الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُتَوَضَّأِ بِهِ
3 -
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودنِي وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِلُ فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
4 -
(وَفِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، مِنْ رِوَايَةِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ: «مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً إلَّا وَقَعَتْ فِي كَفّ رَجُلٍ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ» . وَهُوَ بِكَمَالِهِ لِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ) .
ــ
[نيل الأوطار]
وَفِي رِوَايَةٍ: " اسْتَسْقَى عِنْدَ الْبَيْتِ فَأَتَيْته بِدَلْوٍ " وَالسَّجْلُ بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَجِيمٍ سَاكِنَةٍ: الدَّلْوُ الْمَمْلُوءُ، فَإِنْ تَعَطَّلَ فَلَيْسَ بِسَجْلٍ. وَيَأْتِي تَمَامُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي بَابِ تَطْهِيرِ الْأَرْضِ. وَلِحَدِيثِ الْبَابِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ مَقْصُودِ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ. فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ.
[بَابُ طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُتَوَضَّأِ بِهِ]
قَوْلُهُ: (يَعُودُنِي) زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي الطِّبِّ (مَاشِيًا) قَوْلُهُ: (لَا أَعْقِلُ) أَيْ لَا أَفْهَمُ، وَحُذِفَ مَفْعُولُهُ إشَارَةً إلَى عِظَمِ الْحَالِ أَوْ لِغَرَضِ التَّعْمِيمِ، أَيْ لَا أَعْقِلُ شَيْئًا مِنْ الْأُمُورِ، وَصَرَّحَ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ شَيْئًا فِي التَّفْسِيرِ مِنْ صَحِيحِهِ. وَلَهُ فِي الطِّبِّ:(فَوَجَدَنِي قَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ) قَوْلُهُ: (وَضُوءَهُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ صَبَّ عَلَيَّ بَعْضَ الْمَاءِ الَّذِي تَوَضَّأَ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ:" مِنْ وَضُوئِهِ " وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَبَّ عَلَيْهِ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: " فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ " وَلِأَبِي دَاوُد: «فَتَوَضَّأَ وَصَبَّهُ عَلَيَّ» فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمَصْبُوبَ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْوُضُوءُ.
قَوْلُهُ: (مَا تَنَخَّمَ) التَّنَخُّمُ دَفْعُ الشَّيْءِ مِنْ الصَّدْرِ أَوْ الْأَنْفِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِصَبِّهِ صلى الله عليه وسلم لِوَضُوئِهِ عَلَى جَابِرٍ وَتَقْرِيرِهِ لِلصَّحَابَةِ عَلَى التَّبَرُّكِ بِوَضُوئِهِ، وَعَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ لِلْوُضُوءِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَبُو الْعَبَّاسِ إلَى أَنَّهُ نَجِسٌ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: «لَا يَغْتَسِلَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ» .
وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» وَسَيَأْتِي. قَالُوا: وَالْبَوْلُ يُنَجِّسُ الْمَاءَ فَكَذَا الِاغْتِسَالُ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَى عَنْهُمَا جَمِيعًا.
وَمِنْهَا الْإِجْمَاعُ عَلَى إضَاعَتِهِ وَعَدَمِ
5 -
(وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقِيَهُ وَهُوَ جُنُبٌ فَحَادَ عَنْهُ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: كُنْت جُنُبًا، فَقَالَ: إنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ. وَرَوَى الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ)
ــ
[نيل الأوطار]
الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ مَاءٌ أُزِيلَ بِهِ مَانِعٌ مِنْ الصَّلَاةِ فَانْتَقَلَ الْمَنْعُ إلَيْهِ كَغُسَالَةِ النَّجِسِ الْمُتَغَيِّرَةِ، وَيُجَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ أَخَذَ بِدَلَالَةِ الِاقْتِرَانِ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ، وَبِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا كَمَا سَيَأْتِي، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ عَنْ الِانْغِمَاسِ لَا عَنْ الِاسْتِعْمَالِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ بَيْنَ الِانْغِمَاسِ وَالتَّنَاوُلِ فَرْقٌ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْإِضَاعَةَ لِإِغْنَاءِ غَيْرِهِ عَنْهُ لَا لِنَجَاسَتِهِ، وَعَنْ الثَّالِثِ، بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَانِعٍ هُوَ النَّجَاسَةُ وَمَانِعٍ هُوَ غَيْرُهَا، وَبِالْمَنْعِ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَانِعٍ يَصِيرُ لَهُ بَعْدَ انْتِقَالِهِ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ الِانْتِقَالِ، وَأَيْضًا هُوَ تَمَسُّكٌ بِالْقِيَاسِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَهُوَ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، وَيَلْزَمُهُمْ أَيْضًا تَحْرِيمُ شُرْبِهِ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ. وَمِنْ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ قَالَ:«خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهَاجِرَةِ، فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ» وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى عِنْدَهُ أَيْضًا قَالَ: «دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فِيهِ ثُمَّ قَالَ لَهُمَا يَعْنِي أَبَا مُوسَى وَبِلَالًا اشْرَبَا مِنْهُ وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا» وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عِنْدَهُ أَيْضًا قَالَ: «ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ أَيْ مَرِيضٌ، فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْت مِنْ وَضُوئِهِ ثُمَّ قُمْت خَلْفَ ظَهْرِهِ» الْحَدِيثَ.
فَإِنْ قَالَ الذَّاهِبُ إلَى نَجَاسَةِ الْمُسْتَعْمَلِ لِلْوُضُوءِ إنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ غَايَةُ مَا فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى طَهَارَةِ مَا تَوَضَّأَ بِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ. قُلْنَا: هَذِهِ دَعْوَى غَيْرُ نَافِقَةٍ، فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ حُكْمَهُ وَحُكْمَ أُمَّتِهِ وَاحِدٌ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ يَقْضِي بِالِاخْتِصَاصِ وَلَا دَلِيلَ. وَأَيْضًا الْحُكْمُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ نَجِسًا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يَلْتَزِمُهُ الْخَصْمُ فَمَا هُوَ. .
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُشَارُ إلَيْهِ لَهُ أَلْفَاظٌ مِنْهَا «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ فَانْخَنَسَ مِنْهُ فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ كُنْت يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: كُنْت جُنُبًا فَكَرِهْت أَنْ أُجَالِسَك وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ» قَوْلُهُ: (وَهُوَ جُنُبٌ) يَعْنِي نَفْسَهُ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد (وَأَنَا جُنُبٌ) وَهَذِهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[نيل الأوطار]
اللَّفْظَةُ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَمْعِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَقَالَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إنِّي كُنْت جُنُبًا. وَقَدْ يُقَالُ جُنُبَانِ وَجُنُبُونَ وَأَجْنَابٌ: قَوْلُهُ: (فَحَادَ عَنْهُ) أَيْ مَالَ وَعَدَلَ.
قَوْلُهُ: (لَا يَنْجُسُ) فِيهِ لُغَتَانِ ضَمُّ الْجِيمِ وَفَتْحُهَا، وَفِي مَاضِيهِ أَيْضًا لُغَتَانِ نَجُسَ وَنَجِسَ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَضَمِّهَا، فَمَنْ كَسَرَهَا فِي الْمَاضِي فَتَحَهَا فِي الْمُضَارِعِ، وَمَنْ ضَمَّهَا فِي الْمَاضِي ضَمَّهَا فِي الْمُضَارِعِ أَيْضًا قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ وَمَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ إلَّا أَحْرُفًا مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْكَسْرِ قَوْلُهُ: (إنَّ الْمُسْلِمَ) تَمَسَّكَ بِمَفْهُومِهِ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَحَكَاهُ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْهَادِي وَالْقَاسِمِ وَالنَّاصِرِ وَمَالِكٍ فَقَالُوا: إنَّ الْكَافِرَ نَجِسُ عَيْنٍ وَقَوَّوْا ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ الْمُسْلِمَ طَاهِرُ الْأَعْضَاءِ لِاعْتِيَادِهِ مُجَانَبَةِ النَّجَاسَةِ بِخِلَافِ الْمُشْرِكِ لِعَدَمِ تَحَفُّظِهِ عَنْ النَّجَاسَةِ، وَعَنْ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ نَجَسٌ فِي الِاعْتِقَادِ وَالِاسْتِقْذَارِ، وَحُجَّتُهُمْ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَرَقَهُنَّ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ مَنْ يُضَاجِعُهُنَّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ مِنْ غُسْلِ الْكِتَابِيَّةِ إلَّا مِثْلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ غُسْلِ الْمُسْلِمَةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِنَجَاسَةِ الْكَافِرِ حَدِيثُ إنْزَالِهِ صلى الله عليه وسلم وَفْدَ ثَقِيفٍ الْمَسْجِدَ، وَتَقْرِيرُهُ لِقَوْلِ الصَّحَابَةِ: قَوْمٌ أَنْجَاسٌ لَمَّا رَأَوْهُ أَنْزَلَهُمْ الْمَسْجِدَ.
وَقَوْلُهُ لِأَبِي ثَعْلَبَةَ لَمَّا قَالَ لَهُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ أَفَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ قَالَ: إنْ وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا» وَسَيَأْتِي فِي بَابِ آنِيَةِ الْكُفَّارِ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ حَدِيثِ إنْزَالِ وَفْدِ ثَقِيفٍ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَنْجَاسِ الْقَوْمِ شَيْءٌ إنَّمَا أَنْجَاسُ الْقَوْمِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ قَوْلِ الصَّحَابَةِ: قَوْمٌ أَنْجَاسٌ صَرِيحٌ فِي نَفْيِ النَّجَاسَةِ الْحِسِّيَّةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَجَاسَةُ الِاعْتِقَادِ وَالِاسْتِقْذَارِ.
وَعَنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِغَسْلِ الْآنِيَةِ لَيْسَ لِتَلَوُّثِهَا بِرُطُوبَاتِهِمْ بَلْ لِطَبْخِهِمْ الْخِنْزِيرَ وَشُرْبِهِمْ الْخَمْرَ فِيهَا. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ أَيْضًا بِلَفْظِ: إنَّ أَرْضَنَا أَرْضُ أَهْلِ كِتَابٍ وَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَكَيْفَ نَصْنَعُ بِآنِيَتِهِمْ وَقُدُورِهِمْ؟ وَسَيَأْتِي.
وَمِنْ أَجْوِبَةِ الْجُمْهُورِ عَنْ الْآيَةِ وَمَفْهُومِ حَدِيثِ الْبَابِ بِأَنَّ ذَلِكَ تَنْفِيرٌ عَنْ الْكُفَّارِ وَإِهَانَةٌ لَهُمْ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فَقَرِينَتُهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ، وَرَبَطَ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ وَهُوَ مُشْرِكٌ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ. وَأَكَلَ مِنْ الشَّاةِ الَّتِي أَهْدَتْهَا لَهُ يَهُودِيَّةٌ مِنْ خَيْبَرَ. وَأَكَلَ مِنْ الْجُبْنِ الْمَجْلُوبِ مِنْ بِلَادِ النَّصَارَى كَمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَكَلَ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ وَالْإِهَالَةِ لَمَّا دَعَاهُ إلَى ذَلِكَ يَهُودِيٌّ،.
وَسَيَأْتِي فِي بَابِ آنِيَةِ الْكُفَّارِ، وَمَا سَلَفَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْكِتَابِيَّاتِ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[نيل الأوطار]
جَوَازِ مُبَاشَرَةِ الْمَسْبِيَّةِ قَبْلَ إسْلَامِهَا، وَتَحْلِيلِ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَنِسَائِهِمْ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ، وَإِطْعَامِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ لِلْوَفْدِ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ دُونِ غَسْلٍ لِلْآنِيَةِ، وَلَا أَمَرَ بِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ تَوَقِّي رُطُوبَاتِ الْكُفَّارِ عَنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَلَوْ تَوَقَّوْهَا لَشَاعَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لَيْسَ مِنْ التَّقَشُّفِ أَنْ يَقُولَ أَشْتَرِي مِنْ سَمْنِ الْمُسْلِمِ لَا مِنْ سَمْنِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ زَعَمَ الْمُقْبِلِيُّ فِي الْمَنَارِ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى نَجَاسَةِ الْكَافِرِ وَهْمٌ؛ لِأَنَّهُ حَمْلٌ لِكَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى اصْطِلَاحٍ حَادِثٍ وَبَيْنَ النَّجِسِ فِي اللُّغَةِ وَالنَّجِسِ فِي عُرْفِ الْمُتَشَرِّعَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ فَالْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ نَجِسَةٌ لُغَةً لَا عُرْفًا، وَالْخَمْرُ نَجِسٌ عُرْفًا وَهُوَ أَحَدُ الْأَطْيَبَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْعَذِرَةُ نَجِسٌ فِي الْعُرْفَيْنِ فَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَاك أَنَّ مُجَرَّدَ تَخَالُفِ اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ فِي هَذِهِ الْأَفْرَادِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَاَلَّذِي فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ النَّجِسَ ضِدُّ الطَّاهِرِ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: النَّجِسُ بِالْفَتْحِ وَبِالْكَسْرِ وَبِالتَّحْرِيكِ وَكَكَتِفٍ وَعَضُدٍ ضِدُّ الطَّاهِرِ انْتَهَى.
فَاَلَّذِي يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي عَدَمِ صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا هُوَ مَا عَرَّفْنَاكَ، وَحَدِيثُ الْبَابِ أَصْلٌ فِي طَهَارَةِ الْمُسْلِمِ حَيًّا وَمَيِّتًا، أَمَّا الْحَيُّ فَإِجْمَاعٌ، وَأَمَّا الْمَيِّتُ فَفِيهِ خِلَافٌ. فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَمِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الْهَادِي وَالْقَاسِمُ وَالْمُؤَيَّدُ بِاَللَّهِ وَأَبُو طَالِبٍ إلَى نَجَاسَتِهِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إلَى طَهَارَتِهِ، وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْبَحْرِ لِلْأَوَّلِينَ عَلَى النَّجَاسَةِ بِنَزْحِ زَمْزَمَ مِنْ الْحَبَشِ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَمَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَنْهُ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ وَفِعْلُهُ لَا يَنْتَهِضُ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى الْخَصْمِ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِقْذَارِ لَا لِلنَّجَاسَةِ، وَمُعَارَضٌ بِحَدِيثِ الْبَابِ، وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَفْسِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْبُخَارِيِّ تَعْلِيقًا بِلَفْظِ:«الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا» وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ. وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ «إنَّ مَيِّتَكُمْ يَمُوتُ طَاهِرًا فَحَسْبُكُمْ أَنْ تَغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ» وَتَرْجِيحُ رَأْيِ الصَّحَابِيِّ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرِوَايَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْغَرَائِبِ الَّتِي لَا يُدْرَى مَا الْحَامِلُ عَلَيْهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ الْفَوَائِدِ مَشْرُوعِيَّةُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ مُلَابَسَةِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، وَاحْتِرَامُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَتَوْقِيرُهُمْ، وَمُصَاحَبَتُهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْهَيْئَاتِ، وَإِنَّمَا حَادَ حُذَيْفَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَانْخَنَسَ أَبُو هُرَيْرَةَ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَادُ مُمَاسَحَةَ أَصْحَابِهِ إذَا لَقِيَهُمْ وَالدُّعَاءَ لَهُمْ، هَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ، فَلَمَّا ظَنَّا أَنَّ الْجُنُبَ يَتَنَجَّسُ بِالْحَدَثِ خَشَيَا، أَنْ يُمَاسِحَهُمَا كَعَادَتِهِ فَبَادَرَا إلَى الِاغْتِسَالِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُتَوَضَّأِ بِهِ لِقَصْدِ تَكْمِيلِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَدَمِ نَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُتَوَضَّأِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ الْمَاءِ نَجِسًا بِمُجَرَّدِ مُمَاسَّتِهِ لَهُ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ بَابٌ مَعْقُودٌ لِعَدَمِ نَجَاسَةِ الْمُسْلِمِ بِالْمَوْتِ، وَسَيُشِيرُ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ هُنَالِكَ.