الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
53 - باب تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة))
روى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه)).
وروى همام عن قتادة عن يزيد بن عبد الله بن مطرف عن عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم)).
وروى قتادة عن أبي حسان عن ناجية بن كعب عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد يولد مؤمناً، ويعيش مؤمناً، ويموت مؤمناً، والعبد يولد كافراً، ويعيش كافراً، ويموت كافراً)).
وروى معتمر عن أبيه عن رقبة عن أبي إسحاق عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً، ولو أدرك لأرهق أبويه طغياناً وكفراً)).
فاختلفت هذه الأحاديث في ظاهرها وليست كذلك لأن لها وجوهاً عند من فهمها، وليست هذه من الأحاديث التي تختلف؛ لأنها إنما هي أخبار مؤداة، وإنما تختلف الأحاديث في التحليل والتحريم للأمر يكون بعد الأمر، والرخصة بعد الشدة، فأما الأخبار المؤداة عن الله عز وجل فهي غير مختلفة، وإنما يؤتى بعض الناس فيها من قلة المعرفة بوجهها، إلا أنه ربما جاء الحديث الضعيف فذاك مما لا يعتد به.
فأما قوله: ((كل مولود يولد على الفطرة)) فإن بيان وجه هذا الكلام في كتاب الله عز وجل، وفي الأحاديث بعد، وذلك قول الله عز وجل:{وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} .
ثم جاءت الأحاديث بتفسير ذلك: أن الله عز وجل أخذهم في صلب آدم كهيئة الذر، فأخذ عليهم جميعاً العهد والميثاق بأنه ربهم، فأقروا له بذلك أجمعون، ثم
[ردهم] في صلب آدم.
وقال في آية أخرى: {فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} ، فكان بدو ما ابتدأ الله به فطرة الخلق أجمعين قبل أن يخلقهم على الإقرار به، وإنما معنى الفطرة ها هنا: ابتداء الخلق، ولا يعني بذلك فطرة الإسلام، ألا تراه يقول:{لا تبديل لخلق الله} مما يبين قوله: {الحمد لله فاطر السموات والأرض} .
يعني أنه بدأ خلقها، ومما يبين ذلك حديث ابن عباس أنه اختصم إليه أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يعني ابتدأتها.
وقال: {قل الذي فطركم أول مرةٍ} يعني ابتدأ خلقهم،
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللبن: الفطرة)) أي أنه ابتداء ما يغذى به الصبي، وقد قال:((اعتبروا الرؤيا بأسمائها))، فلما
كان اللبن يبتدأ به الصبي، تأوله في فطرة الإسلام.
وذلك أن الكلمة الواحدة من كلام العرب تستعمل في مواضع كثيرة، قال الله عز وجل:{وكذلك جعلناكم أمةً} فهذا له معنى، وقال:{إن إبراهيم كان أمةً} ، فجعل في تلك الآية أهل الإسلام أجمعين أمة، وجعل في الآية الأخرى إبراهيم وحده أمة، فهذا له معنى آخر، وقال:{واذكر بعد أمةٍ} فهذا له معنى ثالث، يعني به بعد نسيان، وقال:{أخرنا عنهم العذاب إلى أمةٍ} ، فهذا له معنى رابع [يعني] إلى أجل، ومما يبين ذلك أنه لم يعن بقوله: كل مولود يولد على الفطرة، كل مولود يولد على الإسلام: ما اجتمعت عليه الأمة على تأويل الكتاب والسنة أنه لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، ثم أجمعوا على أن اليهودي والنصراني والمجوسي إن مات وله ولد رضيع أو صغير، أنه يرثه، وأنه إن مات ولده الصغير أو أخوه ورثه الكافر الكبير؛ لأنه على دينه، فلو كان المولود على الفطرة معناه أنه ولد على الإسلام ما ورثه إلا المسلمون، ولما دفن إلا معهم، فهذا وجه قوله:((كل مولود يولد على الفطرة))،
وإنما أراد أنهم كلهم يولدون على تلك البداية التي كانت في صلب آدم، فمنهم من جحدها بعد إقراره بها من الزنادقة الذين لا يعرفون الله عز وجل ولا يقرون به وغيرهم ممن لم يبلغه الإسلام في أقطار الأرض الذين لا يدينون ديناً، وسائر الناس بعد من أهل الملل مقرون بتلك الفطرة التي بدئ عليها خلقهم، فلست تلقى أحداً من أهل الملل وإن كان كافراً إلا وهو يقر بأن الله ربه، وهو في ذلك بالله كافرٌ حين خالف شريعة الإسلام.
وأما حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فيه أن الله قال: ((خلقت عبادي حنفاء)) فإنما هو شبيه بقوله: ((كل مولود يولد على الفطرة)) وهذا أيضاً يوضح لك أن الفطرة في ذلك الحديث إنما أراد بها الخلق، ألا تراه يقول:((خلقت عبادي حنفاء)) وذلك أنه لم يدعهم يوم أخذهم في صلب آدم إلا إلى حرف واحد، فأجابوه، فلزمهم في ذلك الموقف اسم الطاعة والاستجابة؛ لأنه قال:{ألست بربكم قالوا بلى} وهذا يشبه تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)) فقال العلماء: إن هذا كان قبل نزول الفرائض، يقول: لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس في أول الأمر إلى
ترك الأوثان [] الأنداد، ورفض الأصنام، وأن يقروا بأنه لا إله إلا الله، ووعدهم على ذلك الجنة [فأ] جابه من أجابه، ثم فرض عليهم الصلاة، ولم يكونوا ملومين في ترك الصلاة [قبل أن تفرض] عليهم، فلما فرضت عليهم وجب عليهم الأخذ بها، وكانوا بتركها كفاراً.
ثم كذلك شرائع الإسلام التي أمروا بها، فخلق الله عباده يوم أخذهم في صلب آدم كهيئة الذر على الإقرار به وعلى الطاعة فيما أمرهم به.
وأما قوله: ((فإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم)) فإن الشياطين أتتهم بتسليط الله عز وجل وإذنه، ولولا ذلك لم يطيعوهم؛ لأنه قال:{أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً} وقال لإبليس لعنه الله: {واستفزز من استعطت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم} ، ثم قال:{وما يعدهم الشيطان إلا غروراً} فهو الذي أمره أن يعدهم ثم نسب ذلك إليه، فكذلك نسب الفعل إلى الشياطين.
ولولا إرادة فعلهم لم يكن؛ لأنه لا فعل في ملكه ولا يكون شيء في السموات ولا في الأرضين وما بينهن جميعاً إلا بمشيئته، فمن شك في ذلك طرفة عين من دهره فقد كفر بالله ووحيه.
وأما قوله: ((إن العبد يولد مؤمناً .. .. والعبد يولد كافراً)). وهذا حديث ابن مسعود، فقد فسر هذا حديث ابن مسعود الآخر الذي [هو أصح]، إسناداً من حديث أبي حسان عن ناجية بن كعب عن عبد الله، وهو حديث سلمة بن كهيل والأعمش عن يزيد بن وهب عن عبد الله قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله عز وجل إليه الملك فيقال: اكتب أجله وعمله ورزقه وشقيٌّ أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح)) فهذا هو الذي يكون بعد ما يكون في بطن أمه أربعة أشهر مما يثبت الله عز وجل عند ذلك من الشقوة أو السعادة، ومن الكفر أو الإيمان، وذلك الذي كان فطره عليه في صلب آدم شيءٌ فقد مضى عليه أول الخلق.
وأما حديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً)) فإن معناه شبيه بمعنى حديث أبي حسان؛ لأن الطبع عين الفطرة، فالطبع هو الذي يكون في بطن أمه من تمام خلقه وإحكام صورته ونفخ الروح فيه على ما قدر الله له من الهدى والضلالة.
فهذه الأحاديث كلها يرجع معناها إلى أمرٍ واحدٍ على تأول أهل السنة والعلم.