المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ ‌ ‌باب الرهن سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ٦

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌ ‌ ‌ ‌باب الرهن سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:

‌باب الرهن

سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: عن رهن ما في ذمة الغير.

فأجاب: الرهن على ما في ذمة الغير من أجرة وما أشبهها، فغير صحيح.

صيغة الرهن

سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد رحمهم الله: عما إذا قال: دينك قادم في نخلي أو زرعي

الخ؟

فأجاب: إذا توفرت شروط الصحة واللزوم، واطرد العرف بهذه الصيغة، أو بالمعاطاة فيما يتناول، أو بالتخلية المعتبرة في نحو ما ذكر بدون صيغة لفظية، فلا مانع، قال في الغاية، وينعقد بلفظ ومعاطاة، انتهى ; فأما التزام لفظ مخصوص، فليس فيه أثر ولا نظر، قاله أبو العباس.

وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: هذا ليس برهن، وإنما هو وعد، فيصير المقول له ذلك أسوة الغرماء، وإن لم يكن له غريم غيره، فيستحب الوفاء بوعده، ولا يجب عند أكثر العلماء.

وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا قال أنا مقدمك في ثمرة هذا النخل، بعد التأبير، أو الزرع الأخضر، اعتبر فيه مقاصدهما، وأما في عرف لسان أهل زماننا، فإن كان ذلك يدل على الرهن اعتبر، وإلا فلا.

ص: 221

وسئل الشيخ عبد الله العنقري: عمن له على آخر دراهم، فقال: هذا بعيري مثلا، قضابة لك، فيه دراهمك إلى نصف شهر، فإن مضى ولم أخلصك، فبعه وخذ دراهمك

الخ؟

فأجاب: الذي قال بعيري قضابة لك في دراهمك، فإذا مضى نصف الشهر فبعه، فالظاهر أن هذا توكيل في البيع المذكور، فإذا احتاط لنفسه وباعه، وأشهد على البيع فلا بأس.

أحكام المرهون

سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عما يصح الرهن فيه في الإسلام إلخ؟

فأجاب: الرهن الصحيح في الإسلام، أن يرهن عنده شيئا يقبضه، من عروض ودواب، أو أرض أو نخل أو دار، ولا ينتفع بشيء من الرهن ما دام مرهونا، فإن انتفع بشيء من غلته حسبه من الدين.

وسئل: هل يجوز رهن الصبرة من الطعام الذي لا يعرف قدره بالكيل والوزن؟

فأجاب: ما جاز بيعه جاز رهنه، ولا وجه للمنع.

وسئل: عن رهن المبيع في مدة الخيار أو رهن مشتريه؟

فأجاب: لا يصح رهن المبيع في مدة الخيار، فإن رهنه المشتري والخيار له وحده صح، وبطل خياره.

ص: 222

وسئل: عن رهن الوارث تركة الميت

الخ؟

فأجاب: وإذا رهن الوارث تركة الميت أو باعها، وعلى الميت دين، صح في أصح الروايتين، وهو الصحيح إن شاء الله.

وسئل: إذا استعار من آخر شيئا، أو غصبه فأراد صاحبه رهنه؟

فأجاب: يصح رهنه في العارية، والمغصوب إذا أراد غاصبه رده.

وسئل: عن رهن المكيل والموزون قبل قبضه؟

فأجاب: وأما رهن المكيل والموزون قبل قبضه، ففيه خلاف، والمشهور من المذهب أنه لا يجوز قياسا على البيع، قال في الإنصاف: ظاهر ما قطع به المصنف في باب الرهن، عدم جواز رهنه، حيث قال: ويجوز رهن غير المكيل والموزون قبل قبضه، قال في القاعدة الثانية والخمسين: قال القاضي في المجرد وابن عقيل، لا يجوز رهنه ولا هبته، ولا إجارته قبل قبضه، كالبيع ; ثم ذكر في الرهن عن الأصحاب: أنه لا يصح رهنه قبل قبضه، انتهى ; واختار القاضي الجواز، واختاره الشيخ تقي الدين.

وأما رهن الثمرة المعدومة، كأن يرهن الثمرة قبل أن تخلق، فهذا لا يصح ; لأنه معدوم، فإذا أراد أن يرهن الثمرة دون الأصل، والثمرة لم تخلق لم يصح، إلا أن يرهن الأصل، فيصح حينئذ، وتكون الثمرة التي تستحدث رهنا ; لأن نماء الرهن يكون رهنا تبعا لأصله ; والخلاف بين

ص: 223

الفقهاء، إنما هو في رهن الثمرة الموجودة قبل بُدُوّ صلاحها.

قال في الإنصاف: وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه، إلا الثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع، والزرع الأخضر، فيجوز في أحد الوجهين، وهو المذهب جزم به في الوجيز، واختاره القاضي، وهو من مفردات المذهب ; والوجه الثاني: لا يجوز انتهى ملخصا ; وأما رهن أجرة المؤبر فالظاهر عدم الصحة، لأن الأجرة دين في ذمة المؤجر، ليست عينا معينة، وما لا يصح بيعه لا يصح رهنه.

وأجاب الشيخ: سعيد بن حجي: يجوز رهن ثمرة النخل قبل بدو صلاحها، والزرع الأخضر، قال الموفق: باب ما يصلح رهنه وما لا يصلح، إلى أن قال: ويصح رهن الثمرة قبل بدو صلاحها، والزرع الأخضر مطلقا، وبشرط التبقية ; لأن الغرر يقل فيه لاختصاصه بالوثيقة، مع بقاء الدين بحاله، خلاف البيع، انتهى، وكذا قال غيره من فقهاء الحنابلة، ولا شيء يرده.

وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين، بعد كلامه على مسألة بيع العمل في المساقاة، قال: وأما الرهن فحكمه حكم البيع، فما صح بيعه صح رهنه، وقد نصوا على أنه لا يصح رهن الثمرة قبل ظهورها، فعدم صحة رهن العمل أولى.

سئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: إذا قال لا أضمن إلا أن ترهنني كذا وكذا؟

ص: 224

فأجاب: الذي يظهر الصحة فيما ذكر، لكونه تبرع بالتزام حق، إنما يلزم ويثبت ويجب بالتزامه، فإذا التزمه وطلب الوثيقة عليه صح.

وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: أما رهن الضامن فلا يصح ; لأنه لم يثبت له حق عند المضمون عنه، ولا يعلم أنه يئول إلى الثبوت.

سئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب: عمن رهن عقاره، وعليه دين كثير

الخ؟

فأجاب صورة المسألة أولا: أن الراجح الذي عليه كثير من العلماء أو أكثرهم، أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وقبض كل شيء هو المتعارف، وقبض الدار والعقار هو تسلم المرتهن له، ورفع يد الراهن عنه، هذا هو القبض بالإجماع ; ومن زعم أن قوله: مقبوض، يصيره مقبوضا، فهو خارق للإجماع، مع كونه زورا مخالفا للحس.

إذا ثبت هذا: فنحن ما أفتينا بلزوم هذا الرهن، إلا لضرورة وحاجة، فإذا أراد صاحبها أن يأكل أموال الناس، ويخون في أمانته لمسألة مختلف فيها، فالرجوع إلى الفتوى بقول الجمهور في هذه المسألة، فإن رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسوله، في إيجاب العدل وتحريم الخيانة، فهذا هو الأقرب قطعا، وإن رجعنا إلى كلام غالب العلماء، فهم لا يلزمون ذلك إلا برفع يد الراهن، وكونه في يد المرتهن.

ص: 225

وأما قولك: لم أجد الخلاف إلا في الصدقة والهبة، فهذا هو العجب، تراهم يبطلون العتق الذي هو من أحب الأشياء إلى الله، ويسري في ملك الغير، ويردون الصدقة بعد ما يأخذها الفقير، لأجل العدل ووفاء الدين، ويمنعونه في الرهن ولو كان صحيحا.

وأما قولك: إن صح هذا لم يحتج إلى الحجر ; فيقال: إن الحجر يمنع تصرفه مطلقا، ولو كان فيه إصلاح لنفسه وللغرماء، وأما هذه المسألة فتصرفه صحيح كله، إلا ما عصى الله فيه ورسوله، وخان أمانته وظلم الناس.

وهذا هو المطابق للعقل والنقل، ولكن هذا وحشة الغربة، كما استوحشوا من إنكار الشرك.

لزوم الرهن بالقبض ورهن المواشي

وسئل ابنه الشيخ عبد الله: عن رهن المواشي وعن القبض؟

فأجاب: أما رهن المواشي هل يجوز أم لا؟ فالجواز ظاهر لا يخفى، كما دلت عليه السنة الصحيحة، وإنما الإشكال في القبض، هل هو شرط لصحة الرهن أو غير شرط، والمشهور عند أهل العلم: أن القبض شرط لصحة الرهن وأما استدامة القبض، فهل هي شرط أم لا؟ فعلى قول من يشترط الاستدامة فالأمر ظاهر، وعلى القول الثاني إذا قبضه المرتهن، فلا بأس أن يأذن للراهن في الانتفاع به، فيكون تحت يد الراهن ينتفع به والرهن بحاله.

وأجاب أيضا: هذه المسألة اختلف الفقهاء فيها على

ص: 226

قولين، بل أقوال ; والمشهور في المذهب: أنه لا يصح إلا بقبضه، للآية الكريمة، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: يلزم الرهن بمجرد العقد قبل القبض، كالبيع، ولكن يجبر الراهن على التسليم، وقال في الإنصاف: الصحيح من المذهب أنه لا يلزم إلا بالقبض، وعنه: أن القبض ليس بشرط في المتعين، فيلزم بمجرد العقد، نص عليه، فعليها متى امتنع الراهن من تقبيضه، أجبر عليه كالبيع ; وإن رده المرتهن على الراهن بعارية أو غيرها ثم طلبه، أجبر الراهن على رده، انتهى.

وأما قول السائل: هل استدامته شرط في اللزوم؟ فهذا ينبني على الخلاف في أصل المسألة، فعلى قول الجمهور: الاستدامة شرط للزوم الرهن، وهو المذهب، وهو قول أبي حنيفة ومالك، وقال الشافعي: استدامة القبض ليست شرطا، قال في الإنصاف: واستدامته شرط في اللزوم هذا المذهب، وعنه أن استدامته في المتعين ليست بشرط، اختاره في الفائق، انتهى ملخصا.

وأجاب ايضا: لا يلزم الرهن إلا بالقبض، وفرقوا في هذه المسألة فقالوا: ما كان مكيلا أو موزونا لا يلزم رهنه إلا بالقبض ; وفيما عداهما روايتان، إحداهما: لا يلزم إلا بالقبض ; والثانية: يلزم بمجرد العقد، والأول أصح، واستدامة القبض شرط للزوم الرهن، فإن أخرجه من يده باختياره زال لزوم الرهن ; وقال مالك: لا يزول الرهن ولو

ص: 227

أخرجه من يده، وهو الذي عليه العمل اليوم.

وأجاب أيضا هو والشيخ حمد بن ناصر: قد اختلف العلماء، هل من شرط صحة الرهن القبض؟ أم يصح ويكون رهنا بمجرد العقد؟ فمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه: أنه لا يلزم إلا بالقبض، وقبل القبض يكون جائزا لا لازما ; ومذهب مالك رحمه الله: يلزم بمجرد العقد قبل القبض كالبيع. فإذا علمت الخلاف في أصل المسألة ; فالقائلون باشتراط القبض، اختلفوا فيما إذا أخرجه المرتهن باختياره، هل يزول لزومه ويبقى العقد كأنه لم يوجد فيه قبض؟ فمذهب الحنابلة يزول لزومه، فإن عاد إلى المرتهن عاد لزومه بحاله بحكم العقد السابق، وهذا مذهب أبي حنيفة ; وقال الشافعي: استدامة القبض ليست شرطا، وذلك لأنه عقد يعتبر القبض في ابتدائه، فلم تشترط استدامته، وهذا هو المفتى به عندنا.

وأجاب أيضا الشيخ حمد بن ناصر: المسألة اختلف الفقهاء فيها على قولين، بل أقوال، فالمشهور في المذهب: أنه لا يصح إلا بقبضه، للآية الكريمة، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: يلزم الرهن بمجرد العقد قبل القبض كالبيع، ولكن يجبر الراهن على التسليم ; وقال في الإنصاف: الصحيح من المذهب أنه لا يلزم إلا بالقبض ; وعنه: أن القبض ليس بشرط في المتعين، فيلزم بمجرد العقد

ص: 228

نص عليه، فعليها متى امتنع الراهن من تقبيضه أجبر عليه كالمبيع، وإن رده المرتهن على الراهن بعارية أو غيرها، ثم طلبه أجبر الراهن على رده.

وأما استدامته فينبني على الخلاف في أصل المسألة، فعلى قول الجمهور الاستدامة شرط للزوم الرهن، وهو المذهب، وهو قول أبي حنيفة ومالك ; وقال الشافعي: استدامة القبض ليست شرطا، قال في الإنصاف: واستدامته شرط في اللزوم هذا المذهب، وعنه: أن استدامته في المتعين ليست بشرط، اختاره في الفائق.

وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: إذا رهن نخله أو زرعه، واحتاج لما يصلح الرهن وامتنع المرتهن من مداينته؟.

فأجاب: هذا القول مبني على لزوم الرهن وإن لم يقبض، والصحيح خلافه، وأن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، والاستدامة، كما هو شرط للزوم أيضا على المختار عند عامة الأصحاب، قال في الشرح الكبير: ولا يلزم الرهن إلا بالقبض، ويكون قبل رهنا جائزا يجوز للراهن فسخه، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وسواء في ذلك المكيل والموزون وغيرهما ; وقال بعض أصحابنا: في غير المكيل والموزون رواية أنه يلزم بمجرد العقد، وقد نص عليه الإمام أحمد في رواية الميموني، وبه قال مالك، ووجه الأولى قوله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] .

ص: 229

فعلى هذا: إن تصرف الراهن فيه قبل القبض بهبة أو بيع أو عتق، أو جعله صداقا أو رهنه ثانيا، بطل الرهن الأول، سواء قبض الهبة أو المبيع أو الرهن الثاني أو لم يقبضه، فإن أخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره زال لزومه، وبقي العقد كأن لم يوجد فيه قبض ; وهذا التفريع على القول الصحيح، فأما على قول من قال: ابتداء القبض ليس بشرط، فالأولى أن يقال: الاستدامة غير مشروطة، انتهى ملخصا.

وفي الإنصاف: ولا يلزم إلا بالقبض، فشمل مسألتين ; إحداهما: أن يكون موصوفا غير معين، فلا يلزم إلا بالقبض، وهذا المذهب وعليه الأصحاب، فعلى هذا يكون قبل القبض جائزا، وقال الزركشي: ظاهر كلام الخرقي، وابن أبي موسى والقاضي، وابن عقيل: أن القبض شرط في صحة الرهن.

الثانية: أن يكون معينا كالعبد والدار ونحوهما، فالصحيح من المذهب أنه لا يلزم إلا بالقبض كغير المتعين، قال في الكافي وابن منجا وغيرهما: هذا هو المذهب، ونصره أبو الخطاب، والشريف أبو جعفر وغيرهما واستدامته شرط في اللزوم، هذا المذهب وعليه أكثر الأصحاب، وعنه: أن استدامته في المعين ليس بشرط واختاره في الفائق، انتهى ملخصا.

وقد علمت: أن المذهب الصحيح المنصور، عند أكثر

ص: 230

الأصحاب، اشتراط القبض واستدامته للزوم، والغالب أن مثل هذا الرهن، كرهن العقارات والثمار والمواشي، لا تقبض أو لا يستديم الراهن قبضها، كما هو الواقع في هذه الأقطار، فعلى القول الصحيح لا يقع على الراهن أضرار لزوال اللزوم، وله أن يتصرف فيه برهن وغيره، فإذا تصرف بطل الرهن الأول، وصح الثاني، ولا يلزم إلا بشرطه المتقدم، ولا يسع الناس إلا هذا.

وقد رأينا مما يترتب على القول الثاني، من التضييق والخصومات والتشاجر ما الله به عليم، والقائل من أصحابنا بأنه يلزم بمجرد العقد لا دليل معه، وإنما قوي عنده هذا القول لما رأى عمل عوام الناس على استعمال هذه الرهون، واعتقاد لزومها، فيظن أنه قد أفتاهم من هو من العلماء، ولو سلمنا صحة صدور تلك الفتوى عن عالم، فليس حجة في العدول عن القول الصحيح ; لأن الحجة التي تنفع المستدل، إنما هي الأدلة الشرعية، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح، والاستصحاب على خلاف فيه ; وما سوى الخمسة ليس دليلا شرعيا، والإجماع: هو اتفاق مجتهدي العصر على قول واحد.

وأما المقلد فليس معدودا من أهل العلم، كما ذكره أبو عمر بن عبد البر، والعلامة ابن القيم وغيرهما ; فلا إله إلا الله، كم غير من أحكام الشرع بعرف العوام، وكم دار من تتبع الرخص بين الجهال والطغام، وكم حمل على المشائخ

ص: 231

مما يقولونه بمجرد الظنون والأوهام، فإذا أوردت ما في المسألة من الدليل، للقول الصحيح الجليل، فأجارك الرحمن من إثم ما تسمعه من التأويل.

فإن قيل: القول الذي ذكرتموه واخترتموه، قد خالفه بعض الأئمة الكبار، من أهل الاجتهاد والاعتبار، أجيب: بأن المجتهد معذور ; لأنه على كلا الحالين مأجور، وأما من ليس من أهل الاجتهاد، فلا يحل له أن يختار قولا بلا دليل، وليس معه إلا حسن الظن بالمتبوع، وأشياء من التأويل، ولا شك أنه على خطر عظيم، ولو ظن السلامة فما هو بسليم، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وأجاب أيضا: الصحيح من أقوال العلماء، أن القبض والاستدامة شرط للزوم الرهن، قال في الشرح: ولا يلزم الرهن إلا بالقبض، ويكون قبل رهنا جائزا، يجوز للراهن فسخه ; وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال بعض أصحابنا: في غير المكيل والموزون، رواية أنه يلزم بمجرد العقد، ونص عليه الإمام أحمد في رواية الميموني، وهو مذهب مالك، ووجه الأولى قوله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] فعلى هذا إن تصرف الراهن فيه قبل القبض بهبة أو بيع أو عتق، أو جعله صداقا أو رهنه ثانيا، بطل الرهن الأول، سواء قبض الهبة أو المبيع، أو الرهن الثاني أو لم يقبضه، فإن أخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره

ص: 232

له، زال لزومه، وبقي العقد كأنه لم يوجد فيه قبض، انتهى ; قال في الإنصاف: هذا المذهب، وعليه الأصحاب ; وعنه: أن استدامته في المعين ليس بشرط، واختاره في الفائق، انتهى ملخصا.

فقد عرفت الأصح من الأقوال، الذي عليه أكثر العلماء رحمهم الله، فعليه لا ضرر على الراهن لبطلان الرهن بالتصرف، إذا لم يكن في قبضة المرتهن، وقد ذكر العلماء رحمهم الله أيضا: أن المرتهن لا يختص بثمن الرهن إلا إذا كان لازما، وما عدا هذا القول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، ويترتب على الفتوى به من المفاسد ما لا يتسع لذكره هذا الجواب ; وليس مع من أفتى به إلا محض التقليد، وأن العامة تعارفوه فيما بينهم، ورأوه لازما ; وأنت خبير بأن هذا ليس بحجة شرعية، وإنما الحجة الشرعية: الكتاب، والسنة، والإجماع، وهو: اتفاق مجتهدي العصر على حكم، ولا بد للإجماع من مستند، والدليل الرابع: القياس الصحيح ; وكذا الاستصحاب علي خلاف فيه ; فلا إله إلا الله، كم غلب على أحكام الشرع في هذه الأزمنة من التساهل في الترجيح، وعدم التعويل على ما اعتمده المحققون من القول الصحيح.

وقد ادعى بعضهم: أن شيخنا الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، كان يفتي بلزوم الرهن وإن لم يقبض، فاستبعدت ذلك على شيخنا رحمه الله، ولو فرضنا

ص: 233

وقوع ذلك، فنحن بحمد الله متمسكون بأصل عظيم، وهو أنه لا يجوز لنا العدول عن قول موافق لظاهر الكتاب والسنة، لقول أحد كائنا من كان، وأهل العلم معذورون، وهم أهل الاجتهاد، كما قال الإمام مالك رحمه الله: ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم بعد زعم هذا الزاعم: مَنَّ الله علي بالوقوف على جواب شيخنا الإمام رحمه الله، فإذا هو جار على الأصح الذي عليه أكثر العلماء، وصورة جوابه: أن الراجح الذي عليه كثير من العلماء رحمهم الله، أو أكثرهم، أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وقبض كل شيء هو المتعارف، فقبض الدار والعقار هو تسلم المرتهن له، ورفع يد الراهن عنه، هذا هو القبض بالإجماع، ومن زعم أن قوله: مقبوض، يصيره مقبوضا، فقد خرق الإجماع، مع كونه زورا مخالفا للحس، إذا ثبت هذا: فنحن إنما أفتينا بلزوم هذا الرهن، لضرورة وحاجة، فإذا أراد صاحبها أن يأكل أموال الناس، ويخون في أمانته، لمسألة مختلف فيها، فالرجوع إلى الفتوى بقول الجمهور في هذه المسألة، فإن رجعنا إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في إيجاب العدل، وتحريم الخيانة، فهذا هو الأقرب قطعا، وإن رجعنا إلى كلام غالب العلماء، فهم لا يلزمون ذلك إلا برفع يد الراهن، وكونه في يد المرتهن، انتهى المقصود.

فذكر رحمه الله في هذه الفتيا: أن الراجح الذي عليه أكثر العلماء، أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وأنه إنما أفتى

ص: 234

بخلافه لضرورة وحاجة ; وأنه رجع إلى قول الجمهور، لما قد ترتب على خلافه من الخروج عن العدل ومن الخيانة ; وهذا الذي أشار إليه رحمه الله، من الخروج عن العدل، وأكل أموال الناس بالباطل، والخيانة في الأمانة، قد رأيناه عيانا، وسببه الإفتاء بخلاف قول الجمهور في هذه المسألة، وقد قرر رحمه الله في هذه الفتيا: أن قول الجمهور أقرب إلى العدل، فلا يجوز أن ينسب إليه غير هذا القول المقرر هنا، والله أعلم.

وأجاب أيضا: وأما مسألة الرهن، فقد تكرر السؤال عنها، فنقول: الذي عليه جمهور العلماء، والصحيح من مذهب الإمام أحمد، أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، فلو تصرف فيه الراهن قبل قبضه صح تصرفه، واستدلوا بقوله:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] واستدامته شرط في اللزوم للآية، فإن أخرجه المرتهن عن يده زال لزومه، فإن رده الراهن إليه عاد اللزوم بحكم العقد السابق; لأنه أقبضه باختياره، فلزم به كالأول، فإن أزيلت يد المرتهن بعد، كأن غصب ونحوه، فالرهن بحاله، لأن يده ثابتة حكما، هذا ما ذكره العلماء رحمهم الله، ومن كتبهم نقلنا، انتهى.

وأجاب الشيخ: سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهم الله تعالى: في لزوم الرهن مطلقا من غير قبض، قولان ; أحدهما: وهو المشهور في مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة: أنه لا يلزم إلا بالقبض، لظاهر قوله

ص: 235

تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] وقولنا مطلقا، أي: سواء كان موصوفا غير معين، كعبد ودار، أو كان معينا كهذا العبد والدار والسيف ونحو ذلك، وسواء كان من الرقيق والدواب، أو كان من السلاح والثياب ونحو ذلك.

والقول الثاني: أنه يلزم بمجرد العقد من غير قبض، وهو قول مالك ورواية عن أحمد في المتعين، وهو المذهب عند ابن عقيل وغيره، قال القاضي: هذا قول أصحابنا ; وقال الفخر بن تيمية في التلخيص: هذا أشهر الروايتين، فعلى هذا يجبر الراهن على دفع الرهن من المرتهن إذا طلبه، لعموم قوله تعالى:{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة آية: 1] وهذا عقد ولقوله صلى الله عليه وسلم " المؤمنون عند شروطهم " وأجابوا عن قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] أنه وصف أغلبي لا شرطي، فلا مفهوم له.

إذا تبين هذا: فاعلم أنه لا مانع من الحكم بصحة الرهن المعين الذي لم يقبض، ولزومه إذ لم يكن في القرآن نص على أن القبض شرط، لا سيما والحاجة داعية إلى ذلك في الديون والمعاملات، وقد ذكر: أن المشقة تجلب التيسير، فإذا كان لا يمكن القبض، ولا الاعتياض من الراهن في مثل الدور والعبيد، والزروع والثمار والدواب، إذ لو قيل للمرتهن: اقبضها، ما أراد ذلك، وكان عليه من المشقة ما لا يخفى ; ولو قيل للراهن اقبضها لم يستطع ; لأنه إنما يستدين فيما رهنه، فلا تمتنع الفتيا باللزوم ; لأنها من طرق الترجيح،

ص: 236

فاعلم ذلك ; وإن كان الأولى هو القول الأول.

وسئل: هل استدامة القبض شرط في الرهن؟

فأجاب: أما على المشهور في المذهب فنعم، وأما على الثاني الذي رجحنا فليس بشرط، وقد تقدم ترجيحها، فعلى الثاني متى رده المرتهن على الراهن، بعارية أو غيرها، ثم طلبه أجبر الراهن على رده، لما ذكرنا سابقا في عدم اشتراط القبض لصحة الرهن.

وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد: أشهر الروايتين عن أحمد: لا يلزم إلا بالقبض، مع أنه صحيح ; وعنه: يلزم في المتعين بدونه، قال القاضي: هذا قول أصحابنا ; وأما استدامته هل هي شرط أم لا؟ فأما على المذهب فنعم، وأما على الثاني فلا.

وأجاب الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: وأما اشتراط القبض للزوم الرهن، فهذا نعمل به في المنقولات، وأما العقار ونحوه، فالذي عليه العمل عندنا: عدم اشتراط القبض للزوم، وبعض أصحابنا من أهل العصر يشترط فيه القبض، ويقول: إن القبض في العقار: أن لا يمنع الراهن المرتهن من دخوله، وإذا حصلت الثمرة صار نظره عليها، ويجعل هذا قبضا ; ولا يظهر لي كون ما ذكر قبضا ; لأن القبض في هذا ونحوه بالتخلية، ولم تحصل ; لأن التخلية أن يرفع المالك يده عن الرهن، ويخلى بينه وبين المرتهن، وهو

ص: 237

الذي حملنا على عدم اشتراط القبض في ذلك، لقلة ما في أيدي الناس، ولاضطرارهم إلى ذلك، إذ لا يمكن صاحب العقار أن يرفع يده عن عقاره، لأن معيشته فيه.

وأما مذاهب العلماء في ذلك: فالمشهور في مذهب أحمد عند أكثر أصحابه، اشتراط القبض مطلقا، وكذلك استدامته ; ومذهب مالك عدم اشتراطه ; وعن أحمد رواية أخرى: أن القبض ليس بشرط في المتعين، فيلزم بمجرد العقد، قال القاضي في التعليق هذا قول أصحابنا، وقال في التلخيص: هذا أشهر الروايتين، وهو المذهب عند ابن عقيل وغيره.

وأجاب أيضا: وأما رهن المعسر داره في دينه، أنت تعرف المذهب في أن دار المعسر لا تباع في دينه، لكن إذا رهنها في دين عليه اختيارا، فنحن نفتي ببيعها لوفاء ذلك الدين، فإذا كان هو فيها، ولم يخل بين المرتهن وبينها، فلا يخفاك ما في اشتراط القبض للزوم الرهن من الخلاف ; والمشهور في المذهب: اشتراطه مطلقا، وعن أحمد رواية أخرى: أنه لا يشترط في المتعين، اختارها كثير من الأصحاب، وقال بعضهم: إنها هي المذهب ; والذي أدركنا عليه من قبلنا: عدم اشتراط القبض في مثل الدار، والعقار ونحوهما، ويقضون بلزومه في مثل ذلك، من غير اشتراط قبض، ونحن نقضي به فيما مضى، والشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: يشترط القبض في الجميع، كما هو

ص: 238

المشهور عند أكثر الأصحاب.

وأجاب الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى: حاصل ما ذكره العلماء في صحة الرهن وفساده، ولزومه وعدمه: اتفقوا على أن من شروطه، أن يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن، وذهب مالك: إلى أنه يجوز أن يؤخذ الرهن في جميع الأثمان، الواقعة في جميع البياعات، إلا الصرف، ورأس مال السلم المتعلق بالذمة ; وعنده: يجوز الرهن في السلم، وفي القرض، وفي الغصب، وفي قيم المتلفات، وأرش الجنايات في الأموال، وفي الجراح التي لا قود فيها، ولا يجوز في الحدود، ولا في القصاص، ولا الكتابة.

واشترط الشافعية في الرهن: ثلاثة شروط،

أحدها: أن لا يكون دينا، فإن الدين لا يرهن بعين؛

الثاني: أن يكون واجبا، فلا يرهن قبل الوجوب، مثل أن يسترهنه فيما يستقرضه، ويجوز عند مالك ;

الثالث: أن لا يكون لزومه متوقعا ;

وأما شروط الرهن، فالمنطوق بها في الشرع: ضربان ; شروط الصحة، وشروط الفساد، فأما شروط الصحة، فشرطان

أحدهما متفق عليه. في الجملة ;

والثاني: مختلف في اشتراطه ; أما القبض فاتفقوا في الجملة، على أنه شرط في الرهن، لقوله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] واختلفوا هل هو شرط للتمام، أو شرط للصحة؟ وفائدة الفرق: أن من

ص: 239

قال هو شرط للصحة، قال: ما لم يقع القبض لم يلزم الرهن.

وقال مالك: القبض شرط لتمام الرهن، وقال: يلزم بالعقد، ويجبر الراهن على الإقباض، إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة، وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأهل الظاهر: إلى أنه من شروط الصحة، وعمدتهم قوله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] وعند مالك: أن من شروط صحة الرهن، استدامة القبض، وأنه متى عاد إلى الراهن بإذن المرتهن بعارية، أو وديعة أو غير ذلك، فقد خرج من اللزوم ; وقال الشافعي: ليس استدامة القبض من شرط الصحة، فمالك عم الشرط على ظاهر ما لزم، من قول الله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] وشرط وجود القبض واستدامته ; والشافعي يقول: إذا وجد القبض، فقد صح الرهن والعقد، فلا يحل ذلك بإعارته، ولا غير ذلك من التصرف، وقد كان الأولى بمن يشترط القبض في صحة العقد، أن يشترط الاستدامة، ومن لم يشترطه في الصحة لا يشترط الاستدامة.

وأما الشرط المحرم الممنوع بالنص، فهو أن يرهن الرجل رهنا، على أنه إن جاءه بحقه عند أجله، وإلا فالرهن له، فاتفقوا على أن هذا الشرط يوجب الفسخ، وأنه معنى قوله صلى الله عليه وسلم " لا يغلق الرهن " 1

ومن مسائل هذا الباب المشهورة: اختلافهم في نماء الرهن المنفصل، مثل الثمرة في الشجر المرهون، ومثل

1 ابن ماجه: الأحكام (2441)، ومالك: الأقضية (1437) .

ص: 240

الغلة، هل يدخل في الرهن أولا؟ فذهب قوم إلى أن نماء الرهن المنفصل، لا يدخل شيء منه في الرهن، أعني الذي يحدث منه في يد المرتهن، وهذا قول الشافعي ; وذهب آخرون إلى أن جميع ذلك يدخل، وبه قال أبو حنيفة والثوري ; وأما مالك ففرق، فقال: ما كان من نماء الرهن المنفصل، على خلقة المرهون وصورته، فإنه داخل في الرهن كولد الجارية، وأما ما لم يكن على خلقته، فإنه لا يدخل في الرهن متولدا عنه، كثمر النخل أو غير متولد ككراء الدار، وخراج الغلام، انتهى ما لخصته.

فتبين من هذا: أن ما اعتمد القاضي حسين لنفسه، من دعواه أنه أحق بالثمرة، من سائر الغرماء، لكونها أو أصلها رهنا له، فلا يتمشى على قول أحد من العلماء ; فإن الشافعي يشترط لصحة الرهن ولزومه: القبض حال العقد، وفي واقعة القاضي المذكور لا قبض، فلا يصح الرهن ولا يلزم ; وأما مالك فيصحح الرهن بالعقد، لكن لا يتم ولا يلزم، إلا بالقبض والاستدامة عنده، وهذا هو الصحيح المعتمد في مذهب أحمد، ومذهب مالك: أن الثمرة الحادثة في يد المرتهن لا تتبع، وفي هذه القضية التي وقعت من قاضي الحريق: إنما حدثت الثمرة فيما لم يقبض، فتكون الثمرة لا يصح رهنها على قول مالك، وعلى قوله، وقول الجمهور: ليس صحيحا في الأصل، ولا في الثمرة، وعلى كل حال فهذا الرهن إما صحيح غير لازم، فيكون أسوة الغرماء، أو

ص: 241

يكون فاسدا، وعلى كلا الحالين، فلا يختص بشيء من ثمرة المدين.

وأجاب أيضا: اعلم أن القبض والاستدامة شرط للزومه لا لصحته، فيصح ولو لم يحصل قبض ولا استدامة، لكن لو تصرف الراهن ببيع أو هبة صح ذلك، بخلاف المقبوض المستدام، فلا يتصرف فيه إلا بإذن المرتهن، ولمصلحة وفائه.

وأجاب الشيخ حسن بن حسين بن علي: اعلم أن في لزوم الرهن الذي لم يقبض قولين، أحدهما: وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد، وقول الشافعي وأبي حنيفة: أنه لا يلزم إلا بالقبض، لظاهر قوله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] والقول الثاني: أنه يلزم بمجرد العقد من غير قبض، وهو قول مالك ورواية عن أحمد، وهو المذهب عند ابن عقيل وغيره، قال القاضي: هذا قول أصحابنا، وقال الفخر بن تيمية في التلخيص هذا أشهر الروايتين، فعلى هذا يجبر الراهن على دفع الرهن للمرتهن إذا طلبه، لعموم قوله تعالى:{وْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة آية: 1] وهذا عقد، ولقوله عليه السلام:" المؤمنون عند شروطهم " وهذا شرط، وأجابوا عن قوله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [سورة البقرة آية: 283] إنه وصف أغلبي لا شرطي، فلا مفهوم له.

إذا تبين هذا: فاعلم أنه لا مانع من الحكم بصحة الرهن المعين الذي لم يقبض، إذ لم يكن في القرآن نص

ص: 242

على أن القبض شرط، لا سيما والحاجة داعية إلى ذلك في الديون والمعاملات، وقد ذكروا: أن المشقة تجلب التيسير ; فإذا كان لا يمكن القبض من المرتهن، ولا الإقباض من الراهن، في مثل العقار والعبيد والزروع والثمار والدواب، لم تمتنع الفتيا باللزوم ; لأن هذا من طرق الترجيح فاعلم ذلك، وهذا هو الذي نفتي به والحاجة إليه داعية، ولا سيما في قرى نجد لقلة ما في أيديهم، وضعف أماناتهم وفساد معاملاتهم.

وأجاب أيضا: وأما الرهن فإن كان في دابة فهو صحيح ولو لم يقبض، بحيث أن المرتهن يمنع الراهن من التصرف فيه، وليس بلازم حتى يقبض، بحيث لو باعه الراهن لم يملك المرتهن الرجوع عليه، ولا على المشترى، انتهى.

وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن: عن قبض العقار في الرهن كغيره؟

فأجاب: قبض المرتهن له بالتخلية، بأن يمكنه الراهن منه تمكينا تاما، بحيث لا يضع يده عليه، فإن وضع يده عليه بأن يتولى سقيه أو زرعه، أو إجارته زال لزوم الرهن.

الزيادة في الرهن

سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى: هل للمرتهن أن يزيد دراهم، يكون الرهن بها وبالدين الأول؟

فأجاب: المشهور عدم الجواز، وعبارة الإنصاف: يجوز الزيادة في الرهن، ويكون حكمها حكم الأصل، ولا

ص: 243

يجوز زيادة دين الرهن ; لأنه رهن مرهون.

وسئل أيضا: إذا قال الراهن للمرتهن، ويكون الذي عندك به رهنا؟

فأجاب: الأظهر في هذه المسألة عدم المنع.

وأجاب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين: إذا رهن إنسان شيئا معلوما بدين معلوم وأراد الراهن أن يستدين من غير المرتهن، ويرهن عنده ما فضل بعد قدر دين المرتهن الأول، فهذا رهن فاسد ; لأن من شرط صحة الرهن أن يكون معلوما، وهذا ليس كذلك، وقد اختلف الفقهاء فيما إذا رهن إنسان شيئا في دين له ثم قال الغريم بعني كذا بكذا، ويكون الرهن الذي عندك رهنا به وبالدين الأول، والمذهب أن ذلك لا يصح.

وأما الصورة المسئول عنها: فلا أظن أحدا يجوزها، وقد ذكر في الشرح وغيره عدم صحة رهن المجهول، كما لو قال: رهنتك هذا الجراب بما فيه، ونحو ذلك، ولم يذكر في ذلك خلافا ; والمسألة المسئول عنها أولى بعدم الجواز ; لأنه لا يعلم هل يبقى منه شيء بعد استيفاء المرتهن الأول حقه أم لا، وهذا ظاهر لا خفاء به ولله الحمد.

وأجاب أيضا: ما يفعله بعض الناس اليوم إذا كان عنده رهن في مائة مثلا، ثم استدان من المرتهن دينا آخر وأدخله في الرهن، فالأكثر من العلماء لا يجوزون ذلك، وهو المشهور في المذهب ; وفيه قول آخر بالجواز، وعمل الناس

ص: 244

عليه ويحكم به، والله أعلم.

تصرف الراهن والمرتهن في الرهن

سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ: إذا استدان زيد من عمرو دينا ورهنه به رهنا ثم استدان عمرو من بكر دينا فرهن به مرهون زيد برضا زيد، هل يصح؟ أم لا بد من فسخ عمرو للرهن، ويقع عقد الرهن بين زيد وبكر؟

فأجاب: ظاهر كلامهم صحة رهن المرتهن للمرهون، بإذن راهنه عند أجنبي، ويكون فسخا للرهن الأول، كالبيع بالإذن ; وأما قولهم: المشغول لا يشغل، والمرهون لا يرهن، فمرادهم به: جعله مرهونا بالدينين معا، فاعلمه.

وسئل: عن السيف ونحوه، إذا رهنه شخص عند آخر ثم رهنه المرتهن عند غيره بغير إذن راهنه الأول

الخ؟

فأجاب: يزول لزومه عنهما معا، أما المرتهن فلإخراجه باختياره، واستدامة قبضه شرط للزومه، فانتفى المشروط بانتفاء شرطه، قال في شرح الإقناع: فإن لم يكن المرهون في يده زال، انتهى، وأما الثاني وهو راهنه، فلأنه ممنوع التصرف مطلقا بغير إذن المرتهن، صرح به في شرح الإقناع وغيره.

سئل الشيخ محمد بن إبراهيم: هل يجوز رهن ثمرة العقار الموقوف قبل الصلاح كالطلق أم لا؟

ص: 245

فأجاب: نعم، يجوز رهنها، كما يجوز رهن ثمرة الطلق، فإن ثمرة الوقف مملوكة للموقوف عليه.

سئل الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله: إذا باع الراهن العين المرهونة بغير إذن المرتهن

الخ؟

فأجاب: البيع فاسد بلا خلاف بين العلماء، فإن أمكن المرتهن استرجاع الرهن استرجعه، وهو رهن بحاله، وإن لم يتمكن من استرجاعه، لزم الراهن دفع قيمته للمرتهن، فتكون رهنا سواء كانت القيمة مثل الثمن الذي بيع به، أو أقل أو أكثر.

تلف الرهن

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ: إذا تلف الرهن

الخ؟

فأجاب: إذا تلف الرهن من غير تفريط المرتهن فلا ضمان عليه، وهو من مال الراهن، فإن تلف بتفريط المرتهن فإنه يضمنه.

وأجاب أيضا: إذا تلف الرهن في يد المرتهن، فإن كان بتعديه أو تفريطه في حفظه ضمنه، قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافا، فأما إن تلف بغير تعد منه ولا تفريط، فلا ضمان عليه، وهو من مال الراهن، يروى ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال عطاء والزهري، والأوزاعي والشافعي، وأبو ثور وابن المنذر، فإذا تلف بغير تعد ولا تفريط لم يضمنه، ولم يسقط شيء من الدين، بل هو ثابت في ذمة الراهن، لأن

ص: 246

الدين ثابت في ذمة الراهن، ولم يوجد ما يسقطه.

وأما القرض الذي فيه رهن، فلا يجوز تملك الرهن ولا استعماله، فإذا حل الأجل وامتنع أن يوفيه أمر الأمير عليه، ويباع ويعطى صاحب القرض، وإن بقي شيء رجع على صاحبه.

وأجاب أيضا: المفتى به عندنا: أن الرهن وثيقة في الدين، يباع عند حلول الدين إذا امتنع الراهن من الوفاء، فمتى امتنع الراهن من الوفاء، وطلب المرتهن بيع الرهن، بيع واستوفى من ثمنه، ولم يجز مطله ولا إجباره على المناجمة ; ومن أجبره على المناجمة فهو جاهل، ومن نسب ذلك إلينا فقد غلط، بل لا يجوز ذلك عندنا إلا برضا المرتهن.

وأجاب أيضا: إذا أذن له في البيع جاز، وإلا باعه الحاكم إن أمكن ووفاه حقه منه، ومن العلماء من يقول: إذا تعذر ذلك دفعه إلى ثقة يبيعه، ويحتاط بالإشهاد على ذلك، واستوفى حقه منه.

وأجاب أيضا: إذا رهن عند رجل دارا في عشرة مثلا وأعطاه الراهن عن العشرة بقرة قيمتها ثمانية، ورضي بذلك فهذا صحيح، وإن خسرت البقرة فهي عليه، وإن ربحت فهي له.

وأجاب الشيخ: عبد الله أبا بطين: وأما إذا امتنع الراهن من قضاء الدين، وأبى أن يأذن في بيع الرهن، وتعذر

ص: 247

إجباره، وتعذر الحاكم

إلخ، فقال الشيخ تقي الدين: جوز بعض العلماء للمرتهن دفع الرهن إلى ثقة يبيعه، ويحتاط بالإشهاد على ذلك، ويستوفى حقه إذا تعذر الحاكم، ولم يكن الراهن أذن للمرتهن في بيع الرهن بعد حل الأجل، انتهى، وهذا قول حسن إن شاء الله، تدعو الحاجة إليه في كثير من البلدان، والأزمان.

وأجاب الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: وأما بيع الرهن وأن الراهن طلب التقويم، فلا يجبر المرتهن على أخذ البعض بالتقويم، بل يلزم صاحب الرهن الوفاء، وإن تعذر بيع الرهن بإذنه، فإن امتنع بيع بإذن الحاكم الشرعي.

إغلاق الرهن

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهما الله: عن إغلاق الرهن؟

فأجاب: وأما إغلاق الرهن المنهي عنه، ففسره كثير من أهل العلم، بأن يقول الراهن للمرتهن: إن جئتك بالدين في الأجل، وإلا فالرهن لك بما لك فيه ; فإن كان فعل ذلك في الشرك، فلا يطالب بما فعل في الشرك، ويكون الرهن لمن قبضه، وأما في الإسلام فلا يفعل ذلك، لكن إذا حل الدين بيع الرهن في الدين الذي ارتهن فيه.

ص: 248