الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
مقديشيو (سلطنة)
كانت بلاد «الصومال» تعرف فى العصور الوسطى باسم «سلطنة
مقديشيو». وينتمى الصوماليون إلى العنصر الكوشى الحامى،
ومنهم قبائل «الجَلا» و «الدناكل» ، وهؤلاء اختلطوا بالعناصر
السامية التى هاجرت من جنوب بلاد العرب قبل الميلاد، وبالزنوج
البانتو، وتكون منهم «شعب الصومال» . وبعد ظهور الإسلام
تدفقت القبائل العربية على تلك المنطقة، إما بهدف التجارة أو
نشر الإسلام أو الإقامة فرارًا من الانقسامات السياسية، وأقام
هؤلاء المهاجرون العرب مراكز تجارية على طول الساحل
الشرقى الإفريقى؛ فى «مقديشيو» و «براوة» و «سوفالة» ،
و «بات» و «ممبسة» و «مالندى» و «كلوة» وغيرها، وعلى
أيديهم نشأت معظم هذه المدن. وقد سبقت الإشارة - عند الحديث
عن الهجرات العربية إلى ساحل شرق إفريقيا - إلى هجرتين
وصلتا إلى ساحل «الصومال» ، وهى «هجرة الزيدية» التى
أقبلت إلى «الصومال» بعد مقتل زعيمهم «زيد بن على زين
العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب» رضى الله عنهم، ثم
هجرة الإخوة السبعة من «بنى الحارث» ومن معهم من العرب إلى
بلاد «الصومال» فى عام (292هـ = 903م). والهجرة الأخيرة
كانت أبقى أثرًا فى تاريخ «الصومال» ، إذ إنها أقامت «سلطنة
مقديشيو» الإسلامية. وقد كانت «مقديشيو» أول مدينة عربية
بناها «بنو الحارث» على «ساحل بنادر» عام (295هـ = 907م)،
وتلتها مدينة «براوة» حوالى عام (365هـ = 975م). وتشير بعض
المصادر إلى مواضع مدن أخرى مثل «قرفاوة» ، و «النجا» ،
و «بذونة» ، و «ماندا» فى جزيرة «ماندا» ، و «أعوزى» ،
و «شاكة» قرب دلتا نهر «تانا» ، وقد بنى «بنو الحارث» هذه
المدن فى سنوات متفاوتة وأسسوا فيها سلطنة استمروا فى
حكمها معظم فترات العصور الوسطى، فكان حكام «سلطنة
مقديشيو» عند قدوم البرتغاليين من سلالة الإخوة السبعة، بل إن
فيها حتى اليوم سبع عشائر تعود بأصولها إليهم. وفى عهد
هذه الأسرة الحاكمة صارت «مقديشيو» سلطنة قوية ذات شوكة
ونفوذ على عربان الساحل وعلى المدن التى تحيط بها، وكان
تجارها أول من وصلوا إلى بلاد «سفالة» ، واستخرجوا منها
الذهب، مما درَّ عليهم أموالا كثيرة، استفادوا منها فى تطوير
«مقديشيو» فحلت المنازل المشيدة بالأحجار على الطراز العربى
محل المبانى الخشبية ومحل المساكن المتخذة من القش المغطى
بجلود الحيوانات. وكانت «مقديشيو» فى عهدهم بمثابة العاصمة
لجميع البلاد المجاورة ومركزًا للمدن العربية الأخرى التى امتدت
على طول الشاطئ، فكانت جموع الناس ترد على «مقديشيو»
من هذه المدن، فيجتمعون فى مسجدها الجامع حيث يؤدون
صلاة الجمعة، مما يدل على أهمية مركز «مقديشيو» الدينى
والثقافى عند سكان الساحل جميعًا، حتى اعتبرت العاصمة
الثقافية لساحل الزنج كله، وزعيمة عرب هذا الساحل؛ نتيجة لما
وصلت إليه من قوة ونفوذ، ولما قامت به من دور مهم فى نشر
العروبة والإسلام. وعندما وصل الشيرازيون المهاجرون بقيادة
«على بن حسن بن على» إلى «مقديشيو» بعد حوالى سبعين
عامًا من بنائها، لم يستطيعوا دخولها لحصانتها ومناعتها
فتركوها واتجهوا جنوبًا إلى «كلوة» ؛ حيث أقاموا هناك سلطنة
إسلامية، فكانت هى و «مقديشيو» أهم مدينتين على الساحل
من القرن العاشر إلى الخامس عشر الميلادى، ولم تستطع
إحداهما أن تسيطر على الساحل سيطرة كاملة. وعند قدوم «ابن
بطوطة» إلى «مقديشيو» كانت تسيطر عليها قبيلة الأجران
الصومالية، وكان سلطانها يسمى «أبا بكر بن الشيخ عمر» ،
ويبدو أن سيطرة هذه الأسرة كان أمرًا عارضًا؛ بدليل أن
البرتغاليين عندما قَدِموا إليها كان حكامها من أسرة «المظفر»
من «بنى الحارث» الذين أسسوها من قبل. ونظرًا لطول مدة حكم
هذه الأسرة فقد كانت لها جهود كبيرة فى تعريب كثير من
القبائل الصومالية خاصة الساحلية، التى دخلت فى الإسلام على
أيديهم، ذلك أن هذه القبائل وخاصة قبيلة «الأجران» كانت
تربطها بأسرة «المظفر» الحارثية صلات تجارية كبيرة. ولاشك
أن هذه العلاقات التجارية لابد أن تؤتى ثمارها فى نشر الإسلام
بين هذه القبيلة وغيرها من القبائل الصومالية، التى اتصلت
بسلطنة «مقديشيو» الإسلامية، التى أكثرت من إنشاء المساجد
والجوامع التى لايزال بعضها باقيًا حتى الآن، منها مسجد عليه
كتابة تبين تاريخ تأسيسه وهو سنة (637هـ = 1239م)، أى قبل
مرور «ابن بطوطة» بها بنحو قرن من الزمان، ولعله «مسجد
عبدالعزيز» الذى بُنى فى «مقديشيو» منذ سبعمائة عام تقريبًا،
ولازال موجودًا حتى الآن. وقد وصل إلينا كثير من المعلومات عن
بلاد الصومال بفضل ما كتبه عنها الرحالة والجغرافيون العرب،
مثل: «المسعودى» و «الإدريسى» و «ابن بطوطة» الذى أمدنا
بوصف دقيق لعدد من المدن الإفريقية وأحوال سكانها المسلمين،
ولاسيما «مقديشيو» ، التى زارها عام (1332م) و «زيلع» التى
قال عنها: «إنه يسكنها طائفة من السودان شافعية المذهب
وهى مدينة كبيرة، لها سوق عظيمة لها رائحة غير مستحبة
بسبب كثرة السمك ودماء الإبل التى ينحرونها فى الأزقة
والطرقات». ثم أقلع «ابن بطوطة» إلى «مقديشيو» واستقر بها
أسبوعًا، وأتيح له أن يتصل بقاضيها وعلمائها وسلطانها
الشيخ «أبى بكر ابن الشيخ عمر» الذى استضافه مدة إقامته،
وقد أمدنا بمعلومات كثيرة عن طعام أهلها وفاكهتها وملابس
شعبها وتقاليد سلطانها فى مواكبه ومجالسه، وعن مجالس
الفقهاء والعلماء وذوى الرأى، وعن كيفية نظرهم فى شكوى
الناس، وتطبيقهم للشريعة الإسلامية. بعد ذلك يصف «ابن بطوطة»
الازدهار الاقتصادى الذى كانت تنعم به سلطنة «مقديشيو»
الإسلامية فيقول: «إن هذه المدينة مدينة واسعة كبيرة يمتلك
أهلها عددًا وافرًا من الجِمال والماعز، ينحرون منها مئات كل
يوم، وإنهم تجار أغنياء أقوياء، بعضهم يقوم بصناعة ثياب
جميلة لا نظير لها تُصدَّر إلى مصر وغيرها من البلاد». وكى
يشجعوا التجار على القدوم إلى بلادهم كان من عادتهم أنه متى
وصل مركب أو سفينة محملة بالتجار والبضائع إلى ميناء
«مقديشيو» يركب شباب هذه المدينة فى قوارب صغيرة ويحمل
كل منهم طبقًا مُغطى فيه طعام، فيقدمه لتاجر من التجار
القادمين على هذه السفن ويقول «هذا نزيلى» فينزل معه هذا
التاجر إلى داره، ويساعده هذا الشاب فى عمليات البيع
والشراء، مما أدى إلى رواج تجارتهم مع الأقطار الخارجية. وقد
استمرت سيادة «مقديشيو» على ساحل «بنادر» حتى القرن
السادس عشر الميلادى حينما فقدت أهميتها وانحطت منزلتها
كمركز تجارى، خاصة بعد انتشار التجارة بين عدة مدن ساحلية
أخرى منافسة لمقديشيو، وتعرضها والمنطقة للخطر البرتغالى،
فقد ضرب «فاسكودى جاما» «مقديشيو» بالمدافع فى أثناء
عودته من «الهند» عام (1498م)، ثم استولى أحد قواد البرتغال
على مدينة «براوة» عام (1507م)، وحاول الاثنان الاستيلاء على
«مقديشيو» لكنهما فشلا، وغزا «لوبى سواريز» «زيلع» عام
(1515م) وأضرم فيها النار، كما حاصر البرتغاليون «بربرة» عام
(1516م). وهكذا نرى أن البرتغاليين قادوا حربًا صليبية ضد
المسلمين فى شرق إفريقيا و «الصومال» ، ومن المدهش حقا أنه
كان من نتائج تلك الحملة الوحشية انتشار الإسلام، ذلك لأن
السكان المسلمين الذين تركوا الساحل أمام نيران المعتدين
البرتغاليين لجئوا إلى الداخل، حيث اختلطوا بالقبائل الصومالية
ونشروا الإسلام بينها، فنتج عن ذلك «شعب الصومال» المسلم،
وبسبب كثرة الهجرات العربية من بلاد «اليمن» و «الحجاز»
وامتزاجها بأهل تلك البلاد؛ انتشرت اللغة العربية والدم العربى
بدرجة كبيرة، وأصبحت العربية هى لغة التخاطب بجانب اللغة
المحلية، وكانت قبائل «الصومال» بعد اعتناقها الإسلام هى
السند والحصن الذى لجأ إليه «أحمد القرين» فى صراعه ضد
ملوك «الحبشة» ، مما يدل على تمسك شعب الصومال بالإسلام
ودفاعهم عنه دفاعًا قويا، ولا غرو فالصومال الآن كما هو
معروف إحدى دول الجامعة العربية.