الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: التناسخ والتقمص والحلول
يستدل من النصوص الواردة في رسائل الدروز، بأن الدروز يعتقدون بالتناسخ والتقمص، أي بانتقال النفس من جسم بشري إلى جسم بشري آخر، باعتبار أن النفس لديهم لا تموت، بل يموت قميصها (الجسم)، ويصيبه البلى، فتنتقل النفس إلى قميص آخر. وهذا خلاف التناسخ الذي تعتقده فرق أخرى – كالنصيرية -، والذين لا ينحصر عندهم التناسخ بين الناس، بل يكون أحيانًا بينهم وبين البهائم – أي بمعنى المسخ -) (1).وعقيدة الدروز تنكر المسخ في التناسخ إنكارًا صريحًا، وتنفيه نفيًا قاطعًا، حتى إنها استبدلت لفظة التناسخ بـ (التقمص)، لأن في انتقال النفس إلى جسم حيوان ظلم له، ولأن العقاب والثواب بني – حسب ما يزعمون – على قاعدة العدل الإِلهي في محاسبة الأرواح بعد مرورها في الدهر الطويل، لا في مدى حياة واحدة، بخيرها وشرها، وقصرها أو طولها، بحيث يمنحها الدهر الطويل فرص الاكتساب والتطور، والامتحان والتبدل، لكي تحاسب حسابًا عادلاً على مجموع ما كتب، فلا تكون الأرواح كيانات مبهمة غير واعية) (2).
ولكن الدروز يعتقدون بالمسخ المعنوي أو المجازي، يقول الأستاذ عبد الله النجار: (المسخ في اللغة تحويل الصورة إلى أقبح منها، فيقال مسخه الله قردًا، وهذا دينيا، ورد ذكره، مجازي معنوي، المقصود منه التحقير، والذم، والتوبيخ، وهو تعبير مجازي وليس حسيا على الإِطلاق. وإنما تكون الحكمة في عذاب رجل يفهم ويعرف العذاب، ليكون مأدبة له وسببا لتوبته
…
وإنما يكون العذاب الواقع في الإِنسان، نقلته من درجة عالية إلى درجة دونها في الدين، وفي قلة معيشته وعمى قلبه في دينه ودنياه) (3).ومن اعتقادهم في هذا الموضوع:(أن العالم قد خلق دفعة واحدة، وأن البشر خلقوا سوية وليسوا بمتناسلين من أب واحد، بل من حين الخليقة وجد الحايك في نوله، والبناء على الحائط، وأن عدد أنفس البشر لا يزيد ولا ينقص)(4).
وفي هذا المعنى جاء في رسالة (من دون قائم الزمان) ما يلي:
(أليس قد صح عند كل ذي عقل ومعرفة بالحقيقة والفضل، أن هذه الأشخاص أعني عالم السواد الأعظم لم يتناقصوا ولم يتزايدوا، بل هي أشخاص معدودة من أول الأدوار إلى انقضاء العالم والرجوع إلى دار القرار.
والدليل على ذلك أن هذه الخلقة أعني العالم العلوي والسفلي ليس لها وقت محدد، ولا أمد عند العالم معدود، أليس لو زاد العالم في كل ألف سنة شخصًا واحدًا لضاقت بهم الأرض. ثم إنه لو نقص في كل ألف سنة شخص واحد لم يبق منهم أحد، فصح عند كل ذي عقل راجح، ومن هو بالحقيقة لنفسه ناصح، أن الأشخاص لم تتناقص ولم تتزايد، بل تظهر بظهورات مختلفات الصور على مقدار اكتسابها من خير وشر) (5).
وكذلك نجد في (رسالة ذكر الرد على أهل التأويل الذين يوجبون تكرار الإِله في الأقمصة المختلفة) ما يلي: عرفوني يا شيوخ التجريد هذه القوى التي تفارق الأجسام أين مستقرها؟ وأين يكون ثباتها؟ فإن قلتم: فيما بين الأرض والسماء، فهي لكثرة النشوء تسد ما بين العالمين، وتخالط الهوى وتأتي عليها الطبائع ويدخل عليها من التضاد والفساد ما يدخل على غيرها، وإن أوجبتم أن ثباتها فوق السماء فهي تملأ الأفق) (6).
(1) مخطوط في تقسم جبل لبنان: مخطوط في الجامعة الأمريكية ببيروت (رقم 31)، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 699).
(2)
عبدالله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد)) (ص 62).
(3)
عبدالله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد)) (ص 61 – 62).
(4)
كريم ثابت: ((الدروز والثورة السورية))، (ص 34).
(5)
((رسالة من دون قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمن)).
(6)
((رسالة ذكر الرد على أهل التأويل الذين يوجبون تكرار الإله في الأقمصة المختلفة)).
والملاحظ في رسائل حمزة أن العذاب الواقع بالإِنسان يكون بنقلته من درجة عالية إلى درجة دونها من درجات الدين، ويستمر تنقله من جسد إلى جسد بتناسخ روحه وتقمصها في الأجساد، وهو كلما تنتقل روحه من جسد إلى جسد تقل منزلته الدينية. أما الجزاء في الثواب مادام يتكرر في الأجساد فهو زيادة درجته في العلوم الدينية وارتفاعه من درجة إلى درجة) (1).
وهكذا تمر النفس في دورانها بحالات مختلفة وتظل كذلك حتى تتطهر – إن كانت صالحة -، وبعد هذا التطهير يكون الزمن الذي يعقب قيام القيامة التي يترقبها الدروز، أما النفس الشريرة فتظل معذبة بجميع أنواع العذابات المعروفة. والعذاب الأكبر هو عذاب الضمير، وعذاب الندم على ما فات، لأنها لم تنتفع من أدوارها الماضية) (2).وهم يعتقدون أنه:(كلما مات إنسان انتقلت روحه لمولود جديد، ويسمى ذلك عندهم الفرقة والخلقة، ويشبهون النفس بالسائلات التي تحتاج إلى إناء يضبطها فإذا كسر فلابد من تلقي السائل في إناء غيره لئلا يهرف ويضيع)(3).
وبناء على ذلك فإذا مات أحد من مذهبهم فإنه يولد ثانية على نفس هذا المذهب، ولهذا فلا يقبلون أحدا في مذهبهم حتى ولو اطلع الإِنسان على كتبهم وعرف ديانتهم واعتقد صحتها وسلك بموجبها فلا فائدة من ذلك، بل حين موته ترجع روحه إلى مذهبه القديم. وكذلك إذا انتقل أحد من مذهبهم إلى غيره، فإنهم لا يعترفون بذلك، لأن روحه في النقلة الأخرى ستعود إلى مذهبه القديم (4).
يقول الدكتور سامي مكارم عن هذه النقطة: (ففي عقيدتهم أن الذين نقلوا الدعوة وتعرضوا إلى الحقيقة في الماضي لا يزالون يولدون من تقبل الدعوة.
كذلك فإن التقمص في معتقد التوحيد ليس تطورًا للروح في هذا الدور، بل هو تقلب الروح في شتى الأحوال، لكي يتسنى لها أن تختبر هذه الأحوال.
فمن لم يتقبل نداء الحق، حسب معتقد التوحيد، لا يمكنه إلا أن يحصد نتيجة أعماله في حيواته التالية، وكذلك هي الحال بالنسبة لمن تقبل هذا النداء وتعرف إلى الحقيقة. والتقمص يتضمن – عند الدروز أيضًا – تمييزًا جنسيًا، فالذكر يولد ذكرًا، والأنثى أنثى) (5).
ونتيجة لهذه النظرية عندهم؛ فإنهم يقولون: (عن ذوي العاهات والمصابين كالأعمى والأعرج والفقير والجاهل، أن مصابهم هو قصاص عن ذنوبهم في مدة حياتهم السابقة، ويحتجون بذلك على النصارى فيما ورد بالإِنجيل حينما سأل الرسل السيد المسيح: عن ذلك الأعمى هل هو أخطأ أم أبواه؟ حتى ولد أعمى، ويقولون: إنه إذا كان قد أصيب بالعمى وقت ميلاده لخطيئته ظهرت منه. ويعتقدون أيضًا: أن إيليا النبي هو يوحنا المعمدان، وأن المسيح أي حمزة أخبر عنه في إنجيل متى: بأن يوحنا هو إيليا، ويجعلون هذا برهانا على التقمص، وهكذا يجعلون الغني والعالم والجاهل، إنما استحقوا ذلك مكافأة لهم)(6).
(1) مصطفى غالب. ((الحركات الباطنية في الإسلام))، (ص 263).
(2)
سعيد الصغير: ((بنو معروف الدروز))، (ص 239).
(3)
كريم ثابت: ((الدروز والثورة السورية))، (ص 34).
(4)
كريم ثابت: ((الدروز والثورة السورية))، (ص 47).
(5)
د. سامي مكارم: ((أضواء على مسلك التوحيد))، (121 – 122).
(6)
كريم ثابت: ((الدروز والثورة السورية))، (ص 48).
ويستدل الدروز بآيات من القرآن الكريم ليثبتوا فيها اعتقادهم بالتناسخ، مؤولين معناها ليتفق مع ما يزعمون، ومن ذلك ما استدل به الأستاذ فؤاد الأطرش من آيات القرآن الكريم، زاعمًا أنها تدل على التناسخ: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا [النساء:56](كيف تكفرون بنعمة الله، وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون)(1). (لا ينفع نفسًا إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل وكسبت في إيمانها خيرًا)(2). مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه: 55] يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم: 19].
ويزعم الأستاذ الأطرش أيضًا: (أن تشبيه النفس بالأرض إثبات مادي على التقمص لا يقبل الجدل، فلنتأمل في أدوار الأرض ومواسمها وموتها ثم حياتها. والإِنسان يرفض هذه الفكرة لأنها تناقض مبدأ الذاتية وتحطم أحلامه، ويضع الإِنسان أمام الواقع الروحي موضع المنافح في سبيل خلاصه من أسر مادية التفكير والحياة)(3).وبسبب اعتقادهم بالتقمص، يعتقدون أيضًا بالنطق، (والنطق هو: أن الروح حين تنتقل من جسد إلى جسد تحمل معلومات عن دورها في الجيل السابق – يعني في الجسم الذي كانت تتقمصه قبل قميصها الحالي، وفي هذه الحالة تتحدث أو تنطق بما تذكره من وقائع عن حياتها السابقة) (4).ولكن هناك من الدروز مثل الأستاذ عبد الله النجار، من ينفي نظرية (النطق) هذه من أساسها، ويعتبرها خرافات ومن سذج العامة ويستشهد على ذلك بنصوص من رسائلهم، ومما ذكره نقلاً عن الرسالة 67:(فإن قال قائل: ما لنا لا نعرف ما مضى من الأدوار؟ قال له المحتج بالحقيقة: إنك لو ذكرت، وعرفت، لشاركت المبدع في غيب حكمته، ولكان ذلك عجزًا من الباري، ولكان يفسد النظام)(5).
غير أن الدكتور سامي مكارم يقول في معرض ردِّه على الأستاذ النجار: (ويمكننا القول أن منطق عملية التقمص لا يتعارض مع تذكر الماضي، خاصة عندما ندرك أن نزعات الفكر اللطيفة، حسب عقيدة التوحيد، تنطوي عند الموت، في أعماق النفس المتنقلة من جسد إلى جسد. وهذه النزعات والأفكار اللطيفة، كبذور انطلاقة الحياة التالية، هي التي تحدد وضع التقمص المقبل، فلابد لبعض الأذهان إذا صادفت بعض الحالات المناسبة، أن تتذكر الماضي المباشر الذي كانت تعيش فيه)(6).
ولابد لنا – بعد ذلك – إلا أن نرجح الرأي الذي يقول باعتقاد الدروز بـ (النطق)، ذلك لأن كتاب أضواء على مسلك التوحيد، كان في الحقيقة ردًا من مشيخة العقل عندهم على الأستاذ عبد الله النجار.
أما الحلول: فهو نوع من التقمص، لكنه يختلف عنه في أن النفس المنتقلة من جسم إلى آخر، تنتقل معها أحيانًا جميع صفاتها، أو بعض صفاتها البارزة. ومن ذلك نشأ الاعتقاد أن نفوس الأنبياء والمرسلين تنتقل من دور إلى دور، مستكملة أروع صفاتها، فحمزة بن علي في دور الحاكم هو نفس سلمان الفارسي في دور النبي صلى الله عليه وسلم (7).وقد استنتج الدكتور محمد كامل حسين من نظرية التناسخ هذه:(أن لهذه العقيدة علاقة بمذهب التناسخ في الديانة البوذية، والديانة الهندوكية، ففي الديانة البوذية ظهر بوذا على هيئة حيوانات وطيور وشجر وصور أنسية حوالي ألف مرة (8).وفي الديانة الهندوكية ظهر شيفا على صور أنسية عديدة، كذلك ظهر مذهب التناسخ عند فلاسفة اليونان وقدمائهم، ففي ديانة قدماء اليونان تظهر آلهتهم في صور مختلفة، وعند فلاسفة اليونان التناسخ عندهم عدة أقسام: نسخ ومسخ وفسخ ورسخ) (9).
وهكذا نستطيع أن نربط هذا الاعتقاد، بهذه الاعتقادات التي كانت سائدة في فارس والهند واليونان
المصدر:
عقيدة الدروز عرض ونقض لمحمد أحمد الخطيب – ص 142
(1) وقد وردت الآية هكذا، ويلاحظ أن (كلمة نعمة) غير موجودة في الآية، والصحيح (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ * البقرة: 28*.
(2)
وقد زاد في الآية أيضا كلمة (إن) والصحيح لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ * الأنعام 158*.
(3)
فؤاد الأطرش: ((الدروز مؤامرات وتاريخ وحقائق))، (ص 187 – 188).
(4)
د. مصطفى الشكعة: ((إسلام بلا مذاهب))، (ص 280).
(5)
عبد الله النجار: ((مذهب الدروز والتوحيد))، (ص 69 – 71).
(6)
د. سامي مكارم: ((أضواء على مسلك التوحيد))، (ص 127).
(7)
أمين طايع: ((أصل الموحدين الدروز)): (ص 100 – 101).
(8)
راجع كتاب ((البوذية وتأثيرها في الفكر والفرق الإسلامية المتطرفة)) – محمد علي الزغبي – وعلي زيعور، (ص 147 – 149).
(9)
محمد كامل حسين: ((طائفة الدروز))، (ص 109).