأشجار والرياحين والأثمار، وبستان المختص عامر بالفاكهة والأزهار، والرياحين والأشجار، ومنه يخرج الماء إلى الحوض الذي تشرب منه البهائم. والماء هو العلم، والحوض هو المادة الجارية من التالي، والدواب هم النطقاء والأسس. كذلك العلم يخرج من التالي إلى الأساس في كل عصر وزمان، والسابق ممد الناطق، ومن الفاتق إلى الراتق، ومن السابق إلى الطالب الطارق. وهذان البستانان بين المسجدين المعروفين بمسجد تبر (3)، ومسجد ريدان (4)، فمسجد ريدان محاذي بستان العصار، ومسجد تبر محاذي بستان المختص.
ومسجد تبر دليل على الناطق، والتبر دليل على الذهب، والذهب دليل على إذهاب شريعته، وهذا المسجد لم تصل فيه صلاة جماعة قط، دليل على أن ليس للناطق ولا لمن تبعه اتصال بالتوحيد.
(1) يقصد دار الصناعة.
(2)
وهي التفل الذي يتخلف عن المواد التي تعصر مثل السمسم والقمح وبذر القطن، وما شابه ذلك، وتقدم علفا للبهائم، وقد جرى الآن تجفيفها بطرق صناعية، وأصلها فارسية (كشب)، قال في لسان العرب هي عصارة الدهن، غير أن المعروف الآن ما ذكر أولاً.
(3)
مسجد قرب القاهرة بجانب منطقة (المطرية)، وينسب إلى تبر الأخشيدي، الذي ثار على كافور الأخشيدي، ودفن في هذا المسجد.
(4)
الراجح أن نسبة هذا المسجد إلى ريدان، الوزير الذي ولاه الحاكم الوزارة.
ومسجد ريدان، دليل على حجة الكشف القائم بالسيف والعنف، الداعي إلى التوحيد المنكر عند سائر العالمين، كما نطق عبد مولانا جل ذكره في القرآن على لسان الناطق السادس (يوم يدع الداع إلى شيء نكر)، وهو عبادة مولانا جل ذكره وتوحيده، الذي أنكره سائر النطقاء والأسس أئمة الكفر، كما قال عبد مولانا – جل ذكره – في كتابه (قاتلوا أئمة الكفر، إنهم لا أيمان لهم، لعلهم ينتهون).أراد لا أيمان لهم بمعرفة مولانا – جل ذكره – والإِيمان هو التسديق (التصديق)(1).
وتوحيد مولانا – جل ذكره – صعب مستصعب، لا يحمله نبي مرسل، ولا وصي مكمل، ولا إمام معدل، ولا ملك مفضل. بل يحمله قلب صاف لبيب، أو موحد راغب من الأديان والطرائق، وعبد مولى الأساس والناطق، ومبدع التالي والسابق الحاكم على جميع النطقاء والشرائع، المنفرد عن جميع المخلوقات والبدائع. ولكل شيء ضد بين يديه، فبإزاء الباطل، الذي هو جنة العصاة، وهو دليل على الناطق حتى يرفع وهو مسجد ريدان، وهو ذو معة، وبإزاء الحق الذي هو جنة المختص وهو التالي باطل يطلب فساده، وهو مسجد تبر، وهو الناطق، والمولى جل ذكره ينصر أولياءه، ويهلك أعداءه، ويتم نوره ولو كره المشركون المتعلقون بعلي بن عبد مناف (2)، والكافرون المتعلقون بالناطق وعدمه.
وريدان خمسة أحرف، دليل على خمسة حدود، النفسانيين، والنورانيين، والروحانيين، والجرمانيين، والجسمانيين. وهو ذو معة العقل الكلي النفساني، وذو مصة، النفس الروحاني والجناح الرباني، والأيمن الباب الأعظم، وهو السابق والتالي، معدن العلوم ومنه ابتناؤها.
وريدان كلمتان، (ري) و (دان)، و (ري) الأشياء وهم الحجج والدعاة والمأذونين والمكاسرين، كما قال عبد مولانا جل ذكره (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)، الأشياء الحقيقية، والذي الأزلي، والتوحيد الأبدي على يد ريدان، يوم الدين، وهو عبد مولانا ومولى الخلق أجمعين، جل ذكره، وعز اسمه، ولا معبود سواه، سبحانه جل وعلا أن يكون ديان أو سلطان أو برهان أو الله أو الرحمن، إذ كان الكل عبيده في سائر الأدوار، المستغفرين له في الليالي والأسحار، العابدين له طوعًا وكرهًا في العيان، سبحانه عن إدراك الأوهام والخواطر، أو يعرف الإِعلان والسرائر، أو بباطن أو بظاهر، إذ كان لا يدرك بعض ناسوته، وقدرة مقام جبروته، وعظم جلال لاهوته. وما من المساجد مسجد سقطت قبته، وهو المسجد بكماله غير مسجد ريدان، فأمر مولانا سبحانه وتعالى بإنشاء قبته، وزاد في طوله وعرضه وسموه دليل على هدم الشريعة الظاهرة على يد عبده الساكن فيه (3). وإنشاء توحيد مولانا جل ذكره فيه بالحقيقة ظاهرًا مكشوفًا، وابتداء الشريعة الروحانية في بسيط روحاني توحيدي لاهوتي حاكمي لا يعبدون غيره وحده، ولا يشركون به أحدًا في السر والإِعلانية، سبحانه وتعالى عما يقول المشركون علوًا كبيرًا (4).
ثم إن مولانا علينا سلامه ورحمته، ظهر لنا في الناسوت البشرية، ونزوله عن الحمار إلى الأرض، وركوبه محاذي باب المسجد، دليل على تغيير الشريعة، وإثبات التوحيد، وإظهار الشريعة الروحانية على يد عبده حمزة بن علي بن أحمد، ومملوكه وهادي المستجيبين المنتقم من المشركين، بسيف مولانا وشدة سلطانه، وحده لا شريك له.
(1) وجدت على هامش إحدى المخطوطات بخط الأستاذ زهير الشاويش – في مكتبته الخاصة – (أن كتابة الدروز الكلمة التصديق بالسين بدلا من الصاد في كل كتبهم مرتبط عندهم بحساب (الجمل) المستعمل عندهم وعند بعض المتصوفة لأغراض لا مجال لذكرها.
(2)
يلاحظ هنا أنه نسب عليا إلى جده.
(3)
كان حمزة يسكن في هذا المسجد.
(4)
يقصد الآية الكريمة سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * الإسراء: 17 *.
ووقوفه في ظاهر الأمر، وحاشاه من الوقوف والسير والجلوس والنوم واليقظة، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255]، يعني النطقاء والأسس، مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، يعني من ذا الذي يقدر على إطلاق داع أو مأذون إلا بمشيئته، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:255]، يعني من آدم إلى محمد بن إسماعيل، وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ يعني حجته، إِلَاّ بِمَا شَاء وهو المشيئة أعظم الدرجات، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ والكرسي هو التأييد الذي يصل إلى الحدود العالية، وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة:255]، وهما الجناح الأيمن والجناح الأيسر، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، العالي على كل من تقدم ذكره ومن تأخر ممن ينتظرهم الشيعة المشركون. وكان وقوفه عند الميل (1)، والميل دليل على التأييد، إذ كانت الأميال يستدلون بها على الطريق، كذلك التأييد بطرق العبد من المعبود، ويعود إلى الوجود، ونزوله إلى الأرض محاذي باب المسجد إشارة منه إلى عبد باب حجابه على خلقه، والداعي إليه بتأييده وأمره، إذ كان التأييد هو الأمر العالي الذي يكون بلا واسطة بشريه، والباب دليل على الحجة.
ونزوله عن الحمار إلى الأرض وركوبه آخر كان في نفس آذان الزوال، وصلاة الزوال دليل على الناطق، وتغيير مولانا جل ذكره الحمار في نفس وقت الأذان، دليل على إزالة الظاهر.
ويكون اعتمادهم من موضع تغييره، وهو يسمى المقام المحمود، والمشهد الموجود، والمنهل العذب المورود إلى قصر مولانا الحاكم بذاته، وهو المقام المحمود، محاذي باب شريعة روحانية وعلوم حاكمية، وأنا أذكرها لكم في غير هذا الكتاب إن شاء مولانا، وبه التوفيق في جميع الأمور، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو حسبي ونعم النصير المعين.
ثم إن مولانا علينا سلامه ورحمته، لابد له في كل ركبة من الإِعادة إلى البساتين المعروفين بالمقس، دليل على إظهار النشوء الثالث الخارج من الكفر والشرك، وهما الظاهر والباطن، وهو توحيد مولانا جل ذكره.
ودخوله إلى القصر من الباب الذي يخرج منه، والسرداب بعينه دليل على إثبات الأمر، وكشف الطرائق بكتب الوثائق، ورجوع الأمر إلى ما منه بدأ روحانية غير تكليفية، ولا ناموسية شيطانية، ولا زخارف هامانية، أعاذنا المولى وإياكم من الشك فيه، والشرك به بمننه وفضله، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وأما نزوله في ظاهر الأمر إلى مصر، وما شاهدناه، ففيها تمكن الشيطان الغوي لعنه الله من قلوب العامة الحشوية (2)، والعقول السخيفة الشرعية مما يسمعون من ألسن الركابية قدام مولانا جل ذكره بما يستقر في عقولهم السخيفة من كلام الهزل والمزاح، ولم يعرفوا أن فيه حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [القمر:5].
(1) منار يبنى للمسافر في أنشاز الأرض وأشرافها، وقيل للأعلام المبنية في طريق مكة أميال لأنها بنيت على مقادير مدى البصر من الميل إلى الميل، وكل ثلاثة أميال منها فرسخ. انظر ((لسان العرب)) (11/ 639).
(2)
هذا التعبير يستعمله الشيعة، ويقصدون به ذكر أهل السنة، وقد تبعهم على ذلك من غير وعي بعض الكتاب في القديم والحديث.
فأول مسيره إلى المشاهد الثلاثة، وليس فيها آذان ولا إقامة ولا صلاة جماعية، إلا في الأوسط الذي هو المنهج الأقوم، والطريق الأسلم التي من سلكها نجا، ومن تخلف عنها هلك وغوى. ثم إنه علينا سلامه ورحمته، يسير إلى راشده (1)، أيضًا ثلاثة مساجد متفاوتات في بنيانها، وأحسن ما فيهم وأعلاهم وأفضلهم، الذي يصلي الخطيب فيه يوم الجمعة، وتصلي فيه خمس صلوات على دائم الأيام، وهو الوسطاني، وهو دليل على توحيد مولانا جل ذكره، وإثبات خمسة حدود علوية فيه، وهو دليل على حجة الكشف.
والمسجدان اللذان معه متفاوتان في البناء، دليل على الناطق والأساس، وكذلك الناطق في ترتيب حدوده، أفضل من الأساس، والأساس أعظم شأنًا في ترتيب الباطن ورموزه من الناطق في المعقولات والبيان، فلما ظهر التوحيد زالت قدرتها جميعا، وسميت (راشدة) لأن بمعرفة الحجة وهدايته، والأخذ منه يرشد المستجيبون ويبلغون نهاية توحيد مولانا جل ذكره. ثم إن علينا سلامه ورحمته، يدور حول هذا المسجد الوسطاني في ظاهر الأمر دليل على التأييد لعبده، وقدام المسجد عقبة صعبة الصعود لمن يسلكها، وليس إلى القرافة (2) محجة إلا على هذه العقبة دليل على البراء من الأبالسة، أصحاب الزخرف والناموس وليس للعالم نجاة إلا بالبراءة منهم، كما أن المحجة على هذه العقبة، وهي صعبة مستصعبة لكن فيها افتكاك الرقبة، وهو التخلص من الشريعتين الظاهر والباطن.
أما ما يرونه من وقوفه في الصوفية، واستماعه لأغانيهم، والنظر إلى رقصهم، فهو دليل على ما استعمل من الشريعة التي هي الزخرف واللهو واللعب، وقدرنا هلاكهم.
وأما بئر الزئبق، فهو دليل على الناطق، من فوقه واسع، ومن أسفله ضيق، كذلك الشريعة دخولها سهل واسع، والخروج منها صعب ضيق، لكن من يقفز في هذا البئر ويعرف سره ويقف على معناه، ويريد المولى نجاحه خرج من بابه، وهو دليل على أساسه، والوقوع في الشريعة لابد منه حتما لزما لكل أحد، ويخلص المولى من يشاء برحمته منها، كما قال الناطق في القرآن وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا [مريم:71] يعني السابق، حَتْمًا مَّقْضِيًّا، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا [مريم:72] من الناطق وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ [مريم:72] يعني أهل الظاهر، فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72] يعني حيران حزينًا دائمًا. ومن خرج من هذا البئر سالمًا أخذ من الحكام ما يستنفع به، كذلك من كان تحت الشريعة وعلم التأويل ورموزه وتخلص من شبكتيهما جميعًا وعلم ما يراد منه، وصل إلى التوحيد، واستنفع بدينه ودنياه، ومن قفز فيهما:
…
لا قوة، وهما السابق والتالي انكسرت رجلاه واندق عنقه، دليل على أن من انقطع من السابق والتالي الذين هما الأصلان المحمودان وخالفهما (خسر الدنيا والآخرة، ذلك الخسران المبين)(3).
(1) يقصد جامع راشدة، وهو الذي بناه الحاكم، على القرب من (الرصد)، وكان قبل ذلك جانب المكان الذي بني عليه جامع راشدة، جامع بهذا الاسم، ولما بني هذا الجامع سمي بهذا الاسم، وهو نسبة إلى قبيلة عربية اسمها (راشدة).
(2)
وهي مقبرة القاهرة، وتسمى بهذا الاسم.
(3)
*الحج: 11 *، وقد أسقط كلمة (هو) بعد كلمة (ذلك).
وأما بئر الحفرة، فهو دليل على الأساس، وهو أشد عذابًا من بئر الزئبق، وأتعب خرجا، لأن من اعتقد الظاهر، وهي الشريعة، إذا بلغ الباطن اعتقد أنه ليس فوق الأساس شيء، وأنه الغاية والمعبود، فيبقى في العذاب الأبدي، إلى أن يريد المولى منجاته، فيحتاج الداعي أن يتعب معه من قبل أن يكسره ويجبره ويخرجه مما هو عليه من الكفر والشرك. وأما لعب الركابية بالعصي والمقارع (1)، قدام مولانا جل ذكره فهو دليل على مكاسرة أهل الشرك والعامة وتشويههم بين العالم، وإظهار أديانهم المغاشم ويكشف زيفهم باستجرائهم على المخاطبة بحضرته.
أما الصراع، فهو دليل على مفاتحة الدعاة بعضهم لبعض، وقد كان للعالم في قتل سويد والحمام عبرة لمن اعتبر، ونجاة من الشرك لمن تدبر، لأنهما كانا رئيسين في الصراع، ولكل واحد منهما عشيرة وأتباع وهما دليلان على الناطق والأساس، وقتلهما دليل على تعطيل الشريعتين التنزيل والتأويل، والهوان بالطائفتين أهل الكفر والتلحيد.
وأما ما ذكره الركابية من ذكر الفروج والأحاليل، فهما دليلان على الناطق والأساس، وقوله:(أرني قمرك) يعني اكشف عن أساسك وهو موضع يخرج منه القذر، دليل على الشرك فإذا كشف عن أساسه وأخرج قبله، أي عبادة أساسه، نجا من العذاب والزيغ في اعتقاده، ومن شك هلك. كما أن الإِنسان إذا لم يبل ولا يتغوط أخذه القولنج فيهلك. والنار ها هنا علم الحقيقة وتأييده جل ذكره فيحرق ما أتت به الشريعتان، كما أنهم يحرقون فروج بعضهم بعضًا في النار، دليل على احتراق دولتهما وانقضاء مدتهما، وإظهار توحيد مولانا جل ذكره بغير شاك فيه، لا يشرك به لا ناطق جسماني، ولا أساس جرماني، ولا سابق روحاني، ولا تال نفساني، ولا يبقى لمنافق جولة، ولا لمشرك دولة، ويكون أولو الأمر منكم وأهل الحساب منكم والمتصوفون في جميع الدواوين منكم، والعمال منكم، ويكون الموحدون لمولانا جل ذكره في نعيم دائم وإحسان غانم، وملك قائم
…
فعليكم معاشر الإخوان الموحدين لمولانا جل ذكره، العابدين له وحده دون غيره بالحفظ لإِخوانكم، والتسليم لمولانا جل ذكره، والرضا بقضائه في السراء والضراء، تنجوا من عذاب الدين وشقوة الدنيا، بمنة مولانا وقوته) (2).
وهكذا نرى أن حمزة لم يأت بجديد في موضوع ألوهية الحاكم، وإن فاق الكثير دهاء ومكرا وعداوة للإِسلام، وتلاعبًا بالألفاظ وتآويل حلزونية.
وحمزة بعد هذا كله لم يأت بدليل على ألوهية الحاكم، إذ لينه وتواضعه وكرمه دليل على اللاهوت، وشجاعته وشدته دليل أيضًا، بل سدل شعره وارتداؤه الصوف واللعب بالإحليل والفرج دليل كذلك.
وهكذا فإن الإِنسان العاقل وهو يقرأ هذه السخافات لا يستطيع إلا أن يرثي لحال هؤلاء الذين – لا يزال حمزة – يلعب بعقولهم فيؤمنون بأقواله وسخافاته
…
ويقف حائرًا أو حزينًا أمام هذه الأقوال (المقدسة عندهم) وإلى تبتر الخيط الرفيع بين الدرزي والإِسلام؟!.
المصدر:
عقيدة الدروز عرض ونقد لمحمد أحمد الخطيب – ص 39
(1) يقول الأستاذ زهير الشاويش عن هذا: (إنه من الأعمال التي ما زالت حتى اليوم في مصر ويسمى (الضرب بالشوم) ويشبه إلى حد ما، ما يسمى في الشام بلعب الحكم).
(2)
كتاب فيه حقائق ما يظهر قدام مولانا جل ذكره من الهزل.