الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الموحدون (دولة)
لم تنعم «دولة المرابطين» بالهدوء والاستقرار منذ ظهور الداعية
«محمد ابن تومرت» على مسرح الأحداث، وقد نشأ «ابن تومرت»
نشأة دينية بقبيلة «هرنمة» إحدى قبائل المصامدة، ولكن ما
تلقاه من علوم فى وطنه لم يَرْوِ ظمأه، فسافر إلى المراكز
الثقافية المشهورة بالعالم الإسلامى، وبدأ رحلاته إلى «الأندلس»
فى مطلع القرن السادس الهجرى، ثم إلى المشرق مارَّا
بالإسكندرية، ومنها إلى «مكة» ثم إلى «بغداد» حيث التقى
هناك بأكابر العلماء أمثال «أبى بكر الطرطوشى» ، واستغرقت
رحلته فى طلب العلم نحو خمسة عشر عامًا مكنته من التزود بقدر
كبير من الثقافة والمعرفة، وتعرُّف أحوال العالم الإسلامى،
ومدى انقسام المسلمين وفرقتهم بالمشرق. وبعد أن عاد إلى
«المغرب» بدأ دعوته بمدن المغرب محاولاً إصلاح الأوضاع
الفاسدة وتغييرها. فوجدت دعوته قبولاً وترحيبًا من الجماهير،
ورفضًا شديدًا من الحكام؛ إذ رأوها خطرًا يهدد مصالحهم
ومراكزهم. والتقى «ابن تومرت» خلال هذه الرحلة بعبد المؤمن
بن على الذى أصبح من أخلص تلاميذه، وصاحبه فى كل مكان
يذهب إليه، ثم دخل «ابن تومرت» العاصمة «مراكش» فى منتصف
ربيع الأول سنة (515هـ= 1121م)، وقام بدوره فى الوعظ
والإرشاد، واعترض على سياسة الدولة فى بعض الأمور، فوصل
خبره إلى الأمير «على بن يوسف» الذى استدعاه، وجمع كبار
العلماء والفقهاء لمناظرته. وانتهى الأمر بطرده من العاصمة
خشية التأثير على العامة وإضعاف مراكز الفقهاء. وكانت
الحصافة السياسية تقتضى سجن هذا الداعية أو التحفظ عليه
لخطورته على الدولة، وهو ما تحقق عقب مغادرة «ابن تومرت»
«مراكش» ، إذ أعلن عن نياته فى مواجهة السلطة الحاكمة،
وخلعه الأمير «على بن يوسف» ، وبايعه مَن حوله إمامًا للدعوة
الجديدة فى سنة (515هـ= 1121م)، واتخذ من مدينة «تينملل»
مقرا له، ومركزًا لدعوته، وشرع فى تحقيق أهدافه السياسية
والدينية لإقامة خلافة إسلامية بالمغرب، ولم يدخر فى ذلك وُسعًا
ولا وسيلة إلا استغلها، وعمد إلى نشر دعوته بين السذج، وألَّف
لهم فى التوحيد والعقيدة بلغتهم البربرية حتى يسهل عليهم
التعلم، ويسهل عليه السيطرة عليهم، ومن ثم باتت له الكلمة
العليا فى كل شئونهم. شارك «ابن تومرت» فى الكفاح المسلح
ضد «دولة المرابطين» ، وتذكر المراجع أنه اشترك فى تسع
غزوات، وكانت معركة «البحيرة» التى أصيب فيها الموحدون
بالهزيمة هى السبب الرئيسى فى خيبة أمل «ابن تومرت»
ومرضه؛ حيث قتل فيها عدد كبير من أتباعه، ولكن بقاء تلميذه
ومساعده «عبد المؤمن بن على» على قيد الحياة كان سببًا فى
تخفيف هذه الصدمة، ومع ذلك لزم «ابن تومرت» داره، واشتد
عليه مرضه، وفارق الحياة فى سنة (524هـ= 1130م)، وخلَّف
وراءه حربًا مشتعلة على أرض «المغرب الأقصى» . حمل
«عبدالمؤمن بن على» أعباء الدعوة عقب وفاة أستاذه، وشُغل
بتنظيم شئون الموحدين، مدة عام ونصف العام، ثم شرع فى
الكفاح ضد المرابطين فى منطقة «الأطلس» جنوبى «مراكش» فى
«وادى درعة» و «بلاد السوس» و «بلاد جاحة» القريبة من
«تينملل» ، ثم استولى الموحدون على «مراكش» عاصمة
المرابطين فى سنة (541هـ= 1146م)، بعد كفاح دام أكثر من
عشر سنوات كان النصر فيها حليفًا للموحدين. وقد نجح
«عبدالمؤمن» فى إحكام قبضته وسيطرته على «المغرب
الأقصى» بعد سقوط دولة المرابطين بسقوط عاصمتهم
«مراكش» ، ثم وجه اهتمامه إلى الشرق، وبعث بحملاته المتتابعة
التى وصلت حتى «طرابلس» بإفريقية، فساعد هذا النصر على
تحقيق الوحدة السياسية للمغرب الإسلامى، وتلقب «عبدالمؤمن»
بلقب خليفة، واتخذ من «مراكش» عاصمة للخلافة، ثم شرع فى
تجهيز حملة كبيرة لدفع النصارى عن مدن «الأندلس» فى سنة
(556هـ= 1161م)، إلا أن مرضه حال دون إتمام هذه الحملة، ومات
فى سنة (558هـ= 1163م). بويع «يوسف بن عبد المؤمن» فى
سنة (558هـ= 1163م)، ليكون خلفًا لوالده. وما إن استقر فى
العاصمة حتى واجهته ثورة «مرزدغ الصنهاجى» بجبال
«غمارة» ، فنجح فى القضاء عليها وتفريق أعوانها، ثم أمر
بقتل «مرزدغ» ، وحمل رأسه إلى العاصمة «مراكش» . ووجه «ابن
عبدالمؤمن» جُلَّ جهوده إلى دعم سلطة الموحدين بالأندلس،
وبعث بالحملات المتتابعة إليها، وخرج على رأس إحداها فى
سنة (566هـ= 1170م)، لتأمين ثغور «الأندلس» وضبطها
وإصلاحها، ثم خرج فى سنة (579هـ= 1183م) على رأس حملة
كبيرة إلى «الأندلس» لغزوها، إلا أنه أصيب بسهم عند أسوار
«شنترين» ، فأسرع الجند بحمله والعودة به مصابًا إلى
«مراكش» ، فقضى نحبه فى سنة (580هـ= 1184م). ولى «يعقوب
بن يوسف بن عبدالمؤمن» خلفًا لوالده فى سنة (580هـ= 1184م)،
ولقب نفسه بالمنصور، وتوزعت جهوده العسكرية فى أكثر من
ميدان؛ حيث قامت ثورة بزعامة «الجزيرى» الذى أخذ يدعو
لنفسه بين القبائل فى سنة (585هـ= 1189م)، فقضى عليها
«المنصور» وقتل زعيمها، ثم قامت ثورة أخرى ببلاد «الزاب»
بزعامة رجل يدعى «الأشلّ» فى سنة (589هـ = 1193م)، فكان
مصيرها الفشل مثل سابقتها. أما ثورة «بنى غانية» ، التى
استهدفت إحياء «دولة المرابطين» والدعاء للخلافة العباسية
على المنابر بإفريقية، فكانت الخطر الحقيقى الذى هدد «دولة
الموحدين»، فوجّه «المنصور» إليها كل جهوده للقضاء عليها،
وعلى الرغم من تكرار المحاولة فإنه لم ينجح فى القضاء عليها
نهائياًّ. وقد أولى «المنصور» «الأندلس» اهتمامه وعنايته، ودخل
فى عدة معارك مع الإفرنج؛ كانت أبرزها معركة «الأرك» فى
سنة (591هـ= 1195م)، تلك التى أوقفت زحف النصارى، وزادت
من هيبة الموحدين ومكانتهم بالشمال الإفريقى، ثم أصيب
المنصور بوعكة صحية أدت إلى وفاته فى سنة (595هـ =
1199م). تولى «الناصر أبو عبدالله محمد بن يعقوب» خلفًا لوالده
«المنصور» ، فحدثت فى عهده بعض التطورات السياسية
والعسكرية التى انتقلت بدولة الموحدين من مرحلة القوة
والسيادة إلى مرحلة الانهيار والسقوط؛ حيث تمكن فى بداية
حكمه من القضاء على ثورة «بنى غانية» بإفريقية التى دخلها
فى سنة (598هـ= 1202م)، وعاد منها فى سنة (604هـ= 1207م)،
بعد أن ولى على «إفريقية» «أبا محمد عبد الواحد بن أبى
حفص» أحد أشياخ الموحدين، فعكف «ابن أبى حفص» على
معالجة شئون «إفريقية» ، ودعم سلطان الموحدين بها، إلا أن
ولاية «أبى حفص» كانت البداية لقيام «دولة الحفصيين» بتونس؛
حيث استقل أبناؤه - بعد ذلك - بها وأسسوا ملكًا مستقلاً. وقد
فُجع الموحدون بهزيمة قاسية بالأندلس فى معركة «العقاب»
التى راح ضحيتها عدد كبير من الجند، مما أضعف «دولة
الموحدين» وأفقدهم هيبتهم، وأُصيب «الناصر» بالمرض، وتوفى
فى سنة (610هـ= 1213م). وقد عرف الانهيار والضعف طريقهما
إلى «دولة الموحدين» عقب وفاة «الناصر» ، ودخلت الدولة مرحلة
من الفوضى، والصراع بين أفراد البيت الموحدى، فضلاً عن
اندلاع الثورات والقلاقل فى أماكن متعددة، وظل هذا حالها
حتى سنة (668هـ= 1269م)، التى قتل فيها «أبو دبوس» آخر
خلفاء الموحدين أمام أسوار العاصمة «مراكش» التى دخلها
«المرينييون» وقضوا على «دولة الموحدين» . وقد تولى عقب
وفاة «الناصر» عدد من الخلفاء الضعاف، هم: 1 - أبو يعقوب
يوسف الثانى المستنصر بالله [611 - 620هـ]. 2 - أبو محمد
عبدالواحد المخلوع [620 - 621هـ= 1223 - 1224م]. 3 - أبو محمد
عبدالله العادل [621 - 624هـ = 1224 - 1227م]. 4 - المأمون أبو
العلاء إدريس ابن يعقوب المنصور [624 - 630هـ= 1227 - 1233م].
5 -
أبو محمد عبدالواحد الرشيد [630 - 640هـ= 1233 - 1242م]. 6 -
أبو الحسن على السعيد المقتدر بالله [640 - 646هـ= 1242 -
1248م]. 7 - أبو حفص عمر المرتضى [646 - 665هـ = 1248 -
1267م]. 8 - أبو العلاء إدريس الثانى (المعروف بأبى دبوس)
[665 - 668هـ= 1267 - 1269م]. انحصرت علاقات الموحدين
الخارجية فى جبهتين هما: «الأندلس» ، و «الخلافة العباسية» . أما
«الأندلس» ، فقد استولى عليها الموحدون مع غيرها من المدن من
المرابطين، وساروا على نهج من سبقهم فى التصدى لعدوان
النصارى، وأعدوا الحملات، وخاضوا المعارك من أجل تحقيق
هذا الهدف، ولكن هزيمتهم فى معركة «العقاب» فى عام
(609هـ= 1212م)، كانت بداية انحسار نفوذهم على أرض
«الأندلس» ، ومن ثَم بدأت القوى النصرانية تحقق انتصاراتها حتى
زالت «دولة الموحدين» . وقد اختلف موقف الموحدين من الخلافة
العباسية عن موقف المرابطين؛ حيث لم يعترف الموحدون
بالعباسيين، واعتبروا أنفسهم خلفاء، وأن مركز الخلافة مدينة
«مراكش» ، وليس «بغداد» ، ودعموا خلافتهم بالادعاء بأن «ابن
تومرت» و «عبدالمؤمن» من نسل الرسول عن طريق «الأدارسة» ،
واتخذوا اللون الأخضر شعارًا لهم كى يظهروا ميلهم إلى الدعوة
العلوية، وتشبهوا بالرسول فى تصرفاته وأفعاله. نعمت البلاد
بالرخاء الاقتصادى فى عهد الموحدين؛ إذ وضعوا نظامًا مالياًّ
دقيقًا، تمثل فى الإدارة المشرفة على الجوانب المالية فى
الجباية والإنفاق، فضلا عن وجود دواوين للمال بالعاصمة،
وديوان للمال بكل إقليم يختص بماليته، وأفرد الموحدون دارًا
للإشراف على النواحى المالية، كما استحدثوا منصب الوزير
المسئول عن الشئون المالية أطلقوا عليه اسم «صاحب الأشغال» ،
ومهمته استخراج الأموال وجمعها وضبطها، وتعقب نظر الولاة
والعمال فيها، ثم تنفيذها على قدرها وفى مواقيتها، وكان
يعاون صاحب الأشغال رؤساء الدواوين المالية بالدولة. فوفرت
هذه المصادر إلى جانب الزكاة وخمس الغنائم أموالا كثيرة
لخزينة الدولة، أُنفق معظمها على إعداد الجيش فى البر والبحر،
ودفع مرتبات الوزراء ورجال البلاط والحشم والقضاة والفقهاء،
وكذلك فى الإنفاق على الطلبة المنتظمين بالمدرسة التى
أنشأها الخليفة «عبدالمؤمن» ، كما أنفق منها على إنشاء المدن
والقصور والحصون وغيرها من المنشآت. وأصدر الموحدون عملة
نقدية من الدنانير والدراهم. وقد اهتم الموحدون بالزراعة
وشجعوا المزارعين على استغلال الأرض، ووفروا لهم المياه
اللازمة للزراعة، فتوافرت محاصيل القمح والشعير، والقطن،
وقصب السكر، وغير ذلك من المحاصيل، كما نعمت البلاد
بأصناف الفواكه المتنوعة مثل: العنب والتفاح والكمثرى،
وغيرها، وانتشرت الغابات بالبلاد، وتوافر بها شجر الأَرْز والزان
والبلوط. ونشطت الحركة الصناعية، وتوافرت المراكز الصناعية
بالبلاد، مثل مدينة «فاس» و «مراكش» ،وغيرها من المدن التى
تنوعت بها الصناعات وضمت: صناعة الصابون، والتطريز،
والدباغة، وسبك الحديد والنحاس، وصناعة الزجاج، والفخار،
وغير ذلك من الصناعات. وازدهرت التجارة فى الداخل والخارج،
وكثرت المراكز التجارية التى أولاها الموحدون عنايتهم، وشيدوا
بها عدة أسواق، كما شيدوا بها الفنادق، كما ساهمت
«مكناسة» فى دعم ازدهار التجارة حيث كانت محطة للمسافرين
يبيعون ويشترون بها، فضلاً عن وجود عدد من الأسواق العامرة
والتجارات المختلفة بها. وتمتعت البلاد بنهضة تجارية خارجية،
لوجود شبكة من الطرق التى ربطت المدن المغربية بغيرها من
المراكز التجارية، فضلاً عن وجود عدد من الموانئ المطلة على
«البحر المتوسط» و «المحيط الأطلسى» ، وكانت محطات للسفن
المحملة بالبضائع القادمة أو الخارجة منها، فتنوعت الصادرات
مثل: القطن والقمح والسكر، وكذلك الواردات مثل: الذهب وبعض
أنواع النسيج البلنسى، والعطر الهندى ولعب ميناء «سبتة»
على «البحر المتوسط» ، وميناء «سلا» على «المحيط الأطلسى» ،
دورًا بارزًا فى تنشيط الحركة التجارية فى ظل حماية الأسطول
الموحدى. شكلت قبائل المصامدة العنصر الرئيسى لسكان دولة
الموحدين، وقد استقرت بالمنطقة منذ زمن، واتخذت المعاقل
والحصون والقلاع، وشيدت المبانى والقصور، وامتهن أفرادها
الزراعة وفلاحة الأرض، ولم يحاولوا الهجرة من أرضهم، بل
تمسكوا بها، ودافعوا عنها ضد أى محاولة للاعتداء أو
الاستيلاء عليها. أما العنصر الثانى من سكان «دولة الموحدين»
فهم العرب الهلالية الذين ظهروا على مسرح الأحداث، وعمد
الموحدون إلى تهجيرهم من «إفريقية» إلى «المغرب الأقصى» ،
ليتخلصوا من ثوراتهم، كما استخدموهم فى عمليات الجهاد
بالأندلس، فأقبلت أعداد كبيرة منهم إلى «المغرب الأقصى» ،
وانتقلت أعداد أخرى إلى الإقامة بالأندلس من خلال الحملات التى
قام بها الموحدون هناك، ثم حدد الموحدون إقامة بعض القبائل.
وقد تمتع العرب الهلالية بما يتمتع به جند الموحدين، وأقطعهم
ولاة الأمر بعض الأراضى، وأنفقوا عليهم النفقات الكبيرة،
وأغدقوا عليهم بالعطايا حتى يوفروا لهم الاستقرار ويبعدوهم
عن الفتن وإثارة القلاقل والاضطرابات. ونالت المرأة حظها من
التكريم والإنصاف والاحترام فى «دولة الموحدين» ، وأتاحت لها
الظروف أن تنال حظا من العلوم المختلفة، وقسطًا من ثقافة
العصر وأدبه، وبرزت الكثيرات من النساء مثل:«زينب» بنت
الخليفة «يوسف بن عبدالمؤمن» ، والشاعرة العالمة «حفصة بنت
الحاج الركونية»، و «فاطمة بنت عبدالرحمن» . وعاش أهل الذمة
فى أنحاء متفرقة من البلاد، وكانت لهم أحياؤهم بالعاصمة
«مراكش» وبمدينة «سجلماسة» ، وكانوا يشتغلون بالبناء. اهتم
الموحدون بالبناء والتعمير بالمغرب و «الأندلس» ، وحظيت
«مراكش» و «الرباط» وغيرهما من المدن المغربية بكثير من
المنشآت الموحدية، وأنشأ الخليفة «عبدالمؤمن» «مدينة الفتح» ،
كما شيد المساجد والقصور فى أنحاء متفرقة من البلاد، وكان
«المنصور» مولعًا بالعمارة، فشهدت البلاد نهضة معمارية
استمرت طيلة عهده. شهدت «بلاد المغرب» حركة فكرية نشيطة
فى عهد المرابطين، واستمرت كذلك فى عهد الموحدين،
وساعدها على ذلك استقرار الأوضاع بالبلاد، والصلة الوثيقة بين
«المغرب» و «الأندلس» ، إلى جانب رغبة الكثيرين من أبناء
«المغرب» فى طلب العلم، فضلاً عن تكريم الموحدين للعلماء،
والمتعلمين ووصلهم بالعطايا، والهبات، والإنفاق عليهم، كما
كانت الأسس الدينية التى قامت عليها «دولة الموحدين» سببًا
فى انتعاش دراسة علوم الدين، وانتعاش الحركة الفكرية. شن
«ابن تومرت» حربًا شعواء على العلماء والفقهاء واتهمهم
بالجمود، ولكنه لم يستطع مهاجمة المذهب المالكى الذى رسخ
فى أذهان عامة الشعب وقلوبهم، وتحايل على ذلك بإعداد
مُؤَلَّف جمع فيه الأحاديث النبوية التى وردت بموطأ الإمام
«مالك» ، وحذف منها معظم الإسناد للاختصار، فى محاولة لصرف
أذهان الناس عن المؤلفات المالكية، ثم جاء «عبدالمؤمن» من
بعده وأمر بحرق كتب الفروع، والاقتصار على الأحاديث النبوية.
فلما تولى «المنصور الموحدى» عمد إلى محو المذهب المالكى
من البلاد، وجمع كتب المذهب المالكى وحرقها، وأمر بجمع
الأحاديث المتعلقة بالعبادات من كتب الأحاديث مثل: «البخارى»
و «مسلم» وغيرهما، وألزم الناس بدراستها وحفظها، وعاقب
علماء المذهب المالكى المتمسكين بتدريسه، وعلل ذلك بميله
إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة والأخذ بظاهرهما، وكراهيته
للخلافات التى امتلأت بها كتب الفروع، ولكن علماء المالكية لم
يؤثر فيهم التهديد والعقاب، وظلوا يكافحون فى سبيل بقاء
مذهبهم وتدريسه، فسُجن بعضهم مثل «ابن سعيد الأنصارى» ،
وتُوفى بعضهم نتيجة التعذيب مثل: «أبى بكر الجيانى
المالكى»، ومع ذلك نجح هؤلاء العلماء فى إبقاء هذا المذهب
وظل مذهب المالكية راسخًا ببلاد المغرب. ازدهرت العلوم الدينية
بدولة الموحدين، وزاد الإقبال على تفسير القرآن ودراسته
باعتباره مصدر التشريع الأول للبلاد، وبرز عدد من المفسرين
منهم: «عبدالجليل بن موسى الأنصارى الأوسى» المتوفى عام
(608هـ= 1211م)، و «أبو بكر بن الجوزى السبتى» ، كما لاقى
علم القراءات رعاية ولاة الأمر، واشتهر فيه: «أبو بكر بن يحيى
بن محمد بن خلف الإشبيلى» المتوفى عام (602هـ= 1205م)،
و «على بن محمد بن يوسف اليابرى الضرير» المتوفى عام
(617هـ= 1220م). أما علم الحديث فقد صار له شأن كبير واهتم به
الخلفاء، وأمر الخليفة «عبدالمؤمن» بحرق كتب الفروع، وردّ
الناس إلى قراءة الحديث، وأملى ابنه «يوسف» وحفيده
«المنصور» الأحاديث بنفسيهما على الكُتاب لتوزيعها على
الناس، واشتهر «أبو الخطاب بن دحية السبتى» و «ابن حبيش»
المتوفى عام (584هـ= 1188م)، و «القاضى عياض السبتى»
بتمكنهم من علم الحديث، ووضع بعضهم المصنفات فى هذا العلم،
أما فى مجال الفقه فقد وضع «ابن تومرت» كتابه «الموطأ»
على غرار «موطأ الإمام مالك» بعد حذف أسانيده. ومن أعلام
الفقه فى هذا العصر: «عبدالملك المصمودى» قاضى الجماعة
بمراكش، و «إبراهيم بن جعفر اللواتى» الفقيه المعروف بالفاسى.
ويعد كتاب: «الإعلام بحدود قواعد الإسلام» للقاضى عياض من
أبرز مؤلفات هذا العصر الفقهية. وقد نال علم الكلام عناية
الموحدين منذ قيام دولتهم؛ حيث دعا «ابن تومرت» إلى دراسته،
واتهم علماء المرابطين بالجمود لتحريمهم دراسة هذا العلم، وقد
اشتهر فى هذا العلم: «أبو عمرو عثمان بن عبدالله السلالجى»
المتوفى سنة (564هـ= 1168م)، و «محمد بن عبدالكريم الغندلاوى
الفاسى» المعروف بابن الكتانى المتوفى عام (596هـ= 1200م).
تابعت اللغة العربية انتشارها بدولة الموحدين، لأنها لغة البلاد
الرسمية فى مكاتباتها ومعاملاتها وشئونها، وقد ساعد مجىء
العلماء إلى المدن المغربية على انتشار اللغة العربية وازدهارها،
كما كان لقدوم القبائل الهلالية إلى «المغرب الأقصى»
واستيطانهم بعض مناطق البلاد أكبرالأثر فى دعم اللغة العربية
وانتشارها؛ لتمسك هذه القبائل البدوية باللسان العربى وما فيه
من مفردات وتراكيب وبلاغة فى الأساليب. وازدهر الأدب بفرعيه
الشعر والنثر، وبلغ درجة عالية من الرقى، وكثرت محافله ببلاد
المغرب، وأقبل ولاة الأمر على تشجيعه ودعمه، وسعى المغاربة
إلى المساواة بالأندلسيين الذين يفتخرون بمنزلتهم الأدبية، فضلا
عن رغبة المغاربة فى الوصول إلى المناصب العليا التى لا يرقى
إليها إلا ذوو العلم والأدب. وقد تدفق أدباء «الأندلس» وغيرهم
على البلاط الموحدى؛ حيث العطايا والمنح، وبرزت مجموعة من
الشعراء منهم: «أحمد بن عبدالسلام الجراوى» ، و «أبو عبدالله
محمد بن حبوس» من أهل «فاس» ، و «أبو بكر بن مجبر» من
«شقورة» ، وغيرهم كثير. وكانت أبرز أغراض الشعر آنذاك هى
الوصف والغزل والمدح. حرص خلفاء الموحدين على تزويد
أنفسهم من مختلف الثقافات، لدعم موقف دولتهم، التى قامت
على أساس دينى، ولذا تنوعت ثقافة الخليفة «عبدالمؤمن» ،
وأجاد فى علوم الفقه والجدل والأصول، كما حفظ الأحاديث
النبوية، وأحاط بالنحو واللغة، والأدب، والتاريخ، وعلم
القراءات، والأنساب، وتنوعت ثقافة ابنه «يوسف» ، حيث حظى
بقسط وافر من العلوم المختلفة حين كان واليًا من قِبل أبيه على
«الأندلس» ، وكذلك كان «المنصور» عالمًا بالحديث والفقه واللغة.
أما طبقات الشعب فقد قامت المؤسسات التعليمية بتثقيفهم،
سواء بالمكتب أو الرباط أو المسجد أو المدرسة، وقد قامت
المدرسة التى أسسها الخليفة «عبدالمؤمن» بدور فعّال فى
إثراء ثقافة طبقات الشعب؛ إذ جمعت هذه المدرسة بين
الدراستين النظرية والعملية. وكان أبرز علومها النظرية هى:
حفظ القرآن وتدريسه، ودراسة «موطأ تومرت» ، وحفظ «صحيح
مسلم»، أما العلوم العملية، فكانت: ركوب الخيل والرمى بالسهم
والقوس، وتعليم السباحة فى بحيرة صنعت من أجل ذلك
بالمدرسة.