الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَضَاؤُهُ مَرْدُودٌ، وَلَيْسَ مِنْ الرِّشْوَةِ بَذْلُ مَالٍ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ مَعَ السُّلْطَانِ مَثَلًا فِي جَائِزَةٍ فَإِنَّ هَذَا جَعَالَةٌ جَائِزَةٌ.
[الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ بِسَبَبِ شَفَاعَتِهِ]
(الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ: قَبُولُ الْهَدِيَّةِ بِسَبَبِ شَفَاعَتِهِ) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ شَفَعَ شَفَاعَةً لِأَحَدٍ فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ» . وَمَرَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ ذَلِكَ سُحْتٌ وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مَالِكٍ. تَنْبِيهٌ: عَدُّ هَذَا هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَافِقُ قَوَاعِدَنَا، بَلْ مَذْهَبُنَا أَنَّ مَنْ حُبِسَ فَبَذَلَ لِغَيْرِهِ مَالًا لِيَشْفَعَ لَهُ وَيَتَكَلَّمَ فِي خَلَاصِهِ جَازَ وَكَانَتْ جَعَالَةً جَائِزَةً فَاَلَّذِي يُتَّجَهُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى قَبُولِ مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ شَفَاعَةٍ فِي مُحَرَّمٍ.
[الْكَبِيرَةُ الثَّلَاثُونَ وَالْحَادِيَةُ وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ الْخُصُومَةُ بِبَاطِلٍ]
(الْكَبِيرَةُ الثَّلَاثُونَ وَالْحَادِيَةُ وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ: الْخُصُومَةُ بِبَاطِلٍ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَوُكَلَاءِ الْقَاضِي أَوْ لِطَلَبِ حَقٍّ لَكِنْ مَعَ إظْهَارِ لَدَدٍ وَكَذِبٍ لِإِيذَاءِ الْخَصْمِ وَالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِ وَالْخُصُومَةُ لِمَحْضِ الْعِنَادِ بِقَصْدِ قَهْرِ الْخَصْمِ وَكَسْرِهِ وَالْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ الْمَذْمُومُ) . قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]{وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206] . أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بِك أَنْ لَا تَزَالَ مُخَاصِمًا» .
وَالْبُخَارِيُّ: «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ» أَيْ كَثِيرُ الْخُصُومَةِ. وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: أَنَّهُ وُكِّلَ فِي خُصُومَةٍ وَهُوَ حَاضِرٌ قَالَ وَكَانَ يَقُولُ إنَّ الْخُصُومَةَ لَهَا قُحَمًا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُهَا، وَقُحَمًا بِضَمِّ الْقَافِ وَبِالْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ شِدَّةً وَوَرْطَةً، وَعَدَّ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ فَتْحَ الْحَاءِ خَطَأً.
وَوَرَدَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ جَادَلَ فِي خُصُومَةٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ» . وَأَنَّهُ قَالَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إلَّا أُوتُوا جَدَلًا ثُمَّ تَلَا: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] » .
تَنْبِيهٌ: عَدُّ مَا ذُكِرَ هُوَ صَرِيحُ مَا مَرَّ عَنْ الْبُخَارِيِّ فِي الْأُولَى وَفِي مَعْنَاهَا مَا بَعْدَهَا وَهُوَ ظَاهِرٌ. ثُمَّ رَأَيْت مَنْ عَدَّ الْفُجُورَ فِي الْمُخَاصَمَةِ كَبِيرَةً وَأَطْلَقَ فِي الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ أَنَّهُمَا كَبِيرَتَانِ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَمِنْ ثَمَّ قَيَّدْتُ بِالْمَذْمُومِ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ عَدَّ ذَلِكَ قَوْلُ النَّوَوِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ إنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْت شَيْئًا أَذْهَبَ لِلدِّينِ وَلَا أَنْقَصَ لِلْمُرُوءَةِ وَلَا أَضْيَعَ لِلَّذَّةِ وَلَا أَشْغَلَ لِلْقَلْبِ مِنْ الْخُصُومَةِ. وَفِي أَذْكَارِ النَّوَوِيِّ فَإِنْ قُلْت: لَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ الْخُصُومَةِ لِاسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ. فَالْجَوَابُ مَا أَجَابَ بِهِ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الذَّمَّ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ خَاصَمَ بِبَاطِلٍ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَوَكِيلِ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يَتَوَكَّلُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْحَقَّ فِي أَيِّ جَانِبٍ، وَيَدْخُلُ فِي الذَّمِّ مَنْ طَلَبَ حَقًّا، لَكِنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ بَلْ يُظْهِرُ اللَّدَدَ وَالْكَذِبَ لِلْإِيذَاءِ أَوْ التَّسْلِيطِ عَلَى خَصْمِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَحْمِلُهُ عَلَى الْخُصُومَةِ مَحْضُ الْعِنَادِ لِقَهْرِ الْخَصْمِ وَكَسْرِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ يَخْلِطُ الْخُصُومَةَ بِكَلِمَاتٍ تُؤْذِي وَلَيْسَ لَهُ إلَيْهَا ضَرُورَةٌ فِي التَّوَصُّلِ لَهُ إلَى غَرَضِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمَذْمُومُ بِخِلَافِ الْمَظْلُومِ الَّذِي يَنْصُرُ حُجَّتَهُ بِطَرِيقِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ لَدَدٍ وَإِسْرَافٍ وَزِيَادَةِ لَجَاجٍ عَلَى الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ عِنَادٍ وَلَا إيذَاءٍ فَفِعْلُهُ هَذَا لَيْسَ مَذْمُومًا وَلَا حَرَامًا، لَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ مَا وَجَدَ إلَيْهِ سَبِيلًا؛ لِأَنَّ ضَبْطَ اللِّسَانِ فِي الْخُصُومَةِ عَلَى حَدِّ الِاعْتِدَالِ مُتَعَذَّرٌ وَالْخُصُومَةُ تُوغِرُ الصُّدُورَ وَتُهَيِّجُ الْغَضَبَ، فَإِذَا هَاجَ الْغَضَبُ حَصَلَ الْحِقْدُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَفْرَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُسَاءَةِ الْآخَرِ وَيَحْزَنَ بِمَسَرَّتِهِ وَيُطْلِقَ اللِّسَانَ فِي عِرْضِهِ، فَمَنْ خَاصَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْآفَاتِ وَأَقَلُّ مَا فِيهَا اشْتِغَالُ الْقَلْبِ حَتَّى إنَّهُ يَكُونُ فِي صَلَاتِهِ وَخَاطِرِهِ مُعَلَّقًا بِالْمُحَاجَجَةِ وَالْخُصُومَةِ، فَلَا يَبْقَى حَالُهُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَالْخُصُومَةُ مَبْدَأُ الشَّرِّ وَكَذَا الْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ، فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ لَا يَفْتَحَ عَلَيْهِ بَابَ الْخُصُومَةِ إلَّا لِضَرُورَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا وَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْفَظُ لِسَانَهُ وَقَلْبَهُ عَنْ آفَاتِهَا.
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَعَدَمُ قَبُولِ شَهَادَةِ وُكَلَاءِ الْقَاضِي مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ؛ انْتَهَى. وَلَا غَرَابَةَ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ لِأَكْثَرِ وُكَلَاءِ الْقُضَاةِ الْآنَ لِانْطِوَائِهِمْ فِي وَكَالَاتِهِمْ عَلَى مَفَاسِدَ قَبِيحَةٍ شَنِيعَةٍ وَكَبَائِرَ بَلْ فَوَاحِشَ فَظِيعَةٍ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَمِمَّا يُذَمُّ الْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ وَالْخُصُومَةُ، فَالْمِرَاءُ طَعْنُك فِي كَلَامٍ لِإِظْهَارِ خَلَلٍ فِيهِ لِغَيْرِ غَرَضٍ سِوَى تَحْقِيرِ قَائِلِهِ وَإِظْهَارِ مَرْتَبَتِك عَلَيْهِ، وَالْجِدَالُ هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِإِظْهَارِ الْمَذَاهِبِ وَتَقْرِيرِهَا، وَالْخُصُومَةُ لَجَاجٌ فِي الْكَلَامِ؛ لِيَسْتَوْفِيَ بِهِ مَالًا أَوْ غَيْرَهُ وَيَكُونُ تَارَةً ابْتِدَاءً وَتَارَةً اعْتِرَاضًا، وَالْمِرَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا اعْتِرَاضًا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْجِدَالُ قَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ بِأَنْ يَكُونَ لِلْوُقُوفِ عَلَى الْحَقِّ وَإِظْهَارِهِ وَتَقْرِيرِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِبَاطِلٍ بِأَنْ يَكُونَ لِمُدَافَعَةِ حَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ تَعَالَى:{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] وَقَالَ: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وَقَالَ تَعَالَى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4] .
وَعَلَى ذَلِكَ التَّفْصِيلِ تَتَنَزَّلُ هَذِهِ النُّصُوصُ وَغَيْرُهَا مِمَّا وَرَدَ فِي مَدْحِهِ تَارَةً وَذَمِّهِ أُخْرَى. فَائِدَةٌ: نَقَلَ الشَّيْخَانِ عَنْ صَاحِبِ الْعُدَّةِ أَنَّ مِنْ الصَّغَائِرِ كَثْرَةَ الْخُصُومَاتِ، وَإِنْ كَانَ الشَّخْصُ مُحِقًّا. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَقَدْ فَهِمَا مِنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّغَائِرِ الْمَعَاصِيَ الَّتِي يَأْثَمُ فَاعِلُهَا كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ، وَالْمَشْهُورُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُرِيدَ ذَلِكَ بَلْ أَرَادَ عَدَّ جُمْلَةٍ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ مِمَّا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ لَمْ يَأْثَمْ بِهِ، وَسَيَأْتِي مَا يُؤَيِّدُهُ إذْ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ بِتَأْثِيمِ الْمُحِقِّ فِي الْخُصُومَةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ مَنْ أَكْثَرَ الْخُصُومَاتِ وَقَعَ فِي الْإِثْمِ. انْتَهَى. وَذَكَرَ تِلْمِيذُهُ فِي الْخَادِمِ نَحْوَهُ فَقَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، وَمِمَّا يَقْتَضِي رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ مُنْقَصِ الْمُرُوءَةِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الْمُحِقَّ فِي الْخُصُومَةِ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ أَحَدٌ بِتَأْثِيمِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْمُرُوءَةِ وَكَذَا الضَّحِكُ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ وَنَحْوِهِ.
فَإِنْ قُلْت: فَإِطْلَاقُ الصَّغِيرَةِ عَلَى مَا لَا إثْمَ فِيهِ خَارِجٌ عَنْ الِاصْطِلَاحِ. قُلْت: الْمُرَادُ أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الصَّغِيرَةِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ إذَا أَصَرَّ عَلَيْهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُرُوءَةِ أَنَّ مَنْ اعْتَادَ تَرْكَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَتَسْبِيحَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ؛ لِتَهَاوُنِهِ بِالسُّنَنِ، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى ارْتِكَابِ خِلَافِ الْمَسْنُونِ تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا إثْمَ فِيهِ.