الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
البويهية (دولة)
ينتسب البويهيون إلى «أبى شجاع بويه» الذى نشأ فى «بلاد
الديلم» التى تقع جنوبى غربى «بحر قزوين» أو «بحر الخزر»
بين منطقتى «طبرستان» و «الجبال» . وكانت هذه البلاد معقلاً
لنفوذ العلويين، فانتشر فيها التشيع. ورغم أن «أبا شجاع
بويه» كان فقيرًا فإنه كان يتحلى بروح المغامرة والشجاعة،
كما تشرب الروح الشيعية التى كانت سائدة فى «بلاد الديلم» .
وقد انضم «أبو شجاع» إلى العلويين فى صراعهم مع
السامانيين، ومع ذلك فلم يكن هو المؤسس الحقيقى لأسرة
«بنى بويه» ، وإنما كان أبناؤه الثلاثة «على» ، و «حسن» ،
و «أحمد» هم الذين قاموا بذلك، فقد التحق أبناؤه بخدمة «ماكان
بن كاكى» أحد القواد البارزين المناصرين للداعية الشيعى
«الحسن بن على» ، الملقب بالأطروش، وأبرزوا تميزًا فى خدمته
فارتقوا من مرتبة الجنود إلى رتبة القادة، ثم حدث صراع بين
«ماكان» و «مرداويج بن زيار» أحد القادة الفرس فى منطقة
«الديلم» ، وأحس أبناء «بويه» أن كفة «مرداويج» هى الراجحة
فى هذا الصراع، فانضموا إليه، فيما بين عامى (316و317هـ=
928 و 929م)، وكان ذلك بداية تمكن نفوذهم فى فارس
والمناطق المحيطة بها. وقد ظهر «بنو بويه» - أو البويهيون -
على مسرح الأحداث فى أواخر عصر نفوذ الأتراك، فبدءوا منذ
عام (321هـ= 933م) يؤسسون لأنفسهم مناطق نفوذ تخضع
لسيطرتهم التامة، فاستولوا على «فارس» ، و «شيراز»
و «أصبهان» ، و «الرى» ، و «همذان» و «الكرج» و «كرمان» ،
وأغراهم ذلك على التطلع إلى مد نفوذهم إلى «العراق» موطن
الخلافة العباسية. وقد ساعدهم على ذلك تضاؤل النفوذ التركى،
واشتداد الصراع على منصب «أمير الأمراء» الذى ابتدعه الخليفة
«الراضى بالله» سنة (324هـ= 936م)، مما أدى إلى تمزق الكلمة
وضعف الجبهة التى يمكن أن تحمى دار الخلافة فلم يجد «أحمد
بن بويه» أى صعوبة فى دخول «بغداد» والسيطرة عليها بدون
قتال فى (الحادى عشر من جمادى الأولى سنة334هـ = يناير
سنة 946م) .. وعندما دخل «أحمد بن بويه» «بغداد» فى جمادى
الأولى سنة (334هـ= ديسمبر سنة 945م) كان «المستكفى بالله»
هو الخليفة العباسى، ولم يكن أمامه إلا أن يظهر الترحيب به، بل
إنه زاد على ذلك فخلع عليه الخُلَع ولقبه «معز الدولة» ، كما لقَّب
أخاه «عليا» «عماد الدولة» ، وأخاه «الحسن» «ركن الدولة» ،
وأمر بأن تُضرَبَ ألقابهم وكُناهم على الدنانير والدراهم، وكان
«على بن بويه» حاكمًا لإقليم «فارس» ، و «الحسن ابن بويه»
حاكمًا لعدة أقاليم أهمها «الرى» ،و «الجبل» ،و «أصفهان» ، فى
حين دخل أخوهم الأصغر «أحمد» «بغداد» . وقد تدهورت أحوال
«الخلافة العباسية» ، واندثرت معالمها من الناحية الواقعية حينما
سيطر البويهيون على «بغداد» ، فقد جردوا الخليفة من كل
سلطاته، وعدُّوه مجرد موظف مهمته إضفاء صفة الشرعية على
سلطانهم لدى جماهير المسلمين، فحددوا له راتبه، وسلبوه حقه
فى تعيين الوزراء، وسمحوا له بأن يتخذ كاتبًا (سكرتيرًا) فقط
يشرف على أمواله. ورغم أن البويهيين كانوا شيعة، فإنهم لم
يسقطوا الخلافة العباسية السُنِّية فى «بغداد» ، ليحلوا محلها
خلافة علوية شيعية تتفق مع مذهبهم، وسبب ذلك علمهم أن
وجود خليفة من العلويين يهدد ملكهم وسلطانهم، وليس الأمر
كذلك مع الخليفة السنِّى الذى يستطيعون هم أن يفعلوا به ما
يشاءون. وقد برهن سلوك البويهيين مع الخليفة «المستكفى»
على صدق ذلك، فقبل مرور شهر على دخولهم «بغداد» دخل
«معز الدولة أحمد بن بويه» على الخليفة «المستكفى» ، فوقف
الناس حسب مراتبهم، فتقدم اثنان من الديلم - وهم قوم «معز
الدولة» - فمدَّ الخليفة يده إليهما ظنا منه أنهما يريدان تقبيلها،
فجذباه وطرحاه أرضًا، وجرَّاه بعمامته، ثم هجم «الديلم» على
دار الخلافة ونهبوها، وسار «معز الدولة» إلى منزله، وساقوا
الخليفة «المستكفى» ماشيًا إليه، ثم انتهت هذه المأساة بخلع
«المستكفى» وسمل عينيه. وإذا استبعدنا خلافة «المستكفى» ،
فإننا نجد أن الخلفاء الذين شهدوا عصر نفوذ البويهيين كانوا
أربعة هم: 1 - المطيع لله «أبو القاسم الفضل بن المقتدر بن
المعتضد» [334 - 363هـ = 945 - 974م]. 2 - الطائع لله «أبو بكر
عبدالكريم بن المطيع» [363 - 381هـ= 974 - 991م]. 3 - القادر بالله
«أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر» [381 - 422 هـ= 991 -
1031م]. 4 - القائم بأمر الله «أبو جعفر عبدالله بن القادر» [422 -
467هـ= 1031 - 1075م]. أولاً: خلافة المطيع لله: بعد أن أمر «معز
الدولة أحمد ابن بويه» بخلع «المستكفى» فى (جمادى الآخرة
سنة 334هـ= 945م)، أحضر «أبا القاسم الفضل ابن المقتدر»
وبايعه بالخلافة، ولقَّبه بالمطيع لله، وعمره - حينئذٍ- أربع
وثلاثون سنة، وحدد له «معز الدولة» راتبًا مائة دينار فى اليوم.
وقد شهدت خلافة «المطيع» أحداثًا كثيرة، أولها: نشوب الصراع
بين البويهيين فى «بغداد» بزعامة «معز الدولة» (أحمد بن
بويهـ)، وبين الحمدانيين فى «الموصل» بزعامة «ناصر الدولة»
(الحسين بن عبداللهـ)، وقد استمر هذا الصراع طويلاً فى محاولة
كل منهما الإطاحة بالآخر، وفى (المحرم سنة 335هـ = أغسطس
سنة 946م) تم الصلح بين «معز الدولة البويهى» وبين «ناصر
الدولة الحمدانى» على أن يدفع «ناصر الدولة» الخراج للبويهيين
فى «بغداد» كل عام. وفى سنة (336هـ= 947م) استطاع «معز
الدولة» أن يستولى على «البصرة» بعد هروب صاحبها «أبى
القاسم عبدالله بن أبى عبدالله البريدى» إلى القرامطة فى
«هجر» . وجدير بالذكر أن «معز الدولة» كان نائبًا فى «بغداد»
عن أخيه الأكبر «عماد الدولة» (على بن بويهـ) فى «فارس» ، ثم
عن أخيه الأوسط «ركن الدولة» (الحسن بن بويهـ)، عقب وفاة
«عماد الدولة» . ورغم أن الخليفة العباسى كان تحت سيطرة
البويهيين فإنهم كانوا يخضعون له من الناحية الشكلية فقط.
وقد حاول البويهيون صبغ «العراق» بمذهبهم الشيعى، واتخذ
«معز الدولة» فى سبيل ذلك خطوات بالغة الخطورة أسهمت فى
إثارة عوامل الفتنة والاضطراب داخل مجتمع «العراق» ؛ ففى
(ربيع الآخر سنة 351= مايو سنة 962م) أصدر «معز الدولة» أمرًا
بأن يُكتَب على المساجد لَعْنُ «معاوية بن أبى سفيان» وغيره
من الصحابة كأبى بكر و «عمر» ؛ حيث يتهمهم الشيعة بإساءة
معاملتهم وغصبهم حقوقهم، ولم يستطع الخليفة العباسى منع
ذلك، وفى العاشر من (المحرم سنة 352هـ= يناير سنة 963م)
أصدر «معز الدولة» أمرًا بتوقف الناس عن البيع والشراء فى ذلك
اليوم، وإظهار البكاء والعويل، وأمر النساء أن يخرجن حاسرات
الرءوس قد شققن ثيابهن وهن يلطمن الوجوه على «الحسين ابن
على بن أبى طالب» فى ذكرى استشهاده بكربلاء، وكان هذا
أول يوم يحدث فيه ذلك ببغداد، ولم يستطع الخليفة وأهل السنة
أن يمنعوا ذلك لكثرة الشيعة ومناصرة السلطان «معز الدولة»
لهم. وقد أحدثت هذه المظاهر الشاذة آثارها السيئة بين الناس،
ففى العاشر من (المحرم سنة 353هـ= يناير سنة 964م) - على
سبيل المثال - تم إغلاق الأسواق فى «بغداد» ، وفعل الناس ما
تقدم ذكره، فثارت فتنة عظيمة بين الشيعة والسنة، أُصيب فيها
كثيرون ونُهبت الأموال، وجدير بالذكر أن هذه الممارسات التى
شجعها البويهيون ماتزال آثارها موجودة حتى الآن. ومن أهم ما
سجله «معز الدولة» من انتصارات: تخليص «عُمان» فى (ذى
الحجة سنة 355هـ = نوفمبرسنة 966م) من يد القرامطة الذين
كانوا قد استولوا عليها وعاثوا بها فسادًا، فأصبحت بذلك ضمن
مملكة البويهيين. ظل «معز الدولة» اثنين وعشرين عامًا يدير
الأمور فى «بغداد» ، حتى تُوفِّى فى الثالث عشر من (ربيع الآخر
سنة 356هـ= مارس سنة 967م)، فتولى ابنه «بختيار» إمارة
«العراق» بعهد منه، ولُقب «عز الدولة» . وقد قدم «عز الدولة»
صورة صارخة لانصرافه عن المهام الكبرى واهتمامه بملذاته
الشخصية، فقد أنفق وقته فى اللهو والتسلية وعِشرة النساء
والاستماع إلى الغناء، واستولى على أموال كبار رجال الدولة
وعلى رأسهم الخليفة فى سبيل ذلك. ففى سنة (361هـ= 972م)
هاجم الروم ثغور «الجزيرة» ومن بينها «الرها» و «نصيبين» ،
فأحرقوا البلاد وخربوها وغنموا وسلبوا ما استطاعوا ولم يجدوا
من يردعهم بعد وفاة «سيف الدولة الحمدانى» سنة (356هـ=
967م)، فسار جماعة من أهل «الجزيرة» إلى «بغداد» لاستنفار
المسلمين ضد الروم، فاستعظم الناس ذلك، وتوجهوا إلى «عز
الدولة بختيار»، وأنكروا عليه انشغاله باللهو والصيد عن جهاد
الروم الذين انتهكوا حرمة دار الإسلام، فوعدهم بالإعداد لغزوهم،
واتصل بالخليفة «المطيع لله» يطلب منه المال ليجهز به المسلمين
للغزو، ولكن «المطيع لله» أجابه بقوله: «إن الغَزاة والنفقة
عليها، وغيرها من مصالح المسلمين تلزمنى إذا كانت الدنيا فى
يدى، وتُجبَى إلىَّ الأموال، وأما إذا كانت حالى هذه فلا يلزمنى
شىء من ذلك، وإنما يلزم مَن البلاد فى يده، وليس لى إلا
الخطبة، فإن شئتم أن أعتزل فعلت»، فهدد «بختيار» الخليفة
«المطيع» واضطره إلى دفع أربعمائة ألف درهم، فلما قبضها
«عز الدولة» صرفها فى مصالحه وملذاته! ونتيجة لسوء طبع
بختيار واضمحلال شخصيته، بدأت أسباب الشقاق والفتنة تظهر
بين البويهيين، فقد حاول ابن عمه «ركن الدولة» والملقب فيما
بعد «عضد الدولة» انتزاع «العراق» من «بختيار» ولكن والده
«ركن الدولة» اعترض على ذلك، فاضطر «عضد الدولة» إلى
تأجيل ذلك إلى ما بعد وفاة والده. ولعل من أخطر الأحداث التى
شهدتها خلافة «المطيع لله» سيطرة الفاطميين على «مصر» سنة
(358هـ= 969م) وكانت «مصر» حينئذٍ تحت حكم الإخشيديين الذين
كانوا يخضعون للخليفة العباسى من الناحية الشكلية، فلما
دخلها القائد الفاطمى «جوهر الصقلى» فى (شعبان سنة 358هـ=
يونيو سنة 969م)، شرع فى بناء مدينة «القاهرة» ؛ لتصبح
عاصمة للفاطميين، كما بنى الجامع الأزهر سنة (361هـ= 972م)،
وظل حاكمًا لمصر نيابة عن مولاه «المعز لدين الله» (7) حتى سنة
(362هـ= 973م)، حين قدم «المعز» إلى «مصر» فى رمضان من
هذه السنة، فقام بالأمر وأصبحت «مصر» منذ ذلك الوقت مقرا
للخلافة الفاطمية الشيعية حتى سنة (567هـ= 1172م). ظل
«المطيع لله» فى الخلافة ما يقرب من «ثلاثين عامًا» ، حتى
أُصيب بالفالج - وهو الشلل النصفى - فى أواخر حياته فتعذرت
حركته وثقل لسانه، مما دعا «سُبُكْتكين» ، حاجب «عز الدولة
بختيار» إلى أن يطلب منه خلع نفسه وتسليم الخلافة إلى ابنه
«عبدالكريم» ، فتم ذلك فى (13من ذى القعدة سنة 363هـ= يوليو
سنة 974م)، ولقب «عبدالكريم» بالطائع لله. ثانيًا: خلافة الطائع
لله (363 - 381هـ= 974 - 991م). تولى «الطائع لله» الخلافة فى
(ذى القعدة سنة 363هـ= يوليو سنة 974م) وعمره ثلاث وأربعون
سنة، وقد تُوفِّى والده «المطيع لله» بعد ذلك بفترة قصيرة، فى
(سنة المحرم سنة 364هـ= سبتمبر 974م). فى بداية خلافة
«الطائع لله» حدثت الفتنة بين «عضد الدولة بن ركن الدولة» ،
وابن عمه «بختيار بن معز الدولة» ، فقد شجع «عضد الدولة» جند
«بختيار» على الثورة عليه ووعدهم بالإحسان إليهم والنظر فى
أمورهم، فثار عليه الجند وتم القبض على «بختيار» وحبسه فى
(جمادى الآخرة سنة 364هـ= فبراير سنة 975م)، وأصبحت
«بغداد» و «العراق» تحت سلطان «عضد الدولة» .. وقد عز على
«ركن الدولة» أمير أمراء البيت البويهى ووالد «عضد الدولة» أن
يتصرف ابنه «عضد الدولة» مع ابن أخيه «بختيار» بهذه الصورة،
فكتب إلى أنصار «بختيار» يساندهم ويأمرهم بالثبات والصبر
ويعرفهم أنه عازم على المسير إلى «العراق» لإخراج «عضد
الدولة» وإعادة «بختيار» ، فانصرف أنصار «عضد الدولة» عنه
واضطر إلى الإذعان لإرادة أبيه، فأخرج «بختيار» من سجنه ورد
إليه ما سلبه من سلطانه، وعاد إلى «فارس» فى (شوال سنة
364هـ= يونيو سنة 975م)، وكان الخليفة «الطائع لله» مسلوب
الإرادة خلال هذه الفتنة، لاحول له ولا قوة. وقد قسم «ركن
الدولة» ملكه بين أولاده فى (جمادى الأولى سنة 365هـ= يناير
سنة 976م) فجعل لابنه «عضد الدولة» ملك البلاد من بعده،
ولولده «فخر الدولة» (أبى الحسن على)«همدان» وأعمال
«الجبل» ، ولولده «مؤيد الدولة» (أبى منصور بويهـ)«أصبهان»
وأعمالها، وجعلهما تحت رئاسة أخيهما «عضد الدولة» ،
وأوصاهم بالاتفاق وترك التنازع. وفى (المحرم سنة 366هـ=
أغسطس سنة 976م) تُوفِّى «ركن الدولة» فأصبح ابنه «عضد
الدولة» زعيم البويهيين بلا منازع. وفى العام نفسه حشد «عضد
الدولة» جنوده لغزو «العراق» ، وكان «بختيار» ووزيره «أبو
طاهر محمد بن محمد بن بقية» يعلمان نيات «عضد الدولة» فحاولا
استمالة كبار الأمراء من حكام الأقاليم المختلفة، مثل «فخر الدولة
بن ركن الدولة»، و «أبى تغلب بن حمدان» وغيرهما، وحدثت
بعض المعارك بين جيوش «عضد الدولة» وجيوش «بختيار» سنة
(366هـ= 976م) انتهت بهزيمة «بختيار» وفراره من «بغداد» إلى
«الموصل» حيث تحالف مع واليها «أبى تغلب بن حمدان» ضد
«عضد الدولة» ، فسار إليهما «عضد الدولة» وهزمهما بالقرب من
«تكريت» فى (شوال سنة 367هـ= مايو سنة 978م) وأسر
«بختيار» وقتله، وضم مملكة الحمدانيين فى «الموصل»
و «الجزيرة» إلى أملاكه، واتخذ «العراق» مقرا لحكمه. اهتم
«عضد الدولة» بدعم سلطانه وتوسيع أملاكه؛ ففى سنة (368هـ=
978م) فتح «ميَّافارقين» و «آمد» و «ديار بكر» ، و «ديار مضر»
منهيًا بذلك نفوذ «أبى تغلب ابن حمدان» فى بلاد «الجزيرة» .
وفى عام (369هـ= 979م) استولى على الأقاليم الخاضعة لأخيه
«فخر الدولة» بسبب وقوفه إلى جانب «بختيار» ، فاستولى
على «همدان» و «الرى» وما بينهما من البلاد، وعين عليها أخاه
«مؤيد الدولة» نائبًا عنه فى حكمها، وفى سنة (371هـ= 981م)
ضم إلى نفوذه بلاد «جرجان» و «طبرستان» بعد أن أجلى عنها
صاحبها «قابوس ابن أبى طاهر» و «شمكير» (أحد أمراء آل
زيار) (8)، فتعاظم بذلك نفوذ «عضد الدولة» وذاع صيته وتمكنت
هيبته، وكان أول من خوطب بشاهنشاه فى الإسلام، وأول من
خُطب له على منابر «بغداد» بعد الخلفاء. وقد كان لعضد الدولة
إنجازات حضارية بالإضافة إلى أمجاده الحربية، فبعد دخوله
«بغداد» بدأ فى عمارتها، كما أمر بإخراج أموال الصدقات
وتسليمها للقضاة وأعيان الناس، لإعانة من يستحق، وبدفع
أموال للعاطلين الذين يتعذر عليهم الحصول على العمل، بما
يكفى احتياجاتهم، ثم يردونها بعد ذلك إذا عملوا. كما اهتم
«عضد الدولة» بالعلم والعلماء، وأغدق عليهم العطاء وأحاطهم
بمظاهر التكريم، وقد كان مجلسه منتدى للعلماء، تدور فيه
المناقشات الدقيقة فى فروع العلم المختلفة، وكان يشترك مع
العلماء فى هذه المناقشات ويعارضهم فى المسائل، ومن أبرز
هؤلاء العلماء «أبو على الفارسى» الذى صنَّف له كتاب
«الإيضاح» و «التكملة» فى النحو، وكان «عضد الدولة» يقول:
«أنا غلام أبى على فى النحو» ، ومنهم أيضًا «أبو إسحاق
الصابى» الذى صنف لعضد الدولة كتاب «التاجى فى أخبار بنى
بويه». وكان «عضد الدولة» يحب الشعر ويطرب له، ويقرضه
أحيانًا، ويغمر الشعراء بفيض كرمه وجزيل عطائه، فقصده عدد
من فحول الشعراء فى عصره، وكتبوا فيه أروع قصائد المديح،
وفى مقدمتهم «أبو الطيب المتنبى» سنة (354هـ= 965م)، و «أبو
الحسن محمد بن عبدالله السَّلامى أبرز شعراء «العراق» ، وكان
«عضد الدولة» يقول: «إذا رأيت السَّلامى فى مجلسى ظننت أن
عطارد قد نزل من الفَلك إلىَّ ووقف بين يدى». وقد اقتدى
«مؤيد الدولة» و «فخر الدولة» بأخيهما «عضد الدولة» فى
تشجيع العلم وإكرام أهله، فعين «مؤيد الدولة» «الصاحبَ بن
عباد» وزيرًا له سنة (366هـ= 976م)، وكان من أعظم رعاة العلم
والأدب، وعقب وفاة «مؤيد الدولة» واستيلاء أخيه «فخر الدولة»
على مملكته أقر «الصاحب بن عباد» على وزارته، وعين مفكر
المعتزلة المشهور «عبدالجبار بن أحمد» قاضى قضاة للرى سنة
(367هـ= 978م) لصلته بالصاحب بن عباد، ثم عزله «فخر الدولة»
سنة (385هـ= 995م) حينما تُوفِّى «الصاحب بن عباد» . وتُوفِّى
«عضد الدولة» فى (شوال سنة 372هـ= مارس سنة 983م)، وعمره
ثمانٍ وأربعون سنة (9)، وقد تركت وفاته فراغًا هائلاً تعذر على
خلفائه أن يملئوه. وكان أخطر ما ترتب على وفاة «عضد
الدولة»، الصراع الذى نشب بين أولاده الخمسة على السلطة،
وهم: «أبو كاليجار المرزبان» (صمصام الدولة)، و «أبو الحسين
أحمد»، و «أبو طاهر فيروز شاه» ، و «أبو الفوارس شيرزيل»
الملقب «شرف الدولة» ، و «أبو نصر فيروز» الملقب «بهاء
الدولة». وقد استقر الأمراء والقادة على اختيار «أبى كاليجار
المرزبان» ليكون خلفًا لأبيه «عضد الدولة» ، ولقبوه «صمصام
الدولة» وأقر الخليفة «الطائع لله» هذا الاختيار وخلع على
«صمصام الدولة» سبع خلع، ولقبه «شمس الملة» ، فلم يكن
للخليفة دور سوى إقرار ما يتفق عليه القادة والأمراء. وقد واجه
«صمصام الدولة» انشقاقًا من أخيه «شرف الدولة» الذى استطاع
الاستقلال ببلاد «فارس» والاستيلاء على «البصرة» ، وتعيين
أخيه «أبى الحسين أحمد» نائبًا عنه فى حكمها، كما تمكن من
هزيمة الجيش الذى أرسله إليه «صمصام الدولة» ليسترد منه بلاد
«فارس» . وقد استطاع «صمصام الدولة» استمالة عمه
«فخرالدولة» إلى صفه فى هذا الصراع، ولكن جنده فى
«بغداد» ثاروا عليه وأعلنوا بيعتهم لشرف الدولة، ورغم أن
«صمصام الدولة» قضى على هذه الثورة فإنه لم يستطع وضع
حد لازدياد قوة أخيه «شرف الدولة» . ففى سنة (375هـ= 985م)
استولى «شرف الدولة» على «الأهواز» وقبض على أخيه «أبى
طاهر فيروز شاه» المناصر لصمصام الدولة، وفى (رمضان سنة
376هـ= يناير سنة 987م) استولى على «العراق» ودخل «بغداد»
وقبض على أخيه «صمصام الدولة» ، فذهب إليه الخليفة وهنأه
بالسلطنة. لم يستمر «شرف الدولة» طويلاً فى إمارته على
«العراق» ، فقد تُوفِّى فى غرة (جمادى الأولى سنة 379هـ=
أغسطس سنة 989م)، ولم يجد حرجًا وهو فى مرض موته أن يأمر
بِسَمْل عينى أخيه «صمصام الدولة» وهو فى سجنه. وخلف
«شرف الدولة» أخوه «أبو نصر فيروز» ، الذى لقبه الخليفة
«بهاء الدولة وضياء الملة» ، ولكن العلاقة بين «بهاء الدولة أبى
نصر فيروز» وبين الخليفة «الطائع» وصلت بعد قليل إلى الحد
الذى جعل «بهاء الدولة» يقوم بعزل الخليفة؛ فقد قلت الأموال
عند «بهاء الدولة» ، وثار جنده عليه، فاقترح عليه أحد خواصه
وهو «أبو الحسن بن المعلم» ، أن يقبض على الخليفة «الطائع»
ويستولى على أمواله، فدخل «بهاء الدولة» على الخليفة ومعه
جمع كثير، وتقدم أحد رجاله كأنه يريد أن يقبل يد الخليفة،
فجذبه فأنزله عن سريره والخليفة يقول: «إنا لله وإنا إليه
راجعون»، ويستغيث دون أن يلتفت إليه أحد، وتم الاستيلاء على
أمواله، وحُمِل الخليفة إلى دار «بهاء الدولة» ؛ حيث أُرغِم على
خلع نفسه فى (التاسع عشر من شعبان سنة (381هـ= أكتوبر
سنة 991م) بعد أن استمر فى الخلافة ما يقرب من ثمانية عشر
عامًا، كان خلالها مسلوب الإرادة. ثالثًا: خلافة القادر بالله (381 -
422هـ= 991 - 1031م). هو «أبو العباس أحمد بن إسحاق بن
المقتدر»، اختاره «بهاء الدولة» بعد خلع «الطائع لله» لتولِّى
الخلافة، وكان غائبًا عن «بغداد» ، فلما وصله الخبر حضر إليها
وبايعه «بهاء الدولة» والناس فى (رمضان سنة 381هـ= نوفمبر
سنة 991م)، وعمره خمسة وأربعون عامًا. وقد دامت خلافة
«القادر بالله» إحدى وأربعين سنة وحفلت بالكثير من الأحداث
والتطورات، وأهمها: أ - ازدياد التفكك فى البيت البويهى: فقد
نشب الصراع بين «بهاء الدولة» ، وأخيه «صمصام الدولة» ولم
يكن فى «بنى بويه» أظلم من «بهاء الدولة» ولا أقبح سيرة
منه، ففى سنة (383هـ= 993م) قام بمحاولة للاستيلاء على
المنطقة الخاضعة لإمارة أخيه «صمصام الدولة» فى بلاد «فارس»
و «أرَّجان» ، فانتهت هذه المحاولة بعكس ما كان يهدف إليه؛
حيث تمكن «صمصام الدولة» من الاستيلاء على «خوزستان»
الخاضعة لبهاء الدولة، وبدد شمل الجيش الذى أرسله «بهاء
الدولة». وفى سنة (384هـ = 994م) استطاع «بهاء الدولة» أن
يهزم «صمصام الدولة» ، وأن يسترد منه بعض ما خسره قبل ذلك.
وقد تجدد الصراع بينهما مرات عديدة، ووصل فى إحدى مراحله
إلى استيلاء «صمصام الدولة» على «البصرة» فى «العراق» سنة
(386هـ= 996م)، ولم يتوقف هذا الصراع بين «بهاء الدولة»
و «صمصام الدولة» إلا بمقتل «صمصام الدولة» على يد بعض أبناء
«عز الدولة بختيار» ؛ انتقامًا لمقتل أبيهم «بختيار» على يد
«عضد الدولة» ، والد «صمصام الدولة» ، وذلك فى (ذى الحجة
سنة 388هـ= 998م). وعقب مقتل «صمصام الدولة» أراد بعض
أبناء «بختيار» الاستيلاء على «فارس» ، فنشب الصراع بينهم
وبين «بهاء الدولة» وانتهى بهروبهم ومقتل أحدهم واسمه «أبو
نصر» على يد أنصار «بهاء الدولة» سنة (390هـ = 1000م). وقد
تُوفِّى «بهاء الدولة» (أبو نصر فيروز بن عضد الدولة) فى
(جمادى الآخرة سنة 403هـ = ديسمبر سنة 1012م)، فخلفه على
إمارة «العراق» ابنه «أبو شجاع فخر الملك» ، الذى لقبه الخليفة
«القادر بالله» «سلطان الدولة» ، فولى أخاه «جلال الدولة» «أبا
طاهر» إمارة «البصرة» وأخاه «قوام الدولة أبا الفوارس»
«كرمان» . ونشب صراع مرير بين أبناء «بهاء الدولة» : «سلطان
الدولة» و «جلال الدولة» ، و «قوام الدولة» ، و «مشرف الدولة»
الذى استطاع الاستيلاء على «العراق» سنة (411هـ = 1020م)
وبعد وفاة «سلطان الدولة» فى (شوال سنة 415هـ = ديسمبر
سنة 1024م) خلفه ابنه «أبو كاليجار» على إمارة «فارس»
و «كرمان» ، ودخل فى صراع مع عمه «أبى الفوارس بن بهاء
الدولة» الذى استطاع الاستيلاء على «كرمان» ، وأرغم «أبا
كاليجار» على دفع خراج له قيمته عشرون ألف دينار، إلا أن
«أبا كاليجار» استرد «كرمان» بدون قتال عقب وفاة عمه «أبى
الفوارس» سنة (419هـ = 1028م). وعقب وفاة «مشرف الدولة»
تولى أخوه «أبو طاهر جلال الدولة» - أمير «البصرة» - إمارة
«العراق» ، لكنه لم يتمكن من دخول «بغداد» ؛ حيث منعه أنصار
ابن أخيه «أبى كاليجار» من دخولها، تمهيدًا لقدوم «أبى
كاليجار» وسيطرته على «العراق» ، ولكن ذلك لم يحدث لانشغاله
بصراعه مع عمه «أبى الفوارس» ، وبقيت «بغداد» بدون أمير
بويهى لمدة عامين وبضعة أشهر، مما دعا رؤساء الجند إلى أن
يطلبوا من الخليفة «القادر بالله» أن يرسل إلى «جلال الدولة»
ليحضر إلى «بغداد» ويتسلم الإمارة؛ جمعًا للكلمة وحسمًا
للخلاف، فاستجاب الخليفة لهم ودخل «جلال الدولة» «بغداد» فى
(رمضان سنة 418هـ = سبتمبر سنة 1027م)، إلا أنه ما لبث أن
دخل فى صراع مع ابن أخيه «أبى كاليجار» ، الذى أراد انتزاع
«العراق» من عمه «جلال الدولة» ، واستمر الصراع بينهما بين
النصر والهزيمة لهذا الطرف أو ذاك حتى وفاة «جلال الدولة»
سنة (435هـ= 1044م). وقد أدى الصراع المستمر بين أبناء البيت
البويهى إلى تطلع قوى أخرى من خارج البيت البويهى
للاستيلاء على مقاليد الحكم فى دولة الخلافة العباسية، كما
شغل هذا الصراع البويهيين عن توجيه أذاهم إلى الخليفة
العباسى «القادر بالله» ، الذى ظل واحدًا وأربعين عامًا على
كرسى الخلافة حتى تُوفِّى سنة (422هـ = 1031م).