الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: الاغتيال السياسي
جاء القتل السياسي مع ظهور السلطة السياسية، وأصبح مع مر الوقت أسرع وأبسط وسيلة لإحداث التغيير السياسي، وعادة ما يكون الدافع لمثل هذه الاغتيالات شخصي أو حزبي أو ما شاكل ذلك.
وفي بعض الأحيان ينظر القاتل والآخرون إلى الاغتيال كواجب تبرره حجج أيديولوجية إذ يبدو أو يصور الضحية كطاغية أو كمغتصبٍ ويبدو ويصور قتله الفضيلة وليس جريمة، ومثل هذا التبرير الأيديولوجي للقتل قد يُعبر عنه بصيغ سياسية أو دينية أو كلاهما معاً.
كان ضحايا الحشاشين في هذا المجال ينتمون إلى مجموعتين رئيسيتين:
الأولى: تضم الأمراء والقواد والوزراء، وقد أحرز الحشاشون على هذا المستوى أول نصر كبير لهم في الفن الذي صار يُنسب إليهم، فن الاغتيال وكانت ضحيتهم المختارة نظام الملك، الوزير السلجوقي الشهير، والعدو الأول لحركة الحشاشين.
وقد دبّر الحسن بن الصباح هذه الجريمة بعناية. يقول المؤرخ رشيد الدين: "إن دينا نصب الشباك والفخاخ من أجل أن يصيد أول كل شيء هدفاً كبيراً كنظام الملك ويجعله يسقط في شباك الهلاك والموت، وبهذا العمل ذاع صيت وعمّت شهرته وأرسى أسس الفدائية، قال: مَنْ منكم يُخلِّص الدولة من شرور نظام الملك الطوسي؟ فوضع رجل يُسمى أبو طالب أراني يده على صدره علامة الموافقة .. وفي ليلة الجمعة 12 رمضان من عام 485هـ وفي منطقة ساهنا من إقليم نهاوند تقدم الرجل وهو متخفٍ في ثياب الصوفيين إلى محفة نظام الملك الذي كان محمولاً من الساحة العامة إلى خيام حريمه وطعنه بسكين وبهذه الطعنة نال الرجل الشهادة، وبذلك كان نظام الملك أول من قتله الفدائيون وقال مولانا –عليه ما يستحق- إن قتل هذا الشيطان هو بداية البركة".
على أن البعض يلقي بتدبير جريمة قتل نظام الملك على السلطان ملكشاه، حيث يروون في هذا الصدد الرواية التالية:"كان سبب قتله (نظام الملك) أن عثمان بن جمال بن نظام الملك، كان قد ولاّه جده نظام الملك رياسة مرو، وأرسل السلطان إليه أكبر مماليكه وأعظم الأمراء في دولته وكان يقال له قودن، فجرى بينه وبين عثمان منازعة في شيء فحملت عثمان حداثة سنة وتمكنه وطمعه بجده، على أن قبض عليه، وأخرق به، ثم أطلقه، فقصد السلطان مستغيثاً شاكياً، فأرسل السلطان إلى نظام الملك رسالة مع تاج الدولة ومجد الملك البلاساني وغيرهما من أرباب دولته يقول له: "إن كنت شريكي في الملك، ويدك مع يدي في السلطنة، فلذلك احكم .. وإن كنت نائبي وبحكمي، فيجب أن تلزم حد التبعية والنيابة، وهؤلاء أولادك قد استولى كل واحد منهم على كورة عظيمة، وولي ولاية كبيرة، ولم يقنعهم ذلك حتى تجاوزوا أمر السياسة، وطمعوا إلى أن فعلوا كذا وكذا"، وأطال القول وأرسل الأمير "يلبرد" –وكان من خواصه وثقاته- وقال لهِ: تعرفني ما يقول، فربما كتم هؤلاء شيئاً.
فحضروا عند نظام الملك وأوردوا عليه الرسالة، فقال لهم:"قولوا للسلطان إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم، فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي، أما يذكر حين قُتل أبوه فقمت بتدبير أمره، وقمعت الخوارج عليه من أهله وغيرهم –منهم فلان وفلان وذكر جماعة ممن خرج عليه- وهو ذلك الوقت يتمسك بي ويلزمني ولا يخالفني، فلما قدرت الأمور إليه وجمعت الكلمة عليه، وفتحت له الأمصار القريبة والبعيدة، وأطاعه القاصي والداني، وأقبل يتجنى لي الذنوب، ويسمع في السعايات، قولوا له عني، إن ثبات تلك القلنسوة معذوق بهذه الدواة وإن اتفاقهما رباط على رغيبة وسبب كل غنيمة، ومتى أطبقت هذه زالت تلك، فإن عزم على تغيير فليتزود للاحتياط قبل وقوعه، وليأخذ الحذر من الحادث أمام طروقه" ثم قال لهم: "قولوا للسلطان عني مهما أردتم فقد أهمني ما لحقني من توبيخه وفتّ في عضدي". فلما خرج الوفد من عنده اتفق أعضاؤه على كتمان ما جرى عن السلطان رعاية لحق نظام الملك وسابقته، وأن يقولوا له ما مضمونه الطاعة والتبعية، ولكن "يلبرد" كان قد مضى إلى السلطان وأعلمه الأمر، ولما كان الغد فوجئ الوفد بأن الخبر قد بلغ السلطان، وأن هذا الأخير قد أحاط بكل ما دار بينهم وبين نظام الملك. ووقع التدبير عليه حتى تّم عليه من القتل ما تم، ومات السلطان بعده بخمسة وثلاثين يوماً وانحلّت الدولة ووقع السيف وكان قول نظام شبه الكرامة له (1).
ورغم هذه الرواية إلا أن الرأي الذي يبقى أقوى وأوكد وعليه عامة المؤرخين هو أن المسؤول مسؤولية مباشرة عن مقتل نظام الملك هو الحسن بن الصباح وحركته، وهذا الأمر ثابت في مراجع الشيعة أنفسهم، كما أن أسلم نظام الملك محفوظ في "قائمة شرف" للاغتيالات بقلعة ألموت، كانت تُسجل بها أسماء الفدائيين وأسماء من قتلوهم.
وكانت تلك بداية سلسلة طويلة من الهجمات المماثلة أدّت في حرب رعب محسوبة إلى إنزال ألموت المفاجئ بملوك وأمراء وقادة جيوش وحكام يقول ابن الأثير: "إن أي قائد أو ضابط لم يكن يجرؤ أن يترك بيته بدون حماية وكانوا يرتدون الدروع تحت ملابسهم .. وطلب كبار الضباط من السلطان بر كبارق أن يسمح لهم بالظهور أمامه مسلحين خوفاً من أن يتعرضوا للهجوم فمنحهم الإذن بذلك".
أما المجموعة الثانية من ضحايا الحشاشين: فتضم القضاة والعلماء وغيرهم من الشخصيات الدينية الذين أدانوا نظريات الإسماعيلية وأفتوا بقمع من يقول بها، إذ يقول أحد هؤلاء:"إن قتلهم أحلّ من ماء المطر، ومن واجب السلاطين والملوك أن يهزموهم ويقتلوهم وينظفوا وجه الأرض من دنسهم، ولا يجوز الاتصال بهم أو تكوين صداقات معهم أو أكل لحم ذُبح بواسطتهم، أو الدخول معهم في زواج، إن سفك دم ملحد منهم أكبر جزاءً من قتل سبعين من كفار اليوم".
وهناك فئة ثالثة متوسطة تضم ولاة المدن وقد نالت اهتمامهم بين حين وآخر، وكانت المؤسسة السنية بجوانبها السياسية والعسكرية والإدارية والدينية هي العدو الرئيسي للإسماعيلية، وكان هدفهم من الاغتيالات إخافة هذه المؤسسة وإضعافها ثم الإطاحة بها في النهاية.
وبعض هذه الاغتيالات كان مجرد أعمال انتقام وتحذير مثل قتل علماء السنة في مساجدهم عقاباً لهم على مهاجمة الإسماعيلية بالقول أو الفعل، ولكن كان هناك ضحايا آخرين يتم اختيارهم لأسباب محددة أو عاجلة مثل قادة الجيوش الذين يهاجمون الإسماعيلية.
كما اجتمعت الدوافع التكتيكية والدعائية في اغتيال بعض الشخصيات الكبيرة كالوزير نظام الملك –كما أشرنا سابقاً- واثنين من الخلفاء ومحاولات اغتيال صلاح الدين.
(1)((الكامل في التاريخ)) (8/ 161 - 162) بتصرف قليل.
كان الحشاشون بحق اتحاداً من الدجالين والمغفلين استطاعوا تحت قناع من التشدد الديني والأخلاقي الإساءة إلى الدين والخلق، وأن هذه الجماعة من السفاكين الذين سقط تحت نصال خناجرهم أسياد الدول ظلوا أقوياء لأنهم –ولمدة ثلاثة قرون- استطاعوا أن يبثوا الرعب في قلوب الجميع إلى أن سقط وكر الوحوش في يد الخلافة التي كانت منذ البداية هدفاً للتدمير بأيديهم كرمز للسلطة الروحية والزمنية للمسلمين.
لماذا يضحي الفدائي بحياته؟
ونأتي الآن إلى أمر حار فيه كثير من المحللين وتضاربت بشأنه تفسيراتهم، وهو الولاء العجيب من الحشاشين لسيدهم "شيخ الجبل"، الذي جذب انتباه الكثيرين وخاصة في أوربا على الأقل في بداية الأمر، حتى صار مضرب الأمثال. يقول أحد الشعراء مخاطباً حبيبته:"أنت تسيطرين عليّ بسحرك أكثر مما يسيطر الشيخ على حشاشيه الذين يذهبون لقتل أعدائه الفانين". ويقول آخر: "كما يخدم الحشاشون سيدهم بإخلاص لا ينضب، كذلك أحبك بولاء لا يكلّ". وفي خطاب حب آخر يقول كاتب مؤكداً لحبيبته: "أنا حشاشك الذي يتمنى أن يحظى بفردوسك عن طريق تنفيذ أوامرك".
وانطلاقاً من تسليمنا بأن الفكر هو موجه السلوك، فإننا نقف على تفسير إقدام الفدائي على التضحية بحياته إذا ما وقفنا على مكونات فكره التي استطاع الحسن بن الصباح أن يشكلها بطريقة تكشف عن عبقرية سياسية ومواهب إدارية واستراتيجيه كبيرة.
إن الموقف الذي ينطلق منه الفدائي خاصة وعضو حركة الحشاشين عامة، هو القلق والشعور بالخوف إزاء الواقع الذي يعيش فيه كنفس مقيدة في بدن، وكفردية مؤطرة في مجتمع بحيث لا يلقى إلا ما ينغّصه ويكدره ويجعله يشعر بأنه محاصرٌ ومستعبد، فيبدو العالم كله شراً، وتصبح مشكلته الأساسية هي مشكلة الشرّ في العالم: لماذا كان العالم يحتوي على الشر؟ ولماذا يطغى فيه الشر؟ وما مصدر هذا الشر؟.
ومن هذه الوضعية يبدأ الفدائي يعبر عن رفضه لهذا الوجود كله وبشدة فينطلق أولا: بإبداء التضايق والشكوى من هذه الوضعية ثم بإعلان الكراهية والعداء لها انتهاءً بالتشهير بها والتمرد عليها.
يرفض الفدائي هذه الوضعية كواقع خارجي، كما يرفضها كشعور داخلي
…
كشروط حياة، ويرفض نفسه كوجود خاضع لهذه الشروط، ومن هنا إحساسه بالغربة بصورة مضاعفة: يشعر نفسه غريباً في عالم يراه غريباً عنه تماماً، فيتجّه إلى تمييز نفسه عن هذا العالم، إلى الانفصال والقطيعة عنه، ومن هنا يتعاظم ميل الفدائي وشوقه وتستولي عليه فكرة ضرورة التحرر من قبضة هذا العالم وقيوده والرحيل عنه إلى حيث امتلاك النفس والتحرر الكامل، والالتحاق بعالم آخر، عالم متعال عن المكان والزمان، عالم الحياة الحقيقية، عالم الكمال والطمأنينة والسعادة، العالم الذي كان فيه وأخرج منه والذي سيعود إليه، وهو يستقي معرفته بذلك العالم الآخر لا من خلال تأمل العالم الدنيوي، وكيف يمكن أن يجد فيه الجواب وهو عالم غريب كله شرّ؟ ولا يقوم باستعمال حواسه وعقله، إذ لا يمكن أن يعتمد عليهما لأنهما مرتبطان بهذا العالم؟ فلا يبقى إلا أن يطمع في أن يتلقى المعرفة التي يبغيها من القوى العليا لا تعطي عملها الغيبي إلا لإمام الزمان، ومن هنا فإن الفدائي يسلم نفسه تماماً إلى هذا الإمام أو من ينوب عنه، فيقوم الإمام أو نائبه باستغلال هذا الموقف فيدفع بالفدائي ورغبته في الخلود والرجوع إلى موطنه الأصلي إلى أقصى مدى.
إن الإمام يقدم له تاريخ له ما قبل تاريخه وما بعده، فيعرف منه أنه كان موجوداً قبل وجوده الراهن في العالم، وأنه جاء إلى هذا العالم من عالم آخر يقع خارج هذا العالم ويسمو على تحديداته الزمانية.
وانطلاقاً من هذا التصور يقتنع الفدائي بأن وجوده في هذا العالم شيء غير طبيعي، وبالتالي فلابد أن يكون هذا السقوط الذي أصابه، والذي يتمثل في مغادرته عالم الخلود والانغماس في هذا العالم المملوء شرّاً، لابد أن يكون نتيجة لذنب أو خطيئة ولابد من تدارك الموقف والعمل من أجل الخلاص.
إن الفدائي وهو في هذه الحالة من الشعور، يتصوّر "البعث والنشور" على أنه رجوع إلى حال سابقة سامية، حالٌ من الحرية الفكرية، حال ينزع فيها روحه عن جسده، ليعود إلى الحال التي كان عليها قبل ميلاده، بل قبل تكونه في الصورة الجسمانية، إنها النشأة الأخرى أو الميلاد الجديد.
وبعد أن عرف الفدائي من أين أتى وعرف أن مصيره الحقيقي الذي سيحرره من سُحُب هذا العالم، هو الرجوع إلى من حيث أتى، ففي هذا الرجوع وحده يكمن خلاصه.
وبعد أن عرف الفدائي إلى أين يصير، لا يبقى إلا أن يسلك الطريق، وسلوك هذا الطريق لا يكون إلا تحت رعاية الإمام وتوجيهه، والخضوع له خضوعاً مطلقاً وفقاً لمبدأ "التعليم" الذي يقوم بدوره على "التسليم التام" لكل ما يصدر عن الإمام أو المعلم الصادق من أوامر، حتى أنه كما يقول نصير الدين الطوسي:"لو أراد له الحياة لما أحب ألموت، ولو أراد له ألموت لما أحب الحياة، ولو قال له إن النهار المشرق ليل بهيم، أو أن الليل البهيم نهار مشرق لما هجس في قلبه أي اعتراض على هذا القول، ولما حام حول كيف يكون الأمر كذلك ولماذا؟ فينعدم اختيار الإنسان الناقص الجاهل وإرادته باختيار الإنسان الكامل العاقل وإرادته".
ومن هنا فإن الإمام أو المعلم الصادق عندما يأمر الفدائي بأن يغتال إحدى الشخصيات المناوئة للدعوة، فإن الفدائي يسرع بتنفيذ الأوامر الصادرة إليه انطلاقاً من رغبته الجامحة في المساهمة في القضاء على الشرّ المسيطر على هذه الحياة الدنيا، وشوقاً في الصعود إلى عالم الفردوس والخلود الذي آمن من قبل أنه لن يمكنه بلوغه إلا بأن "يخلع عنه قميص جلده" فيتحرر من بدنه ومن كل ما يشده إلى هذا العالم".
المصدر:
أسرار فرقة الحشاشين لمحمد هادي نزار- ص 96