الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الغصب
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: عما يأخذه الأعراب ونحوهم ممن هو مثلهم، أو من أهل القرى؟
فأجاب: أما ما يأخذونه ممن هو مثلهم في ترك ما فرض الله عليهم والتهاون بما حرمه الله، مما يكفر أهل العلم فاعله، فلا إشكال في حله كما أفتى به شيخ الإسلام وغيره من العلماء وهو ظاهر لظهور دليله، وأما إذا كان المأخوذ من أهل القرى ونحوهم، ممن يلتزم أركان الإسلام، ولا يظهر منه ما ينافيه، فحكم ما أخذ منه حكم الغصب، وتفصيله لا يجهل.
وسئل: عمن عرف متاعه وهو إما ضائع أو مسروق، ولم يعرف المشتري من اشترى منه، هل يؤخذ بلا ثمنه، أو يعطى ما اشترى به؟
فأجاب: إذا قامت البينة أنه ضائع أو مسروق أخذ بلا عوض، ويرجع على من اشتري منه ولو لم يعرفه.
وأجاب أيضا: ومسألة الذي يجد عين ماله عند رجل، يدعي أنه اشتراه ممن لا يعرفه أو من حربي أو بدوي،
فليس له إلا يمينه، وإذا ثبت أن المال مسروق، أو وجده عند رجل، أخذه صاحبه ولو ادعى أنه اشتراه ممن لا يعرفه.
وأجاب أيضا: وإذا اشترى سلعة وعرفها صاحبها، فإذا أقام البينة: أنها يوم تتلف وتضيع وهي في ملكه، فيأخذها صاحبها، ويرجع المشتري على من غره، وإذا أخذ الكفار مال مسلم، وتملكه مسلم منهم بشراء أو هبة، ما صار لصاحبه الأول عليه سبيل.
وأجاب ابنه الشيخ: عبد الله: الفقهاء رحمهم الله، قد ذكروا هذه المسألة، وذكروا أن المغصوب منه يأخذ عين ماله أينما وجده، سواء كان الغاصب، أو المشتري أو المنتهب، ويرجع المشتري على الغاصب أو السارق بالثمن، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الغاصب غنيا أو فقيرا، ومن أسلم على شيء في يده قد ملكه في الجاهلية، لم ينْزع من يده في الإسلام، لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله، وكذلك ما حصل بينهم من القتل والإتلافات، فالذي نفتي به أنه لا يطالب بشيء من ذلك، وذلك لأن حال الناس قبل هذا الدين، أكثرهم حاله كحال أهل الجاهلية الأولى، وكل قوم لهم عادة وطريقة استمروا عليها، تخالف أحكام الشرع في المواريث والدماء والديات وغير ذلك، ويفعلون ذلك مستحلين له، فإذا أسلموا لم يطالبوا بشيء مما فعلوه في جاهليتهم، وتملكوه من المظالم ونحوها، وأما الديون والأمانات: فالإسلام لا يسقطها، بل يجب أداؤها إلى أربابها، والله أعلم.
وأما المرأة إذا أعطاها ولدها ثلث ماله في الشرك، وأسلمت وهو في يدها، فهو لها، ولا يجوز للعصبة يأخذونه منها في الإسلام وإن كانوا ظلموها في الشرك، وأخذوه من يدها وطردوها في الجاهلية، وأسلموا وهو في أيديهم، فلا لها عليهم سبيل.
وأجاب أيضا: فيما أملاه على الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وله معه بعض مشاركة وتصرف، نقلته من خطه، وصورته: ما يأخذه الأعراب ممن هو مثلهم، فالأقرب أن يقال فيه بمضمون ما نص عليه شيخ الإسلام رحمه الله: بأن المكسوب من التتر، أو العرب الذين يغير بعضهم على بعض، فيأخذ هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء، لا يحرم شراؤه والاعتياض عنه، إن لم يعرف صاحبه الذي أخذ منه، ومفهومه: أنه إن عرف، حرم شراؤه وردّ إلى صاحبه.
وأما إذا أخذه مثل هؤلاء الأعراب من مسلم، فإن لم يعرف صاحبه، جعل في المصالح، وقد نص على ذلك شيخ الإسلام أيضا، فيما اشتراه مسلم من التتر، إذا لم يعرف صاحبه جعل في المصالح، وأعطي مشتريه ما اشتراه به، لأنه لم يصر إليها إلا بنفقته، وإن لم يقصد ذلك; هذا كلامه بحروفه، ومقتضاه: إن عرف صاحبه يردّ إليه مجانا، لأن ذلك البائع لا يملك مال المسلم، وكذا المشتري بناء على أن المرتد لا يملك مال المسلم بغير رضاه بحال، وكذا الحربي إذا لم يسلم; هذه طريقته المقررة في كتبه.
وسئل أيضا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله، ما حكم مال المسلم إذا أخذه الكفار، ثم اشتراه بعض التجار؟
فأجاب: يتفرع عن ذكر هذه المسألة تحريرا وتقريرا، فنقول: اختلف العلماء رحمهم الله في الكافر الأصلي، هل يملك مال المسلم بالقهر أم لا؟ فذهب القاضي أبو يعلى: إلى أنه يملكه، وهو المذهب عنده; والمذهب عند أبي الخطاب: أنهم لا يملكونه، وحكى طائفة عن أحمد روايتين، منهم ابن عقيل في فنونه ومفرداته، وصحح فيها عدم الملك; وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: إن أحمد رحمه الله لم ينص على الملك ولا عدمه، وإنما نص على أحكام أخذ منها ذلك، والصواب: أنهم يملكونها ملكا مقيدا، لكن لا يساوي أملاك المسلمين من كل وجه، انتهى.
وقوله: مقيدا، أي: بالإسلام عليها، كما صرح به في كتاب الصارم وغيره، ونصه: ولو أسلم الحربي وبيده مال مسلم، قد أخذه من المسلمين بطريق الاغتنام ونحوه، مما لا يملك به مسلم من مسلم، لكونه محرم في دين الإسلام كان له ملكا ولم يرده إلى المسلم الذي كان يملكه، عند جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم، وهو معنى ما جاء عن الخلفاء الراشدين، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، ومنصوص أحمد، وقول جماهير أصحابه، بناء على أن الإسلام أو العهد، قرر ما بيده من المال الذي كان يعتقده
ملكا له، لأنه خرج عن مالكه المسلم في سبيل الله، ووجب أجره على الله، وأخذه متحللا له، وقد غفر الله له بإسلامه ما فعله في دماء المسلمين وأموالهم، فلا يضمنه بالرد إلى مالكه، كما لم يضمن ما أتلفه من النفوس والأموال، ولا يقضي ما تركه من العبادات، لأن كل ذلك كان تابعا للاعتقاد، فلما رجع عن الاعتقاد غفر ما تبعه من الذنوب، فصار ما بيده من المال لا تبعة عليه، فلم يؤخذ منه كجميع ما بيده من العقود الفاسدة التي كان يستحلها.
ومن العلماء من قال: يرده على مالكه المسلم، وهو قول الشافعي وأبي الخطاب، بناء على أن اغتنامهم لا يملك به مسلم من مسلم بأن يغنمه أو يسرقه، فإنه يرد إلى مالكه المسلم، لحديث ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وهو فيما اتفق الناس - فيما نعلم - عليه ولو كان قد ملكوه لملكه الغانم منهم ولم يرده، والأول أصح، لأن المشركين كانوا يغنمون من أموال المسلمين الشيء الكثير من الكراع والسلاح وغير ذلك، وقد أسلم عامة أولئك المشركين، فلم يسترجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد منهم مالا، مع أن بعض تلك الأموال لا بد أن يكون باقيا، انتهى المقصود.
وهو صريح في أن المقرر للملك، إنما هو إسلامهم، وهو المانع من رد ما بأيديهم مما أخذوه من مال المسلمين، وهي طريقة حسنة، قد صار إليها شيخنا الجد رحمه الله آخرا، بعد أن كان يفتي بقول الشافعي وموافقيه، لكن يرد
على هذه الطريقة: ما روى مسلم في صحيحه عن وائل بن حجر، قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجلان يختصمان في أرض، فقال أحدهما: إن هذا انتزى على أرضي يا رسول الله في الجاهلية، وهو امرؤ القيس بن عابس الكندي، وخصمه ربيعة بن عبدان، قال:" بيّنتك قال ليس لي بينة، قال: يمينه قال إذًا يذهب بها، قال: ليس لك إلا ذلك " 1 الحديث.
وقد بنى: ابن الصيرفي هذه المسألة، على القاعدة المشهورة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ الرواية الصحيحة: أنهم مخاطبون بها، وهو قول الجمهور من الفقهاء والمتكلمين، فعلى ذلك لا يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء، ولا بالحيازة إلى دارهم، وقد تقدم لك في كلام الشيخ ما ذهب إليه الإمام الشافعي وأبو الخطاب، من أنهم لا يملكونها مطلقا، قال في القواعد الأصولية، وسمعت بعض شيوخنا يعزو وجوب الضمان على الحربي، إلى إسحاق بن راهويه رحمه الله، وقد يرد على ما عزا إلى إسحاق من وجوب ضمان التالف، حديث " الإسلام يجُبُّ ما قبله " 2 وقد نقل بعض الشافعية عن المزني: أنه استدل بالحديث المذكور فيما أتلفه الكافر ثم أسلم.
وأما ما ذهب إليه القاضي رحمه الله، من أنهم يملكونها بالاستيلاء، مع الحيازة إلى دارهم، فلا دليل عليه، وقد أورد العلماء رحمهم الله على هذا القول سؤالا، لا يمكن أن يجاب
1 مسلم: الإيمان (139)، والترمذي: الأحكام (1340)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3245) والأقضية (3623) ، وأحمد (4/317) .
2 أحمد (4/205) .
عنه إلا بتكلف، وليس هذا محل ذكره، وهذا كله في الكافر الأصلي، وأما المرتد فلا يملك مال المسلم بحال، ولا نعلم أحدا قال به، وإنما الخلاف فيما أتلفه إذا كان في طائفة ممتنعة، أو لحق بدار حرب، والمذهب أنه يضمن ما أتلفه مطلقا.
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنه قد يغلط بعض الناس في معنى الإتلاف والتلف، فيظن أنه إذا استنفق المال، أو باعه أو وهبه ونحو ذلك يسمى تلفا، وليس كذلك، بل هو تصرف، وقد فرق العلماء بين التلف والتصرف، ومن صور التلف أن يضيع من بين يديه، أو يسرق أو يحرق أو يغرق، أو يقتل ونحو ذلك مما يسمى تلفا وضابطه: فوات الشيء على وجه لا يعد من أنواع التصرفات.
فيكون الجواب عن السؤال على ما تقرر: أن هذا المال الذي اشتراه بعض التجار ممن أخذه، يرد إلى مالكه الأول من غير ثمن، ويرجع مشتريه بالثمن على من اشترى منه، حتى يستقر الضمان على الآخذ، فلو كان الكافر يملك بمجرد الاستيلاء، لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم على ابن عمر فرسه التي أخذها العدو لما ظهر عليها المسلمون، فلو كانت قد أخذت على ملك الكافر، لتعلقت بها حقوق الغانمين والمستحقين، كسائر الغنيمة، فلما ردها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابن عمر، دل على أنها باقية على ملكه، وليس لتخصيصه بها دون سائر الغانمين معنى غير ذلك، وعمل بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده
والأحاديث معروفة في كتب الأحكام وغيرها.
والقائلون: بأن الكفار يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء وحده، أو بالحيازة إلى دارهم، لا يخالفون فيما دلت عليه الأحاديث، من أنه إذا أخذها المسلمون منهم ردت إلى صاحبها بغير شيء، قال في الشرح: في قول عامة أهل العلم، منهم عمر وسلمان بن ربيعة، وعطاء والنخعي والليث والثوري، ومالك والأوزاعي والشافعي، وأصحاب الرأي، ودليلهم: ما تقدمت الإشارة إليه، وهو حجة من قال إنهم لا يملكونها بالاستيلاء.
وروى سعيد والأثرم عن جابر بن حيوة، أن أبا عبيدة "كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما أحرزه المشركون من المسلمين، ثم ظهر المسلمون عليهم بعد، قال: من وجد ماله بعينه فهو أحق به، ما لم يقسم" فمفهوم قوله: ما لم يقسم، أنه إذا قسم مع الغنيمة فليس هو أحق به، لكن اشترط العلماء لذلك: أن لا يكون الإمام ولا المسلمون قد اطلعوا على أنه مال مسلم، فإن اطلع الإمام والمسلمون قبل قسمه فقسم، وجب رده وصاحبه أحق به بغير شيء، لأن قسمته كانت باطلة من أصلها، فهو كما لو لم يقسم.
فأما إذا قسم من غير علم أنه مال مسلم، ففيه عن أحمد روايتان; إحداهما: يكون صاحبه أحق به بالثمن الذي حسب به على آخذه، وكذلك إن بيع في الغنيمة ثم قسم ثمنه
فهو أحق به بالثمن، وهذا قول أبي حنيفة والثوري، والأوزاعي ومالك، واستدل لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لصاحب البعير:" إن أصبته قبل أن نقسمه فهو لك، وإن أصبته بعدما قسم أخذته بالقيمة " وهذا الحديث لم أره معزوا إلى شيء من كتب الحديث، قالوا: وإنما امتنع أخذه له بغير شيء كي لا يفضي إلى حرمان آخذه من الغنيمة، أو تضييع الثمن على المشترى من الغنيمة وحقه ينجبر بالثمن، فيرجع صاحب المال في عين ماله.
والرواية الثانية: أنه لا حق له فيه بعد القسمة بحال، نص عليه أحمد في رواية أبي داود وغيره، وهو ظاهر ما تقدم عن عمر، وقال الشافعي وابن المنذر: يأخذه صاحبه قبل القسمة وبعدها، ويعطى مشتريه ثمنه من خمس المصالح، لأنه لم يزل عن ملك صاحبه، فوجب أن يستحق أخذه بغير شيء كما قبل القسمة، ويعطى من حسب عليه القيمة، لئلا يفضي إلى حرمان أخذ حقه من الغنيمة، وجعل من سهم المصالح لأن هذا منها، وهذا القول قد تقدمت الإشارة إليه في كلام شيخ الإسلام، وهذا الخلاف فيما بعد القسمة إنما هو فيما استولى عليه الكافر الأصلي، ثم غنمه المسلمون فقسموه على الغانمين، وهم لا يعلمون أنه مال مسلم، فالحكم منصب على المسألة بقيودها.
وأما إذا تخلفت القيود أو بعضها، وجب الرجوع إلى الأصل، وهو رد مال المسلم بغير شيء; ففي المسألة أربعة
قيود، يجب اعتبارها على القول المشهور، وهو أنه لا يأخذها صاحبها إذا قسمها المسلمون، أو اشتراها التجار من غنيمة المسلمين إلا بالقيمة أو الثمن، بخلاف ما إذا لم يقسم في غنيمة المسلمين، أو اشتراها التاجر من غير الغنيمة، فإنها ترد إلى مالكها الأول بغير شيء على القولين.
وقد روى مسلم في صحيحه: "أن قوما أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا ناقة وجارية من الأنصار، فأقامت عندهم أياما ثم خرجت في بعض الليل، قالت فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت، حتى وضعتها على ناقة ذلول، فامتطيتها ثم توجهت إلى المدينة، ونذرت: إن نجاني الله عليها أن أنحرها، فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة، فإذا هي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها، وقلت: يا رسول الله إني نذرت أن أنحرها، فقال: بئسما جازيتيها، لا نذر في معصية الله " وفي رواية " لا نذر فيما لا يملك ابن آدم " 1 وهذا الحديث من أقوى الأدلة: على أنهم لا يملكون مال المسلم بالاستيلاء ولا بالحيازة، والله أعلم.
وقد يستأنس من أفتى في المسألة من غير تحقيق ولا تفريق، بأن المسلم إذا وجد عين ماله مع من اشتراه، من مرتد أو غيره، يأخذه بالثمن، ويعتمد في ذلك على ما نقله عن شيخ الإسلام، فيمن اشترى مال المسلم من التتر لما دخلوا الشام، إن لم يعرف صاحبه صرف في المصالح، وأعطى مشتريه ما اشتراه به، لأنه لم يصر لها إلا بنفقته، وإن
1 مسلم: النذر (1641)، والنسائي: الأيمان والنذور (3812 ،3849 ،3851)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) ، وأحمد (4/429)، والدارمي: النذور والأيمان (2337) .
لم يقصد ذلك، كما رجحه فيمن اتجر في مال غيره وربح انتهى; وهذا يفيد من تأمله: أن الشيخ لا يقول بأنهم يملكونها، لأن القول بالملك يقتضي أنها تكون لمن اشتراها منهم، وقد أفتى بأنها تكون في المصالح، إذا لم يعرف صاحبها، ولا تقر في يد من اشتراها منهم.
وأما قوله: وأعطى مشتريه ما اشتراه به، لأنه لم يصر لها إلا بنفقته، فعلل إعطاءه الثمن بأنه لم يصر للمصالح إلا بنفقة المشتري، وهذا يخالف ما لو كان المالك موجودا، فإنه قد صار له قبل الأخذ والشراء، فلا يستحق المشتري عليه نفقة، لأنه لم يستفد هذا الشيء من جهته، بل يكون حكم يده حكم الأيدي المترتبة على يد الغاصب، وبما قررناه يظهر الجواب عن المسألة، وأنه لا يصح قياس ما جرى في هذه السنين، مما وقع من نهب البغاة والمرتدين والظالمين، على ما أخذه الكافر الأصلي من أموال المسلمين.
وقد سئل شيخنا: الشيخ عبد الله رحمه الله في آخر حياته، عن هذه الأموال، فأفتى بأنها غصوب يحكم لها بحكم الغصب، وأفتى بذلك أيضا الشوكاني قاضي صنعاء، وما ظننت أن أحدا من المعروفين بالعلم يخالفهما، انتهى.
وسئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: عن شراء نهب البدو
…
إلخ؟
فأجاب: أما نهب البدو بعضهم بعضا: فالذي أرى عدم
الشراء منهم مطلقا، إذا تحقق أنه بعينه نهب، لاشتباه أمرهم.
وقال أيضا رحمه الله: "مسألة" قال المجد: باب أن درك المبيع على البائع، إذا خرج مستحقا، عن الحسن عن سمرة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع المبتاع من باعه " 1 رواه أحمد وأبو داود والنسائي وفي لفظ " إذا سرق من رجل متاع أو ضاع منه، فوجده بيد رجل بعينه فهو أحق به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن " 2 رواه أحمد وابن ماجه.
أقول: ما رأيت في كلام أحد من العلماء ما يخالف هذا الحديث، بل كل ما رأيت من كلامهم موافق لهذا الحديث، قال أحمد رحمه الله: أذهب إلى حديث سمرة يرفعه " من وجد متاعه عند رجل فهو أحق به، ويتبع المبتاع من باعه " 3 يرويه هشام عن موسى بن السائب، عن قتادة عن سمرة، قال: وموسى بن السائب ثقة، ولا يلتفت إلى قول من طعن في رواية الحسن عن سمرة، لاختلاف أئمة الحديث في سماع الحسن عن سمرة، فابن المديني يصحح سماعه عن سمرة، والترمذي يصحح حديثه عنه، والإمام أحمد لا يصحح سماعه عنه، ومع هذا يحتج بحديثه عنه في مواضع كثيرة، لأن المرسل عنده، وعند مالك وأبي حنيفة حجة، وعند الشافعي تفصيل في ذلك، فهو حجة ما لم يعارضه مثله، أو ما هو أقوى منه، ويقال: إن رواية الحسن من صحيفة، وهذا لا يقدح كما قرر ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله أحسن تقرير.
1 أبو داود: البيوع (3531) ، وأحمد (5/10) .
2 ابن ماجه: الأحكام (2331) .
3 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402)، ومسلم: المساقاة (1559)، والترمذي: البيوع (1262)، والنسائي: البيوع (4676)، وأبو داود: البيوع (3519)، وابن ماجه: الأحكام (2358) ، وأحمد (2/347)، ومالك: البيوع (1383)، والدارمي: البيوع (2590) .
ورأيت فتوى منسوبة إلى إسماعيل بن رميح، يقول: إن صاحب المتاع إذا وجد متاعه بيد المشتري من الغاصب ونحوه، أنه لا يستحقه حتى يدفع الثمن للمشتري، ورد على من خالف في ذلك، وخطأه، وهو المخطئ بلا شك، واستدل بقول الشيخ تقي الدين: ومن لم يخل مال غيره من التلف إلا بما أدى عنه، رجع به في أظهر قولي العلماء، ولم يلتفت الناقل لكلام الشيخ رحمه الله، إلى ما قبل هذه العبارة وما بعدها، حتى يتبين له معنى كلام الشيخ.
وصورة كلام الشيخ في حكم المظالم المشتركة قال - بعد كلام سبق ـ: وكذلك من خلص مال غيره بما أدى عنه رجع به عليه مثل من خلص ماله من قطاع الطرق أو متول ظالم أو عسكر ظالم ولم يخلصه إلا بما أدى عنه، فإنه يرجع بذلك عليه وهو محسن إليه بذلك و {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [سورة الرحمن آية: 60] وإن لم يكن مؤتمنا على ذلك المال، ولا مكرها على الأدى عنه، فإنه محسن إليه بذلك، فإذا خلص عشرة آلاف درهم بألف درهم، كان من المحسنين، فإذا أعطاه الألف كان قد أعطاه بدل قرضه، وبقي عمله وسعيه إحسانا إليه لم يجزه به، هذا أصوب قولي العلماء.
ومن جعل مثل هذا متبرعا ولم يعطه شيئا، فقد قال منكرا من القول وزورا، وقد قابل الإحسان بالإساءة; ومن قال هذا هو المشروع الذي بعث الله به رسوله، فقد قال على الله
غير الحق، لكنه قول بعض العلماء، وخالفهم آخرون، انتهى; وقوله رحمه الله: ومن لم يخلص مال غيره هذا فيمن قصد التخليص لمال الغير، لا لمن قصد التملك.
ورأيت في أثناء كلام شيخ الإسلام رحمه الله أنه قال: وأما معاملة التتار، فيجوز أن يبتاع الرجل من مواشيهم، كما يبتاع من مواشي التركمان والأكراد، وأنه إذا كان الذي معهم ومع غيرهم، أموال يعرف أنهم غصبوها من معصوم، لم يجز شراؤها لمن يتملكها، لكن إن شريت على طريق الاستنقاذ، لتصرف في مصارفها الشرعية - فتصرف إلى أصحابها إن أمكن، وإلا صرفت في مصالح المسلمين - جاز، انتهى.
ورأيت فتوى له رحمه الله: سئل شيخ الإسلام عمن اشترى فرسا ثم ولدت عنده حصانا، وأخذ السلطان الفرس وأهدى الحصان إلى رجل وأعطاه عوضه ثم ظهرت الفرس أنها مكسوبة نهبا من قوم فهل يحرم ثمن الحصان؟
فأجاب: إن كان صاحب الفرس معروفا ردت إليه فرسه ورجع المشتري بالثمن على بائعه ورجع عليه بقيمة الحصان الذي يستحقه صاحبه لكونه غره وإن كانت مكسوبة من التتر أو الأعراب الذين يغير بعضهم على بعض، فيأخذ هؤلاء من هؤلاء وهؤلاء من هؤلاء ولم يعرف صاحبها لم يحرم على مهدي الحصان عوض هديته والله أعلم.
فقوله: إن كان صاحب الفرس معروفا ردت إليه فرسه ورجع المشتري بالثمن على بائعه، صريح في أنه لا شيء على صاحب الفرس وأنه لا يطالبه بالثمن الذي دفعه للبائع، وأنه إنما يطلبه من البائع، انتهى، ومشترى الفرس في هذه المسألة مغرور لم يعلم أنها منهوبة، كما يدل على ذلك حديث سمرة " من وجد متاعه " 1 ولم يفرق بين كون المشتري مغرورا، أو غير مغرور، ومن استدل على خلاف ذلك بما ذكره كثير من العلماء في حكم الغنيمة، أن المسلم إذا وجد ماله في الغنيمة من الكفار، إن كان قبل القسمة أحذه بغير شيء، وإن كان بعدها فله أخذه ممن هو بيده بقيمته; وكذلك إذا وجده بيد من اشترى من كافر، أنه يأخذه بالثمن الذي اشتراه به، فهذا بناء على أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء عليها.
وفي المسألة قولان للعلماء، هما روايتان عن الإمام أحمد، إحداهما أنهم يملكونها بالقهر والاستيلاء، وهو قول مالك وأبي حنيفة; والقول الآخر: أنهم لا يملكونها، بل هي باقية على ملك المسلم; وأصحاب هذا القول يقولون: إن المسلم إذا وجد ماله في الغنيمة، يأخذه بغير شيء ولو بعد القسمة، أو وجده في يد من اشتراه من الكفار، أخذه من المشتري بغير شيء يرجع به عليه، ومن المعلوم أن الغاصب ونحوه، لا يملك ما أخذه بإجماع المسلمين، ففي حكم الغنيمة حجة ظاهرة لتصحيح ما قلنا.
1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402)، ومسلم: المساقاة (1559)، والترمذي: البيوع (1262)، والنسائي: البيوع (4676)، وأبو داود: البيوع (3519)، وابن ماجه: الأحكام (2358) ، وأحمد (2/474)، ومالك: البيوع (1383)، والدارمي: البيوع (2590) .
وأما من استدل على خلاف ذلك، بحديث "لا ضرر ولا إضرار " 1 فهو استدلال مردود، لأن في الاستدلال به على هذه المسألة دفع ضرر بضرر، ومن المعلوم أن صاحب المتاع المغصوب، إذا وجده بعينه، أقوى جانبا من المشتري الذي ماله في ذمة الغاصب فكيف ندفع ضرر من ماله في ذمة الغاصب، بتحميل الضرر من وجد ماله بعينه؟ فلو لم يكن في هذه المسألة حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا كلام للأئمة وأتباعهم، لم يكن في هذا الحديث دليل للمخالف بل هو على العكس أقرب وأقوى وقد روى ابن أبي شيبة: أن حذيفة عرف جملا له عند رجل، فخاصمه إلى قاض من قضاة المسلمين، فصارت على حذيفة اليمين، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو، ما باع ولا وهب، وروي عن شريح قال: إذا شهد الشهود أنها دابته، أحلفه بالله ما أهلكت ولا أمرت مهلكا، فهذا صريح في دفع الدابة إلى صاحبها بلا دفع ثمن، لأنهم لم يذكروه.
وأجاب أيضا: وأما من وجد ماله المسروق أو الضال ونحوه عند إنسان مشتريه، فلا أرى العدول عن العمل بالحديث الذي احتج به الأئمة أحمد وغيره، وهو حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من وجد متاعه عند رجل فهو أحق به، ويتبع المبتاع " 2 ويعضد ذلك ما روى ابن أبي شيبة، عن ابن سيرين: أن حذيفة عرف جملا له عند إنسان، فخاصم فيه إلى قاض من قضاة المسلمين، فصارت على حذيفة يمين في القضاء، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما باع ولا وهب;
1 مالك: الأقضية (1461) .
2 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402)، ومسلم: المساقاة (1559)، والترمذي: البيوع (1262)، والنسائي: البيوع (4676)، وأبو داود: البيوع (3519)، وابن ماجه: الأحكام (2358) ، وأحمد (2/347)، ومالك: البيوع (1383)، والدارمي: البيوع (2590) .
وروى ابن أبي شيبة عن شريح أنه قال: إذا شهد الشهود أحلفه بالله، ما أهلكت ولا أمرت مهلكا. وأما تضمين من نهب مال مسلم في هذه الحادثة 1 فالذي نعتقده: وجوب رده على صاحبه، وتضمينه إن تلف.
وسئل أيضا: الشيخ عبد الله أبا بطين، عن مسلم له ثمرة أخذها جيرانه، يدعون أنهم اشتروها من رجل آخر اشتراها من عدو تغلب عليهم، من أمراء الأتراك المتغلبين على البلاد، وأقام صاحب الثمرة بينة: أن هذا الرجل الذي باعها على جيرانه، استوهبها من العدو المتغلب فوهبها له، والبينة تشهد بإقرار البائع لها، وكذلك تشهد البينة على إقرار المشترين، الذين باشروا أخذها من رءوس النخل
…
إلخ؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، لا بد من الكلام على أصل هذه المسألة، وهو ما حكم مال المسلم إذا استولى عليه الكفار، هل يملكونه بذلك أم لا؟ وفي المسألة قولان مشهوران للعلماء، هما روايتان عن أحمد، حكاهما أكثر الأصحاب؟
أحدهما: لا يملكونه بذلك، اختاره جماعة من الأصحاب، وهذا مذهب الشافعي، والرواية الأخرى: يملكونه وهو قول مالك وأبي حنيفة، فعلى هذا هل يملكونه بمجرد الاستيلاء؟ أو بالحيازة إلى دارهم؟
الثاني: قول أبى حنيفة، قال في القواعد الفقهية: وهو
1 هي: استيلاء الترك على بلاد نجد.
المنصوص عن أحمد، قال في الفروع: نص عليه فيما بلغ به قبرص، يرد إلى صاحبه، ليس غنيمة ولا يؤكل، لأنهم لم يحوزوه إلى بلادهم، ولا إلى أرض هم الأغلب عليها، ولهذا قيل: أصبنا في قرب هرمز من متاع المسلمين، قال يعرف.
وقال أبو العباس رحمه الله: لم ينص أحمد على الملك، ولا على عدمه، وإنما نص على أحكام أخذ منها ذلك، قال: والصواب أنهم يملكونها ملكا مقيدا، لا يساوي أملاك المسلمين من كل وجه، انتهى; ولهذا إذا وجدها صاحبها قبل القسمة أخذها مجانا.
ومن فوائد الخلاف في هذه المسألة: أن من أثبت الملك للكفار من أموال المسلمين، أباح للمسلمين إذا ظهروا عليها قسمتها، والتصرف فيها، ما لم يعلموا صاحبها، وإن كان الكافر أسلم، وهي في يده فهو أحق بها، ومن لم يثبت الملك لم يجوز قسمتها، وتوقف إذا جهل ربها، ولربه أخذه بغير شيء حيث وجده، ولو بعد القسمة أو الشراء منهم، أو إسلام آخذه وهو معه، فيأخذه من مشتريه مجانا، فعلى القول بعدم الملك، ومقتضى اختيار أبي العباس: أن الثمرة المذكورة باقية على ملك صاحبها، يرجع بها مجانا على من هي بيده، ومقتضى هذا القول أيضا: أن صاحبها يضمنها من انتفع بها، إذا كانت تالفة، وعلى القول الثاني: يأخذها صاحبها ممن هي في يده مجانا، إن كان مُتَّهبا، وإن كان مشتريا أعطاه الثمن الذي اشتراها به.
وإذا اختلف في كونه مشتريا، أو متهبا، وأقام من هي في يده بينة أنه مشتر، وأقام صاحب الثمرة بينة أنه أقر أنه متهب، فالظاهر تعارض البينتين، فيصيران كمن لا بينة لهما، ويكون القول قول صاحب الثمرة بيمينه، أن ما في يده متهب، لأنه غارم، كالمذهب فيمن اشترى أسيرا مسلما من الكفار بنية الرجوع، وتنازعا في قدر ما دفع فيه، أن القول قول الأسير، لأنه منكر زيادة، ولأنه غارم.
وكلامهم هذا واختلافهم، إنما هو في الكفار الأصليين، وأما المرتدون: فكلامه رحمهم الله صريح في أن حكمهم ليس كذلك، وأنهم لا يملكون ما استولوا عليه من أموال المسلمين، لأنهم صرحوا أن المرتد إذا أسلم، وفي يده مال مسلم، أن صاحبه يأخذه مطلقا، ولم نرهم ذكروا في ذلك خلافا، وإنما تنازعوا في تضمينه ما أتلفه حال ردته، وفي تضمينه ذلك قولان، هما روايتان عن أحمد، المذهب منهما عند أصحابه الضمان، ومن لم يضمنه علل ذلك بأن في تضمينه تنفيرا له عن الإسلام، ولم يعللوه بأنه ملكه، وقد أجمعوا: أن الكافر الأصلي، لا يضمن ما أتلفه حال كفره، على القولين جميعا، أعني: ملكه لمال المسلم وعدمه، ولم نعلم بينهم نزاعا في أن المرتد إذا أسلم، يرد ما في يده من أموال المسلمين. واختلفوا في الأصلي إذا أسلم، هل ينْزع ما في يده من أموال المسلمين؟ فظهر من كلامهم الفرق بين الأصلي
والمرتد، وأن المرتد لا يملك مال المسلم بالاستيلاء; وعلى هذا فمن انتقل إليه مال مسلم من مرتد، بقهر أو هبة أو شراء، فصاحبه أحق به إذا وجده بغير شيء. إذا ثبت ذلك: فهؤلاء الأعداء الذين استولوا على نجد وأهلها، من حكمنا بكفره منهم، فحكمه حكم المرتدين، لا الأصليين، لأن دارهم دار إسلام، وحكم الإسلام غالب عليها; وإن كان الشرك موجودا فيهم كثيرا، فهذا الذي نراه ونعتقده، والله أعلم.
وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: إذا عرف رجل دابته عند رجل، فالذي نفتي به أن صاحبها يأخذها مجانا، ويرجع المشتري على من باعه مطلقا عرفه أم لا، هذا هو الذي قرره الشيخ عبد الله أبا بطين، في مسألة مشهورة له، صدرها بحديث سمرة الذي رواه عنه الحسن، ورواية الحسن عن سمرة حجة عند الإمام أحمد، ومن وافقه من العلماء، وأفتى به الشيخ عبد الرحمن بن حسن أخيرا، وأخبر أنه لا يزال ضرر المشتري بضرر المالك، لأن المالك أحق بدفع ضرره، لحديث " لا يزال الضرر بالضرر " ولفظ حديث سمرة " من وجد متاعه عند رجل أو قال عند مشتريه، فهو أحق به، ويتبع المبتاع من باعه " 1 وأبا بطين رحمه الله مسئول عن هذه المسألة، واستدل السائل بالحديث الذي في السنن، فقال هو لا يقاوم حديث سمرة في الصحة، وعمل الجمهور بحديث سمرة كاف في
1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402)، ومسلم: المساقاة (1559)، والترمذي: البيوع (1262)، والنسائي: البيوع (4676)، وأبو داود: البيوع (3519)، وابن ماجه: الأحكام (2358) ، وأحمد (2/228 ،2/247 ،2/249 ،2/258 ،2/347 ،2/385 ،2/410 ،2/468 ،2/474 ،2/487)، ومالك: البيوع (1383)، والدارمي: البيوع (2590) .
الاحتجاج به، مع أن الحديث فيه عكرمة بن خالد، أو خالد بن عكرمة، انتهى كلامه.
وقال: ما وقع في هذه السنين من النهب والظلم، يرد ما وجد منه إلى مالكه، من غير أخذ قيمة ولا ثمن، وحكم يد المشتري حكم الأيدي المترتبة على يد الغاصب; قلت إن كان عكرمة بن خالد بن سلمة، فقد قال البخاري فيه هو منكر الحديث، قاله في الخلاصة; وأما خالد بن عكرمة، فلم أجد له ذكرا فيها، وأما عكرمة بن خالد بن العاص فوثقة بن معين، انتهى، ثم إني نظرت فيها، فيمن روى عن أسيد بن حضير، فلم يذكر عكرمة بن خالد فيمن روى عنه، فلعل مراد الشيخ عبد الله أبا بطين، عكرمة بن خالد بن سلمة، انتهى.
وقال الشيخ: حمد بن عتيق، وبعد: بلغني ما ساءني، وهو أنك تنكر على من اشترى من أموال أهل الإحساء، التي تؤخذ منهم قهرا، ولا ينكر مثل هذا إلا من يعتقد معتقد أهل الضلال، القائلين إن من قال لا إله إلا الله لا يكفر، ومن له مشاركة فيما قرره المحققون، قد اطلع على أن البلد إذا ظهر فيها الشرك، وأعلنت فيها المحرمات، وعطلت فيها معالم الدين، أنها تكون بلاد كفر، تغنم أموال أهلها، وتستباح دماؤهم.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف: الذي جاءكم مع اللصوص، هو من مال قحطان، ولا يخفاكم أن كثيرا من قحطان: يلتزم الأحكام في التحليل والتحريم، ويتحاشا من
الاعتداء إلا على من اعتدى عليه، ولا يعجبني أكل ما أخذ منهم على هذا الوجه; وأما نهائب الأعراب، التي لا يعرف حال أهلها، فلبعض أهل العلم كلام في جواز شرائها وتملكها، وأما استحباب اجتناب ذلك كله، فهو طريقة جمهور أهل العلم.
وأجاب الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان: إذا وجد المسلم ماله بعينه عند أحد، فإنه يأخذ ماله من المرتد، أو ممن انتقل إليه بعوض وغيره بغير شيء، لأن المرتد لا يملك مال المسلم بأمان ولا غيره، لأن إعطاءه الذمة إنما هو على ماله، لا على مال المسلم; والمرتد: هو الذي دخل في الإسلام، وصدر منه ناقض من نواقض الإسلام، من قول أو فعل، بخلاف الكافر الأصلي الذي لم يدخل في الإسلام أصلا، هذا مضمون كلام العلماء.
وأجاب الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري: الذي عرف ماله عند أخيه المسلم، وهو مأخوذ منه انتهابا، لا يخفى أن مثل هذا يأخذ ماله ممن وجده عنده، لأن العلماء رحمهم الله ذكروا أن الأيدي المترتبة على يد الغاصب عشر، كلها أيدي ضمان، ومنها: يد المشتري من الغاصب; إذا علم ذلك: فقد ذكر الشيخ عبد الله أبا بطين، وغيره من مشائخ هذه الدعوة، أن البدوي إذا عرف ماله عند حضري، قد اشتراه من بدوي آخر، ليس له انتزاعه منه، إذا كان كل من البدويين ينهب من الآخر; ومثل البدو اليوم.
فالذي أرى: أنه إن كان المال الذي عرفه عند أخيه المسلم، قد أخذه منه قبل أن يتوب عن حاله الأولى، فالظاهر أنه ما ينتزعه من أخيه المسلم، لأنه أخذه منه وهو في حال كل منهما يأخذ مال صاحبه، وإن كان المال أخذ بعد التوبة، فهو يأخذه ممن وجده عنده بغير بذل ثمن.
سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: عن نهب البدو بعضهم بعضا، إذا عرف أحدهم منه شيئا عند الحضر
…
إلخ؟
فأجاب: إذا عرف أحدهم ماله عند حضري، وثبت أنه منهوب منه بالبينة، فالذي نفتي به في أزمنة هذا الاختلاف: أنه يعطي المشتري ثمنه الذي دفع إليه، ويأخذ ماله إن لم يكونوا حربا للحضر، وقد أفتى بذلك غير واحد من متأخري الأصحاب.
وسئل: عن قولهم من خلص مال غيره
…
إلخ؟
فأجاب: قولهم إن من خلص مال غيره من هلكة، استحق أجرة المثل; قالوا: كما لو أخرجه من بحر، أو خلصه من فم سبع، أو وجده بمهلكة، بحيث يظن هلاكه في تركه، لأنه يخشى هلاكه وتلفه على مالكه، بخلاف اللقطة; وفيه حث وترغيب في إنقاذ الأموال من الهلكة، لكن لو قيل في هذه الأزمنة: إن من وجد حيوان غيره بمهلكة، بحيث يظن هلاكه بتركه فأنقذه بنية الرجوع على ربه بما غرمه، أو
بأجرة عمله، والحال إن لم يكتمه لم يكن بعيدا رجوعه; ولا يفهم من قولهم هذا: أن المشتري من الغاصب ونحوه يرجع بثمنه على المغصوب منه، إذا أخذ سلعته، لأنهم ذكروا هذه المسألة وفسروها بما ذكرنا، وذكروا أن المشتري من الغاصب يرجع بثمنه على من اشترى منه، لا على من عرف سلعته وأخذها، وهذا ظاهر.
وقولهم: من خلص متاع غيره، من جملة ما تضمنه كلام الشيخ، في قوله: ومن لم يخلص مال غيره من التلف إلا بما أدى، رجع به في أظهر قولي العلماء، لأنه محسن، فقوله: لأنه محسن، مشعر بأن ذلك فيمن خلص مال غيره استنقاذا لصاحبه، لا ليتملكه، لأنه الذي يوصف بالإحسان; وأما الذي يشتري من الغاصب ونحوه للتملك، ويستعمل المبيع ويعجفه إن كان حيوانا، فهذا لا يوصف بأنه محسن; وأيضا الحديث المرفوع، الذي احتج به الإمام أحمد وغيره " من وجد متاعه عند إنسان فهو أحق به ويتبع المبتاع من باعه " 1 لا يجوز أن يعارض بقول أحد كائنا من كان.
وأجاب الشيخ عبد الله العنقري: ودفع الشاة عن غنم إلى ذي يد قاهرة، تلزم جميع الغنم.
1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402)، ومسلم: المساقاة (1559)، والترمذي: البيوع (1262)، والنسائي: البيوع (4676 ،4677)، وأبو داود: البيوع (3519 ،3523)، وابن ماجه: الأحكام (2358 ،2359 ،2360) ، وأحمد (2/347)، ومالك: البيوع (1382 ،1383)، والدارمي: البيوع (2590) .
سئل الشيخ: علي بن الشيخ حسين بن الشيخ رحمهم الله: عن رجل غصب شجرا ثم بايع به هل يضمن الغاصب غلة نخل من بايعه، كما ضمن نماء الغصب؟
فأجاب: هذا المغصوب من أفسد العقود; وقد ذكروا في العقد الفاسد، ما يبين أن لصاحب النخل أو الشجر، الرجوع على الغاصب، بما أخذ منه المالك، قال في الإقناع: ومنافع المقبوض بعقد فاسد كمنافع المغصوب، تضمن بالفوات والتفويت.
وسئل: عن الأيدي المترتبة على يد الغاصب؟
فأجاب: الأولى، والثانية: يد المشترى منه، ويد المستعير; الثالثة: يد المستأجر; الرابعة، والخامسة: يد المتملك بلا عوض، ويد القابض بعقد أمانة، السادسة: يد المتزوج للأمة المغصوبة، إذا تزوجها وكانت بيده وماتت; السابعة: يد المتصرف في المال بما ينميه، كالمضارب والمزارع، إذا تلف بيد العامل ونحوه; الثامنة: يد القابض تعويضا، بأن يجعل المغصوب عوضا في نكاح، أو خلع أو إيفاء دين ونحوه; التاسعة: يد المتلف للمغصوب، نيابة عن الغاصب، كالذابح للحيوان المغصوب، يرجع بما ضمنه للمالك على الغاصب، إن لم يعلم بالحال; العاشرة: الغاصب من الغاصب، فالقرار على الثاني مطلقا.
وسئل أيضا رحمه الله: إذا استأجر رجل أرضا مغصوبة، هل يحرم عليه نصيبه؟ لتولده من الأرض المغصوبة؟
فأجاب: يد هذا العامل إحدى الأيدي المترتبة على يد الغاصب، وكلها أيدي ضمان، وقد مثلوا الثالثة بيد المستأجر; والسابعة بيد المساقي والمضارب والشريك، فأرجى هذه الأيدي: اليد العاشرة مما عدى التحريم والتغريم.
سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين: عن الوجهين المذكورين في ثمر ما غرسه الغاصب، هل هو للغاصب أو حكمه حكم الزرع؟
فأجاب: إن قلنا للغاصب، فلصاحب الأرض أجرة أرضه إلى حين يتسلمها، وإن قلنا حكمه حكم الزرع، واختار صاحب الأرض أخذه بنفقته، فالظاهر: أن ابتداءها في النخل ونحوه، من سقيه بعد جذاذه للسنة المستقبلة، إلى حين اختيار أخذه; وهذا الخلاف والحكم، إنما هو في ثمر ما غرسه الغاصب، وأما ثمر الشجر المغصوب، فهو لربه بغير خلاف; وأما إيجابهم الأجرة على من حبس حرا غصبا مدة لمثلها أجرة، فالذي يظهر أن مرادهم: كل من له منفعة يصح عقد الإجارة عليها، قال في شرح الإقناع معللا عدم ضمان غاصب الأمة مهرها، إذا حبسها عن النكاح، حتى فات نكاحها بسبب كبرها، قال: لأن النفع إنما يضمن بالتفويت، إذا كان مما
يصح المعاوضة عليه بالإجارة، والبضع ليس كذلك; وقد قالوا في العبد المغصوب: إذا كان ذا صنائع، لزم الغاصب أجرة أعلاها; قال بعضهم: فدل كلامهم أنه لو لم يحسن صنعة، لم يلزمه أجرة صنعة مقدرة، ولو حبسه مدة لا يمكن أن يتعلم فيها صنائع.
وأما صفة: تقويم المريض إذا أتلفه متلف، فقال المجد في شرح الهداية: من استهلك على رجل زرعا أخضر، ضمن قيمته على رجاء السلامة والعطب; قال: وهذا مذهب مالك، وقياس مذهبنا في تقويم المريض، والجاني ونحوهما، انتهى; فظهر: أن صفة ذلك في تقويم المريض ونحوه، أن يقال: يساوي إذا كان ترجى حياته ويخاف موته، ثلاثين ريالا مثلا، وإن كان لا يخاف عليه الموت من ذلك المرض، يساوي خمسين مثلا، وإن كان لا ترجى سلامته يساوي مثلا عشرة، فإذا كان ترجى حياته ويخاف موته، صارت قيمته ثلاثين، فهي الواجب فيه، انتهى.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: إذا أفسدت دابة إنسان بالليل ملك الغير، ما كيفية الضمان؟
فأجاب: صفة التقويم في الزرع الأخضر ونحوه، أن ينظر أهل المعرفة ما نقص الزرع من الثمر، فيغرم له قيمة ذلك الناقص، هذا هو الذي يظهر من كلام الفقهاء.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: الزرع إذا
ضمن على المتلف، ينظر لقيمته إن كان سليما أو مريضا، كالعبد الجاني، فإن جنايته تتعلق برقبته، ويقوم إذا استغرقت الجناية قيمة رقبته بحسب حاله، إن صحيحا فصحيح، وإن مريضا فمريض; وبالجملة: فالضمان بحسب القيمة في المقومات، أو مثله في المثليات.
فصل
سئل الشيخ محمد رحمه الله: عمن في يده شيء لا يعرف مالكه؟
فأجاب: وإن اشتبه الحال على من وقع في يده شيء لا يعرف مالكه، فله التصدق بثمنه.
وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: العدائل المجهول صاحبها، وهي المنائح، العلماء رحمهم الله قد ذكروا: أن المال المجهول صاحبه، يتصدق به صاحبه مضمونا، أو يدفعه إلى الحاكم; وقد أفتى الشيخ تقي الدين: أن الغاصب إذا تاب وهو فقير، جاز له الأكل مما بيده من المال المغصوب، مع معرفة المالك وعدمها، فقد يؤخذ منه أن المسؤول عنه، أولى بجواز أكل ما بيده من المذكور إذا كان فقيرا.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ: عمن قطع السيل على ناس ودمر عليهم؟
فأجاب: يضمن ما دمر عليهم بسببه، والدابة المركوبة
يضمن الراكب ما أتلفت، وأما التي لا تركب فهدر ما أتلفت، وما أتلفت البهيمة بلا سبب تعد من صاحبها، فهو هدر. وأما الأرض التي للعشرة، إذا سرح فيها واحد منهم مواشيه بغير إذنهم وخربت شيئا، لزمة غرامتة إذا كان في الليل، وأما في النهار فيلزم كل واحد منهم يحرس زرعه، أو يقسمون ويجعلون جدرانا.
وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: على أهل الدواب أن يحفظوها ليلا، وما أكلته بالليل فهو مضمون لصاحبه بقيمته، وما أكلته نهارا فلا ضمان فيه، لأن الحفظ والحراسة في النهار على أهل المزارع والخضرة، إلا إن فتح صاحب الدابة لها بابا مغلقا، أو هدم جدارا وأدخلها، فيضمن حيئنذ.
وأجاب الشيخ محمد بن مقرن: لا ينبغي للجار يضر بجاره، ففي النهار يحفظ أهل الأموال أموالهم، وفي الليل يضمن أهل المواشي ما أتلفت; والنخل الذي عليه جدار يحميه عن البقر، إذا دخلت فيه الغنم يحفظها أهلها، وكذلك الإبل إذا أفسدت ما هو محمي.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمه الله: عن الصائل المعاند؟
فأجاب: دفعه بالأسهل فالأسهل، فإن اندفع بغير قتل لم يجز قتله، وإن لم يندفع إلا بالقتل، جاز قتله ودمه هدر.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: من قصد إنسانا بخشبة ونحوها ليضربه بها، فللمقصود دفعه بالأسهل، أو بالهرب عنه ما أمكنه، فإن لم يندفع بذلك، فله ضربه بما يندفع به، وأرجو أنه ما يضمن والحالة هذه.
سئل بعضهم: هل يضمن مالك الضاري، من الدواب وغيره ما جناه؟
فأجاب: إذا علم المالك ذلك من طبعها بتجربة، وجب عليه حبسها، فإن لم يحبسها ضمن، حتى قيل: إن الإنسان إذا عرف أنه يعين الناس بعينه، وجب حبسه.
وسئل بعضهم أيضا: عن البلد إذا كان بها حيوان كثير من بقر وغنم وغيره ويلحق أهل النخيل والزروع بإهمالها ضرر عظيم، وربما تسلط العدو الكافر بأشياء تضر المسلمين بإهمالها، فلما رأى ولي الأمر ذلك نبه بحفظها: إما أن تربطوا أدباشكم أو تجعلون لها راعيا يحفظها، ومن عصى وأهمل دبشته، تواني آمر بعقرها أدبا له، أيجوز ذلك أم لا؟ وإن اعترض معترض، وقال: على أهل الزرع حفظها بالنهار، وعلى أهل الدبش حفظها بالليل، ونحن غير طائعين في هذا، فبينوا لنا رحمكم الله؟
فأجاب: إن كان الأمر كما ذكر في السؤال، من خوف المضرة وعمومها، على أهل النخيل والحروث والزروع، من إتلاف زروعهم وفسادها، وضياع غرسهم وخرابه، من إهمال
الأدباش، فيجب على ولي الأمر: رفع الضرر وكف الأذى عن الناس، لما روى الحاكم بسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضره الله، ومن شاق شق الله عليه " 1
وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا ضرر ولا إضرار في الإسلام "2.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ملعون من ضار مؤمنا أو مكر به " 3 قال الإمام الحافظ أبو الفرج: عبد الرحمن بن رجب رحمه الله في شرح الأربعين على هذا الحديث: إن الضرر نفسه منتف في الشرع، وإدخال الضرر بغير حق كذلك; وقيل، الضرر: أن يدخل على غيره ضررا بما ينتفع هو به، والضرار: أن يدخل على غيره ضررا بلا منفعة له به.
فهذا يصرح: أن الواجب على الإمام، وولي الأمر أن يرفع الأشياء التي بها يحدث المضرة والفساد، لا سبب لم تحدث به مضرة على أحد، ورفع المضرة في هذه المسألة ممكن فعلها، بربطها، أو يجعل لها رعاة; والناس إذا أمرهم ولي الأمر بذلك لما يراه من الصلاح، وجب عليهم السمع والطاعة فيما يحبون، وفيما يكرهون، ومن عصاه استحق العقوبة.
والمعترض بهذا الحديث: ليته تعلم قبل أن يتكلم أن معنى الحديث نوع، وهذا نوع آخر; فنحن نفتي وأئمتنا
1 ابن ماجه: الأحكام (2340) ، وأحمد (5/326) .
2 مالك: الأقضية (1461) .
3 الترمذي: البر والصلة (1941) .
رحمهم الله بما أفتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن البهيمة إذا شذت من المرعى الذي جرت به العادة أنه يكون بالفلاة خارج البلد، وشذت عن الراعي، أن لا ضمان على مالكها، وأما إذا سيبها تلقاء الزروع وأهملها تخرب على الناس، فعليه الضمان ولو نهارا.
وقال الحافظ بن رجب رحمه الله في شرح الأربعين على حديث النعمان بن بشير من سيب دابته ترعى بقرب زرع غيره فإنه ضامن لما أفسدته من الزرع لو كان نهارا، وهذا هو الصحيح، لأنه مفرط بإرسالها في هذه الحال، انتهى كلامه.
حاصل الجواب: أن أهل البلدان إذا كان لهم ماشية تضر الزرع، والحرث، بإهمالها، ورأى الإمام رفع المضرة عن الناس بحفظها برد أو رعاة لها، لزمهم ذلك، ومن أبى استحق الأدب.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عن ربطها، ولا نهى أن يجعل لها رعاة، ولا أمر بتسييبها وإهمالها بين الزروع والنخيل، وإنما ذكر الحكم في الضمان أنه متعلق بفساد الليل، ونحن نقول بذلك، وأما ما يراه ولي الأمر من المصالح هذا نوع آخر، ولو ذهبنا نذكره لطال. ونحن نذكر للمسترشد من ذلك نوعين
الأول: إذا كان لإنسان ابن مجنون، ومن المعلوم أن القلم قد رفع عنه، وحصل منه تعدي على الناس بضرب وغيره، فيلزم أباه أن
يحفظه، ولا يقال: إنه رفع القلم عنه.
الثاني: من له ولد أو غلام صغير، وتبين منه فجور وفساد، فعلى أبيه ووليه زجره وأدبه ومنعه من ذلك، وإن كان القلم قد رفع عنه.
وبهذا يتبين لك أيها المسترشد: أن المنع من الفساد والمضرة غير الحكم، هذا نوع، وهذا نوع، ويتبين لك فساد قول المعترض: إن هؤلاء قد رفع القلم عنهم فلا تتعرضوهم، ولا تمنعوهم، وهذا باب واسع يتبين لك أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح أشياء واستحبها، ولما رأى الخلفاء الراشدون عاقبتها الضرر والفساد نهوا عنها.
منها: قوله صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " 1 وقد منعهن الخليفة الراشد عمر ولم ينكر،
ومنها: أنه استحب الجمة واللمة من الشعر، وكانت مستحبة للرجال، وقد حلق عمر ذلك من رأس نصر بن حجاج، وطرده إلى البصرة لما تغزلت بحسنه النساء، وخشي من الضرر والفساد،
ومنها: حكمه صلى الله عليه وسلم في شارب الخمر أربعين جلدة وقد زاد عمر أربعين فكان ثمانين جلدة ولم ينكره.
ومنها: أن الطلاق على عهده صلى الله عليه وسلم الثلاث مجموعة واحدة، فلما رأى عمر رضي الله عنه أن الناس تتابعوا في ذلك أمضاه عليهم، فجعل الثلاث ثلاثا مُبِينة للمرأة من زوجها أدبا وعقوبة لهم، وهذا كله بحضرة الصحابة ولم ينكر.
1 البخاري: الجمعة (900)، ومسلم: الصلاة (442)، والنسائي: المساجد (706)، وابن ماجه: المقدمة (16) ، وأحمد (2/16)، والدارمي: المقدمة (442) والصلاة (1278) .
فتأمل أيها المسترشد: أن الحكم يتغير بموجباته وأسبابه، والحكم نوع والسمع والطاعة نوع آخر، والأسباب التي كانت على عهده صلى الله عليه وسلم غير الأسباب التي كانت على عهد عمر، ولا تكن كمن قيل فيه:
وكم عائبا قولا صحيحا
…
وآفته من الفهم السقيم
سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: عن حديث هند، وحديث " لا تخن من خانك " 1؟
فأجاب: هذه تسمى مسألة الظفر، فمن الناس من منع مطلقا، واستدل بقوله:" ولا تخن من خانك " 2 ومنهم من أباح مطلقا، واستدل بحديث هند، ومنهم من فصل، وقال: حديث هند له موضع، والآخر له موضع، فإن كان سبب الحق ظاهرا لا يحتاج لبينة، كالنكاح والقرابة، وحق الضيف، جاز الأخذ بالمعروف، كما أذن لهند، وأذن للضيف إذا منع أن يعقبهم بقدر قراه.
وإن كان سبب الحق خفيا، وينسب الآخذ إلى خيانة أمانته، لم يكن له الأخذ وتعريض نفسه للتهمة والخيانة، ولعل هذا أرجح الأقوال، وبه تجتمع الأدلة، وأما إذا قدر على استيفاء حقه من مال الغاصب من غير أمانته، ولا يمكن رفعه إلى الحاكم، فلا أعلم في هذا بأسا، وقد أفتى به ابن سيرين، وقرأ قوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [سورة النحل آية: 126] .
1 الترمذي: البيوع (1264)، وأبو داود: البيوع (3535)، والدارمي: البيوع (2597) .
2 أبو داود: البيوع (3534) ، وأحمد (3/414) .
وأجاب ابنه: الشيخ عبد الله: إذا كان لرجل على آخر حق، وقدر له على مال، فهذه المسألة قد اختلف العلماء فيها على خمسة أقوال، وتسمى هذه المسألة مسألة الظفر،
أحدها: أنه ليس له أن يخون من خانه، ولا يجحد من جحده، ولا يغصب من غصبه، وهذا ظاهر مذهب أحمد ومالك.
والثاني: يجوز أن يستوفي قدر حقه إذا ظفر بماله، سواء ظفر بجنسه أو بغير جنسه، وفي غير الجنس يدفعه إلى الحاكم يبيعه، ويستوفي ثمنه منه; وهذا قول أصحاب الشافعي.
والثالث: يجوز أن يستوفى قدر حقه إذا ظفر بجنس ماله، وليس له أن يأخذ من غير الجنس، وهذا قول أصحاب أبي حنيفة.
والرابع: إن كان عليه دين لغيره، لم يكن له الأخذ، وإن لم يكن عليه دين فله، وهذا إحدى الروايتين عن مالك.
والخامس: إن كان سبب الحق ظاهرا، كالنكاح والقرابة وحق الضيف، جاز للمستحق الأخذ بقدر حقه، كما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان، ما يكفيها ويكفي بنيها، وكما أذن لمن نزل بقوم ولم يضيفوه، أن يعقبهم في مالهم بمثل قراه، كما في الصحيحين عن عقبة بن عامر، قال قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تبعثنا فننْزل بقوم لا يقرونا فما ترى؟ فقال لنا:" إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم "1.
1 البخاري: المظالم والغصب (2461) والأدب (6137)، ومسلم: اللقطة (1727)، وأبو داود: الأطعمة (3752)، وابن ماجه: الأدب (3676) ، وأحمد (4/149) .
وإن كان سبب الحق خفيا، بحيث يتهم بالأخذ والنسب إلى الخيانة ظاهرا، لم يكن له الأخذ، وعرض نفسه للتهمة والخيانة، إن كان في الباطن آخذ حقه، كما أنه ليس له أن يتعرض للتهمة التي تسلط الناس على عرضه، وإن ادعى أنه محق غير متهم،
قال ابن القيم رحمه الله: وهذا القول أصح الأقوال وأسدها، وأوفقها للشريعة، وبه تجتمع الأحاديث. فإنه قد روى: أبو داود في سننه، من حديث يوسف بن ماهك، قال: كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم، فغالطوه بألف درهم فأداها إليهم، فأدركت له من أموالهم مثلها، فقلت اقبض الألف الذي ذهبوا به منك، قال: لا، حدثني أبي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك " 1 وهذا وإن كان في حكم المنقطع، فإن له شاهدا من وجه آخر،
وفي المسند عن بشير بن الخصاصية، أنه قال:"يا رسول الله: إن لنا جيرانا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها، فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه؟ قال: أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك".
فهذه الأحاديث: تبين أن المظلوم في نفس الأمر، إذا كان ظلمه غير ظاهر، وقدر على مال لمن ظلمه وأخذه خيانة، لم يكن له ذلك، وإن كان هو يقصد أخذ نظير حقه، لكن خان الذي ائتمنه، فإنه إذا سلم إليه ماله، فأخذ بعضه بغير إذنه ولا باستحقاق ظاهر كان خائنا، وإن قال أنا مستحق في
1 الترمذي: البيوع (1264)، وأبو داود: البيوع (3535)، والدارمي: البيوع (2597) .
نفس الأمر لما أخذته، لم يكن له ما ادعاه ظاهرا معلوما، وصار كالمتزوج امرأة فأنكرت نكاحه، ولا بينة، فإذا قهرها على الوطء من غير حجة ظاهرة، فإنه ليس له ذلك، ولو قدر أن الحاكم حكم على رجل بطلاق امرأته ببينة اعتقد صدقها، وكانت كاذبة في الباطن، لم يكن له أن يطأها لما يعلم في الباطن.
فإن قيل: هذا ليس بخيانة بل هو استيفاء حق، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خيانة من خان، وهو أن يأخذ من ماله ما لا يستحق نظيره.
فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا السؤال، بأن قال: هذا ضعيف لوجوه;
أحدها: أن الحديث فيه "أن قوما لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها، أفنأخذ من أموالهم بقدر ما يأخذون منا؟ فقال: لا"
الثاني: أنه قال: " ولا تخن من خانك " 1 ولو أريد بالخيانة الأخذ على طريق المقابلة، لم يكن فرقا بين من خانه ومن لم يخنه، وتحريم مثل هذا ظاهر، ولا يحتاج إلى بيان وسؤال، وهو قوله:" ولا تخن من خانك " 2 فعلم أنه أراد أنك لا تقابله على خيانته، فتفعل به مثل ما فعل بك، فإذا أودع الرجل الرجل مالا فخانه في بعض، ثم أودع الأول نظيره فأراد أخذ ماله منه، فهذا هو المراد بقوله:" ولا تخن من خانك "3.
الثالث: أن كونه خيانة لا ريب فيه، وإنما الشأن في جوازه على وجه القصاص، فإن الأمور منها ما يباح القصاص
1 أبو داود: البيوع (3534) ، وأحمد (3/414) .
2 أبو داود: البيوع (3534) ، وأحمد (3/414) .
3 أبو داود: البيوع (3534) ، وأحمد (3/414) .
فيه، كالقتل وقطع الطريق وأخذ المال، ومنها: ما لا يباح فيه القصاص، كالفواحش والكذب ونحو ذلك، قال الله تعالى في الأول:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [سورة الشورى آية: 40] وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [سورة النحل آية: 126] فأباح الاعتداء والعقوبة بالمثل، فلما قال صلى الله عليه وسلم هنا " ولا تخن من خانك " 1 علم أن هذا مما لا يباح فيه العقوبة بالمثل، والله أعلم;
فإذا تقرر هذا: عرفت أن الصواب في المسألة، ما رجحه الشيخ تقي الدين وابن القيم رحمهما الله فيما تقدم، وهذا هو الموافق لقواعد الشرع.
وأجاب الشيخ حسين بن الشيخ محمد: وأما مسألة الظفر، فإن كان سبب الحق ظاهرا، جاز له أن يأخذ قدر حقه.
وسئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن: عن حديث عمران بن حصين، في قصة العقيلي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم "بم أخذتني، وأخذت سابقة الحاج؟ فقال: أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف "2.
فأجاب: الحديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم، وأبو داود والنسائي، وها أنا أسوق رواية أحمد في مسنده: حدثنا إسماعيل عن أيوب، عن أبي قلابة عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، قال: "كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسر
1 أبو داود: البيوع (3534) ، وأحمد (3/414) .
2 مسلم: النذر (1641)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) ، وأحمد (4/430)، والدارمي: السير (2505) .
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل، وأصيبت معه العضباء، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق، فقال: يا محمد يا محمد يا محمد، فقال: ما شأنك؟ فقال: بم أخذتني؟ وأخذت سابقة الحاج؟ إعظاما لذلك، فقال: أخذت بجريرة حلفائك ثقيف ثم انصرف عنه، فقال: يا محمد يا محمد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا، فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال إني مسلم، قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح ثم انصرف عنه، فناداه يا محمد يا محمد، فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال: إني جائع فأطعمني، وظمآن فأسقني، قال: هذه حاجتك؟ قال ففدي بالرجلين. وأسرت امرأة من الأنصار، وأصيبت معها العضباء، فكانت المرأة في الوثاق، فانفلتت ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه، حتى انتهت إلى العضباء فلم ترغ، قال: وهي ناقة منوقة، فقعدت في عجزها وزجرتها فانطلقت، ونذروا بها وطلبوها فأعجزتهم، ونذرت: إن الله نجاني عليها لأنحرنها، فلما قدمت المدينة رآها الناس، فقالوا العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: إني نذرت إن الله نجاني عليها لأنحرنها، فأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: سبحان الله بئسما جازتها، إن الله سبحانه وتعالى أنجاها لَتنحرها، لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد " ولأبي داود: ابن آدم.
قال النووي رحمه الله: في شرحه: قوله صلى الله عليه وسلم " أخذت بجريرة حلفائك " 1 أي: بجنايتهم، قوله صلى الله عليه وسلم " لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح " 2 معناه: لو قلت كلمة الإسلام قبل الأسر، حين كنت مالك أمرك، أفلحت كل الفلاح، لأنه لا يجوز أسرك لو أسلمت قبل الأسر، فكنت فزت بالإسلام وبالسلامة من الأسر، ومن الاغتنام; وأما إذا أسلمت بعد الأسر، فيسقط الخيار في قتلك، ويبقى الخيار بين الاسترقاق، والمن والفدى; وفي هذا جواز المفاداة، وأن إسلام الأسير لا يسقط حق الغانمين منه، بخلاف ما لو أسلم قبل الأسر، انتهى.
فليس في الحديث دليل على أن المسلم يؤخذ بجناية غيره أو حق عليه، بخلاف الكافر فإنه يؤخذ ويغنم ماله لكفره، ولو كان من قوم معاهدين، إذا نقضوا العهد، كحال هذا الرجل العقيلي، فإنه لما قال إني مسلم، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح " 3 وهو صريح في أن هذا الرجل لم يكن قبلُ مسلما.
وفي الحديث أيضا: ما يدل على ذلك، وهو قوله:"ففدى الرجل بعد بالرجلين" فتأمله فإنه ظاهر بحمد الله، والحديث لا علة له; قال الحافظ المنذري: وأخرجه مسلم والنسائي بطوله، وأخرج الترمذي منه طرفا، وأخرج النسائي وابن ماجه منه طرفا، انتهى كلامه رحمه الله;
وقد ذكرنا في أول الحديث ما وقفنا عليه من مخرجيه، واتحفنا السائل بسياق الإمام أحمد رحمه الله.
1 مسلم: النذر (1641)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) ، وأحمد (4/430)، والدارمي: السير (2505) .
2 مسلم: النذر (1641)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) ، وأحمد (4/430)، والدارمي: السير (2505) .
3 مسلم: النذر (1641)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) ، وأحمد (4/430)، والدارمي: السير (2505) .
وقال ابنه الشيخ: عبد اللطيف: سألت والدي رحمه الله عما يفعله بعض الأمراء بنجد، من أخذ ابن العم بجريرة ابن عمه، أو غير ابن عمه من الأصول والفروع، هل له مستند شرعي؟ أو لا مستند له؟
فأجاب: اعلم وفقك الله أن أهل نجد، كانوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية فيهم، بأسوأ حال; أما الأعراب: فلا يلتفت أحد منهم لشريعة الإسلام، لا في العبادات ولا في غيرها من الأحكام، ولا في الدماء ولا في الأموال، ولا في النكاح ولا في الطلاق، والمواريث وغير ذلك; وكانوا في شر عظيم فيما بينهم من الحروب، كل طائفة تقاتل الأخرى وتستحل دماءها وأموالها، والحضر عندهم في غاية الذل، يأخذون المال منهم كرها.
فلما من الله بهذه الدعوة وأقام الجهاد، أجلبوا كلهم على محاربة من دعاهم إلى الإسلام، والتزام شرائعه وأحكامه، فحصل التأييد من الله لمن قام بدينه، فجاهدوا الأعراب وغيرهم على طاعة ربهم والتزام ما شرعه، فبقوا على جهاد الأعراب، كلما أسلمت قبيلة جاهدوا بها الأخرى، فما زالوا يجاهدونهم على أن يسلموا ويصلوا ويزكوا، وأكثرهم ألقى السلم لأهل الإسلام، لكن بقي من البغي والظلم والعدوان، على من قدروا عليه واستضعفوه، ممن دخل فيما دخلوا فيه من الإسلام، فكل من نهب أو قطع طريقا، أو قتل استند إلى قبيلة، فلا يقدر أحد من ولاة الأمر أن يأخذ الحق
منه والحالة هذه.
فلو تركوا رأسا ولم ينظر إلى جنايتهم، ونظر إلى جناية المباشر فقط، لفهم يفهمه بعض القاصرين، من حديث:" لا يجني جان إلا على نفسه " 1 لضاعت حقوق الناس ودماؤهم وأموالهم، وعطلت القواعد الشرعية، وقصر بالحديث عما يتناوله، ويدل عليه عند إمعان النظر، فعلى قدر ما أحدثوا من البغي، والظلم والعدوان والتعاون على ذلك، ساغ للأئمة أن يحبسوا ابن العم في ابن عمه، ليقوم بأداء ما وجب عليه من الحق والطاعة في المعروف من نصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف والبراءة من المحاربين وقطاع الطريق، ومثل هذه القبائل: لما تركوا ما وجب من أمر الشرع مع القدرة على القيام، ورضوا محاربة الله ورسوله، ساغ للأئمة ما ذكر، وما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وأيضا: فلو خلوا بين أهل الإسلام، وبين هذا الجاني من أبناء عمهم، لتمكن المظلوم من أخذ حقه ورد مظلمته، فهم قد آووا محدثا، وفي الحديث:" لعن الله من آوى محدثا " 2 وفي الحقيقة: هذا إحسان إلى القبيلة، وسبب لتخليصهم من ارتكاب ما حرم عليهم، وهذا الذي أخذ في ابن عمه، لم يقصد ماله، بل حبس لأخذ ما بيد مولاه الذي هو ابن عمه.
وبالجملة: فهذا من أسباب صلاح الناس وصيانتهم،
1 الترمذي: الفتن (2159)، وابن ماجه: المناسك (3055) .
2 مسلم: الأضاحي (1978)، والنسائي: الضحايا (4422) ، وأحمد (1/108 ،1/118 ،1/152) .
وهذا الذي ذكرناه هو الذي تأوله الأئمة، وظهرت مصلحته، وقَلَّت مفسدته، والذي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته العضباء، قال له: لم تأخذ سابقة الحاج؟ فقال: " أخذتها بجريرة حلفائك من ثقيف " 1 أو كما قال صلى الله عليه وسلم قلت: فظهر من هذا البيان الذي أفاده شيخنا، أنه حكم خاص بأهل القوة والنصرة، بخلاف المستضعف الذي لا قدرة له ولا جناية، ولا مصلحة في حبسه ولا يؤبه له عند قبيلته، فعلى الحاكم إمعان النظر في جلب المصالح ودفع المفاسد.
ثم ذيل على ذلك ذيلا، فقال رحمه الله: ما قاله شيخنا ووالدنا حفظه الله، في أسر ابن العم في ابن عمه لمصلحة، فهو الحكم العدل، وهو الذي عليه أكثر السلف، فإن الرجل إذا قطع السبيل وأخافه وامتنع بنفسه، وترك من يؤويه وينصره، صار قوة له وإعانة له على ظلمه، فإن أخذ بجريرته وأسر فيه، حصل له فيه ودع وامتناع، وهذا يعلم بالاضطرار.
قال الخطابى في شرح سنن أبي داود، في باب النذر فيما لا يملك ابن آدم، حدثنا سليمان بن حرب، ومحمد بن عيسى قالا حدثنا حماد، عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين قال: " كانت العضباء لرجل من بني عقيل، وكانت من سوابق الحاج قال فأسر فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وهو في وثاق، والنبي صلى الله عليه وسلم على حمار عليه قطيفة، فقال: يا محمد علام تأخذني، وتأخذ سابقة الحاج، قال: آخذك بجريرة حلفائك من ثقيف. وكانت ثقيف قد أسروا
1 مسلم: النذر (1641)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) ، وأحمد (4/430)، والدارمي: السير (2505) .
رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم"
قال الشيخ: قوله: " آخذك بجريرة حلفائك من ثقيف " اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: هذا يدل على أن بني عقيل عاهدوا، أن لا يتعرضوا للمسلمين، ولا أحد من حلفائهم، فنقض حلفاؤهم العهد، ولم ينكره بنو عقيل، فأخذوا بجريرتهم; وقال آخرون: هذا الرجل كافر لا عهد له، وقد يجوز أخذه وأسره وقتله، فإذا جاز أن يؤخذ بجريرة نفسه وهي كفره، جاز أن يؤخذ بجريرة غيره، ممن كان على مثل حاله من حليف وغيره، ويحكى معنى هذا عن الشافعي.
وفيه وجه ثالث، وهو: أن يكون في الكلام إضمار، يريد أنك إنما أخذت ليدفع بك جريرة حلفائك، ويفدوا بك الأسيرين الذين أسرتهم ثقيف، ألا تراه يقول: ففدى الرجل بعد بالرجلين انتهى، فتأمل هذا فإنه يدلك على صواب الحكم; والآية وهي قوله تعالى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الأنعام آية: 164] ليس فيها ما يدفع هذا ولا يرده.
سئل الشيخ عبد الله أبا بطين: إذا قال لا تعطه قبلي
…
إلخ؟
فأجاب: لم أر في هذه المسألة نصا، ومقتضى أصولهم: أنه لا يلزم المقول له إبقاء ما عنده، فإذا أعطى صاحب الحق حقه، لم يكن ضامنا ولا محالا عليه، ومقتضى قوله صلى الله عليه وسلم " أد الأمانة إلى من ائتمنك " 1 وجوب الدفع إلى
1 الترمذي: البيوع (1264)، وأبو داود: البيوع (3535)، والدارمي: البيوع (2597) .