المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل (بعض صور المعاملات الربوية) - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ٦

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌فصل (بعض صور المعاملات الربوية)

فأجاب: يجوز جعل رأس مال السلم عرضا من العروض، على الصحيح.

ص: 177

‌فصل (بعض صور المعاملات الربوية)

قال الشيخ: حسن، وإبراهيم وعبد الله وعلي: أبناء الشيخ محمد، رحمهم الله: ومنها- أي المعاملات الربوية- ما يجري في بعض البلدان، إذا حل دين السلم باعه صاحبه على الذي هو في ذمته قبل قبضه فيبيعه ويربح فيه، وهو لم يقبضه؟

وهذا لا يجوز، لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه: ولا فرق بين من هو عليه وغيره، وفي الحديث الآخر عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه نهى عن ربح ما لم يضمن " 1 فإذا باع إنسان طعاما على بائعه، فقد باعه قبل قبضه، وحصل له ربح في طعام لم يدخل في ضمانه، فصار في هذا مخالفا لما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من البيع قبل القبض، وأخذ ربح ما لم يضمن.

وأجاب أيضا: الشيخ عبد الله: وكذلك إذا حل أجل التمر، وعرف أنه إن أراد أن يأخذ تمره من الكداد، لم يحصل له، وخاف أن يقول إن أخذت تمري وقفت، فإذا تحقق أنه لا يحصل له تمر يأخذه، قال اشتره مني، وجاءه التاجر في نخله، ووزنه ورده عليه، وهذه من الحيل الباطلة، المفضية إلى الربا، فالتمر إذا حل ينبغي أن ينظر في حال ديّانه، فإن علم منه أنه يوفيه تمره بتمامه، ولو ما باع عليه منه

1 الترمذي: البيوع (1234)، وأبو داود: البيوع (3504)، وابن ماجه: التجارات (2188) ، وأحمد (2/205)، والدارمي: البيوع (2560) .

ص: 177

شيئا، ووزن له وصار مالا للتاجر، إن أراد أخْذَه، أخذه ونقله من عنده، فهذا لا بأس أن يبيعه عليه بعد قبضه، وإن كان ما يحصل له أن ينقله، وعرف أنه إن لم يبعه، عليه لم يوفه، فهذا لا يجوز بيعه، فإن باعه فهو بيع فاسد، والحيل ما تحل الحرام، ولا تجوز في أمور الدين.

وأجاب أيضا: إذا كان لإنسان عند آخر تمر، فباعه على الذي هو في ذمته قبل قبضه، فهو بيع فاسد بالسنة الثابتة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " نهى عن بيع الطعام قبل قبضه " وهو عام في النهى عن بيعه ممن هو عليه، أو من أجنبي، ولأنه إذا باعه لمن هو في ذمته، فقد ربح فيما لم يدخل في ضمانه، وقد ثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن، وحكى في المبهج رواية عن أحمد: أنه يجوز بيعه من بائعه قبل قبضه، رواية ضعيفة في المذهب، لأنها تخالف ظاهر السنة، وتخالف ما عليه الجمهور، بل أكثر العلماء: أنه لا يجوز الاعتياض عن المسلم فيه قبل قبضه قال في المغني: فأما بيع المسلم فيه من بائعه، فهو أن يأخذ عما أسلم فيه عوضا عن المسلم فيه، فهذا حرام سواء كان المسلم فيه موجودا أو معدوما، وسواء كان العوض مثل المسلم فيه في القيمة، أو أقل أو أكثر، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي.

وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى، فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل فرضي أن يأخذ الشعير مكان

ص: 178

البر جاز، ولم يجز أكثر من ذلك، وهذا يحمل على الرواية التي فيها: البر والشعير جنس واحد، والصحيح في المذهب خلافه، وقال مالك: يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه، يتعجله ولا يؤخره، إلا الطعام، قال ابن المنذر: ثبت أن ابن عباس قال: "إذا أسلم في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلمت فيه وإلا فخذ عوضا أنقص منه، ولا تربح مرتين،" رواه سعيد; ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أسلم في شيء، فلا يصرفه إلى غيره " 1 رواه أبو داود، وابن ماجه، ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع له، فلم يجز، كبيعه من غيره، انتهى.

فتبين بما ذكرناه: أن بيع المسلم فيه قبل قبضه لا يجوز، ولو لمن هو في ذمته، كما هو ظاهر الأحاديث، ومن أجاز ذلك احتج بكلام ابن عباس، وكلام ابن عباس لا تعارض به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا فقوله: ولا تربح مرتين، يخالف ظاهر الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن، لأنه نهى عن ربحه مطلقا، والمسلم فيه قبل قبضه من ضمان البائع، فلا يباح ربحه قبل قبضه.

وسئل أيضا إذا باع العامي دين السلم قبل قبضه؟

فأجاب: لا يجوز ذلك، كما نص عليه في الشرح، واستدل عليه بالحديث الصحيح، وأما الرواية الثانية، التي اختارها الشيخ، فالمراد جواز بيعه من بائعه فقط لا مطلقا، بدليل تعليل الشيخ بذلك، قال في المبدع وغيره: رواية بأنه

1 أبو داود: البيوع (3468)، وابن ماجه: التجارات (2283) .

ص: 179

يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه، اختاره الشيخ، وقال هو قول ابن عباس، لكن يكون بقدر القيمة فقط، لئلا يربح فيما لم يضمن قال: وكذا كره أحمد في بدل القرض، انتهى.

وبدليل ما ذكره صاحب الإنصاف، عند قول صاحب المقنع: ومن اشترى مكيلا أو موزونا، لم يجز بيعه حتى يقبض، هذا هو المذهب مطلقا، وعليه الأصحاب. وعنه: يجوز لبائعه، اختاره الشيخ، وجوز التولية فيه والشركة، انتهى.

فدل ذلك على أن المراد بيعه من بائعه، والصحيح عندنا عدم جواز بيعه من بائعه وغيره حتى يقبضه، فيكون بيع العامي المسؤول عنه باطلا، لمخالفته للحديث:" نهي عن بيع الطعام قبل قبضه " ثم رأيت كلام الشيخ في الاختيارات على عمومه، كما ذكره صاحب الإنصاف في السلم، فقال: يصح بيع الدين في الذمة من الغريم وغيره، وهو رواية عن أحمد، وقاله ابن عباس لكن يكون بقدر القيمة، لئلا يربح فيما لم يضمن.

وأجاب أيضا: وإذا كان لإنسان عند آخر تمر، وأمر صاحب التمر الذي هو عنده، أن يبيعه على أجنبي أو غيره، فهذه مسألة استنابة من عليه الحق للمستحق، وهي جائزة، لكن لا يجوز له بيعه حتى يقبضه من نفسه لموكله، فإذا قبضه ثم باعه جاز، ولا بد من وزن ثان، إلا أن يكون المشتري قد حضر الوزن الأول، فيجري فيه الخلاف الذي تقدم، وتقدم في باب البيع.

ص: 180

وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمهما الله: وكذلك بيع دين السلم، لا يجوز إلا بعد قبضه، ولو على من هو في ذمتة، وهذا قول جمهور العلماء، وهو الأصح إن شاء الله تعالى.

وأجاب أيضا: وأما إذا قبض دين السلم قبضا تاما، يتمكن من التصرف فيه، جاز له أن يبيعه على من أوفاه به مطلقا، وليست هذه من صور عكس العينة.

وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: أما دين السلم فلا يباع قبل القبض، ولا يؤخذ ممن هو عليه عوض عن دين السلم، في قول أكثر العلماء.

وأجاب أيضا: أما بيع دين السلم لمن هو عليه، فأكثر أهل العلم لا يجوزونه، والشيخ ابن تيمية يرى الجواز.

وأجاب أيضا وأما بيع دين السلم المستقر لمن هو في ذمته، فيشترط لصحته: أن يكون بسعر يومه، وأن يقبض العوض في المجلس، كما إذا أخذ عن الذهب فضة وعكسه.

وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: وأما قولكم: إن حل الربا أفتى به الشثري

الخ، فلا يخفى عليك أن التحليل والتحريم، إذا كان مخالفا للكتاب والسنة، وفعل ذلك متعمدا، فهذا كفر; وقد ذكر العلماء: أن من أحل ما حرمه الله، وحرم ما أحله الله، فهو كافر، وأما إذا كانت الفتوى في المسائل

ص: 181

الخلافية، وأخذ بأحد أقوال العلماء، إما مجتهدا، أو مقلدا، فهذا لا ينكر عليه ولا يضلل، فضلا عن كونه يرمى بأعظم من ذلك.

وأما المسألة التي أفتى بها، فقد سبقه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، وطائفة من العلماء، فقال في الجواب لما سئل عن رجل باع قمحا بثمن مؤجل، فلما حل الأجل لم يكن عند المدين إلا قمح، هل يجوز له أن يأخذ قمحا؟

فأجاب: نعم يجوز له أن يأخذ قمحا، وليس في ذلك ربا عند أكثر العلماء، كأبي حنيفة والشافعي، وطائفة من أصحاب أحمد، إذا كان أخذ القمح أرفق بالمدين، فالأفضل أخذه، انتهى، قال الموفق: والذي يقوى عندي جوازه، إذا لم يفعله حيلة، ويقصده في ابتداء العقد، انتهى.

وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، في جواب له، المسألة الأولى: إذا اشترى إنسان من آخر طعاما يجري فيه الربا بنسيئة ثم اشترى منه بذلك الثمن ما لا يجوز بيعه به نسيئة، ففي المسألة خلاف مشهور، فمذهب أحمد وطائفة تحريم ذلك، ومذهب الشافعي جوازه.

واختار الشيخ تقي الدين جواز ذلك للحاجة، وكثير من أهل الزمان لو لم يأخذ منه غريمه طعاما، ما أوفاه فلو امتنع من أخذ الطعام ذهب حقه، فالظاهر أن الشيخ يجيز ذلك ; لأن هذا حاجة أبلغ إلى احتياجه إلى الطعام، إلى آخر كلامه.

إذا تحققت هذا: فلا ينبغي الاعتراض على الشثري فيما

ص: 182

أفتى به، لأنه أخذ بكلام من ذكرنا من أهل العلم، ولو وجهنا العتب عليه، لتوجه العتب على من قاله من العلماء قبله، ولا ينبغي لنا أن نتعرض على من تقدمنا من العلماء، ولا من تأخر ما لم يكن مخالفا لكتاب الله وسنة رسوله.

سئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عن رجل أعطى رجلا دراهم مضاربة، يسلمها في الثمرة وبعد ذلك احتاج، وقال: رد علي دراهمي، ويصير لك الطعام المؤجل؟

فأجاب: هذا بيع لدين السلم قبل قبضه، وفي الحديث الذي رواه الجماعة " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه " 1

سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: عن التولية في دين السلم

إلخ؟

فأجاب: لا تصح، لكونها من أنواع البيع، لكنها اختصت بهذه الأسماء، كاختصاص الصرف والسلم بأسمائها، والجميع بيع، فالتولية: البيع برأس المال، والشركة: بيع بعضه بقسطه من الثمن، ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه، قال في المغني والشرح: بغير خلاف نعلمه، لنهيه عليه السلام عن بيع الطعام قبل قبضه.

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن أخذ الشعير عن البر في السلم؟

1 البخاري: البيوع (2126)، ومسلم: البيوع (1526)، والنسائي: البيوع (4595)، وأبو داود: البيوع (3492)، وابن ماجه: التجارات (2226)، ومالك: البيوع (1335) .

ص: 183

الاختلاف في حلول الأجل

فأجاب: وأما أخذ صاع شعير عن صاع بر فلا يجوز.

سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن أخذ دابة ونحوها عما في الذمة

إلخ؟

فأجاب: وأما أخذ الدابة عما في ذمة المدين من الطعام، فلا يجوز على قول جمهور العلماء، لأنه صرف للسلم إلى غيره، وهو منهي عنه، وأجازه ابن عباس إذا كان أقل من قيمة الطعام، فإنه قال:"خذ عرضا أنقص ولا تربح مرتين".

وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين: عن دين السلم الثابت في الذمة، هل يصح الشراء به من الذي هو في ذمته عرضا؟ كأرض أو نخل أو غير ذلك؟

فأجاب: لا يجوز عند أكثر العلماء أن يأخذ عرضا عن دين السلم ممن هو في ذمته، واحتجوا بحديث " من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره " 1 وعن أحمد رواية أخرى: أنه يجوز أن يأخذ عرضا بدون حقه، اختاره الشيخ لقول ابن عباس:"إذا أسلفت في شيء فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا خذ عرضا أنقص منه ولا تربح مرتين" وعند مالك: يجوز أن يأخذ غير الطعام يتعجله ولا يتأجله، فبان لك أن الجمهور على المنع مطلقا، واختيار الشيخ الذي هو رواية عن أحمد ما ذكرته، وعليه عمل أهل هذه البلدان فيما مضى.

سئل الشيخ: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف: عمن

1 أبو داود: البيوع (3468)، وابن ماجه: التجارات (2283) .

ص: 184

باع ربويا بدراهم نسيئة على شخص، ثم أحاله على آخر بما له عليه هل يجوز أن يعتاض عنها ربويا، على كلام الفقهاء؟

فأجاب: أما إذا باع ربويا بدراهم نسيئة على شخص، ثم أحاله على آخر بما له عليه، فاعتاض عنها ربويا، فإنه لا بأس بذلك، لأنه إنما منع من الاعتياض عن ثمن الربوي، بما لا يباع به نسيئة من منعه، لكونه ذريعة إلى بيع الربوي بالربوي نسيئة، وهذا إنما يتصور بين البائع والمشتري، والاعتياض في مسألتنا، إنما هو بين المشتري والمحال عليه، وهو أجنبي من العقد الأول، الواقع بين البائع والمشتري.

وسئل أيضا: عن بيع العجم- وهو النوى- بالطعام نسيئة؟

فأجاب: أما بيع العجم بالطعام نسيئة فلا يصح لكونه مكيلا بناء على المشهور عند أصحابنا الحنابلة رحمهم الله تعالى، من أن علة ربا الفضل في الطعام كالتمر ونحوه، هي الكيل فقط، وأما عند من يجعل علة ربا الفضل في التمر ونحوه، هي كونه مكيلا مطعوم آدمي، كما هو اختيار الموفق، والشيخ تقي الدين، ومن يجعل العلة هي الطعم فقط، ومن لا يعلل، كالمانعين من القياس، المخصصين الأعيان الواردة في حديث عبادة بالربا، فلا بأس بذلك.

وأجاب بعضهم: وأما إذا أسلم رجل على آخر ريالا

ص: 185

بحب إلى أجل معلوم، فلما حل الأجل أعسر صاحب الحب، فنقول: هل يجوز أن يأخذ عرضا عن الحب؟ حيوانا أو غيره؟ فهذه المسألة فيها روايتان عن الإمام أحمد، الأولى- وهي المقدمة عندهم- ليس له إلا ما أسلم فيه، لقوله عليه السلام " من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره " 1 والرواية الثانية: يجوز، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، لقول ابن عباس:"إذا أسلمت في شيء إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عرضا أنقص منه ولا تربح مرتين" والله أعلم أن المراد بقدر القيمة.

وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: عرض علينا أحمد العجيري كتابا فيه حكم سعيد بن عيد، بصحة العقد والبيع الذي صدر من سهل بن باتل، في بيع النخل بالدين الحال الذي في الذمة قبل قبضه، وكتب على هذا الحكم بأنه لا ينقض إذا حكم به من يراه، وقد حكم به شيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، كما حدثني به الوالد عفا الله عنه، وقال بصحته شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم رأيت ابن عوين تعرض لهذا ولم ينشرح له صدره ; لأنه رأى خلافا لبعض الفقهاء، نسبه لكل العلماء، ولم ينظر ما قالوه في أن حكم القاضي لا ينقض بمثل هذا الخلاف، وهو في كتابه الذي نقله، إذا عرفت هذا: فالعمل على ما حكم به سعيد لا ينقض، والله أعلم.

وسئل: إذا اتفقا على تقويم الرهن بثمن حاضر،

1 أبو داود: البيوع (3468)، وابن ماجه: التجارات (2283) .

ص: 186

وحسبوا الطعام المؤجل بسعر وقته، بدراهم، على صاحب الرهن؟

فأجاب: هذا لا يجوز، لأنه اعتياض دراهم زائدة على رأس ماله، فهذا عين الربا وليس له إلا ما أسلم فيه، أو رأس ماله إن اتفقا على فسخ العقد، وأما الربح والتقويم بسعر الوقت، فهذا لا يصح.

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: إذا كان لرجل على آخر طعام، فلم يجد عنده ما يوفيه، فأعطاه دراهم على السعر عن الطعام الذي في ذمته

إلخ؟

فأجاب: لا يجوز ذلك، وهو قول جمهور العلماء، قال في المغني والشرح: لا نعلم فيه خلافا، أعني إذا كان الطعام سلما أو مبيعا، وإن لم يكن سلما وكان عمارة نخل، أو قرضا أو أجرة أو قيمة متلف، فهذا يجوز لصاحبه أن يأخذ ثمنه ممن هو في ذمته، بشرط قبضه في المجلس، لئلا يكون بيع دين بدين ; لأنه ليس مبيعا، وأما السلم والمبيع، فلا يجوز بيعه قبل قبضه ولو لبائعه، وذلك لصحة الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه. فثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه " 1 وفي لفظ في الصحيحين " فلا يبعه حتى يكتاله " 2 فإذا باعه رب الدين لبائعه قبل قبضه، فقد خالف النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين

أحدهما: أنه باعه

1 البخاري: البيوع (2126)، ومسلم: البيوع (1526)، والنسائي: البيوع (4595)، وأبو داود: البيوع (3492)، وابن ماجه: التجارات (2226)، ومالك: البيوع (1335) .

2 البخاري: البيوع (2132)، ومسلم: البيوع (1525)، والنسائي: البيوع (4597)، وأبو داود: البيوع (3496) .

ص: 187

قبل قبضه، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، ولم يفرق بين بيعه لمن هو عليه وبين غيره، ومن زعم أن بيعه لمن هو عليه جائز، فعليه الدليل الذي يخصص العموم، وإلا فلا يجوز مخالفته السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس.

الثاني: أنه قد ثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ربح ما لم يضمن، فإذا باعه لبائعه بربح فقد ربح فيما لم يضمن، لأنه لا يدخل في ضمانه إلا بعد قبضه، فيصير هذا الربح حراما، وقد أخذ جمهور العلماء بظاهر الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وأجروها على ظاهرها وعمومها، وشمولها للبائع وغيره، حتى إنهم منعوا من الاعتياض عن المسلم فيه، فقالوا: لا يجوز أن يأخذ عنه عوضا، ولا يستبدل به، واحتجوا لذلك بما روى أبو داود، وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره "1.

وغاية ما يحتج به من أجاز بيعه لبائعه قبل قبضه: كلام الشيخ تقي الدين رحمه الله، الذي حكاه صاحب الإنصاف وغيره، أنه أجاز ذلك، واحتج بكلام ابن عباس الذي رواه عنه ابن المنذر، ومثل هذا لا تعارض به النصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في منع بيع الطعام قبل قبضه، والشيخ رحمه الله من الأئمة المجتهدين، لكن إذا خالف كلامه الحديث الصحيح، وجب الأخذ بالحديث الصحيح دون ما خالفه، وما

1 أبو داود: البيوع (3468)، وابن ماجه: التجارات (2283) .

ص: 188

أحسن ما قاله الشافعي: إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط، ومعلوم: أن الشيخ رحمه الله قد اطلع على هذه الأحاديث، في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، وأنه تأولها.

لكن إذا لم نعلم وجه تأويله، ولم يتبين لنا رجحان دليله، لم يجز لنا أن نخالف هذه الأدلة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، بل نجريها على عمومها للبائع وغيره، حتى يثبت عندنا دليل راجح يخصص هذا العموم، وإلا فلا يجوز لنا أن نتركها تقليدا للشيخ رحمه الله، ولا غيره، بل يجب اتباع النص.

فإذا أفتى بعض المفتين بخلافها، وعارض الأحاديث بكلام الشيخ، وكلام ابن عباس، أجيب بما أجاب به ابن عباس لمن خالفه في المتعة، حيث يقول:"يوشك أن تنْزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر" وأبلغ من هذا في الزجر عن مخالفة النصوص، لقول بعض العلماء، قوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] ، كما استدل بها الإمام أحمد، فقال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.

ص: 189

فالواجب فيما تنازع فيه العلماء: رده إلى الله وإلى رسوله، كما قال:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10] وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] فإذا وجدنا مسألة قد اختلف فيها العلماء، وجب علينا الرد إلى النصوص، فما وافق النصوص وجب الأخذ به، وما خالفها وجب رده.

وأما تركها لقول بعض العلماء، والتعليل بأنهم أعلم منا بمعانيها، فلا يجوز، بل هذا عين التقليد المذموم الذي أنكره شيخنا رحمه الله، كما أنكره العلماء قبله.

وسئل أيضا: إذا أراد أن يشتري له طعاما من السوق فقال صاحب الطعام أعطني ثمن طعامي الذي لي عليك، ذهبا أو فضة، على ما كان يباع في السوق؟

فأجاب: أما إذا أسلم على رجل في طعام، ولم يوجد ذلك الطعام عند الحلول، فلا يجوز له أن يأخذ عن الطعام دراهم على السعر، هذا الذي يترجح عندي في المسألة.

وسئل إذا دفع إلى آخر دراهم، وقال اشتر بها طعاما مثل الذي لك علي؟

فأجاب: الأظهر عدم الصحة.

وأجاب أيضا: إذا كان لرجل تمر على آخر، ودفع إلى

ص: 190

غريمه دراهم يشتري له بها تمرا مثل الذي عليه، فهذه المسألة فيها تفصيل، قال في المغني: ولو دفع زيد إلى عمرو دراهم، وقال: اشتر لك بها مثل الطعام الذي لك علي، لم يصح ; لأن دراهم زيد لا يكون عوضها لعمرو، فإن اشترى الطعام بعينها أو في ذمته، فهو كتصرف الفضولي، وإن قال اشتر لي بها طعاما، ثم اقبضه لنفسك ففعل جاز، وقال أصحاب الشافعي: لا يجوز، لأنه لا يجوز أن يكون قابضا من نفسه لنفسه، انتهى.

فتبين بما ذكرناه: أن الذي يجوز في مسألة السؤال، أن يدفع إليه الدراهم ويأمره أن يشتري بها للدافع، فإذا اشترى بها طعاما لموكله قبضه الوكيل للموكل ثم أذن له الموكل أن يقبضه لنفسه قبضا ثانيا، وفعل ذلك جائز، ومنعه أصحاب الشافعي.

وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: لا يصح أن يدفع إليه دراهم عن الذي له عليه من التمر، وطريق الصحة أن يقول: اشتر بها طعاما واقبضه لي، ثم اقبضه لنفسك فيصح.

قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: يجري عندكم مسألتان، الأولى: صورة المقاصة، يريد بعض الناس أن يحتال على المنهي عنه، من بيع الطعام قبل قبضه، ويقول للشريك - إذا جاء بدراهم - بعها علي بتمر، قدر الذي في

ص: 191

ذمته، ثم يتساقطان، ويجعل هذا من المقاصة المباحة ; وكذلك ذكروا: إذا اشترى منه سلعة، وشرط عليه أن يوفيه بها، صح العقد وفسد الشرط، وبعض الناس: يريد أن يجعل هذه حيلة إلى قلب الدين الذي في ذمته دينا آخر، وينسب الصحة إلى الإقناع والمنتهى، وهما من أشد الناس كلاما وتحريما لمثل هذا، حتى إنهما يحرمان صورا مع كون المتعاقدين لم يقصدا الحيلة، لئلا يتخذ ذريعة، مثل العينة وغيرها.

وأنا قد ذكرت لكم مرارا: إذا ادعى أحد في هذا وأمثاله الجواز، فاسألوه عن الحيل المحرمة التي هي مخادعة لله، ما معناها وما صورتها؟ مثال ذلك: أنك تسألني عن رجل اشترى منك سلعة بعشرين مشخصا وهي تساوي العشرين ثيابا أو طعاما أو غيرهما، قلت لك: هذا صحيح بالإجماع ; فإذا قلت: إنه لم يشتر مني، ولم أبرئه إلا لأنه يريد أن يقرضني مائتي مشخص، بربح عشرين مشخصا، وقال لي: هذا ربا لا يصح، ولكن بعني سلعة تساوي عشرين، ثم بعد ذلك أبرئني منها، قلت لك هذا صريح الربا، والمخادعة لله بلا شك وكذلك أشباه هذه الصورة، فالذي يجعل التحيل على بيع الطعام قبل قبضه من المقاصة، أو يجعل بيع السلعة ليوفيه بها، حيلة إلى جعل كون رأس مال السلم دينا، مع تصريحهم بتحريمه بلا هذه الحيلة، اسألوه: ما الفرق بين هاتين الصورتين وبين تلك؟، فإنه لا يجد فرقا إلا بالمكابرة.

ص: 192

وههنا فائدة: ينبغي التنبيه عليها، وهي: أن الحيل على الربا قد نشأتم عليها أنتم ومشايخكم، وتسمونها "التصحيح" والأمور التي نشأ الإنسان عليها، صعب عليه مفارقتها بالكلية، والاستجابة لله والرسول، وترك مذهب الآباء وما عليه المشايخ، أمر عظيم لا يوفق له أكثر الخلق، فأمر الحيل ومسائله مثل أمر الشرك، فكما أنكم لم تفهموا الشرك أول مرة، ولا ثانية ولا ثالثة، ولم تفهموه كله إلى الآن، فكذلك الحيل، لأجل نشأتكم عليها، وتسميتها التصحيح تحتاج منكم إلى نظر وفطنة، فأكثروا التدبر لها، والمطالعة والتمثيل في إغاثة اللهفان وغيرها.

وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما مسألة المقاصة، فتفهم كلامهم فيها، وصرح صاحب المغني بجواز المقاصة، لكن ذكر الخلوتي بحثا، فقال: لعل ذلك ما لم يكن حيلة، ومراده في صورة المقاصة، فيما إذا اشترى بثمن نقده ثم أوفاه به، ولا يبعد المنع من ذلك مع الحيلة.

سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عمن اشترى تمرا نسيئة من غريمه، ثم رده عليه عما في ذمته؟

فأجاب: إن كان قبضه قبضا صحيحا، جاز أن يوفيه به المشتري، إذا كان له قدرة على أن يوفيه دينه، بخلاف ما إذا كان لا يقدر على الوفاء لعسرته، واضطره إلى أن يستدين له من نفسه ليوفيه، فهذا لا يجوز لوجهين،

أحدهما: أن

ص: 193

المعسر يجب إنظاره، وهذا إضرار به يزيد به عسرته

الثاني. أنه من قلب الدين الذي نص عليه العلماء رحمهم الله كشيخ الإسلام ابن تيمية- أنه لا يجوز.

الحوالة بدين السلم

سئل الشيح عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: إذا أسلم رجل دراهم بتمر أو حب، فلما حل الأجل وخاف صاحب السلم أن التمر الذي أسلم فيه لا يساوي رأس ماله، وقال صاحبه: ما أبغي إلا رأس مالي إلى أجل، ولولا الأجل ما رضي صاحب الدين.

فأجاب: هذه مسألة فيها خلاف بين العلماء، والأحسن والأحوط تركها.

وسئل عن الحوالة بدين السلم؟

فأجاب: أما الحوالة بدين السلم، فقال في المغني: وأما الحوالة به فغير جائزة، ومعنى الحوالة به: أن يكون لرجل طعام من سلم، وعليه مثله من قرض أو سلم أو بيع، فيحيل من عليه الطعام على الذي له عنده السلم، فلا يجوز، وإن أحال المسلم إليه بالطعام الذي عليه لم يصح أيضا، لأنه معاوضة بالمسلم فيه قبل قبضه، فلم يجز كالبيع، انتهى كلامه.

واختار الشيخ تقي الدين: جواز الحوالة بدين السلم والحوالة عليه، وعلله بتعاليل جيدة، فعلى القول بجوازه لا يجوز للمحال بيعه قبل قبضه من نفسه، فلا بد أن يقبضه من

ص: 194

نفسه قبل البيع، فإذا قبضه ثم بعد ذلك باعه لموكله، فلا بأس إن شاء الله ; وأما الشافعية فلا يجوزون القبض في مثل هذه الصورة ; وأما الحوالة بالمسلم فيه، فالأكثرون لا يجوزونه، وأجازه الشيخ تقي الدين لأنه لا محذور فيه ; لأن الحوالة ليست بيعا.

الإقالة في السلم

وسئل هل تجوز الإقالة في جميع ما أسلم فيه، أو تجوز في البعض؟

فأجاب: حكى ابن المنذر على جوازها الإجماع، وفي جوازها في البعض روايتان، والأظهر جوازها في البعض.

وسئل: إذا انفسخ العقد بإقالة أو غيرها، هل يصرف ذلك الثمن في عقد آخر؟

فأجاب: هذه المسألة فيها خلاف، والأظهر من ذلك المنع.

وسئل: إذا تقايلا دين السلم، فهل يجوز التفرق قبل قبض رأس المال؟

فأجاب: قال في المنتهى ويجوز إقالة في السلم وبعضه، بدون قبض رأس ماله، أو عوضه إن تعذر في مجلسه، لأنه إذا حصل الفسخ ثبت الثمن في ذمة البائع، فلم يشترط قبض بدله في المجلس كالقرض، وفيه وجه: يشترط، انتهى، قلت: هو الذي جزم به في مختصر الشرح، والله أعلم.

ص: 195

وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: حكى ابن المنذر الإجماع على جوازها في جميعه، وفي البعض روايتان عن أحمد، ولا بد من قبض رأس المال في مجلس الإقالة.

أخذ الثمار في السلم خرصا

سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عن رجل له تمر معلوم المقدار على رجل آخر فلما حضرت ثمرته أخذه خرصا بلا وزن بتراض منهما، ورجل له آصع معلومة كيلا، فاستوفى منها سنبلا وزنا، دق منه زنبيلا وكالوه، فلما عرفوا قدره كيلا أخذ باقيه وزنا بقدره؟

فأجاب: الاستيفاء أوسع من غيره، فلم ير به بأسا.

وأجاب أيضا: وأما أخذ الثمار في السلم خرصا، فالذي يتوجه عندنا الجواز، إذا كان الثمر المأخوذ دون ما في الذمة بيقين، لحديث جابر المخرج في الصحيح، فيكون من باب أخذ الحق والإبراء عما بقي.

وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: يجوز أن يأخذ المسلم فيه جزافا، مثل أن يأخذ ثمرة من التمر خرصا على رءوس النخل، أو في البيدر ; قال البخاري -رحمه الله تعالى-: باب إذا قاص أو جازف في الدين فهو جائز، تمرا بتمر أو غيره، ثم روى بإسناده عن جابر: "أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم اليهودي ليأخذ تمر نخله بالذي له، فأبى، فدخل

ص: 196

رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديقة فمشى فيها، ثم قال لجابر: جُذَّ له فأوف الذي له فجَذَّه بعدما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وسقا، وفضل له سبعة عشر وسقا، فجاء جابر النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي كان، فوجده يصلي العصر، فلما انصرف أخبره فقال: أخبر بذلك ابن الخطاب فذهب جابر إلى عمر فأخبره، فقال: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبارَكَنَّ فيها" 1 انتهى.

فترجمة البخاري، والحديث الذي ذكره، دال على جوازه، وهو اختيار شيخنا رحمه الله، وترجم البخاري على حديث جابر ترجمة أخرى، فقال: باب إذا قضى دون حقه وحلله فهو جائز، انتهى ; وباب الإيفاء عندهم أوسع من باب البيع، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في البيع.

وأما كلام الفقهاء، فقال في المغني والشرح: لا يقبض ما أسلم فيه كيلا إلا بكيل، ولا وزنا إلا بوزن، ولا بغير ما قدر به وقت العقد، لأن الكيل والوزن يختلفان، فإن قبضه بذلك، أي قبض المكيل وزنا، والموزون كيلا، فهو كقبضه جزافا، ومتى قبضه جزافا، فإنه يأخذ قدر حقه ويرد الباقي، ويطالب بالنقص إن نقص، وهل له أن يتصرف في قدر حقه من قبل أن يعتبره؟ على وجهين، انتهى.

فمعنى كلامهم: أنه إذا قبضه جزافا فلا بأس به، لكن لا يتصرف فيه ببيع أو نحوه حتى يعتبره بما قدر به، وهذا على الرواية الأولى التي هي المذهب عندهم، وقد عرفت أن الراجح الجواز.

1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396)، وابن ماجه: الأحكام (2434) .

ص: 197

وأجاب أيضا: وأما إذا قبض التمر خرصا، بأن يكون في ذمة زيد لعمرو تمر قرضا أو سلما، فأراد أن يأخذ منه نخلة بخرصها من الدين الذي في ذمته، فلا أعلم فيه منعا إذا تراضيا على ذلك، ولم يكن بينهما شرط عند العقد، فأما مع الشرط فلا يجوز خصوصا في مسألة القرض، فهو أبلغ، لأن كل قرض جر نفعا فهو ربا.

وقال أيضا: ومن الأمور المنهي عنها: أن التاجر يأتي فأخبره، ويأخذ نخله منه خرصا أو بعضه، وفي ذمته له شيء معلوم، فيصير أخذ مجهولا عن معلوم، وهذا ربا، وكذلك أعظم من هذا: أن يشتريه منه كدّاد النخل أو غيره، وهو في رءوسه، بلا كيل ولا وزن ولا قبض، وهذا نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، فالذي ننصحكم به التواصي بالحق، والقيام على الجاهل وردعه، ورده إلى الحق

وأجاب أيضا: هو والشيخ عبد الرحمن بن حسن: ومن ذلك أخذ الثمار في السلم خرصا، فيتوجه عندنا جواز ذلك، إذا كان المأخوذ أنقص مما في الذمة، لحديث جابر، فيكون من باب أخذ بعض الحق والإبراء عما بقي، والله أعلم.

وأجاب الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: وأما أخذ بعض دين السلم خرصا، فالجمهور على المنع، وذكر ابن عبد البر عن بعض العلماء، أنه يجوز إذا أخذ دون حقه،

ص: 198

وبه أفتى شيخنا الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد رحمهما الله تعالى.

وأجاب أيضا: قال البخاري رحمه الله: باب إذا قاصه أو جازفه في الدين فهو جائز، زاد في رواية كريمة تمرا بتمر أو غيره، وساق حديث جابر أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم اليهودي، ليأخذ ثمر نخله بالذي له، فأبى

الحديث ; وبه استدل ابن عبد البر وغيره من العلماء رحمهم الله، على جواز أخذ الثمر على الشجر عما في الذمة، إذا علم أنه دون حقه، إرفاقا بالمدين وإحسانا إليه، وسماحة بأخذ الحق ناقصا، وترجم البخاري بهذا الشرط، فقال: إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز، وساق حديث جابر أيضا.

فأما إذا كان يحتمل أنه دون حقه، أو مثله أو فوقه، فهذا غير جائز أن يأخذ عما في الذمة شيئا مجازفة أو خرصا، لا سيما إذا كان دين سلم، لما روى البخاري وغيره عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم " 1 ومضمون هذا الحديث عام، وبه أخذ الجمهور، وقد يقال إن قضية جابر قضية عين لا عموم لها، ويترجح المنع بهذا سدا للذريعة، لا سيما في هذه الأوقات لكثرة الجهل، والجراءة بأدنى شبهة.

1 الترمذي: البيوع (1311)، والنسائي: البيوع (4616) ، وأحمد (1/222)، والدارمي: البيوع (2583) .

ص: 199

وسئل أيضا: إذا خاف صاحب الدين عدم الوفاء، فطلب من الغريم أن يعطيه الثمرة عما في ذمته؟

فأجاب: إذا كان الأمر كذلك، جاز أن يأخذ الثمرة خرصا على رءوس الشجر، إذا كان دون حقه، ودليله ما أشرت إليه من حديث جابر، قال البخاري -رحمه الله تعالى-: باب إذا قاصه أو جازفه في الدين فهو جائز ; وساق حديث جابر: " أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى " 1 وساق الحديث بتمامه، وبه استدل ابن عبد البر أيضا وغيره من العلماء رحمهم الله، على جواز ذلك، فلا بد من تحقق الشرط المذكور.

وأما إذا كان يحتمل أنه دون حقه أو أكثر، فهذا لا يجوز لما عرفت من الحديث الصحيح " من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " 2 هذا هو الأصل، ودل حديث جابر على جواز أخذها خرصا، لما في ذلك من الإرفاق بالمدين وبراءة ذمته من الدين، بأخذ الغريم له ناقصا.

وأجاب ابنه الشيخ عبد اللطيف: حديث جابر حديث صحيح مشهور، خرجه الجماعة وترجم له تراجم متعددة، بحسب ما تضمن من الفقه ; فقال البخاري: باب إذا قاصه أو جازفه في الدين تمرا بتمر وغيره وذكره، وقال باب إذا قضى دون حقه فهو جائز، وكذلك أهل السنن وسياقهم متقارب،

1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396)، وابن ماجه: الأحكام (2434) .

2 الترمذي: البيوع (1311)، والنسائي: البيوع (4616) ، وأحمد (1/222)، والدارمي: البيوع (2583) .

ص: 200

وقال البخاري في باب المقاصة والمجازفة، قال وهب بن كيسان:" إن جابر بن عبد الله أخبره أن أباه توفي، وترك عليه ثلاثين وسقا لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيه، ثم قال لجابر: جُذَّ له فأوف له الذي له فَجَذَّه بعد ما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وسقا، وفضلت له سبعة عشر، فجاء جابر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بالذي كان، فوجده يصلي العصر، فلما انصرف أخبره بالفضل، فقال: أخبر بذلك ابن الخطاب فجاء جابر إلى عمر فقال عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبارَكَنَّ فيها "1.

وقبل هذا قال رحمه الله: باب إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز، وساق الحديث مختصرا من طريق آخر، لكن ذكر فيه شاهدا للترجمة، وهو قوله:"فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم أن يقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي" إذا عرف هذا بطل قول السائل، وظاهر هذا إباحة بيع المجهول بالمعلوم في الجنس، فلا جهالة والحالة هذه ; لأن الحديث صريح في أن تمر الحديقة دون الثلاثين، وإنما بورك فيه لما مشى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقول السائل: وهو ممنوع شرعا ; عبارة لا ينبغي أن تورد على الأحاديث النبوية، وهل الشرع إلا ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وأيضا فهي فاسدة في نفسها، فإن الاعتياض

1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2396)، وابن ماجه: الأحكام (2434) .

ص: 201

بالمجهول عن المعلوم في الجنس جائز في غير ربا الفضل، إذا حصل التراضي ; لأن للمدين أن يزيد و" خيركم أحسنكم قضاء " 1 ولرب الدين أن يضع من دينه ما شاء، وفي حديث كعب "ضع الشطر" وأنت امنع هذه المسألة، لما فيها من الضرر والغرر في المبايعات والمعاملات، هذا ما ظهر لي وهو المعروف من القواعد الشرعية، فانتبه لا زالت قريحتك وقادة زكية.

الرهن والكفيل بالمسلم فيه

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: هل يجوز الرهن والكفيل، بالمسلم فيه؟

فأجاب: الظاهر الجواز في قول أكثر الفقهاء.

وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: الأصح من الروايتين، والمعتمد في الفتوى عندنا: أنه يصح، وفاقا للأئمة الثلاثة.

وأجاب: الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما أخذ الرهن والضمين بدين السلم، ففيه عن أحمد روايتان، إحداهما: لا يجوز أخذ الرهن، ولا أخذ الكفيل بذلك، وهذا هو المشهور في المذهب ; والرواية الأخرى: يجوز ; اختاره الموفق وغيره، وهو قول أكثر العلماء، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ; وقوله: بثمنه، أي رأس مال السلم إذا فسخ عقد السلم، ورجع إلى رأس ماله، فلا يصح أخذ الرهن والضمين به، على المشهور في المذهب، والصحيح الجواز.

وأجاب أيضا: وأما الرهن والضمين في السلم، فيجوز شرطهما عند أكثر العلماء، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.

1 البخاري: الوكالة (2306)، ومسلم: المساقاة (1601)، والنسائي: البيوع (4618 ،4693) ، وأحمد (2/416 ،2/456) .

ص: 202