الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الأيوبية (دولة)
أصل الأيوبيين: يرجع أصل الأيوبيين إلى «نجم الدين أيوب»
الكردى الأصل، وأبوهُ يُدعَى «شادى» من قبيلة «الهذبانية»
إحدى القبائل التى استقرت ببلدة «روبن» بأطراف «أرمينية» .
اتصل «شادى» والد «نجم الدين أيوب» برجل اسمه «بهروز»
كان مربيًا لأبناء السلطان السلجوقى «مسعود» ، ثم أصبح
حاكمًا لبغداد تحت سلطة السلاجقة سنة (502هـ)، وكانت له
مكانة سامية لدى السلطان السلجوقى، فأقطعه السلطان «قلعة
تكريت»، فأسند «بهروز» حراستها إلى «نجم الدين أيوب بن
شادى»؛ الذى ظل فى حكمها وحراستها عدة سنوات اكتسب
خلالها الخبرة بشئون الإدارة، وتمتع فيها بحب الأهالى. دب
خلاف بين «بهروز» و «نجم الدين أيوب» ، فخرج «نجم الدين»
وأخوه «شيركوه» وأهلهما من «تكريت» عقب هذا الخلاف سنة
(532هـ)، فحزن الأهالى على ذلك حزنًا شديدًا؛ لما كان يحظى
به «نجم الدين» من محبة فى قلوبهم. اتصال أيوب بعماد الدين
زنكى: خرج «أيوب» من القلعة، وعزم على المغامرة فى حوادث
الشرق الأدنى، وربط مستقبله بشخصية «عماد الدين زنكى»
الذى عظمت مكانته، واشتدت قوته، ورحب بمقدم أسرة «أيوب»
إلى «الموصل» ، واستقبلهم وأكرم وفادتهم، ثم أسند حكم
«بعلبك» بعد فتحها إلى «أيوب» سنة (534هـ)، وقلد
«شيركوه» قيادة الجيش؛ فكانا عند حسن ظنه، وأصبح
«أيوب» محبوبًا من رعيته لعدله، واتصف «شيركوه» بالشجاعة
والإقدام والمغامرة وحب القتال. صلاح الدين الأيوبى: شاءت
الأقدار أن يولد لأيوب ولد أسماه «يوسف» ليلة رحيله عن «قلعة
تكريت» سنة (526هـ)، فنشأ «يوسف» فى بلاط «زنكى»
بالموصل وعُرف باسم «صلاح الدين» ، وقضى طفولته فى ظل
والده «أيوب» ببعلبك، وأخذ عنه براعته فى السياسة،
وشجاعته فى الحروب، فشب خبيرًا بالسياسة وفنون الحرب،
وتعلم علوم عصره وتثقف بثقافة أهل زمانه، وحفظ القرآن،
ودرس الفقه والحديث. رحل «صلاح الدين يوسف» مع والده إلى
«دمشق» بعد وفاة «عماد الدين زنكى» ، ثم دخل فى خدمة «نور
الدين بن عماد الدين زنكى» سلطان «حلب» ، فاستعان «نور
الدين» بشيركوه وابن أخيه «صلاح الدين» فى ضم «مصر» إليه.
قيام الدولة الأيوبية: فى أواخر العصر الفاطمى قام صراع محموم
بين «شاور» و «ضرغام» على منصب الوزارة، فاستنجد «شاور»
بنور الدين محمود، فلبى نداءه وأرسل حملة كبيرة تحت قيادة
«شيركوه» ومعه ابن أخيه «صلاح الدين» ، فكان النصر حليف
الحملة على «ضرغام» والصليبيين الذين استنجد بهم، وقُتل
«شاور» فى المعركة، فاعتلى «أسد الدين شيركوه» كرسى
الوزارة، ولكنه تُوفِّى بعد قليل، فخلفه فى المنصب ابن أخيه
«صلاح الدين» سنة (565هـ) وهو فى الثانية والثلاثين من عمره.
عمل «صلاح الدين» على توطيد مركزه فى «مصر» ؛ لتأسيس
دولة قوية تحل محل الدولة الفاطمية التى ضعفت، وتحقق له ذلك
بعد وفاة «العاضد» آخر خلفاء الدولة الفاطمية سنة (567هـ).
العقبات التى اعترضت صلاح الدين: لم تكن الأوضاع مهيأة أمام
«صلاح الدين» لإقامة دولة إسلامية يكون هو مؤسسها
وسلطانها، خاصة أن العالم الإسلامى كان مفككًا وضعيفًا
ويحيط به الأعداء من كل جانب، بالإضافة إلى كونه نائبًا عن
«نور الدين محمود» فى «مصر» التى يطمع الصليبيون وبقايا
الفاطميين فى امتلاكها والسيطرة عليها، فعمل على مواجهة
هذه العقبات والقضاء عليها واحدة بعد الأخرى كالآتى: أ -
إلغاء المذهب الشيعى فى مصر: كان «صلاح الدين» وزيرًا سنيا
فى دولة شيعية، وتولَّى أكبر المناصب بعد الخليفة، وأصبحت له
الكلمة العليا فى إدارة شئون البلاد، فتحولت مهمته المؤقتة التى
جاء من أجلها مع عمه «شيركوه» ، إلى إقامة دائمة بمصر مع
ولائه لسيده «نور الدين محمود» ، وحذف اسم الخليفة الفاطمى
«العاضد» من الخطبة، وجعلها للخليفة العباسى ولسيده
«نورالدين» من بعده، فزاد حاسدو «صلاح الدين» ، وأدرك أن
تعدد المذاهب هو السبب الرئيسى فى ضعف المسلمين، فعمل
على إلغاء المذهب الشيعى فى «مصر» ، وتم له ما أراد، وهوى
نجم الدولة الفاطمية، وسقطت، وتولى «صلاح الدين» رئاسة
الدولة بعد صراع مرير مع بقايا الفاطميين وأنصارهم، وأصبح
المذهب السنى هو مذهب البلاد. ب - الفتن الداخلية: لاشك أن
الإصلاح الحقيقى لأى بلد يحتاج إلى فترة كى يتفهمه الناس
ويشعروا به، لذا فقد صعب على دعاة الفتن مسعى «صلاح
الدين» لإصلاح أمر الأمة وتأسيس دولة قوية، خاصة أن الأعداء
يحيطون بمصر من كل جانب، فقامت حركات مناهضة لما يقوم به
«صلاح الدين» ، وكان من أشدها وأخطرها: الحركة التى قادها
الشاعر «عمارة اليمن» ، الذى طالما مدح الفاطميين وأيامهم،
واعتبر الأيوبيين مغتصبين للعرش الفاطمى، فعمل على إعادة
الحكم للفاطميين، ودعا عددًا كبيرًا من الجند، وانضم إليه
المناصرون وبقايا الفاطميين، وأصبحت حركته خطرًا يهدد دولة
الأيوبيين الوليدة، إلا أن «صلاح الدين» تمكن من إفشالها،
وقبض على قادتها، وما كادت الأوضاع تهدأ حتى قامت فتنة
أخرى فى «أسوان» تدعو إلى عودة البيت الفاطمى، فأرسل
«صلاح الدين» أخاه «العادل» الذى تمكن من دخول «أسوان»
والقضاء على هذه الفتنة فى سنة (570هـ). ج - تطور العلاقة
بين صلاح الدين ونور الدين محمود: لم تكن الفتن الداخلية هى
العقبة الوحيدة التى واجهت «صلاح الدين» فى بداية حكمه لمصر
فحسب، ولكنه كان أحد قواد «نور الدين محمود» ، وحكم
«مصر» نيابة عنه، وذكر اسمه فى الخطبة بعد الخليفة العباسى،
وضرب السكة باسمه. وقد كانت تبعية «صلاح الدين» لنور الدين
تبعية اسمية، ولم يتدخل «نور الدين» فى شئونه، وكان هو
الحاكم الفعلى لمصر، وله جيشه وحاشيته، ويتمتع بحب رعيته،
ولكن «نور الدين» كان يعتمد على مساعداته لصد أعدائه من
السلاجقة والصليبيين، إلا أن الفتن الداخلية التى قامت فى وجه
«صلاح الدين» لم تمكنه من مساعدة «نور الدين» فى حربه،
وظل على ذلك حتى وفاة «نورالدين» سنة (569هـ)، فتولى من
بعده ابنه الملك «إسماعيل بن نور الدين» وكان لايزال طفلا
صغيرًا، فضعفت الدولة فى عهده. د - وحدة المسلمين: كان
لنجاح «صلاح الدين» فى التغلب على الفتن الداخلية التى
واجهته منذ أن أصبح وزيرًا بمصر، وارتداد الحملة الصليبية إلى
«دمياط» سنة (564هـ) أكبر الأثر فى ذيوع اسمه فى أرجاء
العالم الإسلامى، ونظر إليه الناس نظرة إجلال، واعتبروه أحد
القادة العظماء؛ لوقوفه فى وجه الصليبيين، ونجاحه فى فتح
«اليمن» ،ونجاحه فى القضاء على حركة «عمارة اليمن» . وقد
أثرت وفاة «نور الدين محمود» على دولته فى بلاد الشام، وقام
تنازع شديد بين الأمراء على مَن يعتلى العرش، وانتهى الأمر
بتولية «إسماعيل بن نور الدين» عرش أبيه وهو مايزال فى
الحادية عشرة منْ عمره، فوقع فريسة للصراع بين الأمراء،
وضاعت بذلك هيبة الدولة النورية وقوتها، وبدت عليها مظاهر
التفكك والضعف لدرجة أن أحد الأمراء لم يقو على مواجهة
الفرنجة وقتالهم، فعمل على مهادنتهم واسترضائهم بالمال؛
ليأمن شرهم ويتجنب مواجهتهم. كان «صلاح الدين» متابعًا
للأحداث التى تجرى فى العالم الإسلامى من حوله، فقرر التدخل
فى شئون «الشام» وضمه إلى «مصر» كى يحول دون وقوعه
غنيمة فى أيدى الصليبيين، وليحمى «مصر» والإمارات الإسلامية
من أى خطر يهددها، وجعل هدفه توحيد صفوف المسلمين
وقوتهم فى جبهة واحدة؛ ليتمكنوا من صد الصليبيين وحصرهم
بين شِقَّى الرحى فى الجزيرة والشام من جهة، وفى «مصر» من
جهة أخرى، وانتظر «صلاح الدين» الفرصة لتحقيق ذلك حتى
واتته الفرصة حين استنجد به بعض أمراء «دمشق» ، فسار إلى
الشام وتمكن دون قتال من السيطرة والاستيلاء على «دمشق»
سنة (570هـ)، ثم على «حمص» و «حماة» ، وحال الملك «الصالح
إسماعيل» دون دخوله إلى «حلب» ، فقرر «صلاح الدين»
حصارها، فاستنجد أهالى «حلب» بأعداء الدولة، واضطر
«صلاح الدين» إلى فك الحصار عن «حلب» ، واستولى على
«بعلبك» ليحمى جيشه من الخلف، ثم عاد ثانية لحصار «حلب» ،
وأعلن استقلاله، وحذف اسم «الصالح إسماعيل» من الخطبة،
واتصل بالخليفة العباسى، فمنحه لقب سلطان. هـ - السلطان
صلاح الدين وتوحيد باقى الولايات الإسلامية: بعد حصول «صلاح
الدين» على لقب السلطان استقل عن أسرة «نور الدين» ،
وأصبح حاكم «مصر» الرسمى، وقوى مركزه باستيلائه على
«منبج» و «إعزاز» ، وشدد حصاره على «حلب» ، وعزلها عن
جيرانها حتى طلب «الصالح إسماعيل» الصلح، فوافق «صلاح
الدين»؛ لأن هدفه كان وحدة المسلمين وحماية بلادهم. تُوفِّى
صاحب «الموصل» سنة (578هـ)، ومن بعده تُوفى «الصالح
إسماعيل»، فعاد الانقسام ثانية من أجل الوصول إلى كرسى
الحكم، فزحف «صلاح الدين» إلى الشام فى سنة (578هـ)،
وانضمت إليه بعض المدن دون قتال، واستولى على «حلب» ،
وبذا أصبح شمال الشام كله تحت سيطرته، ولم يعد أمامه سوى
مدينة «الموصل» التى سعى حاكمها إلى التصالح مع «صلاح
الدين»، وتعهد بإرسال المساعدات الحربية إذا طُلب منه ذلك،
فخضعت بذلك جميع الإمارات الإسلامية الشامية تحت سلطان
«صلاح الدين» ، وتمكن من توحيد كلمة المسلمين تمهيدًا للنضال
ضد الصليبيين. موقف صلاح الدين من الصليبيين: ظل «صلاح
الدين» يعمل على توحيد العالم الإسلامى مدة عشر سنوات فى
الفترة من سنة (572هـ) إلى سنة (582هـ)، حتى تحقق له ما
أراد، واستعد لمواجهة الصليبيين المتربصين بالعالم الإسلامى،
ثم تصدَّى لهم، فسجل التاريخ أبرز صور البطولة، وأسمى
درجات الفداء والجهاد ضد هؤلاء المغتصبين، وكان من أبرز هذه
المعارك ما يأتى: واقعة حِطِّين [583هـ = يولية 1187م]: تعد
«حِطِّين» من أشهر الحروب التى خاضها «صلاح الدين» ضد
الصليبيين، بعد سلسلة من الحروب التى خاضها مثل: موقعة
«مرج العيون» سنة (574هـ) التى انتصر فيها عليهم، ثم موقعة
«مخاضة الأحزان» سنة (575هـ)، ثم حدثت الهدنة بين الطرفين،
ولكن الصليبيين لم يكفُّوا عن محاولة السيطرة على «مصر» وبلاد
الشام، وظل «صلاح الدين» وفيا بعهده؛ لما عرف عنه من
الشجاعة والمروءة والمحافظة على العهد، إلى أن نقض
«أرناط» حاكم «حصن الكرك» الهدنة معه فى سنة (583هـ)،
وهاجم إحدى قوافل الحج، فكانت هذه الجريمة هى الشرارة
التى أشعلت نار الحرب بين الفريقين، فقد غضب «صلاح الدين»
من هذا العمل الوحشى، خاصة وأن القافلة كانت فى طريقها
إلى حج بيت الله الحرام، فهدد «صلاح الدين» «أرناط» وأنذره
بالقتل إذا تمكن منه، وأعد عدته لقتال الصليبيين، ووافته
الإمدادات من المدن الشامية والمصرية، وسار إلى «طبرية»
وحاصرها، فلما علم الصليبيون باستعداداته الحربية اجتمعوا
ببلدة تُدعى «صفورية» ، وتناقشوا فى خطة الحرب الواجب
اتباعها إزاء «صلاح الدين» ، واستقر رأيهم على هجوم
المسلمين، وتقدموا واحتلوا تلا على مقربة من «حِطِّين» فى
الوقت الذى تمكن فىه «صلاح الدين» من السيطرة على مدينة
«طبرية» باستثناء قلعتها التى استعصت عليه، فتركها ومضى
لملاقاة الصليبيين. وفى سنة (583هـ = يولية 1187م) دارت
الموقعة الحاسمة بين جيش المسلمين بقيادة البطل الشجاع
«صلاح الدين» وبين الصليبيين، فشن جيش المسلمين حملة هزت
جنبات «حطين» ، وكان نداء «الله أكبر» و «لا إله إلا الله محمد
رسول الله» حافزًا قويا ومؤثرًا فى دخول الجنود المعركة ولا هم
لهم إلا النصر أو الشهادة، فنصرهم الله نصرًا مؤزرًا، ونال
الصليبيون هزيمة ساحقة، وفر مَنْ بقى منهم هربًا، فسجد
«صلاح الدين» شكرًا لله على ما منحه من نصر، وكان هذا
الانتصار فاتحة خير على المسلمين، وبداية لسلسلة من
الانتصارات على الصليبيين، واستسلمت «قلعة طبرية» وسلمت
لصلاح الدين عقب هذا الانتصار، واتجه «صلاح الدين» صوب
الساحل وحاصر «عكا» حتى استسلمت بعهد وأمان، ثم تتابع
-بعد ذلك - استسلام باقى المدن الساحلية التى تقع جنوب
«عكا» وهى: «نابلس» و «الرملة» و «قيسارية» و «أرسوف»
و «يافا» و «بيروت» ، وكذا المدن الواقعة شمال «عكا» مثل:
«الإسكندرونة» ، وكلها حصلت على العهد بالأمان من «صلاح
الدين» الذى لم يبق أمامه سوى أن يمضى فى طريقه إلى
«فلسطين» ، فاستسلمت «عسقلان» له أثناء مروره بها، وحانت
المواجهة الحاسمة لتحرير «بيت المقدس» . الفتح المبارك: شاءت
إرادة الله أن يكون تحرير «المسجد الأقصى» - أولى القبلتين
وثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - - على يدى البطل الشجاع «صلاح الدين الأيوبى» ، الذى
حاصر مدينة «بيت المقدس» حتى اضطر مَنْ بداخلها إلى
الاستسلام وطلب الصلح، فأجابهم «صلاح الدين» إلى طلبهم
وأمهلهم مدة أربعين يومًا للجلاء عن المدينة ومعهم أمتعتهم،
وترك بسماحته زوجة «أرناط» تخرج من المدينة بسلام مع مَن
خرج، ولم يتعرض «صلاح الدين» لأحد بسوء، وسمح لبطريق
المدينة بالخروج مثل باقى الأهالى الذين حملوا معهم ثرواتهم
وكنوزهم وتحفهم، ودخل «بيت المقدس» ، وبدأ على الفور فى
إصلاحها، ورمَّم «المسجد الأقصى» ، وأقام فيه فترة بعد أن
حرره من المغتصبين المستعمرين، ليعلو صوت الحق والعدل من
جديد، ويصبح «صلاح الدين» ثانى القادة الفاتحين - الذين دخلوا
هذه المدينة - بعد «عمر بن الخطاب» - رضى الله عنه-الذى فتحها
الفتح الأول. صلح الرملة: أوشكت الأمور على الاستقرار بعد
الانتصارات العظيمة التى حققها «صلاح الدين الأيوبى» ، ولكن
أوربا أرادت أن تحول دون تحقيق ذلك، وأرسلت حملة من أقوى
الحملات الصليبية وأكثرها عددًا وعدة وعتادًا؛ ضمت ملوك أوربا
بعد أن دعا البابا إلى حرب المسلمين، وأعلن قدسية هذه
الحرب، فتشكلت حملة من «ألمانيا» وأخرى من «فرنسا» وثالثة
من «إنجلترا» ، وخرجت جميعها فى طريقها إلى العالم الإسلامى
لتخريبه، فوقف «صلاح الدين» صامدًا أمام هذه الحملات الكبيرة
التى أتت من البر والبحر، واستطاعت السيطرة على المناطق
الساحلية، ومع ذلك عمد «صلاح الدين» إلى تقوية جيشه وتنظيم
جبهته الداخلية على الرغم من مرضه، فطلب الصليبيون الصلح
الذى عُرف بصلح الرملة، وبدأت المفاوضات بين «الملك العادل»
نائبًا عن «صلاح الدين» ، و «ريتشارد» قائد حملة الصليبيين،
واتفق الطرفان على «صلح الرملة» الذى كان من أهم شروطه: أ
- تخريب «عسقلان» ؛ لأنها مفتاح «بيت المقدس» . ب - يحكم
الصليبيون الساحل من «صور» إلى «يافا» ، ويكون جنوبى ذلك
الساحل لصلاح الدين، على أن يقع «بيت المقدس» فى حدوده
وتحت سيطرته. ج - يُسمَح للمسيحيين بالحج إلى «بيت المقدس»
فى أمن وأمان. وهكذا اتفق الطرفان على بنود هذا الصلح
التاريخى، ليكون بداية مرحلة جديدة لهذه البلاد، التى فقدت
قائدها «صلاح الدين» عقب هذا الصلح، ليأخذ الصراع مع
الصليبيين وضعًا آخر. وفاة صلاح الدين الأيوبى: خرج «صلاح
الدين» من «القاهرة» لآخر مرة فى طريقه إلى الشام سنة
(578هـ)، لتوحيد صفوف المسلمين وإعدادهم لقتال الصليبيين،
وعلى الرغم من طول فترة حكمه التى بلغت أربعة وعشرين
عامًا فإنه لم يمكث فى مصر سوى ثمانى سنوات فقط، فلما
أراد مغادرة «القاهرة» فى المرة الأخيرة، خرج رجال القصر
لتوديعه عند بركة الجيش وأنشده أحد الشعراء شعرًا استاء منه،
وشعر أنه لن يرى «مصر» ثانية، وقد صح حدسه؛ إذ مرض أثناء
مفاوضاته مع الصليبيين فى «صلح الرملة» ولزم فراشه؛ ثم لقى
ربه فى سنة (589هـ = 1193م)، وله من العمر خمسة وخمسون
عامًا، بعد أن أسر الناس بجليل أعماله، وقهر الصليبيين
بشجاعته، وخلَّص العالم الإسلامى بقوة إيمانه من كوارث داخلية
وخارجية كادت تودى به وتوقعه فى أيدى الأعداء. يُعدُّ «صلاح
الدين» من الشخصيات العظيمة النادرة فى التاريخ الإسلامى،
فقد كان سياسيا ماهرًا، وقائدًا محنكًا نبيلا، مخلصًا فى
تصرفاته، ميالا إلا التسامح والعفو، محبا للعلم والأدب، وفيا مع
أصدقائه وأعدائه على السواء. خلفاء صلاح الدين [589 - 648هـ
= 1193 - 1250م]: بعد وفاة «صلاح الدين» انقسمت السلطنة
الأيوبية بين أبنائه الثلاثة وأخيه وبعض أقاربه، فاستقل ابنه
«العزيز» بمصر، واستقل ابنه «الأفضل» بدمشق و «وسط
سوريا»، وابنه «الظاهر» بحلب، أما أخوه «العادل» فحكم
«العراق» و «ديار بكر» و «الرها» ، وتولَّى أبناء عمومته «حماة»
و «حمص» و «بعلبك» و «اليمن» ، وهكذا قضى أبناء «صلاح
الدين» وأقاربه على وحدة الدولة، ولم يفهموا الهدف الذى سعى
طيلة حياته من أجل تحقيقه. العزيز عماد الدين [589 - 595هـ =
1193 -
1199م]: خلف «صلاح الدين» على عرش «مصر» أصغر
أبنائه «الملك العزيز» ، وكان شابا فى الحادية والعشرين من
عمره، يتصف بالشجاعة والرحمة والعفة والأخلاق الحميدة،
وحكم «مصر» فى حياة أبيه «صلاح الدين» نيابة عنه، ومكَّنه
ذلك من اعتلاء عرشها عقب وفاته، إلا أنه كان يفتقد إلى الدراية
السياسية فى تسيير أمور البلاد واستقرار أحوالها، فاستعان
بعمه «العادل» واستوزره ليقوم بهذه المهمة، ومات «العزيز»
فى سنة (595هـ). المنصور ناصر الدين [595 - 596هـ = 1199 -
1200م]: خلف «العزيز» ابنه «الملكُ المنصور» وهو طفل فى
التاسعة من عمره، فحكم «مصر» مدة سنة وتسعة أشهر، فرأى
«الملك العادل» أن الدولة أوشكت على الانهيار تحت حكم الملك
الطفل، فجمع العلماء والفقهاء فى مجلس للتشاور فيما يجب
فعله، فقرر الجميع وجوب خضوع الصغير للكبير، وتولى
«العادل» عرش «مصر» ، فأصبحت تحت يده أهم أجزاء دولة
«صلاح الدين» ، واعترفت الولايات بسيادته، وساهمت فى
حروبه، وضربت «السكة» باسمه، وخُطب له فوق كل المنابر
الإسلامية السلطان العادل سيف الدين [596 - 615هـ = 1200 -
1218م]: يعد «العادل» أعظم سلاطين الأيوبيين بعد «صلاح
الدين»، فقد اكتسب خبرة واسعة من اشتراكه مع أخيه «صلاح
الدين» فى غزواته ومفاوضاته وإدارة الأقاليم، إذ وكل إليه
«صلاح الدين» معاونة «العزيز» فى حكم «مصر» ، كما عهد إليه
بحكم «حلب» ، ثم «العراق» ، وذاع صيت «العادل» بين ملوك
«أوربا» ، واشتهر بالكفاءة والدهاء والدراية بشئون الحكم، ولم
يتأخر فى حمل المسئولية حين رأى تدهور الأوضاع بمصر
وحاجتها إليه، فكان الرجل المناسب لتلك المرحلة. بعض
الصعوبات التى واجهت العادل: تأثر «العادل» تأثرًا بالغًا
بشخصية أخيه «صلاح الدين» ، فسار على نهجه فى إدارة
البلاد، رغم الصعوبات التى واجهته، فقد ثارت ضده طائفة
الشيعة الإسماعيلية مثلما ثارت من قبل فى وجه أخيه «صلاح
الدين»، وحاولت هذه الطائفة زعزعة ملك «العادل» وتفريق البلاد
وتشتيت الصفوف، فعمل «العادل» على الحيلولة دون حدوث
ذلك، وتمكن من القبض على عناصرها وسجنهم سنة (605هـ)،
فخرجت جماعة أخرى تنادى بتولية أحد أبناء «صلاح الدين»
أمور الدولة، وكان هذا الابن لايزال طفلا صغيرًا، فاستطاع
«العادل» التغلب عليهم وإعادة الاستقرار إلى بلاده، إلا أن
انخفاض مياه النيل كان إحدى العقبات الطبيعية التى واجهته،
فقد حدثت بسببه مجاعة وقحط شديدان؛ نتيجة قلة الزراعة، كما
أن الحملات الصليبية لم تهدأ فى عهده؛ إذ لم ترضَ «أوربا» عن
استقرار أحوال البلاد الإسلامية، فعملت على زعزعتها، وأرسلت
حملة صليبية هاجمت «مصر» ووصلت إلى «دمياط» وحاصرت
حصونها، ثم تمكنت منها، واستولت على برجها الحصين «برج
السلسلة»، يضاف إلى ذلك كله العقبات الداخلية التى واجهت
«العادل» أثناء حكمه لمصر. وفاة العادل: على الرغم مما واجهه
«العادل» من صعاب داخلية وخارجية فى الحكم، فقد اتسع ملكه
إلى حد كبير، وقلَّده الخليفة العباسى بمرسوم رسمى حكم
«مصر» والشام وأرض الجزيرة، وخلع عليه الخلع الثمينة، فوزع
«العادل» حكم مملكته الواسعة بين أبنائه التسعة عشر نيابة
عنه؛ ليضمن وحدتها وتماسكها، فأناب ابنه «الكامل» عنه فى
«مصر» ، وجعل «المعظَّم عيسى» على الشام، و «نجم الدين
أيوب» على «ميافارقين» ونواحيها، وأناب ابنه «الأشرف
مظفر» على «الولايات الشرقية» . وقد ضمن «العادل» وحدة
دولته فى حياته، إلا أنه تركها إرثًا موزعًا بين أبنائه بعد
وفاته، فكان لذلك أثره الخطير فى قوة الدولة وتماسكها.
وحين سمع «العادل» بسقوط «برج السلسلة» بدمياط حزن حزنًا
شديدًا، فمرض ومات سنة (615هـ)، وكتم أصحابه خبر موته
ونقلوه إلى «دمشق» ، حيث تولى ابنه «الكامل» حكم «مصر» .
كان «العادل» حاكمًا عادلا، ذكيا، حليمًا، حسن التدبير، محبًا
للعلماء والأدباء ومشجعًا لهم، كما كان سياسيا محنكًا، قام
برحلات عديدة جاب بها أطراف مملكته الشاسعة، كى يضمن
استتباب الأمن والنظام، كما كان متفقدًا لأحوال أبنائه فى
الأقاليم التى أنابهم عنه فى حكمها. الكامل ناصر الدين [615 -
635هـ = 1218 - 1237م]: حكم «الكامل» «مصر» نيابة عن أبيه
«العادل» فى حياته، فلما مات استقل الكامل بحكم «مصر» فى
ظروف حرجة، إذ كان الصليبيون منتصرين فى «دمياط» ، وكان
عليه دحر هذا الانتصار الذى أدى إلى موت أبيه كمدًا، وخرج
عليه عدد من الأمراء لعزله فى الوقت الذى يتصدى فيه للصليبيين
بدمياط، فتمكن من التغلب عليهم، ولكن الصليبيين استغلوا حالة
التمرد والتفكك الداخلى واستولوا على «دمياط» ، إلا أن
«الكامل» استطاع توحيد بلاد المسلمين، وتمكن من دخول
«نابلس» ، وتحرير «بيت المقدس» ، واتسع ملكه لدرجة جعلت أئمة
المساجد يدعون له من فوق المنابر بقولهم: «سلطان مكة
وعبيرها، واليمن وزبيرها، ومصر وصعيدها، والشام
وصناديدها، والجزيرة ووليدها، سلطان القبلتين، ورب
العلامتين، وخادم الحرمين الشريفين». ورث عن أبيه صفاته
الطيبة، فكان قائدًا قديرًا، وسياسيا بارعًا، وإداريا نشيطًا،
حازمًا يدير أمور دولته بنفسه، لدرجة أنه لم يعين وزيرًا بعد
وفاة وزير أبيه، وقام بالأمر بمفرده، وكان محبا للحديث،
مشجعًا للعلماء والأدباء، فقد كان عالمًا، ينظم الشعر ويجيده.
ظل فى حكم البلاد التى تحت يديه حتى وفاته سنة (635هـ)،
فأخذت الدولة فى الضعف والانحلال من بعده. العادل الثانى
[635 - 637هـ = 1237 - 1240م]: يُطلَق اسم «العادل الصغير» أو
«العادل الثانى» على هذا السلطان، تمييزًا له عن الملك
«العادل» أخى «صلاح الدين» ، وقد كان «العادل الثانى» نائبًا
عن أبيه «الكامل» فى حكم «مصر» ، فلما مات أبوه أصبح
سلطانًا على «مصر» ، ولكن اضطراب الأوضاع، وضعف الدولة
جعلاه لا يستمر طويلا فى حكم البلاد، فتولى أخوه «الصالح
نجم الدين أيوب» الحكم من بعده. الصالح نجم الدين أيوب
(637 - 647هـ = 1240 - 1249]: ورث «الصالح نجم الدين أيوب»
عرشًا مضطربًا، مزعزع الأركان جلب عليه الكثير من المشاكل
والمتاعب، فدبر أموره، وأعد عدته وتمكن من القضاء على
أكثر هذه المصاعب التى واجهته رغم شدتها، فلما تم له ما أراد
تحول بقوته إلى مواجهة الصليبيين، ولم يألُ جهدًا فى جهاده
ضدهم، واستطاع استعادة «بيت المقدس» ثانية من قبضتهم،
فاستقرت له الأحوال، وحل السلام بينه وبين أمراء مملكته،
وتفرغ لمواصلة جهاده ضد الصليبيين؛ أملا منه فى تحرير البلاد
كافة من أطماعهم. بداية المماليك: أكثر «الصالح نجم الدين
أيوب» من استجلاب المماليك لمساعدته فى حروبه ضد
الصليبيين، فنبغ منهم عدة أشخاص كان لهم أكبر الأثر فى
تغيير مجرى السياسة المصرية، ومنهم «شجرة الدر» الأرمينية
الأصل، والتى كانت أم ولد للصالح نجم الدين أيوب، ولازمته فى
حياة أبيه «الكامل» ، وظلت معه بذكائها حتى أنجبت من
«الصالح أيوب» ابنه «خليل» فتوطدت مكانتها، فلما أصبح
سلطانًا على «مصر» اتخذها إلى جواره ملكة غير متوَّجة، فقد
كانت تعمل على راحته، ووجد فيها ما يحبه. وفاة الصالح نجم
الدين أيوب: مات «الصالح أيوب» فى ليلة النصف من شعبان سنة
(647هـ)، وكانت الحرب لاتزال دائرة بين المسلمين والصليبيين
أمام «المنصورة» ، فأعملت «شجرة الدر» عقلها وتجلى
ذكاؤها، وأخفت خبر وفاته عن الناس فى تلك الفترة العصيبة
من تاريخ «مصر» و «الشام» ، وأمرت أحد أطبائه بغسل جثمانه
ووضعه فى تابوت، ثم حمله فى الظلام إلى «قلعة الروضة» ، ثم
إلى «قبو» بجوار المدرسة الصالحية ودفنه هناك، وأخبرت
الأمراء أن «السلطان مريض لا يصل إليه أحد» ، ولم تعلن خبر
وفاته إلا بعد انتصار المسلمين على الصليبيين، ورد حملتهم،
فاستمر العزاء ثلاثة أيام بلياليها بمدرسته، وبعثت «شجرة الدر»
بالسناجقة السلطانية، وأمرت بأن تُعلَّق داخل القاعة على ضريح
«الملك الصالح» ، ليرى الزائر آلات الجهاد التى كان يحملها آخر
سلاطين «بنى أيوب» فى جهاده ضد الصليبيين فى معركة
«المنصورة» ، فقد كان «الصالح أيوب» من أعظم سلاطين
«مصر» وأشجعهم. المعظم توران شاه [647 - 648 هـ = 1249 -
1250م]: قبل أن تعلن «شجرة الدر» عن وفاة الملك «الصالح
أيوب» أرسلت فى استدعاء ابنه «توران شاه» الذى كان غائبًا
عن «مصر» ، فقد كان فى «حصن كيفا» ، وقبل وصوله أصدرت
أوامرها للأمراء وأكابر رجال الدولة بأن يحلفوا يمين السلطنة
لتوران شاه، وأمرت خطباء المساجد بالدعاء له، وأدارت
«معركة المنصورة» حتى وصل «توران شاه» ، فتسلم قيادة
الحرب وزمام الملك، ولم يمكث على عرش السلطنة أكثر من
شهرين، ثم خرج لملاقاة الصليبيين الذين دخلوا «المنصورة» ،
وأخذوا يتقدَّمون نحو «القاهرة» ، فتصدَّى لهم، وقاد المعركة
بمهارة فائقة حتى تم النصر للمسلمين، فأحبه الناس وقدروه، إلا
أن سيرته لم تكن حسنة، فقتل سنة (648هـ). نهاية الدولة
الأيوبية: تولت «شجرة الدر» زمام سلطنة «الأيوبيين» فى «مصر»
لمدة ثمانين يومًا عقب مقتل «توران شاه» ، ثم تزوجت «عز الدين
أيبك» التركمانى، وتنازلت له عن العرش بسبب المشاكل التى
واجهتها، وعدم رضى الخليفة العباسى عن توليها السلطنة،
ولكن «عز الدين» كان رجلا ضعيف الرأى، فأسدل الستار على
الدولة الأيوبية، إحدى أعظم الدول الإسلامية فى العصور
الوسطى، بعد أن نالت مكانة عظيمة فى تاريخ المسلمين، وبدا
فى الأفق ظهور دولة جديدة فى تاريخ المسلمين هى دولة
المماليك. النظم والحضارة فى العصر الأيوبى النظام السياسى:
كان السلطان الأيوبى يطلب من الخليفة العباسى - بصفته الرئيس
الأعلى لبلاد المسلمين - تفويضًا يجعل حكمه فى «مصر» شرعيا،
رغم أن سلطان الأيوبيين على البلاد التى تحت أيديهم كان
سلطانًا مطلقًا، ولم تكن للخلافة العباسية عليه أية نفوذ، ولكن
سلاطين الدولة الأيوبية حرصوا على الحصول على هذا التفويض
دومًا، وكان «الناصر صلاح الدين» أول مَنْ اتشح بخلعة الخليفة
العباسى من سلاطين «مصر» الأيوبيين. ألقاب السلطان
وأعماله: يُعدُّ «صلاح الدين» أول مَنْ اتخذ لقب السلطنة من حكام
«مصر» ، وقد حصل على لقب «سلطان» ، ولقب: «محىى دولة
أمير المؤمنين» لأعماله الجليلة التى قام بها فى نشر المذهب
السنى والقضاء على المذهب الإسماعيلى الشيعى، ونجاحه فى
مناهضة الصليبيين وصدهم عن بلاد المسلمين، ومع ذلك فقد كان
«صلاح الدين» رجلا متواضعًا، واتخذ من لقب: «السلطان الملك
الناصر» لقبًا للتعامل، رغم حصوله على ألقاب عديدة تحمل فى
طياتها معانى العظمة والأبهة والجاه مثل: «السيد العالم العادل
المظفر المنصور، ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين،
وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك، إسكندر الزمان،
صاحب القبلتين، خادم الحرمين الشريفين، سيد الملوك
والسلاطين»، ومما لاشك فيه أن هذه الألقاب تبين عظمة ما بلغه
سلاطين الدولة الأيوبية، خاصة أن لكل لقب من هذه الألقاب
موقفًا عظيمًا وحادثًا جللا خاضه السلطان فمُنح اللقب على إثره.
دُوِّنت الألقاب فى الرسائل التى تُبودلت بين السلاطين وملوك
«أوربا» وفى الكتابات التاريخية، وعلى السكة والعمائر،
والتحف الفنية، وفهارس دار الآثار العربية. كان السلطان يقيم مع
أسرته وحاشيته ورجال بلاطه فى «قلعة الجبل» ، وهو رئيس
الدولة الأعلى الذى له الحق فى الهيمنة على شئون الأمراء
الخاصة والعامة، وفى تدرجهم الوظيفى، وفى توزيع الإقطاعات
والجنود عليهم وتحديد أنصبتهم، وكان على السلطان تعيين
موظفى الدولة وعزلهم، وتأديبهم والنظر فى المظالم وقيادة
الجيوش فى الحروب. وكان للدولة الأيوبية مجلس شورى تُقَرُّ من
خلاله مشروعات الدولة الحيوية كإعلان حرب أو إبرام صلح أو
إصلاح لهيكل من هياكل الدولة، وكان هذا المجلس يُسمَّى:
«مجلس السلطنة» ، وكان أعضاؤه من كبار موظفى الدولة
للاستئناس بآرائهم ومشورتهم قبل الإقدام على تنفيذ
المشروعات والخطط، ويتولى «أمير مجلس» -الذى يشبه منصبه
منصب كبير الأمناء - الآن - الأمور الخاصة بمجلس السلطنة، وله
حق التصرف فى شئون البرتوكول، كما كان يتمتع بالجلوس فى
حضرة السلطان بحكم هذه الوظيفة. نائب السلطان: نيابة
السلطنة وظيفة استحدثها السلاطين الأيوبيون، فأصبح النائب
كأنه سلطان ثانٍ، ويشترك مع السلطان فى منح لقب الإمارة،
وتوزيع الإقطاعات، وتعيين الموظفين، وتوقيع المراسيم
والمنشورات، وتنفيذ القوانين، والخروج على رأس فرق الجيش
فى المواكب الرسمية، يحف به الأمراء عند دخوله أو خروجه من
قصر السلطان، وكان يُلقَّب بكامل المملكة الشريفة الإسلامية، لأن
من اختصاصاته تصريف أمور الدولة عامة سواء أكان السلطان
بالقاهرة أم كان متغيبًا عنها. وهناك نوع آخر من النيابة يقول
عنه «المقريزى» : «يقوم النائب فيها بمهام الدولة إذا خرج
السلطان إلى الصيد، أو سار على رأس الجيش فى حرب
خارجية». الوزير: اتخذ سلاطين الدولة الأيوبية فى «مصر» وزراء
لم يحددوا سلطتهم، ولم يجعلوها مقصورة على التنفيذ، بل
جعلوها سلطة مطلقة، فأصبحت الوزارة أعلى الوظائف
وأرفعها، وأصبح صاحبها باب الملك المقصود، ولسانه الناطق،
ويده المعطاءة. النظام القضائى فى عهد الأيوبيين: فى سنة
(564هـ) افتتح الناصر «صلاح الدين» مدرستين لتدريس الفقه،
وجعل إحداهما لتدريس الفقه الشافعى، وجعل الأخرى للفقه
المالكى، وفصل جميع القضاة الشيعة، وعين بدلا منهم قضاة من
الشافعية السنيين، فاقتصر القضاء على مذهب الإمام
«الشافعى» ، كما أن قاضى الشافعية «صدر الدين درباس» لم
يُنب عنه فى أقاليم «مصر» إلا من كان شافعيا، ومن ثم انتشر
المذهب الشافعى فى «مصر» وما يتبعها من أقاليم. وكان الذى
يتولى منصب القضاء فى «القاهرة» وسائر أعمال الديار
المصرية، فى عهد الأيوبيين قاضٍ واحد هو بمثابة قاضى
القضاة، وله حق إنابة نواب عنه فى بعض الأقاليم. أعوان
القاضى: كان للقاضى فى عهد الأيوبيين أعوان يساعدونه على
العدل فى الحكم وإعادة الحقوق إلى أصحابها، فكان منهم
«الجلواز» الذى يستعين به القاضى على تنظيم قاعة الجلسة،
وحفظ النظام، وترتيب الخصوم وفق ترتيب حضورهم، ومنعهم من
التقدم إلى القاضى فى غير دورهم، ومراعاة الآداب فى مجلس
القضاء. ومنهم «الأعوان» ومهمتهم إحضار الخصوم إلى
المحكمة، والقيام بين يدى القاضى عند نظره فى الخصومات
إجلالا لمركزه .. ومنهم «الأمناء» ومهمتهم حفظ أموال اليتامى
والغائبين. ومنهم «العدول» ومهمتهم مراعاة دقة عبارات
السجلات والعقود ومطابقتها للشرع، وتزكية الشهود. وقد
استقرت النفوس وهدأت فى ظل هذا النظام القضائى المنضبط،
لأن القضاء العادل من شأنه أن يجعل الناس سواء، خاصة أن
مصادر القضاء الإسلامى المتمثلة فى القرآن والسنة وإجماع
العلماء والاجتهاد كانت هى الأسس التى سار عليها قضاة ذلك
العصر، فقلَّت المظالم، واستقرت أحوال البلاد. التطور
الاقتصادى فى العهد الأيوبى: تأخذ الأمم القوية بأسباب قوتها،
وتعمل على استثمار الإمكانات المتاحة لها لتنمية ثرواتها، لذا
فإن تقدم الأمم وقوتها مرتبط بنجاح اقتصادها وقوته واستمرار
روافده، وكانت الدولة الأيوبية إحدى الدول القوية ذات الاقتصاد
القوى، فقد امتلكت ما تركه الفاطميون عقب سقوط دولتهم،
ونظمت الخراج والجزية، بالإضافة إلى غنائم حروبها وفدية
الأسرى، واستخدمت هذه الموارد لصالح البلاد الإسلامية كافة،
وأنفقت على تسليح الجيش وإعداده جزءًا كبيرًا منها، وبنت
القلاع والحصون، وقامت بالإصلاحات الداخلية فى البلاد. غَيَّر
«الناصر صلاح الدين» النظام الاقتصادى الذى كان سائدًا قبله،
وقلل من النظام الإقطاعى، فقضى بذلك على استقلال أمراء
الإقطاعات، وقوَّى الحكومة المركزية، فكان لهذا أثره الكبير
فى ازدهار حالة البلاد الاقتصادية. وقد أولى «الأيوبيون»
الزراعة عنايتهم؛ فهى عماد حياة البلاد، فطهَّروا الترع،
وأقاموا الجسور، ونظموا وسائل الرى، لدرجة أن السلطان
«الكامل» كان يراقب المهندسين بنفسه أثناء إقامتهم السدود
والخزانات، وغير ذلك من أعمال الرى الخاصة، فنشطت الزراعة
دون أن تؤثر الحروب عليها، فقد كانت حروب الأيوبيين تتوقف
فى «سوريا» شتاءً، وهو موسم الزراعة فى «مصر» . ونشطت
التجارة كما ازدهرت الزراعة فى العصر الأيوبى، وأصبحت
«مصر» -آنذاك - همزة الوصل بين تجارة الشرق والغرب، وعقد
السلطان «العادل» معاهدة تجارية مع «البندقية» فى سنة
(605هـ = 1208م)، حصل البنادقة بمقتضاها على تسهيلات
تجارية فى الموانى المصرية، خاصة «الإسكندرية» ، فى مقابل
أن يمنعوا الصليبيين، من التقدم نحو «مصر» ، فلما ولى السلطان
«الكامل» حكم البلاد أقر ما اتفق عليه السلطان «العادل» مع
أهل «البندقية» ، وسمح لهم بتأسيس سوق تجارية فى
الإسكندرية، سُمِّيت «سوق الأيك» ، ومنح الامتيازات نفسها لأهل
«بيزة» الذين أرسلوا قنصلا لهم إلى «الإسكندرية» ، فأدت هذه
الخطوات إلى ازدهار التجارة وانتعاش الاقتصاد، وزيادة دخل
الدولة. وجدير بالذكر أن «مصر» مرت بانتكاسة اقتصادية فى
عهد «العادل» نتيجة انخفاض مياه النيل الذى ترتب عليه قلة
الزراعة، فحدثت المجاعة واشتد القحط، وبذل «العادل» جهودًا
كبيرة لمواجهة هذه الأزمة، فكان يخرج بنفسه أثناء الليل
ويوزع الأموال على الفقراء والمساكين والغرباء، ولكن الموقف
ازداد سوءًا وتفاقم خطره حين وقع زلزال مروِّع وقت المجاعة
هدم كثيرًا من المبانى، وأزهق أرواحًا لا تُحصَى فى «مصر»
والشام، ولكن الأوضاع سرعان ماعادت إلى طبيعتها بعد زيادة
مياه النيل سنة (601هـ = 1204م)، فزادت الغلال وخفت المجاعة،
وانتهى أمر النكبة بعد أن تكاتف الجميع للقضاء عليها وإعادة
الاقتصاد إلى سابق عهده؛ ليتتابع الكفاح ضد الصليبيين من
جديد. وهكذا كان اقتصاد الدولة الأيوبية اقتصادًا منظمًا زادت
فيه موارد الدولة وشعر الجميع بانتعاش اقتصادى عَمَّ أرجاء
البلاد. النظام الحربى فى عهد الأيوبيين: كانت حياة الأيوبيين
سلسلة متتابعة من الجهاد والنضال والقتال، ولذا كان اهتمامهم
بالجيش وعنايتهم بأمره، لدرجة أن سلاطين «بنى أيوب» أنفقوا
معظم إيرادات الدولة على إصلاح الجيش، وبناء ما يلزمه من
الحصون والقلاع، فلعب الجيش دورًا خطيرًا خلال تلك الحقبة من
التاريخ الإسلامى. تألف معظم الجيش الأيوبى من الترك والأكراد،
وكان له «مجلس حرب» اعتاد السلطان أن يستشيره فى الخطط
التى يجب أن تُتبع، وكان يخضع لرأى المجلس مهما يكن. قسم
الأيوبيون الجيش إلى عدة فرق، تُنسَب كل منها إلى أحد القواد
العظماء، فكانت هناك فرقة «الأسدية» نسبة إلى «أسد الدين
شيركوه»، و «الصلاحية» نسبة إلى «صلاح الدين» .. إلخ، وكان
لأمراء هذه الفرق نفوذ كبير، وكان الجيش مكونًا من الفرسان
والمشاة، وكانت أسلحته من السهام والرماح والنبال والنار
اليونانية. ألَّف «الصالح أيوب» جيشه من الأتراك والمماليك الذين
استكثر من شرائهم، وبنى لهم قلعة بجزيرة الروضة جهزها
بالأسلحة والآلات الحربية والأقوات، وأسكنهم فيها، وعُرفوا منذ
ذلك الحين باسم المماليك البحرية، وقد أسسوا دولة -فيما بعد-
عُرِفَت باسمهم. البحرية فى العهد الأيوبى: لم يقتصر إعداد
«صلاح الدين» على الجند فى البر وتحصين البلاد، بل وجه
اهتمامه إلى سلاح البحرية الذى بلغ درجة عظيمة من التقدم،
واهتم بتأسيس الأسطول اهتمامًا كبيرًا خاصة أن الصليبيين كانوا
يستخدمون البحر فى هجومهم على البلاد الإسلامية، ومن ثَمَّ
أصبح لزامًا على المسلمين الاستعداد لحملات الصليبيين البحرية،
فأعد «الناصر صلاح الدين» العدة لتأسيس وتكوين أسطول
إسلامى يستطيع مجابهة حملات الصليبيين المعتدين، وكانت
أولى خطواته فى ذلك: تخصيص ديوان كبير، عُرف باسم «ديوان
الأسطول». وأفرد له «صلاح الدين» ميزانية خاصة، وعهد به إلى
أخيه «العادل» . واستطاع «صلاح الدين» تكوين أسطول قوى
تمكن بواسطته من مواجهة الصليبيين، وأصبح هذا الأسطول من
أكبر الأساطيل فى ذلك الوقت، ورابط فى البحر الأحمر، وفى
شرق البحر الأبيض، وتمكن من تحقيق انتصارات هائلة. لم يألُ
الأيوبيون جهدًا فى سبيل تنظيم الجيش والأسطول، وليس أدل
على اهتمام السلاطين بالأسطول البحرى من أنهم كانوا
يشركون معهم الأهالى عند عرض الجيوش والأساطيل، أو عند
توديعهم للغزو، فقد كان قدر هذه الدولة أن تقوم بمحاربة
الصليبيين وردهم عن البلاد الإسلامية، فأدت هذه الأسباب فى
النهاية إلى وجود دولة قوية ذات سيادة، فرضت احترامها على
أصدقائها وأعدائها، وحررت بلاد المسلمين من الأعداء، لأنها
عرفت الأسباب التى تؤدى إلى القوة والازدهار. المنشآت
الحضارية فى العهد الأيوبى: رغم كثرة حروب العهد الأيوبى إلا
أنه كان حافلا بالإنشاءات العظيمة، فقد بُنيت فيه المدارس
والمستشفيات، ونُسِّقت الحدائق، وأُقيمت المنشآت الحربية
للدفاع عن الدولة أو للهجوم على العدو طبقًا لظروف الدولة
الحربية، وكان من أهم هذه الإنشاءات الحربية وأولها: - قلعة
الجبل: وتُعدُّ من أبرز ما خلَّفه الأيوبيون من منشآت فى
«القاهرة» ، فمازالت شاهد صدق على عظمة هذه الدولة إلى
اليوم، وإن الناظر إليها ليدرك مدى عناية الأيوبيين بالمنشآت
والقلاع الحربية التى كانت منتشرة فى بلادهم، خاصة المدن
الشامية التى هى خط الدفاع والهجوم الأول للدولة، لم يكن بناء
«قلعة الجبل» مجرد تقليد أو مظهر أراده «صلاح الدين» ليظهر
به، وإنما بناها لتكون مقرا لحكومته، ومعقلا لجيشه الكبير،
وحصنًا يمكِّنه من الإشراف على حاضرة دولته. ويحميه من
القلاقل الداخلية، وكذلك لتكون نقطة دفاعية يصد منها غارات
المغيرين على «مصر» سواء أكانوا من الصليبيين أم غيرهم. وقد
استخدم «صلاح الدين» الأسرى فى تشييد قلعته، ومع ذلك لم
يتمكن من إتمام تشييدها فى عهده، فلم يتم منها سوى الهيكل
والبئر الحلزونى. وكانت بالقلعة - على الرغم من ارتفاعها - بئر
عمقها تسعون مترًا، مملوءة بالماء العذب، مثقوبة فى الحجر،
بأسفلها سواقٍ تدور فيها الأبقار، فتنقل الماء إلى وسطها الذى
توجد فيه أبقار تنقل بدورها الماء إلى أعلاها، ويُعدُّ هذا البئر
من أعجب الآبار، ويعرف باسم «بئر يوسف» نسبة إلى «صلاح
الدين يوسف بن أيوب». أتم السلطان «الكامل محمد» بناء
«القلعة» فى سنة (604هـ)، ثم انتقل من دار الوزارة إليها. وكان
للقلعة سور، وأبراج، وثلاثة أبواب، أحدها من جهة «القرافة»
و «جبل المقطم» ، والثانى من جهة جدارها البحرى ويُعرَف باسم
«باب السر» ، والثالث يقع مدخله فى أول الجانب الشرقى من
القلعة، ويصل الداخل منه إلى فناء مستطيل به دواوين الحكومة،
وبهذا الفناء باب يُسمَّى: «باب القبلة» ، وتمتد منه دهاليز
فسيحة، وعلى يسار الداخل منها باب يوصل إلى جامع الخطبة
وهو من أعظم الجوامع لاتساع أرجائه، وكثرة زخرفته، وفى
وسطه قبة تليها مقصورة ليصلى فيها السلطان صلاة الجمعة،
وبصدر الدهاليز مدخل يوصل إلى الإيوان الكبير الذى نُصب به
سرير الملك؛ وهو منبر من الرخام، وتمتد من هذا الإيوان مساحة
كبيرة بها القصر الذى بناه «الظاهر بيبرس» فيما بعد. صارت
«قلعة الجبل» منذ تم بناؤها مقر الدواوين السلطانية ودور
الحكومة، فقد كانت حصينة جدا، وتشتمل على كثير من القصور،
والإيوانات، والطباق والأحواش، والميادين، والإصطبلات،
والمساجد، والمدارس، والأسواق، والحمامات، وكانت بها دار
الوزارة، وديوان الإنشاء، وديوان الجيش، ودار النيابة، وبيت
المال، وخزانة السلطان الخاصة، والدور السلطانية، وكذلك
الأبراج التى كان الخارجون على السلطان ونظام الدولة يُحبسون
بها. وكان نقش بابها: «بسم الله الرحمن الرحيم» . أمر بإنشاء
هذه القلعة الباهرة، المجاورة لمحروسة القاهرة بالعرصة، التى
جمعت نفعًا وتحصينًا وسعة على من التجأ إلى ظل ملكه مولانا
الملك الناصر صلاح الدنيا والدين أبو المظفر يوسف بن أيوب
محىى الدولة أمير المؤمنين فى نظر أخيه وولى عهده الملك
العادل سيف الدين أبى بكر محمد خليل أمير المؤمنين، على يد
أمير مملكته ومعين دولته قراقوش عبدالله المكى الناصرى فى
سنة تسع وسبعين وخمسمائة». إنشاء المدارس: عُنى «صلاح
الدين» ببناء المدارس، فبنى مدرسة بالقرب من قبر الإمام
«الشافعى» بالقرافة، وبنى مدارس الناصرية والقمحية، وكذلك
نهج نهجه سلاطين «بنى أيوب» ، فأسس الملك «الكامل» مدرسة
دار الحديث الكاملية؛ نسبة إليه، وكانت عبارة عن بناء متجه
إلى القبلة، وفى وسطه صحن كبير مربع، وفى كل جانب من
جوانبه الأربعة إيوان، وتعلوها قبة تحتها محراب، ومن ثَمََّ لم
تختلف المدارس عن المساجد من حيث الهيئة والشكل. وكان
الطلبة يذهبون إلى تلك المدارس بانتظام لتلقى العلم مجانًا،
وكان سلاطين الدولة الأيوبية يهتمون بالمدارس وإنشاء المزيد
منها، ويوقفون عليها الأوقاف الكثيرة، ويرتبون لها الفقهاء
والعلماء لتدريس المذاهب الفقهية الأربعة، فكثرت بها المباحثات
والمناقشات بتشجيع من السلاطين الذين شُغفوا بالبحث العلمى،
كما كان منهم مَنْ ينظم الشعر ويجيده كالملك الكامل. تأسيس
المنصورة: يُعدُّ إنشاء مدينة «المنصورة» من الأعمال العظيمة
التى خلدت ذكر دولة الأيوبيين، فقد أنشأها السلطان «الكامل»
سنة (616 هـ = 1218م)؛ إذ قام بإنشاء مدينة على الشاطىء
الشرقى لفرع «دمياط» عقب سقوط «دمياط» فى أيدى «لويس
التاسع»، واتخذ «الكامل» المدينة الجديدة مركز دفاع له يقاوم
به الصليبيين. وبعد أن تمكن «الكامل» من استرجاع مدينة
«دمياط» من أيدى الصليبيين أطلق اسم «المنصورة» على مدينته
الجديدة تيمنًا بالنصر، ثم ما لبثت هذه المدينة الجديدة أن
اتسعت، واشتهرت منذ إنشائها بأنها مدينة حصينة، وكانت
سجن «لويس التاسع» ومَنْ كانوا معه حين تم أسرهم ووضعهم
بدار الحكمة، التى مازالت معروفة لدى العامة حتى اليوم باسم
«دار ابن لقمان» نسبة إلى «القاضى فخر الدين بن لقمان» الذى
كان ينزل بها كلما جاء إلى «المنصورة» . قلعة الروضة: بناها
السلطان «الصالح نجم الدين أيوب» فى جنوب «جزيرة الروضة»
سنة (638هـ)، وهى تشغل مساحة كبيرة من الأرض، وقد عُمِّرت
بالأبنية والقصور، وجُهزت بالأسلحة والمعدات والآلات الحربية.
وأنشأ فيها «نجم الدين» جامعًا، وشيد برجًا، وبنى لمماليكه
البحرية ثكنات لسكناهم، فلما تم بناؤها وتجهيزها انتقل إليها
مع أفراد أسرته ومماليكه البحرية، واتخذها مقرا لحكمه. وظلت
«قلعة الروضة» عامرة حتى زالت الدولة الأيوبية، وتولى «أيبك»
السلطنة، فأمر بهدمها، ونقل جميع ما بها إلى «قلعة الجبل»
التى أسسها «صلاح الدين» . عاصمة مصر فى العصر الأيوبى:
ربما يتبادر إلى الذهن سؤال حول عاصمة الأيوبيين، ولماذا لم
يعمد «صلاح الدين» إلى إنشاء عاصمة جديدة لدولته جريا على
سياسة مَنْ سبقوه من ولاة «مصر» وخلفائها؟ والإجابة: أن
«صلاح الدين» استن فى ذلك سنة جديدة، وضم «الفسطاط»
و «العسكر» و «أطلال القطائع» و «القاهرة» بعضها إلى بعضها
الآخر بقصد توسيع مدينة «القاهرة» وجَعْلها فى ثوبها الجديد
عاصمة لدولته، بعد أن أحاطها بسور عظيم طوله خمسة عشر
كيلو متر (15كم)، ومتوسط عرضه ثلاثة أمتار، وبنى واجهة هذا
السور من الحجر المنحوت وتتخلله الأبراج، ولاتزال بقاياه قائمة
حتى اليوم فى جهات متفرقة، وأظهر هذه البقايا موجود
بالفسطاط، وقد اقتضى ضم تلك العواصم إلى بعضها وإحاطتها
بالسور وبناء القلعة هدمَ المبانى الموجودة فى ضواحى
«القاهرة» من «مصر القديمة» إلى «السيدة زينب» ، وأقيمت
حدائق للفاكهة مكان هذه المبانى، كما أقيم سد من الحجارة
على حافة الصحراء بالجيزة؛ لحماية «القاهرة» من ناحية الغرب،
وأصبحت هذه العواصم مجتمعة - بعدما أُدخل عليها من تعديل -
عاصمة الدولة الأيوبية فى «مصر» آنذاك.