المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب إحياء الموات - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ٦

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌باب إحياء الموات

على كلام خاص في هذه المسألة، رفعته إليك إن شاء الله؟

وذكر ابن رجب في شرح الأربعين في شرح حديث " لو أعطى الناس بدعواهم " 1 شيئا من تعريف المدعى، فراجعه إن شئت.

1 البخاري: تفسير القرآن (4552)، ومسلم: الأقضية (1711)، والنسائي: آداب القضاة (5425)، وابن ماجه: الأحكام (2321) ، وأحمد (1/363) .

ص: 441

‌باب إحياء الموات

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ، وحمد بن ناصر: هل إجراء الماء على الأرض يكون إحياء؟

فأجابا: قال في الإنصاف، وإحياء الأرض أن يحوزها بحائط، أو يجري لها ماء، أو يحفر فيها بئرا، هذا هو الصحيح من المذهب نص عليه، وقطع به الخرقي وابن عبدوس، والقاضي والشريف، وصاحب الهداية والخلاصة والوجيز وغيرهم; وقيل: إحياء الأرض ما عد إحياء، وهو عمارتها بما تتهيأ به لما يراد بها، من زرع أو بناء أو إجراء ماء، وهو رواية عن أحمد، اختارها القاضي وابن عقيل والشيرازي، وابن الزاغوني، والموفق في العمدة وغيرهم; وعلى هذا قالوا: يختلف باختلاف غرض المحيي، من مسكن وحظيرة وغيرهما، فإن كان مسكنا اعتبر بناء حائط بما هو معتاد، وقيل: ما يتكرر كل عام، كالسقي والحرث فليس بإحياء، وما لا يتكرر فهو إحياء، قاله في المغني; ولم يورد في المغنى خلافه.

وقوله: إحياء الأرض أن يجري لها ماء، يعني: أن

ص: 441

إحياء الأرض أن يجري لها ماء، إن كانت لا تزرع إلا بالماء، ويحصل أيضا بالغراس، قال في الفروع: ويملكه بغرس وإجراء ماء، نص عليه.

وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ هل مرافق الأملاك، كالأفنية والطرق ومسيل الماء مملوكة، ويثبت فيه حق الاختصاص؟

فأجاب: المسألة فيها وجهان; والأظهر منهما: ثبوت الاختصاص.

قال الشيخ: عبد العزيز بن حسن بن يحيى، ذكر لعبد العزيز أبو وحيمد، وإدريس بن حسين: أن من أراد أن يبث في الأرض الموات، خارج جدار نخل "الودي" بغرس أو غيره، فلا يمنع، لكن يمنع من إحداث قليب غير آبار النخيل الموجودة الآن، ويمنع من إحداث ضرر على "الوضائم" بتضييق عليها، أو سد منفس لها معروف، فمن أحدث من ذلك شيئا أزيل، لسبق الاستحقاق، وإن رأى أهل الخبرة والإنصاف من أهل عشيرة: أن الجزوى في سنين المحل أصلح لحال الملك، لزمتهم لتوفير الماء عليهم، والله أعلم.

وسئل الشيخ سليمان بن عبد الله رحمهما الله: إذا كان أرض موات لم يعرف أنه جرى عليها إحياء، لكن هنا من يدعيها ويعرف أنها ملك فلان أو جماعة، وربما يقاتلون من أراد أن يحييها في الجاهلية، وربّما أن دعواهم أنها تحاذي

ص: 442

بلدهم العامرة، ولو مسيرة ميل؟

فأجاب: الذي تصور لنا في هذه المسألة، أن الأرض المذكورة لم يعرف أنه أجرى عليها إحياء أصلا، ولا هنا إلا مجرد دعوى هذا الشخص، أن آباءه تسموا عليها، وادعوا أنها ملكهم من غير إحياء، فإن كان الأمر كذلك، فاعلم: أن هذه الأرض باقية على حكم الموات، فمن أحياها - والحالة هذه - ملكها بإجماع العلماء، القائلين بملك الأرض الموات بالإحياء، قال في الشرح الكبير: ما لم يجر عليه ملك لأحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة، فهذا يملك بالإحياء، بغير خلاف بين القائلين بالإحياء، لأن الأخبار المروية متناولة له، كحديث جابر مرفوعا " من أحيا أرضا ميتة فهي له " 1 رواه أحمد والترمذي وصححه، وعن سعيد بن زيد مرفوعا مثله، رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، وعن عائشة مثله، رواه مالك وأبو داود; قال ابن عبد البر: هو متلقى بالقبول عند فقهاء المدينة وغيرهم، إلى غير ذلك من الأحاديث، وقال في المبدع: الموات إذا لم يجر عليه ملك أحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة، فإنه يملك بالإحياء، انتهى.

ونقل أبو الصقر عن أحمد، في أرض بين قريتين، ليس فيها مزارع ولا عيون وأنهار، تزعم كل قرية أنها لهم ; فإنها ليست لهؤلاء، ولا لهؤلاء، حتى يعلم أنهم أحيوها; فمن أحياها فهي له، فعرفت: أن مجرد دعوى أنها ملك لهم، من غير إحياء، لا تصير به الأرض ملكا لهم، بل هي باقية على

1 الترمذي: الأحكام (1378)، وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3073)، ومالك: الأقضية (1456) .

ص: 443

الأصل، وهذا مما لا يمتري فيه أحد; وقد ذكر كثير من الأصحاب، ما ذكر الشارح، وصاحب المبدع.

وأما قولك: وأشكل علينا هذا، مع قول الفقهاء: من تحجر مواتا فهو أحق به; فكأنك ظننت أن التحجر هو مجرد التسمي عليه بالملك ودعواه، فاعلم: أن الأمر ليس كذلك، قال في الإقناع: ومن تحجر مواتا، بأن حفر بئرا ولم يصل إلى مائها أو أدار حول الأرض ترابا، أو حجرا أو جدارا صغيرا، لم يملكه بذلك، وهو أحق به، انتهى باختصار.

وقال في الشرح الكبير: تحجر الموات: الشروع في إحيائه، مثل أن يدير حول الأرض ترابا، أو أحجارا، أو يحيطها بجدار صغير، فلا يملكها بذلك، لأن الملك بالإحياء، وليس هذا إحياء، لكن يصير أحق الناس به، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به " رواه أبو داود وغيره فعرفت: أن مجرد دعوى أنها ملكهم من غير إحياء لا يملكونها به، وأن دعواهم أنها ملكهم ليس من التحجر، وأن التحجر هو الشروع في الإحياء على ما وصفنا، فبطلت دعواهم، وبقيت سالمة من الاختصاص وملك معصوم، فتملك بالإحياء.

وقولك: إن الفقهاء قالوا إن أحياه غيره ملكه; ليس كذلك على الإطلاق، قال في الإقناع: فإن لم يتم إحياءه وطالت المدة عرفا كثلاث سنين، قيل له: إما أن تحييه، وإما

ص: 444

أن تتركه إن حصل متشوف للإحياء، فإن طلب المهلة لعذر أمهل شهرين أو ثلاثة، أو أقل على ما يراه الحاكم، وإن لم يكن له عذر فلا يمهل، وإن أحياه غيره في مدة المهلة، أو قبلها لم يملكه، وبعدها ملكه.

وقولك: قال في شرح الزاد، باب إحياء الموات، وهي الأرض المنفكة عن الاختصاصات، وملك معصوم، بخلاف الطرق والأفنية، ومسيل المياه، والمحتطبات ونحوها، وما جرى عليها ملك معصوم، شراء أو عطية أو غيرهما، فلا يملك شيء من ذلك بالإحياء، فظاهر هذا أنها لا تملك بالإحياء، ولو كانت مواتا إذا كان هنا من يدعي الملك، فكلامك هذا الذي زعمت: أنه ظاهر كلامه في شرح الزاد، غير صحيح، فليس في كلامه ما يدل على ذلك، لا بنص ولا ظاهر ولا مفهوم.

وإنما الذي في كلامه: أنه إذا كان لها مالك معصوم لا تملك بالإحياء، وهذه الأرض المسئول عن حكمها في هذه المسألة، لم يثبت لمدعي الملك فيها ملك أصلا، بل قد أقر بأنه لم يحيها، والأرض الموات لا تملك إلا بالإحياء، ولم يوجد; فكلام صاحب شرح الزاد فيما إذا ثبت الملك، وهذه الأرض لم يثبت ملكها بعد، وقد عرفت أن مجرد الدعوى ليس بشيء، وهكذا يقال فيما نقلت من كلام العلماء ابن عبد البر وغيره، فالشأن في ثبوت الملك.

ص: 445

وأما قولك: وأكثر الأرض سواء قربت من العمران أو بعدت، لا تخلو ممن يدعي ملكه، حتى إنهم في الجاهلية يمنعون من رعي الأرض إلا بثمن، فقد ذكر الفقهاء أن الأرض لا تملك إلا بالإحياء، وذكروا ما يثبت به الإحياء، واختلفوا هل تملك بالتحجر أم لا؟ فذهب طائفة إلى أنها لا تملك بذلك، وهو المذهب المشهور عن أحمد، وهو قول الجمهور; وعن أحمد رواية أنها تملك بالتحجر، ذكرها الحارثي واختارها، وذكر من صور التحجر كما نقلناه، وليس الدعوى بأنها ملك لهم مع إقرارهم بأنهم لم يحيوها من الإحياء، ولا من التحجر، فتبقى الأرض على الإباحة.

وسئل: عن إطلاقهم ما قرب من العامر؟

فأجاب: ظاهر كلامهم لا فرق في ذلك بين الزرع ونحوه، ولا بين الدور، والمعنى يقتضي ذلك; والأصل: أن ما قرب من العامر وتعلق بمصالحه لا يملك، وحديث:" من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم فهي له " فمفهومه: أن ما تعلق به حق مسلم لا يملك بالإحياء، لأنه تابع للمملوك; فإذا عرفت ذلك، فمتى وجد هذا المعنى في الزرع، وتعلق ما قرب منه بمصالحه، لم يملك لما ذكرنا.

قال في الشرح: كل ما تعلق بمصالح العامر من طرقه ومسيل الماء، ومطرح قمامته وملقى ترابه وآلاته، لا يجوز إحياؤه بغير خلاف في المذهب، وكذلك ما تعلق بمصالح

ص: 446

القرية كفنائها، ومرعى ماشيتها ومحتطبها، وطرقها ومسيل مائها، لا يملك بالإحياء، لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم، وكذلك حريم البئر والنهر والعين، وكل مملوك لا يجوز إحياء كل ما تعلق بمصالحه، لقوله عليه السلام:" من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم " وقال في الإقناع: ولا يملك بإحياء ما قرب من عامر وتعلق بمصالحه، كطرقه وفنائه ومجمع ناديه ومسيل مائه، ومطرح قمامته وملقى ترابه وآلاته، ومرعاه ومحتطبه، وحريم البئر والنهر والعين، ومرتاض الخيل، ومدفن الأموات، ومناخ الإبل، والمنازل المعتادة للمسافرين حول المياه، والبقاع المرصدة لصلاة العيدين والاستسقاء، والجنائز ودفن الموتى ونحوهم، فكل مملوك لا يجوز إحياء ما تعلق بمصالحه،

قال في شرحه: لمفهوم قوله عليه السلام: " من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم فهي له " ولأن ذلك من مصالح الملك فأعطى حكمه، فعرفت أنه لا فرق في ذلك، بين البيوت والقرى والزرع والشجر وغيرها، إذا وجد ما ذكرنا فيها وتعلق بمصالحها.

وظهر من كلام صاحب الشرح الكبير: أن إطلاقكم ما قرب من العامر لا يملك بإحياء على إحدى الروايتين خطأ، إما من الأصل المنقول منه أو من غيره، لأن ما قرب من العامر وتعلق بمصالحه لا يملك بالإحياء بغير خلاف، وإنما الخلاف في المذهب فيما قرب من العامر ولم يتعلق بمصالحه، هل

ص: 447

يملك بالإحياء أم لا، على روايتين عن أحمد، إحداهما يملك بالإحياء وهي المذهب، وبه قال الشافعي،

والثانية: لا يملك بالإحياء، وبه قال الليث وأبو حنيفة، وفي هذا القدر كفاية.

وسئل الشيخ: حسن بن حسين بن الشيخ، عن أرض موات تبايعها أناس في الجاهلية، أو في الإسلام كانت قرب بلاد عامرة مسير ثلث فرسخ، صارت محتجرا لأهل العامرة، على عادة مشوا عليها، هل إذا أحياها إنسان يملكهما، ولو ادعى مدع أنها بشراء، لكنها موات كما ذكرنا؟

فأجاب: قال في الشرح الكبير: الموات قسمان;

أحدها: ما لم يجر عليه ملك لأحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة، فهذا يملك بالإحياء بغير خلاف.

القسم الثاني: ما جرى عليه ملك، وهو ثلاثة أنواع:

أحدها: ما له مالك معين، وهو ضربان:

أحدهما: ما ملك بشراء أو عطية، فهذا لا يملك بالإحياء بغير خلاف، قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن ما عرف بملك مالك غير منقطع، أن لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه؟

الثاني: ما ملك بالإحياء ثم ترك حتى عاد مواتا، فهو كالذي قبله سواء.

الثاني: ما يوجد عليه آثار ملك قديم جاهلي، كآثار الروم ومساكن ثمود ونحوهم، فهذا يملك بالإحياء في أظهر الروايتين;

والثانية: لا يملك، لأنها آثار لمسلم أو ذمي أو

ص: 448

بيت المال، أشبه ما لو تعين مالكه، قال شيخنا، ويحتمل: أن كل ما فيه أثر الملك، ولم يعلم زواله قبل الإسلام، أنه لا يملك.

النوع الثالث: ما جرى عليه الملك في الإسلام لمسلم أو ذمي غير معين، فظاهر كلام الخرقي: أنه لا يملك، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، لما روى كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من أحيا أرضا مواتا في غير حق مسلم فهي له " فقيده في غير حق مسلم، ولأن هذه الأرض لها مالك، فلم يجز إحياؤها كما لو كان معينا، فإن كان له ورثة فهي لهم، وإن لم يكن له ورثة ورثه المسلمون.

والثانية: أنها تملك بالإحياء، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، لعموم الأخبار، وكل ما قرب من العامر وتعلق بمصالحه، من طرقه ومسيل مائه، ومطرح قمامته، وملقى ترابه، لا يجوز إحياؤه بغير خلاف في المذهب، وكذلك ما تعلق بمصالح القرية، كفنائها ومرعى ماشيتها، ومحتطبها ومسيل مائها، لا يملك بالإحياء، لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم، وكل مملوك لا يجوز إحياؤه وما تعلق بمصالحه، لقوله صلى الله عليه وسلم " من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم فهي له " فمفهومه: أن ما تعلق به حق مسلم لا يملك بالإحياء، انتهى، من الشرح الكبير ملخصا.

ص: 449

وقال في الإقناع: وهي - أي الموات - الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك معصوم، فإن كان الموات لم يجر عليه ملك لأحد، ولم يوجد فيه أثر عمارة، ملك بالإحياء، وإن علم ولم يعقب لم يملك، وأقطعه الإمام من شاء، وإن كان قد ملك بالإحياء، ثم ترك حتى دثر وعاد مواتا لم يملك بإحياء، إذا كان لمعصوم; إن علم مالكه المعين غير معصوم، فإن كان بدار حرب واندرس كان كموات أصلي، يملكه مسلم بإحياء، وإن كان فيه أثر ملك غير جاهلي، كالخرب التي ذهبت أنهارها واندرست آثارها، ملك بالإحياء، وكذلك إن كان جاهليا قديما كديار عاد، انتهى. فقد عرفت: أن هذا المحيي الثاني الأرض المذكورة، لا يملكها بإحيائه لها، إذا ثبت الإحياء الأول بشروطه، وثبت التبايع المذكور ودعوى الشراء، والله أعلم.

وأجاب بعضهم: وأما من أراد إحياء الأرض الميتة، فليس لأحد منعه إذا لم يكن قريبا من الأرض العامرة، ولا يجوز لأحد تحجره على المسلمين.

وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما إذا تحجر إنسان مواتا بما يعد تحجرا، كما ذكروه في باب إحياء الموات، فإنه أحق بها من غيره، وقد بين الفقهاء حكم المسألة في إحياء الموات.

وأما إذا تنازعا أرضا ميتة كل منهما يريدها له ولم يسبق

ص: 450

أحدهما الآخر، فلم أر تصريحا في هذه المسألة من كلامهم، ولعل اقتسامها على السواء والحالة هذه، يشبه ما ذكروه في بعض المسائل.

وسئل أيضا: الشيخ عبد الله: عن مستأجر أجرى ماءه إلى موات

إلخ؟

فأجاب: وأما إذا أجرى مستأجر الأرض، أو المستعير من بئر تلك الأرض الموات، وزرعها به ملكها، لأنه هو المحيي، ومن أحيا الأرض الميتة فهي له، والمستأجر ونحوه يملك الماء بإخراجه من البئر، فهو ملك له لا لصاحب الأرض.

سئل الشيخ: حسن بن حسين بن علي: عن "الثمد" إذا عمره من يصيد عليه إلخ؟

فأجاب: الثمد إذا عمره إنسان ليصيد عليه فله بيعه، لأنه من باب إحياء الموات.

سئل الشيخ: عبد الله بن صالح الخليفي، فيما يتعاطاه أهل الوقت، من الأعراب وأشباههم، من حماية الأغوار، وأوكار الطيور التي في رؤوس شواهق الجبال، وادعائهم ملكيتها بمجرد الدعوى، أو وضع صورة وسم على صخرة من تلك الصخور، أو علامة من العلامات، واعتقادهم: أن ذلك يثبت ملكيتها ملكا تاما يتوارثونه، ويطالبون به، هل يثبت الملك بذلك، أو تثبت الأحقية؟

وإذا ثبت أحد الأمرين، ثم

ص: 451

حصل فيها شيء من فراخ الطيور، هل تتبعها في وصفها، بحيث لو أخذه غير مدعي الوكر نزع من يده؟ أو يكون ملكا له، ولا ينْزع من يده، لأنه من جهة المباح المشترك بين الناس؟ أفتونا مأجورين.

فأجاب: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى، قد جعل عباده شركاء في المباحات، من الماء، والكلأ، والنار، والصيد، والمعادن، وغير ذلك مما أباح لهم، وأذن لهم في اكتسابه، ونص رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك في غير ما حديث، ولم يجعله لأحد دون أحد، ولم يملكه أحد إلا بالحيازة التامة، التي ذكرها الفقهاء في كتبهم.

وأما ما وقع عنه السؤال: من ملكية الأغوار، والأوكار، وغيرها من موات الأرض، فإن العلماء قد عرفوا ذلك، ووضحوه أتم إيضاح، في باب إحياء الموات، وهذه الأوكار لم يكن عليها مما ذكروا، ولا قريبا منه، من جميع ما يثبت به الملك، بل ولا من جميع ما تثبت به الأحقية، فإنهم قالوا: فإن تحجر مواتا، بأن أدار حوله أحجارا، أو ترابا، أو شوكا، أو حائطا غير منيع، أو حفر بئرا لم يصل ماءها، أو حرث الأرض، أو خندق حولها، لم يملكه بذلك، ولكنه أحق به من غيره، ووارثه من بعده، فهذه الأوكار خالية من سبب

ص: 452

الملك، وسبب الأحقية; فهده حال الأغوار، والأوكار; وأما ما يحصل فيها من الطيور والفراخ، فهذه مسألة قد كشف العلماء قناعها، وأبرزوا لعين البصيرة شعاعها، فقد ذكروا في أول البيوع، وفي كتاب الصيد، ما لعله يشفي ويكفي.

قال في المنتهى، في كتاب الصيد: ومن حصل أو عشش بملكه صيد أو طائر، لم يملكه بذلك، ولغيره أخذه; وعبارته في أول البيوع كعبارة المقنع والإقناع، في الموضعين معناها معنى عبارة المنتهى، لكن مقتضى عبارتهم كغيرهم: أنه يحرم على الغير دخول ملكه بغير إذنه، فإن خالف ودخل بغير إذنه حرم، وملك ما أخذه، من الطيور والكلأ، والمعدن الجاري، ولم ينتزع من يده.

قال ابن القيم رحمه الله: في كتابه "زاد المعاد" لما ذكر كلاما طويلا في مسألة اشتراك الناس في المباح، وعلى هذا: فإذا دخل غيره بغير إذنه، فأخذ منه شيئا من الكلأ ونحوه، ملكه، لأنه مباح في الأصل، فأشبه ما لو عشش في أرضه طائر، أو حصل فيه ظبي، أو نضب ماؤها عن سمك، فدخل إليه فأخذه. فإن قيل: فهل له منعه من دخول ملكه؟ وهل يجوز له دخوله في ملكه بغير إذنه؟ قيل: قد قال بعض أصحابنا، لا يجوز له دخول ملكه لأخذ ذلك، بغير إذنه، وهذا لا أصل له في كلام الشارع،

ص: 453

ولا في كلام الإمام أحمد رحمه الله، بل قد نص أحمد رحمه الله: على جواز الرعي في أرض غير مباحة، مع أن الأرض ليست ملكا له، ولا مستأجرة - إلى أن قال: - والصواب أنه يجوز له دخولها، لأخذ ما له أخذه، وساق كلاما في هذا المبحث - إلى أن قال في آخره - فدل ذلك على جواز الدخول، إلى بيت غيره وأرضه، غير المسكونة، لأخذ حقه من الماء والكلأ، فهذا ظاهر القرآن، وهو مقتضى نص أحمد رحمه الله، وبالله التوفيق، انتهى.

وذكر في الفصل قبله كلاما، يدل على ما دل عليه كلامه في هذا الفصل، وذكر في أثناء كلامه هذا كما ترى: أن له دخول البيوت والأرض المملوكة، غير المسكونة، بلا إذن أصحابها، لأخذ المباح منها.

فإذا كان هذا حال الأرض المملوكة، ملكا تاما، وحكم العلماء ونصوص الفقهاء فيها، وفيما يحصل فيها من المباحات، فكيف بحال شواهق الجبال ورؤوس الهضبات، التي لا ملك عليها، ولا أثر إحياء، ولا سبب استحقاق، إلا أنه يوجد عليها خط أو خطان، أو صخرة منصوبة، أو أن الأمير الفلاني من الأعراب، قال: هذا ملكي، أو ملك آل فلان، فما تجدي هذه الأشياء من تأثير الملك، واستحقاق نزع المباح، من يد من أخذه، وملكه بالحيازة، وقد أذن له الشارع في أخذه، وبماذا يستحقه مدعي الملك بلا حقيقة؟ فالذي يعلم من لوامع عبارات العلماء، وسواطع إشارات

ص: 454

الفقهاء: أن هذه الأغوار والأوكار، حكمها كغيرها من الأرض المباحة، وأن الناس فيها شركاء، لم يستحقها أحد دون أحد، إلا من سبق إليها، وأقام عندها وحفظها، فهو أحق بها إلى أن يفارقها، كحال الأمكنة المباحة للعامة، من المساجد والمجالس والأسواق، ومواضع العبادات، والبيع والشراء، لورود النصوص بذلك، لكن لو استوى في السبق جماعة فهم شركاء.

وإن بنى برجا محكما، أو عمل بركة لقصد الصيد، فما حصل فيها فهو له، وإن عملها لغير قصد الصيد فكغيرها، هو أحق بما يحصل فيها، ولغيره أخذه، كما ذكره في الإقناع وغيره، والله المسئول أن يوفقنا للصواب، وأن يلهمنا رشدنا، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم دائما أبدا.

وسئل الشيخ حسن بن حسين بن علي عن جماعة شرعوا في إجراء نهر ثم تركوه ثم جاء آخرون فعملوا فيه وتركوه قبل إكماله، ثم جاء آخرون فأكملوا العمل وأجروه؟

فأجاب: إن كان تركه الأول رغبة عنه، فليس له شيء من نفقته; وإن كان تركه عجزا، قله قدر ما بقي يقدر له ذلك من أثر عمله.

وأجاب الشيخ: محمد بن عبد اللطيف: أما الأولى،

ص: 455

والثانية، فلا يملكونه، لأن الملك لا يثبت إلا بإحياء تام، لكن الجماعة الأولى الذين شرعوا في العمل أحق به من غيرهم، إلا أن يكونوا تركوه رغبة عنه، بصريح لفظ أو دلالة عرفية، كسكوتهم وعدم منازعتهم المدة الطويلة، مع رؤيتهم من يعمل فيه;

وأما الجماعة الثالثة، وهم الذين أحيوه فهم المستحقون له، إن كانت الأولى لم تنازعهم، فإن كانت قد نازعت، فهي أحق كما تقدم.

سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: عن واد غرس فيه في الزمن السابق ويسقون نخيلهم من السيل، وغرس ناس أعلى منهم، وطلبوا لهم مسيلا من الوادي، وأهل الغرس الأول عليهم ضرر

إلخ؟

فأجاب: هذه المسألة مذكور حكمها في كتب الفقه، في باب إحياء الموات، قالوا: ولمن في أعلى ماء غير مملوك، كماء الأمطار والأنهار الصغار، أن يسقي ويحبسه إلى كعبه، قالوا: ولو أراد إنسان إحياء أرض فوقهم، فهل لهم منعه؟ على قولين، أصحهما: ليس لهم منعه إن لم يضر بهم، لكن ليس له أن يسقي قبلهم، لسبقهم، ولأنهم ملكوا الأرض بحقوقها قبله، فلا يملك إبطال حقوقهم، وسبقهم إياه بالسقي من حقوقها، ولحديث " من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به " ولا فرق بين واد كبير، أو صغير، لأنه إذا صار السيل غير جيد، ولو كان الوادي كبيرا أضربهم وسده عنهم، هذا الذي ذكره الفقهاء ومشوا عليه، انتهى.

ص: 456

وسئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد: عن السيل إذا سقى مزارع الرجل الأعلى، وفرغ منه إلى آخره؟

فأجاب: لا يمنع عن زرع الذي يليه ولو لم يكن له قسم، وكذلك العين لا يمنع ما فضل من مائها.

وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: ومن المعلوم المشتهر عند الفقهاء، أن الأعلى يسقى قبل الأسفل، ويحبس إلى الجدر، ومن خالف في ذلك فلا التفات إليه.

وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: إن كان ملكه سابقا فله أن يحبس إلى الجدر، وإن لم يكن ملكه سابقا على من تحته، فكل له شركة ويعطى بالقسمة قدر حقه، انتهى.

قال عبد العزيز بن عثمان بن عبد الجبار: المسيل الذي هو شركة بين البلدين، يدعى محمد أن السيل قد انتحى عنهم، وأن الشعبة ارتفعت، وأنكر خصماؤه، وأن الضرر عليهم أكثر، فالضرر يزال عمن كان مستضرا بما يمكن إزالته، من أخذ تراب أو غيره، يلزم الأمير يبعث إليه أربعة رجال عدولا، من أهل الأمانة والديانة، من غير أهل البلدتين، أو من له شركة في السيل، فمن رأوا عليه الضرر أزيل عنه.

وأجاب إبراهيم بن حسن: أن بطن الوادي يضرب بمدرج مع وجه الأرض، ويقسم بينهم كل على حسب حاله من أراضيهم.

ص: 457

وقال الشيخ: علي بن حسين بن الشيخ: نظرت في هذا الحكم، فرأيته صحيحا موافقا لأصول الشرع، فإذا طويت السلسلة المذكورة، قسم السيل على قدر الأملاك التي تسيل من هذا الوادي في البلدين.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: نظرت في خط عبد العزيز بن عثمان، وما أمضاه في السيل المذكور، فرأيته صحيحا موافقا لما تقرر في كتب الأحكام.

وقال ابنه الشيخ عبد اللطيف: نظرت فيما ذكر أعلاه، فيجب العمل بمقتضاه.

قال الشيخ عبد العزيز بن حسن: زيد ما يمنع من تحويض نخله الذي في الوضيمة، وإن حصل فيها حبط من السيل فنقله على أهل الوضيمة، إلا ما كان في حياض النخل، فنقله على صاحبه.

سئل الشيخ: عبد الله بن محمد: عن قوله: " لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ"

فأجاب: أما معنى قوله: " لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ " 2 فقال الخطابي: تأويله أن الرجل إذا حفر بئرا في موات، ملكها بالإحياء، فإذا جاء قوم لينْزلوا في ذلك المكان الموات، ويرعوا نباتها وليس هناك ماء إلا تلك البئر، فلا يجوز له منع أولئك القوم من شرب ذلك الماء، لأنه لو منعهم منه لا يمكنهم رعي ذلك الكلأ، فكأنه منعهم عنه.

1 البخاري: المساقاة (2354)، ومسلم: المساقاة (1566)، والترمذي: البيوع (1272)، وأبو داود: البيوع (3473)، وابن ماجه: الأحكام (2478) ، وأحمد (2/273 ،2/309)، ومالك: الأقضية (1459) .

2 البخاري: المساقاة (2354)، ومسلم: المساقاة (1566)، والترمذي: البيوع (1272)، وأبو داود: البيوع (3473)، وابن ماجه: الأحكام (2478) ، وأحمد (2/273 ،2/309)، ومالك: الأقضية (1459) .

ص: 458

وأجاب أيضا: وأما الفجاج التي يحجرها أهل البلد لا يرعاها الناس، فهذا لا يجوز في الإسلام، وحكم الشرع: أن الناس شركاء في الكلأ والمرعى.

وأجاب أيضا: والحجر ما يجوز في الإسلام، إلا رأيا يراه الأمير مصلحة للمسلمين.

وأجاب أيضا: أما الحجر، فالحضري لا يحجر على الحضري، الحجر على البدوي، عن كل ما تصله سارحة البلاد، ويصله حشاش، وما وراء هذا لا يحجر.

وأجاب الشيخ: عبد الله أبا بطين: وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن منع فضل الماء، فهذا إذا كان لرجل بئر، واحتاج الناس لسقي بهائمهم، فلا يحل له أن يمنعهم ما فضل عن حاجته، وهذا إذا كان الماء في قراره، وأما ما يخرج الإنسان من البئر في بركته أو آنيته، فإنه يملكه ويختص به، ويجوز له بيعه; وأما نهيه عن منع الكلأ، فالكلأ والعشب ونحوه النابت في أرضه; وبعض العلماء يقولون: إذا كان في أرض محوطة، فلا يدخلها إلا بإذن صاحبها،

وقال الشيخ تقي الدين: إذا ترك زرع أرضه قاصدا كلأها، فإنه يختص به، ويجوز له بيعه.

وأجاب بعضهم: وأما الكلأ فإن الناس فيه شركاء، سواء قرب أو بعد.

وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: والحمى لا أعلم دليلا شرعيا يدل عليه، إلا ما حمى ولي الأمر.

ص: 459