الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ وَنَحْوِهِمَا وَكَرَاهَةِ السَّوَادِ
138 -
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «جِيءَ بِأَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَأَنَّ رَأْسَهُ ثَغَامَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبُوا بِهِ إلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَلْتُغَيِّرْهُ بِشَيْءٍ وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ) .
ــ
[نيل الأوطار]
مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَلِمَا أَخَرَجَهُ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ عِنْدَ ذَلِكَ: فَإِنَّ رِجَالًا يَنْتِفُونَ الشَّيْبَ فَقَالَ: مَنْ شَاءَ فَلْيَنْتِفْ نُورَهُ» قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ قِيلَ يَحْرُمُ النَّتْفُ لِلنَّهْيِ الصَّرِيحِ الصَّحِيحِ لَمْ يَبْعُدْ قَالَ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ نَتْفِهِ مِنْ اللِّحْيَةِ وَالرَّأْسِ وَالشَّارِبِ وَالْحَاجِبِ وَالْعِذَارِ وَمِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ) فِي تَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ تَرْغِيبٌ بَلِيغٌ فِي إبْقَائِهِ وَتَرْكِ التَّعَرُّضِ لِإِزَالَتِهِ وَتَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشِيبُ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ) وَالتَّصْرِيحُ بِكَتْبِ الْحَسَنَةِ وَرَفْعِ الدَّرَجَةِ وَحَطِّ الْخَطِيئَةِ نِدَاءٌ بِشَرَفِ الشَّيْبِ وَأَهْلِهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ كَثْرَةِ الْأُجُورِ وَإِيمَاءٌ إلَى أَنَّ الرُّغُوبَ عَنْهُ بِنَتْفِهِ رُغُوبٌ عَنْ الْمَثُوبَةِ الْعَظِيمَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ وَحَسَّنَهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَأَخْرَجَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَنْبَسَةَ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
[بَابُ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ وَنَحْوِهِمَا وَكَرَاهَةِ السَّوَادِ]
قَوْلُهُ: (بِأَبِي قُحَافَةَ) هُوَ وَالِدُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. قَوْلُهُ: (ثَغَامَةٌ) بِثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ غَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مُخَفَّفَةٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ نَبْتٌ أَبْيَضُ الزَّهْرِ وَالثَّمَرِ يُشْبِهُ بَيَاضَ الْمَشِيبِ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: هُوَ شَجَرٌ مُبَيَّضٌ كَأَنَّهُ الثَّلْجُ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الثَّغَامُ كَسَحَابٍ نَبْتٌ وَاحِدَتُهُ بِهَاءٍ وَأَثْغِمَاءُ اسْمُ الْجَمْعِ، وَأَثْغَمَ الْوَادِي أَنْبَتَهُ، وَالرَّأْسُ صَارَ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا وَلَوْنٌ ثَاغِمٌ أَبْيَضُ كَالثَّغَامِ. وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِاللِّحْيَةِ وَعَلَى كَرَاهَةِ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ، قَالَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّهُ حَرَامٌ يَعْنِي الْخِضَابَ بِالسَّوَادِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْحَاوِي انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَكُونُ قَوْمٌ يُخَضِّبُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِالسَّوَادِ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ
139 -
(وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ خِضَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ شَابَ إلَّا يَسِيرًا وَلَكِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بَعْدَهُ خَضَّبَا
ــ
[نيل الأوطار]
لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَفِي إسْنَادِهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ أَبُو دَاوُد وَلَا النَّسَائِيّ انْتَهَى، وَهُوَ الْجَرِيرِيُّ كَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ السُّنَنِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي اسْتِحْبَابِ خِضَابِ الشَّيْبِ وَتَغْيِيرِهِ أَحَادِيثُ سَيَأْتِي بَعْضُهَا. مِنْهَا مَا أَخَرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: «إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» .
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: «غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ» .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أَحْسَنَ مَا غُيِّرَ بِهِ هَذَا الشَّيْبُ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ» وَسَيَأْتِي. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ كَانَ يَصْبُغُ لِحْيَتَهُ بِالصُّفْرَةِ وَيَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْهَا، وَكَانَ يَصْبُغُ بِهَا ثِيَابَهُ» . أَخَرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.
وَيُعَارِضُهُ مَا سَيَأْتِي عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «مَا خَضَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُ الشَّيْبُ إلَّا قَلِيلًا قَالَ: وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ فِي رَأْسِهِ لَفَعَلْتُ» . وَالْحَدِيثُ أَخَرَجَهُ الشَّيْخَانِ
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُ عَشْرَ خِلَالٍ: الصُّفْرَةَ - يَعْنِي الْخَلُوقَ - وَتَغْيِيرَ الشَّيْبِ» الْحَدِيثَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَنْتَهِضُ لِمُعَارَضَةِ أَحَادِيثِ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ قَوْلًا وَفِعْلًا. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الْخِضَابِ وَفِي جِنْسِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَرْكُ الْخِضَابِ أَفْضَلُ، وَرُوِيَ حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّهْيِ عَنْ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ، وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُغَيِّرْ شَيْبَهُ، رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي بَكْرٍ وَآخَرِينَ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْخِضَابُ أَفْضَلُ، وَخُضِّبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يُخَضِّبُ بِالصُّفْرَةِ، مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَآخَرُونَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَخَضَّبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ.
وَبَعْضُهُمْ بِالزَّعْفَرَانِ. وَخَضَّبَ جَمَاعَةٌ بِالسَّوَادِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ ابْنَيْ عَلِيٍّ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَبِي بُرْدَةَ وَآخَرِينَ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَغْيِيرِ الشَّيْبِ، وَبِالنَّهْيِ عَنْهُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا تَنَاقُضٌ بَلْ الْأَمْرُ بِالتَّغْيِيرِ لِمَنْ شَيْبُهُ كَشَيْبِ أَبِي قُحَافَةَ، وَالنَّهْيُ لِمَنْ لَهُ شَمْطٌ فَقَطْ قَالَ: وَاخْتِلَافُ السَّلَفِ فِي فِعْلِ الْأَمْرَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
139 -
(وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ خِضَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ شَابَ إلَّا يَسِيرًا وَلَكِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ بَعْدَهُ خَضَّبَا
بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ أَحْمَدُ قَالَ:«وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِي قُحَافَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَحْمِلُهُ ثُمَّ وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ: لَوْ أَقْرَرْت الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ لَأَتَيْنَاهُ تَكْرِمَةً لِأَبِي بَكْرٍ فَأَسْلَمَ وَلِحْيَتُهُ وَرَأْسُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: غَيِّرُوهُمَا وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ»
140 -
(وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: «دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَأَخْرَجَتْ إلَيْنَا مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ مَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ بِالْحِنَّاءِ وَبِالْكَتَمِ)
141 -
(وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَيُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ، ذَلِكَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ)
ــ
[نيل الأوطار]
بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَزَادَ أَحْمَدُ قَالَ:«وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِي قُحَافَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَحْمِلُهُ ثُمَّ وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ: لَوْ أَقْرَرْت الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ لَأَتَيْنَاهُ تَكْرِمَةً لِأَبِي بَكْرٍ فَأَسْلَمَ وَلِحْيَتُهُ وَرَأْسُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: غَيِّرُوهُمَا وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ» ) .
قِصَّةُ أَبِي قُحَافَةَ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ زِيَادَةُ الْأَمْرِ بِتَغْيِيرِ بَيَاضِ اللِّحْيَةِ وَحَدِيثُ أَنَسٍ وَإِنْكَارُهُ لِخِضَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُعَارِضُهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ» وَمَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِهِ (أَنَّهُ كَانَ يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ) ، وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَرْجَحَ مِمَّا كَانَ خَارِجًا عَنْهُمَا، وَلَكِنَّ عَدَمَ عِلْمِ أَنَسٍ بِوُقُوعِ الْخِضَابِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَسْتَلْزِمُ الْعَدَمَ، وَرِوَايَةُ مَنْ أَثْبَتَ أَوْلَى مِنْ رِوَايَتِهِ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِي رِوَايَتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ وَقَدْ عَلِمَ غَيْرُهُ.
وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِضَابِهِ كَمَا سَيَأْتِي عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَرْضِ عَدَمَ ثُبُوتِ اخْتِضَابِهِ لَمَا كَانَ قَادِحًا فِي سُنِّيَّةِ الْخِضَابِ لِوُرُودِ الْإِرْشَادِ إلَيْهَا قَوْلًا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي خِضَابِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَنَسٌ: لَمْ يَخْضِبْ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: خَضَّبَ وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «رَأَيْت شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَخْضُوبًا» . قَالَ حَمَّادٌ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ قَالَ: «رَأَيْت شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَخْضُوبًا» .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يُكْثِرُ الطِّيبَ قَدْ احْمَرَّ شَعْرُهُ فَكَانَ يُظَنُّ مَخْضُوبًا وَلَمْ يَخْضِبْ» انْتَهَى. وَقَدْ أَثْبَتَ اخْتِضَابَهُ صلى الله عليه وسلم مَعَ ابْنِ عُمَرَ أَبُو رَمْثَةَ كَمَا سَيَأْتِي. قَوْلُهُ: (الْكَتَمُ) فِي الْقَامُوسِ وَالْكَتَمُ مُحَرَّكَةٌ وَالْكُتْمَانُ بِالضَّمِّ نَبْتٌ يُخْلَطُ بِالْحِنَّاءِ وَيُخْتَضَبُ بِهِ الشَّعْرُ. انْتَهَى. وَهُوَ النَّبْتُ الْمَعْرُوفُ بِالْوَسْمَةِ يَعْنِي وَرَقَ النِّيلِ، وَفِي كُتُبِ الطِّبِّ أَنَّهُ نَبْتٌ مِنْ نَبْتِ الْجِبَالِ وَوَرَقُهُ كَوَرَقِ الْآسِ يُخَضَّبُ بِهِ مَدْقُوقًا.
140 -
(وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: «دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَأَخْرَجَتْ إلَيْنَا مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ مَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبُخَارِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْ بِالْحِنَّاءِ وَبِالْكَتَمِ)
141 -
(وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَيُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ، ذَلِكَ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ) .
142 -
(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ هَذَا الشَّيْبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ)
143 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الْيَهُودَ
ــ
[نيل الأوطار]
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَضَّبَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَقَدْ أُجِيبُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي خَضَّبَ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ احْمَرَّ بَعْدَهُ لِمَا خَالَطَهُ مِنْ طِيبِ فِيهِ صُفْرَةٌ، وَأَيْضًا كَثِيرٌ مِنْ الشُّعُورِ الَّتِي تَنْفَصِلُ عَنْ الْجَسَدِ إذَا طَالَ الْعَهْدُ يَئُولَ سَوَادُهَا إلَى الْحُمْرَةِ كَذَا قَالَ الْحَافِظُ.
وَأَيْضًا هَذَا الْحَدِيثُ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَدْ سَبَقَ الْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ: مَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ خَضَّبَ فَقَدْ حَكَى مَا شَاهَدَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي بَعْض الْأَحْيَانِ، وَمَنْ نَفَى ذَلِكَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ مِنْ حَالِهِ صلى الله عليه وسلم. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي فِي إسْنَادِهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رُوَّادٍ، وَفِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا، ذَكَرَهُ فِي أَبْوَابِ الْوُضُوءِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بَلْ قَالَ «وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا» . الْحَدِيثُ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ.
قَوْلُهُ: (السِّبْتِيَّةُ) بِكَسْرِ السِّينِ جُلُودُ الْبَقَرِ، وَكُلُّ جِلْدٍ مَدْبُوغٍ أَوْ بِالْقَرْظِ ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِهَا سِبْتِيَّةٌ أَخْذًا مِنْ السَّبْتِ وَهُوَ الْحَلْقُ لِأَنَّ شَعْرَهَا قَدْ حُلِقَ عَنْهَا وَأُزِيلَ. قَوْلُهُ:(وَيُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ) قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَبَغَ شَعْرَهُ، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَقِفْ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ مُبَيِّنٌ لِلصَّبْغِ الْمُطْلَقِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ إلَّا ثِيَابَهُ» ، أَوْرَدَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي.
قَوْلُهُ: (بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ) الْوَرْسُ بِفَتْحِ الْوَاوِ نَبْتٌ أَصْفَرُ يُزْرَعُ بِالْيَمَنِ وَيُصْبَغُ بِهِ. وَالزَّعْفَرَانُ مَعْرُوفٌ، وَظَاهِرُ الْعَطْفِ أَنَّهُ كَانَ يَصْبُغُ لِحْيَتَهُ بِالزَّعْفَرَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ كَانَ يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَثِيَابَهُ بِالزَّعْفَرَانِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَصْبُغُ لِحْيَتَهُ وَثِيَابَهُ بِالصُّفْرَةِ، وَلَفْظُهُ «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَصْبُغُ لِحْيَتَهُ بِالصُّفْرَةِ حَتَّى تَمْلَأَ ثِيَابَهُ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْهَا كَانَ يَصْبُغُ ثِيَابَهُ بِهَا حَتَّى عِمَامَتَهُ» وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَغْيِيرَ الشَّيْبِ سُنَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ.
142 -
(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ هَذَا الشَّيْبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ)
143 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ) .
144 -
(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ قَدْ خَضَّبَ بِالْحِنَّاءِ، فَقَالَ:
ــ
[نيل الأوطار]
وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ) . الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِنَّاءَ وَالْكَتَمَ مِنْ أَحْسَنِ الصِّبَاغَاتِ الَّتِي يُغَيَّرُ بِهَا الشَّيْبُ، وَأَنَّ الصَّبْغَ غَيْرَ مَقْصُورٍ عَلَيْهِمَا لِدَلَالَةِ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ عَلَى مُشَارَكَةِ غَيْرِهِمَا مِنْ الصِّبَاغَاتِ لِهُمَا فِي أَصْلِ الْحُسْنِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّعَاقُبِ وَيَحْتَمِلُ الْجَمْعَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: (اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ بَحْتًا) أَيْ مُنْفَرِدًا وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا دَائِمًا، وَالْكَتَمُ نَبَاتٌ بِالْيَمَنِ يُخْرِجُ الصَّبْغَ أَسْوَدُ يَمِيلُ إلَى الْحُمْرَةِ وَصَبْغُ الْحِنَّاءِ أَحْمَرُ فَالصَّبْغُ بِهِمَا مَعًا يَخْرُجُ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ، وَقَدْ اسْتَنْبَطَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ قَوْلِهِ:(جَنِّبُوهُ السَّوَادَ) فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ الْخِضَابَ بِالسَّوَادِ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ.
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي شَرْعِيَّةِ الصِّبَاغِ وَتَغْيِيرِ الشَّيْبِ هِيَ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَبِهَذَا يَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُ الْخِضَابِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُبَالِغُ فِي مُخَالِفَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيَأْمُرُ بِهَا وَهَذِهِ السُّنَّةُ قَدْ كَثُرَ اشْتِغَالُ السَّلَفِ بِهَا، وَلِهَذَا تَرَى الْمُؤَرِّخِينَ فِي التَّرَاجِمِ لِهُمْ يَقُولُونَ: وَكَانَ يَخْضِبُ وَكَانَ لَا يَخْضِبُ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَدْ اخْتَضَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَقَدْ رَأَى رَجُلًا قَدْ خَضَّبَ لِحْيَتَهُ: إنِّي لَأَرَى رَجُلًا يُحْيِي مَيِّتًا مِنْ السُّنَّةِ، وَفَرِحَ بِهِ حِينَ رَآهُ صَبَغَ بِهَا.
قَالَ النَّوَوِيُّ: مَذْهَبُنَا اسْتِحْبَابُ خِضَابِ الشَّيْبِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِصُفْرَةٍ أَوْ حُمْرَةٍ، وَيُحَرِّمُ خِضَابَهُ بِالسَّوَادِ عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ وَلِلْخِضَابِ فَائِدَتَانِ: إحْدَاهُمَا: تَنْظِيفُ الشَّعْرِ مِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ، وَالثَّانِيَةُ: مُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ أَيْ فِي الْخَضْبِ بِالسَّوَادِ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَجَرِيرٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ الْخِضَابِ.
وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ «يَكُونُ قَوْمٌ يَخْضِبُونَ بِالسَّوَادِ لَا يَجِدُونَ رِيحَ الْجَنَّةِ» بِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى كَرَاهَةِ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ بَلْ فِيهِ الْإِخْبَارُ عَنْ قَوْمٍ هَذِهِ صِفَتُهُمْ. وَعَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ: (جَنِّبُوهُ السَّوَادَ) بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ «مِنْ خَضَّبَ بِالسَّوَادِ سَوَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ الْحَافِظُ: وَسَنَدُهُ لَيِّنٌ، وَيُمْكِنُ تَعَقُّبُ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ بِأَنْ يُقَالَ: تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعَلِيَّةِ، وَقَدْ وَصَفَ الْقَوْمَ الْمَذْكُورِينَ بِأَنَّهُمْ يَخْضِبُونَ بِالسَّوَادِ، وَيُمْكِنُ تَعَقُّبُ الْجَوَابِ الثَّانِي بِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ عَلَى الْوَاحِدِ لَيْسَ حُكْمًا عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَفِيهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ.
144 -
(وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ قَدْ خَضَّبَ بِالْحِنَّاءِ، فَقَالَ:
مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَرَّ آخَرُ قَدْ خَضَّبَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، فَقَالَ: هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا فَمَرَّ آخَرُ، وَقَدْ خَضَّبَ بِالصُّفْرَةِ، فَقَالَ: هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ) .
145 -
(وَعَنْ أَبِي رَمْثَةَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ كَانَ شَعْرُهُ يَبْلُغُ كَتِفَيْهِ أَوْ مَنْكِبَيْهِ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبِي دَاوُد «أَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي وَلَهُ لِمَّةٌ بِهَا رَدْعٌ مِنْ حِنَّاءٍ.» رَدْعٌ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ: أَيْ لَطْخٌ يُقَالُ بِهِ رَدْعٌ مِنْ دَمٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ) .
بَابُ جَوَازِ اتِّخَاذِ الشَّعْرِ وَإِكْرَامِهِ وَاسْتِحْبَابِ تَقْصِيرِهِ
146 -
(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوْقَ الْوَفْرَةِ وَدُونَ الْجُمَّةِ.» رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ)
ــ
[نيل الأوطار]
مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَرَّ آخَرُ قَدْ خَضَّبَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، فَقَالَ: هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا فَمَرَّ آخَرُ، وَقَدْ خَضَّبَ بِالصُّفْرَةِ، فَقَالَ: هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ) . فِي إسْنَادِهِ حُمَيْدٍ بْنُ وَهْبٍ الْقُرَشِيُّ الْكُوفِيُّ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ الْكُوفِيُّ وَكَانَ مِمَّنْ يُخْطِئُ حَتَّى خَرَجَ عَنْ حَدِّ التَّعْدِيلِ، وَلَمْ يَغْلِبْ خَطَؤُهُ صَوَابَهُ حَتَّى يَسْتَحِقَّ التَّرْكَ وَهُوَ مِمَّنْ يَحْتَجْ بِهِ إلَّا بِمَا انْفَرَدَ كَذَا قَالَهُ الْمُنْذِرِيُّ.
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ الْخَضْبِ بِالْحِنَّاءِ عَلَى انْفِرَادِهِ، فَإِنْ انْضَمَّ إلَيْهِ الْكَتَمُ كَانَ أَحْسَنَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَضْبَ بِالصُّفْرَةِ أَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَحْسَنُ فِي عَيْنِهِ مِنْ الْحِنَّاءِ عَلَى انْفِرَادِهِ وَمَعَ الْكَتَمِ. وَقَدْ سَبَقَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَضَّبَ بِالصُّفْرَةِ» وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ.
145 -
(وَعَنْ أَبِي رَمْثَةَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ كَانَ شَعْرُهُ يَبْلُغُ كَتِفَيْهِ أَوْ مَنْكِبَيْهِ.» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبِي دَاوُد «أَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَبِي وَلَهُ لِمَّةٌ بِهَا رَدْعٌ مِنْ حِنَّاءٍ.» رَدْعٌ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ: أَيْ لَطْخٌ يُقَالُ بِهِ رَدْعٌ مِنْ دَمٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ) . وَفِي لَفْظٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَمْثَةَ «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ ابْنٍ لِي فَقَالَ: ابْنُكَ؟ قُلْت: نَعَمْ. أَشْهَدُ بِهِ، فَقَالَ: لَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَلَا يَجْنِي عَلَيْك قَالَ: وَرَأَيْت الشَّيْبَ أَحْمَرَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَفْسَرَهُ، لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَبْلُغْ الشَّيْبَ. قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ «قِيلَ لِجَابِرِ بْنِ سُمْرَةَ: أَكَانَ فِي رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْبٌ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنْ فِي رَأْسِهِ شَيْبٌ إلَّا شَعَرَاتٍ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ إذَا ادُّهِنَّ وَارَاهُنَّ الدُّهْنُ» . قَالَ أَنَسٌ: «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ دُهْنَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ» .
قَوْلُهُ: (لِمَّةٌ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ هِيَ الشَّعْرُ الْمُجَاوِزُ شَحْمَةَ الْأُذُنِ كَذَا فِي الْقَامُوسِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ «وَكَانَ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ لَطَّخَ لِحْيَتَهُ بِالْحِنَّاءِ» . قَوْلُهُ: (رَدْعٌ) هُوَ بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ.