الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
العامرية (دولة)
بعد أن أصبحت السيطرة كاملة لابن أبى عامر فكر فى إنشاء
مدينة جديدة يتوافر فيها الأمان ومظاهر السلطان فكانت مدينته
الزاهرة أو العامرية شرقى قرطبة والتى استغرق بناؤها
عامين، وضمت قصرًا ومسجدًا ودواوين للإدارة ومساكن للحرس،
ونقل خزائن المال والسلاح إليها، وأقيم حولها سور ضخم كما
بنى خندقًا وتم إقطاع ضواحيها للوزراء والقادة، فابتنوا الدور
وأنشئت الشوارع والأسواق حتى اتصلت مبانيها بضواحى
قرطبة، وقد انتقل إليها ابن أبى عامر سنة (370هـ = 980م)،
واتخذ له حرسًا خاصا من الصقالبة والبربر أحاطوا بقصره،
ومنعوا الدخول والخروج إليه، وبذلك أقفرت قرطبة وأقفر
قصرها ونقلت كل مظاهر السلطان إلى المدينة الجديدة، ومنع
الخليفة من أى حركة إلا بإذن ابن أبى عامر حماية له من
المتآمرين وحتى يتفرغ للعبادة كما زعم. حاولت «صبح» بعد هذا
التطور أن تستبعد «ابن أبى عامر» مستعينة بمنافسيه، ولجأت
إلى القائد «غالب» - صاحب الثغر - فى سرية تامة، فرد ابن أبى
عامر بتقريب «جعفر بن على بن حمدون الأندلسى» -وهو بربرى
من زناتة - عبر البحر وتقلد الوزارة، واستعان به ابن أبى عامر
على كسب مودة البربر الذين توافدوا من عدوة المغرب إلى
الأندلس، وغمرهم بأمواله. أراد غالب مصانعة ابن أبى عامر
فدعاه إلى غزوة مشتركة فى أراضى قشتالة، وأقام له وليمة
دخل معه خلالها فى نقاش عنيف ورفع السيف فأصيب ابن أبى
عامر، لكنه استطاع الفرار وذهب إلى دار غالب بمدينة سالم
واستولى على كل ما كان فيها، ثم دخل الفريقان فى قتال عند
حصن «شنت بجنت» يعاون غالب ملك ليون، وانتهى الأمر بموت
غالب وهزيمة أعوانه من المسلمين والنصارى فى (4 المحرم سنة
371هـ = 10يوليو 981م). غزوات ابن أبى عامر: بدأت سلسلة
هذه الغزوات الشهيرة بعد أن استقرت الأمور لابن أبى عامر،
ووصل عددها إلى نحو أربع وخمسين غزوة استقصى المؤرخ
القرطبى ابن حيان أخبارها فى كتاب له مفقود عنوانه «الدولة
العامرية» ويتحدث عنها ابن خلدون فيقول: «غزا ابن أبى عامر
اثنتين وخمسين غزوة فى سائر أيام ملكه، لم ينكسر له فيها
راية ولا فل له جيش ولاأصيب له بعث ولا هلكت له سرية». وقد
بدأ «ابن أبى عامر» غزواته بمملكة «ليون» ؛ ليعاقب ملكها على
معاونته لغالب، وقد تحالف ضده ملوك النصارى الثلاثة: ملك
ليون، وملك قشتالة، وملك نبرة، وجرت بينه وبينهم موقعة عند
«شنت منكش» انتصر فيها «ابن أبى عامر» ، ووصل إلى عاصمة
مملكة «ليون» ، ثم عاد إلى «قرطبة» سنة (371هـ = 981م) بسبب
حلول الشتاء، وبعد عدة أشهر من عودته اتخذ لنفسه لقب
«الحاجب المنصور» ودعى له على المنابر وصدرت الكتب باسمه
ونقش على السكَّة، وقبَّل المسئولون وكبار الموظفين والوزراء
يده وأصبح هو كل شىء. وفى سنة (274هـ = 984م) خرج
«المنصور» إلى شمال شرقى «الأندلس» على رأس جيش ضخم مر
بغرناطة ثم «بسطة» فلورقة فمرسية، ثم اتجه شمالا إلى
«برشلونة» ، حيث دخل منطقة «قطلونية» ، ثم اقتحم مدينة
«برشلونة» ودمَّرها وأحرقها فى (صفر 375هـ = يوليو 985م)،
ولم يحاول المنصور الاحتفاظ ببرشلونة، وإنما قصد إلى تدمير
قوى النصارى فى هذه المنطقة النائية. ثم قام المنصور عام
(378هـ = 988م) بغزو مملكة ليون بعد أن انقض ملكهم على
المسلمين، وطاردهم إلى آخر حدود بلاده، فسار المنصور شمالا
إلى ليون، ثم غربًا إلى مدينة قلمرية شمالى البرتغال بالقرب من
المحيط واستولى عليها وبقيت خرابًا مدة سبعة أعوام، ثم سار
المنصور نحو مملكة «نبرة» وقصد عاصمتها «بنبلونة» ردا على
إغارة ملكهم على أراضى المسلمين، وغزوة المنصور هذه
تسمى غزوة البياض، وقد عاد بجيشه إلى «سرقسطة» والتقى
هناك بابنة عبدالملك بعد عودته ظافرًا من حروبه فى بلاد
المغرب كما سنشير فيما بعد. وفى ربيع سنة (378هـ = 988م)
خرج المنصور فى جيش ضخم، واخترق مملكة ليون واستولى
على عاصمتها بعد معارك عنيفة، ثم سار إلى «سمورة»
وحاصرها حتى سلمت، واعترف النبلاء له بالطاعة، ولم يبق تحت
سيطرة ملك ليون إلا المنطقة الجبلية الواقعة شمالى غربى إقليم
جليقية. وأثناء قيام المنصور بغزوته هذه رقم (45) انضم ابنه
«عبدالله» إلى ملك قشتالة بتحريض من صاحب الثغر الأعلى
«عبدالرحمن بن مطرف التجيبى» وكانت عاصمته «سرقسطة» ،
ولكن المنصور ضغط على الملك النصرانى عن طريق العمليات
العسكرية المتتالية فسلمه ابنه، ولم يتردد المنصور فى قتل ولده
فى الحال. ثم قام «المنصور» سنة (387هـ = 997 م) بأعظم
غزوة قام بها متجهًا نحو منطقة جليقية، وهى منطقة وعرة من
الصعب غزوها؛ لأنها ملاذ ملوك ليون يلجئون إليها كلما ضيق
المسلمون الخناق عليهم، فخرج المنصور إليها من قرطبة فى
(شهر جمادى الآخر سنة 387هـ= 997م)، وفى الوقت نفسه تحرك
الأسطول الأندلسى فى مياه البرتغال يحمل المشاة والأقوات
والذخيرة، وعبر المنصور الجبال والأنهار حتى وصل إلى مدينة
قورية، ثم زحف نحو الشمال الغربى واستولى على مدينتى:
«بازو» و «قلمرية» ؛ حيث وفد إليه العديد من أمراء النصارى
وانضموا إلى جيشه وأطاعوه، بعد ذلك توجهت القوات الإسلامية
شمالا نحو نهر «دويرة» ، حيث وافاه الأسطول، فجعله جسرًا
عبر به صوب جليقية، وسار فى شعب الجبال، ثم التزم المشى
بحذاء الشاطئ يهدم ويخرب، ففرت أمامه جموع النصارى، وظل
المنصور يواصل عملياته حتى انتهى إلى مدينة «شنت ياقب»
المقدسة عند النصارى فدخلها ثم سار المنصور حتى وصل إلى
شاطئ المحيط وتابع سيره إلى أن أصبح فى شمال البرتغال
الحديثة، وهناك وزع الهدايا على الموالين له من زعماء النصارى
وطلب منهم أن يعودوا إلى بلادهم ورجع هو إلى مدينته الزاهرة.
وقد هزت هذه الغزوة إسبانيا النصرانية، وبقى تأثيرها بضع
سنين وكانت الثامنة والأربعين من بين مجموع غزواته. ثم قام
المنصور بعد ذلك بغزوات فى سنوات (389، 390هـ= 999،
1000م) فى أراضى نبرة وقشتالة؛ حيث واجه جموع النصارى
متحدين مصممين على النيل منه، وتعرض المسلمون للهزيمة أول
الأمر، لكن المنصور صعد على ربوة عالية، وأخذ يضاعف جهوده
ويحرض الناس، حتى تمكن من تحويل الهزيمة إلى نصر ومزق
العدو شر ممزق، وتوالى زحفه حتى اقتحم مدينة «برغش» ،
ومنها توجه إلى «سرقسطة» ، ثم إلى «بنبلونة» عاصمة «نبرة»
دون أن يجرؤ أحد على اعتراضه وأخيرًا رجع إلى العاصمة بعد
تسعة ومائة يوم. وفى ربيع (392هـ =1002م) خرج المنصور لآخر
مرة، وتوجَّه إلى قشتالة ومنها اتجه غربًا نحو «برغش» وعاث
فى تلك المنطقة، وتقول المصادر النصرانية إنه تعرض لهزيمة
على أيدى ملوك النصارى متحدين، وإنه اضطر إلى الفرار فى
جنح الظلام بعد موقعة معهم جرت أحداثها بمكان يسمى «قلعة
النسور»، وقد جرح المنصور ثم مات بعد ذلك متأثرًا بجراحه، لكن
الباحثين المحدثين - ومنهم المستشرق الهولندى دوزى - يرفضون
هذه الرواية لأنها تخالف الحقائق التاريخية الثابتة، فهى تتحدث
عن تحالف بين ملوك من النصارى ماتوا قبل هذه الموقعة، أضف
إلى ذلك أن المصادر الإسلامية لاتذكرشيئًا عن تلك الموقعة، مع
أنها لاتخفى هزائم المسلمين، فالصمت قرينة على أنه لم تكن
هناك هزيمة ولاحتى موقعة أصلا. ومهما يكن من أمر فقد سار
المنصور فى حملته هذه محمولا حتى وصل إلى «مدينة سالم» ،
وهناك وافاه الأجل فى (27 رمضان 392هـ = 11 أغسطس
1002م) بعد حكم دام 27 عامًا. المنصور وولاية العهد: اتخذ
المنصور فى سنة (381هـ= 991م) خطة غير مسبوقة بهدف دعم
سلطانه فرشح ابنه عبدالملك ليتولى الأمر من بعده، وتنازل له
عن الحجابة والقيادة وجميع ما كان يتولى من خطط مكتفيًا بلقب
«المنصور» ثم تلقب بالملك الكريم فى سنة (386هـ = 996م)
وبولغ فى تعظيمه وإجلاله، ولم يكن المنصور يقصد أن تجتمع
السلطات فى يده، فكل السلطات السياسية والعسكرية فى
قبضة يديه بالفعل، لكنه أراد أن يصبغ حكمه بالصبغة الشرعية،
وأن تكون له رسوم الملك والخلافة، ويقوم بتأسيس دولة تحل
محل دولة بنى أمية، لكن الظروف لم تكن مهيأة فالناس لاتميل
كثيرًا إلى المنصور؛ بسبب الوسائل الدموية التى لجأ إليها
لتصفية خصومه. الجيش فى عهد المنصور: أعطى المنصور
اهتمامًا كبيرًا للجيش، فعنى بتنظيمه، واستقدم قوات تعد
بالألوف من المرتزقة من قبائل زناتة وصنهاجة وغيرهما من
البربر ومن الجند النصارى، وكون من هؤلاء جميعًا جيشًا ضخمًا
ضمن ولاءه له بجوده ووفرة عطاياه، كما غير من نظام الجيش،
فقدَّم رجالات البربر وأخَّر زعماء العرب وفرق جند القبيلة
الواحدة، وكان الخليفة الناصر من قبله قد مهد له الطريق عندما
سحق القبائل العربية وأضعف هيبتها حسبما أشرنا من قبل،
أى أن ابن أبى عامر وجد الطريق ممهدًا، فلم تلق سياسته كبير
معارضة. وقد نفر المحاربون القدماء والأندلسيون بشدة من ذلك
الجيش وسعِدَ «ابن أبى عامر» بهذا النفور لأنه يقف حائلا بين
عناصر الجيش القديم وبين اتحادها ضده، كما أنه يشعر البربر
بضرورة الاعتماد عليه. ومن أهم ما فعله فصل جيش الحضرة
(قرطبة) عن الجيش العام، وتعيين نفسه قائدًا له، فأصبح قوة
عسكرية، وفتحت له والدة الخليفة بيت المال ظنا منها أنه يعمل
لحسابها وحساب ابنها، فأكثر من الجند، وأصبح مستبدا
عسكريا، وتحوَّل من فقيه إلى رجل سياسة، وملك من القوة
العسكرية ما لم يملكه من سبقوه، فالناصر رغم ميله إلى
الاستبداد كان يقف عند حد معين، ويعلم أنه من المستحيل
القضاء على النصارى فيكتفى بإضعافهم وحملهم على أداء
الجزية، أما المنصور فتتوالى ضرباته دون أن يحاول ضم جزء
إلى أراضى الخلافة، أو إسكان بعض المسلمين فى الأراضى
التى يفتحها وإنما يضرب ويحوز الغنائم ويعود النصارى إلى ما
كانوا عليه، وكأنه لم يكن يهدف إلا إلى ذلك. وجدير بالذكر أن
المنصور فى سنة (388هـ = 998م) أعفى الناس من إلزامهم
بالغزو؛ بسبب ما وصلت إليه أعداد الجيش وما توافر له من قوة،
واكتفى بالقوات المرابطة، وقد بلغ الجيش المرابط أى الثابت فى
زمن المنصور (12100) من الفرسان يصرف لهم جميعًا المرتبات
والسلاح والنفقة بخلاف (600) فارس للحراسة الخاصة، أما الجيش
المرابط من الرجَّالة فقد بلغ ستة وعشرين ألفًا، وكان هذا العدد
يتضاعف بمن ينضم إليه من المتطوعة أثناء الصوائف ولا يدخل
فى هذا الخيل ومطايا الركوب ودواب الحمل وغيرها من العدد،
وكان المنصور يتولى قيادة قواته بنفسه غالبًا. وقد حققت
غزواته أهدافها من ردع النصارى ومنعهم من الهجوم على
أراضى المسلمين، وكان يعرف أبرز جنده جميعًا بأسمائهم
ويدعوهم إلى المآدب التى يقيمها عقب كل انتصار، ومع ذلك
فإن المحصلة النهائية لغزواته كانت ضعيفة فهو لم يقضِ على
كل قوى النصرانية أو يسحقها، وغزواته وإن أضعفت
النصارى، فإنها لم تغير أحوالهم، وبقيت حدود دولة الإسلام
على ما هى عليه، فهى غزوات دويها عظيم تجذب الناس إليها،
لكن نتائجها قليلة فقد أنهكت قوى الجيوش الإسلامية دون أن
تحقق هدفًا ثابتًا أو تقضى على خصم، إنها مثل الطبل الأجوف
صوت كبير وعمل قليل. إدارة المنصور: أظهر المنصور مقدرة
كافية ممتازة فى جميع المناصب التى تولاها وشهدت البلاد فى
زمنه أمنًا واستقرارًا وطمأنينة لم تعرفها قبله، وفى زمنه لم
تعرف البلاد الثورات مقارنًا بغيره، وازدهرت الصناعة والتجارة
والزراعة، وارتقت العلوم والآداب، وامتلأت خزائن قرطبة بالمال
حتى وصلت الإيرادات إلى نحو أربعة ملايين دينار، بخلاف
الموارد من المواريث ومال السبى والغنائم، وقد عاون المنصور
مجموعة من الكتاب والوزراء فى هذا العصر من أبرزهم: «أبو
مروان عبدالملك بن شهيد» و «محمد بن جهور» و «أحمد بن سعيد
بن حزم» والد الفيلسوف المشهور، و «خلف بن حسين بن حيان»
والد أمير المؤرخين الأندلسيين «ابن حيان» ، ومن الكتاب «سعيد
بن القطاع» وغيره من أبناء الأسر العريقة التى تعاقب أبناؤها
على الوزارة. العمارة فى عهد المنصور: لم يخل عهد المنصور
من الإنشاءات العظيمة على الرغم من الغزوات المستمرة وقد
أشرنا إلى بنائه مدينته الزاهرة بقصورها وحدائقها، وجعلها
قصرًا للحكم والإدارة، وقد بنى المنصور بجانبها منية جميلة
ازدانت بالحدائق والقصور أسماها «العامرية» ، وكان يقصدها
عندما يريد الاستجمام. كذلك قام بزيادة المسجد الجامع فى
«قرطبة» بعد أن اتسعت المدينة، وضمت واحدًا وعشرين حيا،
الواحد فيها أكبر من أية مدينة أندلسية، وقد حفر حولها خندقًا
بلغ 16 ميلاً وزاد سكانها كثيرًا لا سيما البربر، وضاق المسجد
الجامع بهؤلاء السكان فأدخل المنصور فى سنة (387هـ = 997م)
زيادة عليه من الناحية الشرقية، بلغت المساحة الأصلية نفسها
تقريبًا، وحرص المنصور على الاشتراك فى هذا المشروع بنفسه،
واشتغل فيه أسرى النصارى، وتم تعويض أصحاب الدور
والأماكن التى صودرت لهذا الغرض، ولا يزال هذا الجناح قائمًا
حتى اليوم، ويعرف بمسجد المنصور، وإن تحولت عقوده الجانبيه
إلى هياكل وكنائس. وبهذه الزيادة بلغت مساحة المسجد الجامع
ما يزيد على ستة أفدنة، كما انفرد بطرازه الرائع، وليس فى
العالم مسجد ولا كنيسة فى مثل حجمه اللهم إلا قصر «فرساى»
بفرنسا. كما جدد المنصور قنطرة قرطبة على نهر الوادى
الكبير، وكان «السمح بن مالك» قد جددها من قبل وأنفق
المنصور على تجديدها فى سنة (378هـ = 988م) مائة وأربعين
ألف دينار وبنى قنطرة «أستجة» على نهر «شنيل» أحد فروع
نهر الوادى الكبير. المنصور فى نظر المؤرخين: يشهد المؤرخون
القدماء للمنصور بالكرم، وبأنه كان يبذل الأموال للمتصلين به
والفقراء خاصة، ورغم سفكه للدماء فقد كان يتظاهر بالتقوى،
حريصًا فى كل غزواته على حمل مصحف خطه بيده، ويقال إنه
كان منصفًا عادلا يزجر الظالم حتى لو كان من كبار حاشيته،
وكان صبورًا حليمًا، ولكنهم ينعون عليه شغفه بمعاقرة الخمر،
ولم يتخل عن ذلك إلا قبل وفاته بعامين. وتميز المنصور بأنه كان
شغوفًا بالعلم والأدب، محبا للعلماء والأدباء والشعراء ويناظرهم
ويشترك معهم فى نظم الشعر ويغدق عليهم، ساعده على ذلك
نشأته فى بيت علم وأدب، وبراعته فى علوم الشريعة وفنون
الأدب خلال فترة صباه. وحرص المنصور على نشر العلم والمعرفة
بين طبقات الشعب، فأنشأ كثيرًا من دور العلم فى قرطبة وأنفق
عليها، وكان يزور المساجد والمدارس، ويمنح المكافآت
للمتفوقين من الطلاب، كما حرص على جمع الكتب ومكافأة
أصحابها، وقد منح «صاعد البغدادى» (500) دينار مكافأة له
على كتابه «الفصوص» ، وكان يكره الفلسفة، ويرى أنها مخالفة
للدين كما كان يبغض التنجيم ويطارد المنجمين، وقد استخرج من
المكتبة الأموية جميع كتب الفلاسفة والدهريين وأحرقها بحضرة
كبار العلماء، وما فعله «المنصور» أمر خطير، تسبب فى ضياع
ثروة علمية عظيمة. ونظرًا للشهرة الواسعة التى حققها المنصور،
جاء إليه بعض ملوك النصارى واستعطفوه وتقربوا إليه وزوجوه
من بناتهم. ويرى بعض المؤرخين المعاصرين أن «ابن أبى عامر»
من أعظم الرجال وأنه قام بما لم يقم به أحد فى تاريخ الإسلام،
فقد استطاع الاستيلاء على الحكم فى دولة كبرى، وهى فى
أوج سلطانها ووجه أمورها بصورة مستبدة. ومع ذلك فإن هنا
أمورًا ثلاثة هى أكثر ما أضر به المنصور: 1 - إقامته ملكه على
جند مرتزقة تعالوا على الناس، واصطناعه لبيوت جديدة من
زعانف الأسر، وصغار الفقهاء والطامعين، وتوليتهم وظائف
القضاء والولايات، وقد أثقل هؤلاء على الناس، وأرهقوهم
بالمطالب، واستولوا على أموالهم، ومن هؤلاء بنو عباد فى
إشبيلية، ومن البربر الذين استعان بهم فى النواحى، بنو الأفطس
فى بطليوس، وبنو ذى النون جنوب غربى طليطلة - بالإضافة
إلى الصقالبة الجدد الذين اشتراهم المنصور لحسابه ومن هؤلاء
جميعًا يتكون الحزب العامرى - وهم الذين قضوا على وحدة
الأندلس فيما بعد، ويتكون منهم ما يعرف بملوك الطوائف. 2 -
انعدام المفهوم الأخلاقى عنده، وهذا جعل الناس يخافونه ولا
يحبونه، بل إن أنصاره ما كانوا يأمنونه؛ لأنه كان كثير التجسس
فكان يطلب من العبيد والجوارى أن يكونوا عيونًا فى بيوتهم
وأفسد أخلاق الناس بالرشوة ونحوها. 3 - حجر المنصور على
الخليفة «هشام» ، وتعيين ابنه «عبدالملك بن المنصور» وليا
لعهده، والتخلص من معارضيه بالتآمر والقتل. ولقى المنصور ربه
فى «مدينة سالم» فى (27 من رمضان سنة 392هـ = أغسطس
سنة 1002م) كما أسلفنا وتولى الأمر من بعده ابنه عبدالملك
المظفر. عبدالملك المظفر بالله ابن المنصور [رمضان 392 - صفر
399هـ = أغسطس 1002 - أكتوبر 1008م]: صدر أمر الخليفة
«هشام» بتولية «عبدالملك» الحجابة بعد وفاة والده، وقضى
عبدالملك بسرعة على من أراد انتهاز الفرصة للعودة إلى حكم
الخليفة، وقد بدأ عهده بإسقاط سدس الجباية (الضرائب) عن
السكان بكل نواحى الأندلس فاستبشر الناس به خيرًا. سياسة
عبدالملك مع النصارى: ظن ملوك النصارى أن خطر الغزوات
الإسلامية عليهم سيقل بعد وفاة المنصور، لكنهم كانوا واهمين
لأن عبدالملك بدأ بعد أشهر قليلة من ولايته يستعد لغزوته
الأولى، ووفد إليه الزعماء والمتطوعة من المغرب وغيرها
للاشتراك معه، فرحَّب بهم وبذل لهم الأموال ووزع عليهم السلاح،
وخرج بالجيش من مدينة الزاهرة فى (شعبان 393هـ = يونيو
1003م)، وتوجه إلى مدينة «طليطلة» ، ومنها إلى مدينة «سالم» ،
حيث انضم إليه «الفتى واضح» فى قواته وقوات من النصارى
حسب اتفاقهم مع المنصور، ثم اتجه الجنود نحو الثغر الأعلى، ثم
من سرقسطة إلى «برشلونة» ، حيث استولت القوات الإسلامية
على بعض الحصون المنيعة، واستولت على سبى ومغانم، ثم
عاد المسلمون إلى قرطبة عن طريق مدينة «لاردة» فى شهر ذى
القعدة، وقد تلقى عبدالملك رسالة من أمير برشلونة تطلب
الصفح والمهادنة فاستقبل الرسل استقبالا يليق بمقام الخلافة.
ولما اعتدى أمير قشتالة على أراضى المسلمين سنة (394هـ =
1004م) قصد إليه عبدالملك وأدبه، واضطره إلى التسليم وطلب
الصلح ثانية، وتعهد على التعاون مع عبدالملك فى حملاته ضد
مملكة ليون وضد خصومه جميعًا. وفى العام التالى خرج
«عبدالملك» وسار نحو طليطلة ولحق به «الفتى واضح» وملك
قشتالة، واتجهوا شمالا نحو أراضى ليون ومدينة سمورة وعاث
فى هذه النواحى ووصل إلى جليقية واستولى على كثير من
المغانم والسبى، ولكنه لم يحقق نتائج حربية ذات قيمة. خرج
عبدالملك فى أواخر سنة (396هـ = 1006م) إلى «بنبلونة»
عاصمة «نبرة» فقصد «سرقسطة» و «شقة» و «بريشتر» ومنها
اخترق المسلمون أراضى العدو وأخذوا يقتلون وينهبون، ثم
تعرض الجيش لبعض العواصف ورعد وبرق قاسٍ، واضطر إلى
العودة إلى العاصمة. حين وصل إلى مسامع عبدالملك أن أمير
قشتالة يفكر فى الاعتداء على أراضى المسلمين، خرج لغزوته
الخامسة المسماة «غزوة قلونية» فى (صيف 397هـ = 1007م)،
واخترق أراضى قشتالة ليحارب ملكها الذى تحالف معه ملك ليون
وملك نبرة، وعدد من زعماء النصارى الذين وحدوا صفوفهم،
ومع ذلك فقد تمكن عبدالملك من إلحاق هزيمة بهم جميعًا عند
مدينة «قلونية» ، وحملهم على طلب الصلح ثم عاد إلى قرطبة
أواخر العام المذكور، فسر الناس بما حقق، واتخذ هو لقب
«المظفر بالله» إشادة بما أحرز من نصر عظيم. لكن ملك قشتالة
جدد عدوانه وغدر بالمسلمين فخرج إليه عبدالملك فى (صفر سنة
398هـ = أكتوبر 1007م)، واخترق أراضى قشتالة الوسطى،
وقصد إلى بعض الحصون المنيعة، وجرت معركة، اضطر النصارى
بعدها إلى دخول الحصن، وهجم عليهم المسلمون وضربوا الحصن
بالمجانيق والنيران حتى حملوا العدو على طلب التسليم، وهنا
أمر عبدالملك بقتل المقاتلة وسبى النساء والذرية، ثم رجع إلى
العاصمة فى شهر ربيع الثانى. وفى شوال من العام نفسه خرج
عبدالملك بغزوته السابعة والأخيرة وتعرف «بغزوة العلة» ؛ إذ إنه
ما كاد يصل إلى مدينة سالم حتى اشتد به المرض وتفرق عنه
المتطوعة، واضطر إلى الرجوع إلى قرطبة فى (المحرم 399هـ =
سبتمبر 1008م) لكنه شعر بتحسن فى صحته فعمل على
استئناف الغزو بعد فترة وجيزة لكن حالته ساءت، وتعرض
لنكسة سببها التهاب رئوى، وعاد إلى العاصمة فى محفة حيث
مات فى (16 من صفر سنة 399هـ = 21 من أكتوبر 1008م) بعد
حكم دام نحو سبع سنوات. أسلوب عبدالملك فى الإدارة والحكم:
التزم عبدالملك الأسلوب الذى كان يحكم به والده الأندلس فجعل
الخليفة محجورًا عليه لاحول له ولاقوة. وجمع السلطات كلها فى
يديه، وحدَّ من نفوذ الوزراء والكتاب وراقبهم وحاسبهم، وجلس
للناس وهجر اللهو، وعمل على تنمية الموارد وترتب على هذا
تحسن فى الأحوال المالية التى كانت قد ساءت بسبب كثرة
النفقات. ولم يكن لعبدالملك نصيب كبير فى مجالات العلم والأدب
وكان مجلسه لايقوم إلا على الأعاجم من البربر وغيرهم، ومع
ذلك فقد استمر يجرى الرواتب التى كان أبوه يجريها على
العلماء والأدباء والندماء، كما استمع إلى الشعر ووصل
الشعراء. عبدالرحمن بن شنجول قلد الخليفة هشام الحجابة
لعبدالرحمن بن منصور، وأنعم عليه بالخلع السلطانية، وكانت
أمه ابنة لملك «نبرة» تزوجها «المنصور» وأنجب منها، وقد
أسلمت وتسمت باسم «عبدة» ولأنه أشبه جده لأمه المسمى
«شانجة» لقب بشنجول أو شانجة الصغير. ولم يكن الشعب يميل
إلى «عبدالرحمن» لما فيه من دماء نصرانية ولانحراف سلوكه،
ولأنه جرى على منهج أبيه وأخيه فى الحجر على الخليفة هشام
مع الاستبداد بالرأى وإن مال هو إلى التودد إلى الخليفة
ومخالطته، وقد منحه الخليفة لقب المأمون ناصر الدولة بعد
عشرة أيام من ولايته، ليس هذا فحسب، بل إن عبدالرحمن جرؤ
على ما لم يجرؤ عليه أحد لا المنصور ولا عبدالملك، حين نجح بعد
محاولات فى استصدار مرسوم من الخليفة بتعيينه وليا للعهد من
بعده، لتنتقل رسوم الخلافة من أسرة بنى أمية إلى أسرة بنى
عامر، وأقر فقهاء قرطبة وعلماؤها هذا التحول وزكاه الوزراء
والقضاة والقادة، وكان ذلك فى ربيع الأول سنة (399هـ=
1008م)، ومضى «عبدالرحمن» أبعد من ذلك حين عين ابنه الطفل
فى خطة الحجابة ولقبه سيف الدولة، ثم اتخذ قرارًا جلب عليه
كثيرًا من السخط حين طلب من أكابر الموظفين ورجال الدولة خلع
القلانس الطويلة التى يتميزون بها لأنها لبس الأندلسيين، وتغطية
الرأس بالعمائم التى هى لباس البربر فأذعن هؤلاء كارهين. فكر
عبدالرحمن أن يشغل الناس بالغزو، فقرر أن يتوجه إلى جليقية
رغم تحذيره من سوء الأحوال الجوية، ومن انقلاب قد يقوم به
المروانية ضده، لكنه صمم وسار بالجيش نحو طليطلة، ومنها إلى
جليقية وسط أمطار وبرد شديدين وكان يمارس هوايته فى اللهو
والشراب، وقد اخترق مملكة ليون قبل أن يصل إلى جليقية،
فتحصن الأعداء برءوس الجبال، ولم يجد عبدالرحمن سبيلا إلى
مقاتلتهم بسبب كثرة الثلوج وفيضان الأنهار، فاضطر إلى أن
يعود دون أن يفعل شيئًا. وعند وصوله إلى طليطلة جاءته الأنباء
تفيد أن انقلابًا قد حدث فى قرطبة وأن الثوار استولوا على
مدينة الزاهرة فاضطربت صفوفهم، واضطر عبدالرحمن إلى أن
يعود عن طريق قلعة رباح، ولم يلتفت إلى نصح من طلب منه
البقاء فى طليطلة، لاعتقاده أن الناس سترحب به إذا رأوه يقترب
من قرطبة. وكان السبب الرئيسى للثورة هو استبداد بنى عامر
وقهرهم للناس استنادًا إلى قوة قوامها البربر والصقالبة، ثم
كانت ولاية عبدالرحمن للعهد واستئثاره برسوم الخلافة والحكم
هى الشرارة التى انتقلت منها نيران الثورة إلى كل العناصر
الناقمة، وعلى رأسهم بنو أمية، وكان المخطط للثورة والمتابع
لمراحل تنفيذها «الزلفاء» والدة عبدالملك -التى اعتقدت أن
«شنجول» سم ابنها - ثم فتى أموى اسمه «محمد بن هشام بن
عبدالجبار بن عبدالرحمن الناصر» كان عبدالملك قد أعدم أباه. لم
يكن المروانية وحدهم يرغبون فى القضاء على العامريين، وإنما
كان معهم كل العناصر الناقمة من البيوت العربية مضرية أو
يمنية، يؤازرهم كل طبقات الشعب، وأحكم هؤلاء جميعًا خطتهم
وانتهزوا فرصة خروج عبدالرحمن للغزو ومعه معظم الجيش
ليقوموا بالتنفيذ، وفى يوم (16 من جمادى الأولى 299هـ = 15
من يناير 1009م) جاءت الأنباء بأن عبدالرحمن عبر بجيشه إلى
أرض النصارى، فقام محمد بن هشام بإنزال ضربته، وهجم على
قصر قرطبة وقتل صاحب المدينة، والتف حوله الساخطون، ثم
اقتحم سجن العامرية وأخرج من فيه، واجتمع حوله المروانية
وانضم إليه الناس من كل حدب وصوب، وبعد أن سيطر ابن
عبدالجبار على القصر واستولى على كل ما فيه من سلاح
وغيره، طلب من الخليفة هشام أن يخلع نفسه فوافق، وانتهت
بذلك خلافته الصورية التى دامت (33) سنة وتولى الأمر «محمد بن
هشام بن عبدالجبار» وتلقب بالمهدى فى (17 من جمادى الآخرة
399هـ = 16 من فبراير 1009م) وجاءه الناس مهنئين، وما شعروا
أن تلك هى بداية الفتنة التى ستطيح ليس بالدولة العامرية
وحدها بل وبالخلافة بكل ما تمثله. وفى اليوم التالى قام
الثائرون بهدم مدينة الزاهرة وقصورها، وأحست الحامية المنوط
بها الدفاع عنها أن المقاومة غير مجدية ففتحوا أبواب المدينة
شريطة أن يؤمنهم المهدى، وتم نهب القصور والاستيلاء على
كل ما كان فيها من متاع وجواهر، ولم يكتف المهدى بذلك
وإنما قام بهدم كل مبانى مدينة الزاهرة وأسوارها بعد أن
استولى على كل ما فيها من خزائن وأموال وتحف حرصًا منه
على إزالة كل آثار بنى عامر، وأصبحت المدينة أطلالا، وتحولت
إلى أثر بعد عين. وقد حاول «عبدالرحمن» وهو فى «طليطلة»
بعد أن بلغته أخبار الثورة أن يتنازل عن ولاية العهد مكتفيًا
بالحجابة، فلم يلتفت إليه أحد ثم سار إلى قرطبة، ولما اقترب
منها تركه جند البربر وفروا فى جنح الظلام، ثم تمكن الخليفة
الجديد من مطاردته وإلقاء القبض عليه وهو مختبئ فى أحد
الأديرة، وقتله فى (3 من رجب 399هـ = 3 من مارس 1009م).
وهكذا انتظر الشعب أول فرصة وأطاح بالطغيان المستبد الذى
فرضه العامريون، ولم يشفع لذلك النظام ما تحقق على يدى
المنصور من أمن واستقرار عم ربوع الأندلس وكانت تلك الثورة
بداية مرحلة من الفتن والفوضى الشاملة التى أنهت وجود
الحكومة المركزية، وقضت على الخلافة الإسلامية، ومزَّقت الأمة
وجعلتها أشلاء متناثرة. ولم يكن محمد بن هشام بن عبدالجبار
شخصًا مناسبًا لهذه الفترة، إذ كان قليل التفكير لا يعرف شيئًا
عن الدولة وشئونها أحاط نفسه بطائفة على شاكلته لا تحسن
غير النهب والسرقة ولم يكن يحركهم إلا شىء واحد هو الانتقام
من العامريين، وإهانة البربر، عقابًا لهم على تأييدهم بنى عامر.