الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُمْ» . وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ النِّفَاقِ» . وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ: «مَنْ لَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُجَهِّزْ غَازِيًا أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ أَصَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ: «مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِغَيْرِ أَثَرٍ مِنْ جِهَادٍ لَقِيَ اللَّهَ وَفِيهِ ثُلْمَةٌ» . وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: «مَا تَرَكَ قَوْمٌ الْجِهَادَ إلَّا عَمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَذَابِ» .
تَنْبِيهٌ: عَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ الْفَسَادِ الْعَائِدِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مَا لَا يُتَدَارَكُ خَرْقُهُ وَعَلَيْهَا يُحْمَلُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَحَدًا تَعَرَّضَ لِعَدِّ ذَلِكَ مَعَ ظُهُورِهِ.
[الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالتِّسْعُونَ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةِ تَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ]
(الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالتِّسْعُونَ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةِ: تَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَعَ الْقُدْرَةِ بِأَنْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ وَنَحْوِ مَالِهِ وَمُخَالَفَةُ الْقَوْلِ الْفِعْلَ) . قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَفْهَمَتْ الْآيَةُ أَنَّ مَنْ هَجَرَهُمَا خَرَجَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: جَعَلَهُ اللَّهُ تبارك وتعالى فَرْقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فَتَرْكُ الْإِنْكَارِ تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ. وَقَالَ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78]{كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79] فَفِيهَا غَايَةُ التَّهْدِيدِ وَنِهَايَةُ التَّشْدِيدِ كَمَا يَأْتِي فِي الْأَحَادِيثِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] .
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» .
وَالنَّسَائِيُّ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَغَيَّرَهُ بِيَدِهِ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ فَغَيَّرَهُ بِلِسَانِهِ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِلِسَانِهِ فَغَيَّرَهُ بِقَلْبِهِ - أَيْ أَنْكَرَهُ - فَقَدْ بَرِئَ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» . وَالشَّيْخَانِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَعَلَى أَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ وَعَلَى أَنْ نَقُولَ الْحَقَّ أَيْنَمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ» .
وَأَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لَهُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَابْنُ مَاجَهْ: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» . وَأَبُو دَاوُد: «أَوَّلُ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَك ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنْ الْغَدِ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ؛ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ قَالَ: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78] {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ - تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [المائدة: 79 - 80] إلَى قَوْلِهِ {فَاسِقُونَ} [المائدة: 81] ثُمَّ قَالَ: كَلًّا وَاَللَّهِ لَتَأْمَرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا» زَادَ أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَةٍ فِي سَنَدِهَا انْقِطَاعٌ وَفِي أُخْرَى مُرْسَلَةٍ: «أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ لَيَلْعَنَكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ: «لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي نَهَاهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ وَوَاكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُد وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: لَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى
تَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا» . أَيْ تَعْطِفُوهُمْ وَتَقْهَرُوهُمْ وَتُلْزِمُوهُمْ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ.
وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُمْ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَكُونُ فِي قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا عَلَيْهِ وَلَا يُغَيِّرُونَ إلَّا أَصَابَهُمْ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا» . وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه وَكَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ» : وَلَفْظُ النَّسَائِيّ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ النَّاسَ أَوْ الْقَوْمَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ عَمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ» : وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُونَ إلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ» .
وَالْأَصْبَهَانِيّ: «أَيُّهَا النَّاسُ مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ وَقَبْلَ أَنْ تَسْتَغْفِرُوهُ فَلَا يَغْفِرُ لَكُمْ؛ إنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ لَا يَدْفَعُ رِزْقًا وَلَا يُقَرِّبُ أَجَلًا وَإِنَّ الْأَحْبَارَ مِنْ الْيَهُودِ وَالرُّهْبَانَ مِنْ النَّصَارَى لَمَّا تَرَكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ لَعَنَهُمْ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ ثُمَّ عُمُّوا بِالْبَلَاءِ» . وَالْأَصْبَهَانِيّ: «لَا تَزَالُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ تَنْفَعُ مَنْ قَالَهَا وَتَرُدُّ عَنْهُمْ الْعَذَابَ وَالنِّقْمَةَ مَا لَمْ يَسْتَخِفُّوا بِحَقِّهَا، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الِاسْتِخْفَافُ بِحَقِّهَا؟ قَالَ يَظْهَرُ الْعَمَلُ بِمَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُنْكَرُ وَلَا يُغَيَّرُ» .
مُجَخِّيًا بِضَمٍّ فَفَتْحٍ لِلْجِيمِ فَكَسْرٍ لِلْمُعْجَمَةِ، أَيْ مَائِلًا أَوْ مَنْكُوسًا: أَيْ إنَّ الْقَلْبَ إذَا اُفْتُتِنَ وَخَرَجَتْ مِنْهُ حُرْمَةُ الْمَعَاصِي خَرَجَ مِنْهُ نُورُ الْإِيمَانِ كَمَا يَخْرُجُ الْمَاءُ مِنْ الْكُوزِ إذَا مَالَ أَوْ انْتَكَسَ.
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ «إذَا رَأَيْت أُمَّتِي تَهَابُ أَنْ تَقُولَ لِلظَّالِمِ يَا ظَالِمُ فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ» . وَأَبُو دَاوُد: «إذَا عُمِلَتْ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا وَكَرِهَهَا» ، وَفِي رِوَايَةٍ:«فَأَنْكَرَهَا كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا» . وَالْحَاكِمُ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ لَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَالْحَجُّ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَتَسْلِيمُك عَلَى أَهْلِك، فَمَنْ انْتَقَصَ شَيْئًا مِنْهُنَّ فَهُوَ سَهْمٌ مِنْ الْإِسْلَامِ يَدَعُهُ، وَمَنْ تَرَكَهُنَّ فَقَدْ وَلَّى الْإِسْلَامَ ظَهْرَهُ» .
وَالْبَزَّارُ: «الْإِسْلَامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ الْإِسْلَامُ أَيْ الشَّهَادَتَانِ سَهْمٌ، وَالصَّلَاةُ سَهْمٌ، وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ، وَالصَّوْمُ سَهْمٌ، وَحَجُّ الْبَيْتِ سَهْمٌ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ سَهْمٌ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ سَهْمٌ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَهْمٌ وَقَدْ خَابَ مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ» . وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَعَرَفْتُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَدْ حَضَرَهُ شَيْءٌ فَتَوَضَّأَ وَمَا كَلَّمَ أَحَدًا فَلَصِقْتُ بِالْحُجْرَةِ أَسْتَمِعُ مَا يَقُولُ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكُمْ مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوا فَلَا أَسْتَجِيبُ لَكُمْ وَتَسْأَلُونِي فَلَا أُعْطِيكُمْ وَتَسْتَنْصِرُونِي فَلَا أَنْصُرُكُمْ فَمَا زَادَ عَلَيْهِنَّ حَتَّى نَزَلَ» . وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ» .
وَرَزِينٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا نَسْمَعُ أَنَّ الرَّجُلَ يَتَعَلَّقُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ فَيَقُولُ لَهُ مَا لَك إلَيَّ وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَك مَعْرِفَةٌ فَيَقُولُ كُنْت تَرَانِي عَلَى الْخَطَأِ وَعَلَى الْمُنْكَرِ وَلَا تَنْهَانِي» . وَالشَّيْخَانِ: «إيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ
مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ» .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ: أَيْ تَخْرُجُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ - أَيْ أَمْعَاؤُهَا وَأَحَدُهَا قِتْبٌ بِكَسْرِ الْقَافِ - فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ فِي الرَّحَى فَيَجْتَمِعُ إلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا لَك أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ بَلَى كُنْت آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَتَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْت تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ كُنْت آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ، وَإِنِّي سَمِعْته يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِأَقْوَامٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ قُلْتُ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ خُطَبَاءُ أُمَّتِك الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ» .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ: «رَأَيْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجَالًا تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقُلْت: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ الْخُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِك الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ» . زَادَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي رِوَايَةٍ: «كُلَّمَا قُرِضَتْ عَادَتْ» ، وَفِي أُخْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ:«وَيَقْرَءُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهِ» . وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا بِسَنَدٍ جَيِّدٍ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَخْطُبُ خُطْبَةً إلَّا اللَّهُ سَائِلُهُ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا أَرَدْتَ بِهَا» ، قَالَ: فَكَانَ مَالِكٌ يَعْنِي ابْنَ دِينَارٍ إذَا حَدَّثَ بِهَذَا بَكَى ثُمَّ يَقُولُ: أَتَحْسَبُونَ أَنَّ عَيْنِي تَقَرُّ بِكَلَامِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ سَائِلِي عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ مَا أَرَدْتَ بِهِ؟ فَأَقُولُ أَنْتَ الشَّهِيدُ عَلَى قَلْبِي لَوْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ أَحَبُّ إلَيْك لَمْ أَقْرَأْ عَلَى اثْنَيْنِ أَبَدًا.
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ وَالْبَزَّارُ: «مَثَلُ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ كَمَثَلِ السِّرَاجِ» . وَرِوَايَةُ الْبَزَّارِ: «مَثَلُ الْفَتِيلَةِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَيُحْرِقُ نَفْسَهُ» . وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ: «إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمُ اللِّسَانِ» .
وَالْأَصْبَهَانِيّ: «إنَّ الرَّجُلَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ قَلْبُهُ مَعَ لِسَانِهِ سَوَاءٌ وَلَا يُخَالِفُ قَوْلُهُ عَمَلَهُ وَيَأْمَنُ جَارَهُ بَوَائِقُهُ» . وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ: «إنِّي لَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِنًا وَلَا مُشْرِكًا. أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَحْجِزُهُ إيمَانُهُ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ كُفْرُهُ، وَلَكِنْ أَتَخَوَّفُ عَلَيْهِمْ مُنَافِقًا عَالِمَ اللِّسَانِ يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ وَيَعْمَلُ مَا تُنْكِرُونَ» .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: «يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ» .
وَمِنْ أَقْبَحِ الْبِدَعِ أَنَّ بَعْضَ الْجَهَلَةِ إذَا أُمِرَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ نُهِيَ عَنْ مُنْكَرٍ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] وَمَا عَلِمَ الْجَاهِلُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه وَكَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: إنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَرْدَفَ إثْمَ مَعْصِيَتِهِ بِإِثْمِ تَفْسِيرِهِ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِ: أَيْ وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ كَمَا مَرَّ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْآيَةِ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَفِيهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لَيْسَ لَنَا آيَةٌ جَمَعَتْ بَيْنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ سِوَاهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: النَّاسِخُ إذَا اهْتَدَيْتُمْ إذْ الْهُدَى هُنَا هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ.
تَنْبِيهٌ: عَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ هُوَ صَرِيحُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي ذَلِكَ، فَأَمَّا الْأَخِيرَةُ فَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهَا وَلَكِنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ مُصَرِّحَةٌ بِهَا كَمَا تَقَرَّرَ. وَقَدْ يَسْتَشْكِلُ بِأَنَّهُ إنْ خَالَفَ بِفِعْلِ كَبِيرَةٍ فَالتَّشْدِيدُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ فِعْلِ الْكَبِيرَةِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ مُخَالَفَةِ الْقَوْلِ لِلْعَمَلِ أَوْ بِفِعْلِ صَغِيرَةٍ فَالْإِشْكَالُ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ حِينَئِذٍ لَا مُقْتَضَى لَهَا.
وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ لَنَا أَنْ نَلْتَزِمَ الْأَوَّلَ وَلَا نُسَلِّمَ أَنَّ التَّشْدِيدَ جَاءَ مِنْ فِعْلِ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ فَحَسْبُ، وَإِنَّمَا جَاءَ مِنْ انْضِمَامِ مُخَالَفَةِ الْقَوْلِ الْعَمَلَ إلَيْهَا وَهَذَا ظَاهِرٌ فَحَسَنٌ حِينَئِذٍ الْعَدُّ لِأَنَّ هَذَا الِانْضِمَامَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ مَزِيدِ الْعِقَابِ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى عَدَمِهِ، وَأَنْ نَلْتَزِمَ الثَّانِي وَنَقُولَ لَمَّا أَنْ انْضَمَّ إلَى تِلْكَ الصَّغِيرَةِ التَّغْرِيرُ لِلنَّاسِ بِإِظْهَارِهِ لَهُمْ الْقِيَامَ بِوَظَائِفِ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَأَنَّهُ جَارٍ عَلَى سَنَتِهِمْ وَمُهْتَدٍ بِهَدْيِهِمْ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَانَ هَذَا التَّغْرِيرُ الْعَظِيمُ الْمُؤَدِّي إلَى مَفَاسِدَ لَا تُحْصَى كَبِيرَةً.
ثُمَّ رَأَيْت مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَهُوَ مَا سَأَذْكُرُهُ فِي السِّعَايَةِ مِنْ قَوْلِ الْأَذْرَعِيِّ إطْلَاقُ كَوْنِ السِّعَايَةِ كَبِيرَةً مُشْكِلٌ إذَا كَانَ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا صَغِيرَةً إلَّا أَنْ يُقَالَ تَصِيرُ كَبِيرَةً بِمَا يَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ مِنْ الرُّعْبِ لِلْمَسْعِيِّ عَلَيْهِ وَإِرْجَافِ أَهْلِهِ وَتَرْوِيعِهِمْ بِطَلَبِ السُّلْطَانِ. انْتَهَى. فَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقَالَ إلَخْ هُوَ نَظِيرُ مَا ذَكَرْته فَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ مِنْ كَلَامِهِمْ فَلْيُعْتَمَدْ.
وَأَمَّا الْأَوَّلَانِ فَعَدُّهُمَا هُوَ مَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ ثُمَّ تَوَقَّفَ فِيهِ وَأَقَرَّهُ النَّوَوِيُّ عَلَى تَوَقُّفِهِ وَاعْتَذَرَ عَنْهُ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّ الدَّلِيلَ لَمْ يَقْوَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد السَّابِقَةُ «ثُمَّ لَيَلْعَنَكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ» لِمَا مَرَّ أَنَّ إحْدَى طَرِيقَيْهَا فِيهِ انْقِطَاعٌ وَالْأُخْرَى مُرْسَلَةٌ انْتَهَى. وَيُرَدُّ بِأَنَّ خَبَرَ التِّرْمِذِيِّ الَّذِي مَرَّ عَقِبَ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد السَّابِقَةِ وَالْأَخْبَارَ الصَّحِيحَةَ بَعْدَهُ سِيَّمَا خَبَرُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه صَرِيحٌ فِي أَنَّ ذَيْنِك مِنْ الْكَبَائِرِ لِمَا فِيهِمَا مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، فَلَيْسَ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَلَالُ مَلْحَظُ التَّوَقُّفِ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ وَسَيُصَرِّحُ بِهِ الْجَلَالُ نَفْسُهُ كَمَا يَأْتِي عَنْهُ أَنَّ مَلْحَظَ مَا ذَكَرَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَنَقَلَهُ الْجَلَالُ عَنْهُ، لَكِنَّهُ قَالَ: قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يَنْبَغِي أَنْ يُفَصَّلَ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَيُقَالُ إنْ كَانَ كَبِيرَةً فَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ دَفْعِهِ كَبِيرَةٌ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرَةً فَالسُّكُوتُ عَلَيْهِ صَغِيرَةٌ وَيُقَاسُ تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهَا إذَا قُلْنَا إنَّ الْوَاجِبَاتِ تَتَفَاوَتُ وَهُوَ الظَّاهِرُ انْتَهَى كَلَامُ الْجَلَالِ عَنْ الْأَذْرَعِيِّ؛ وَبَقِيَ مِنْ كَلَامِهِ شَيْءٌ يَظْهَرُ بِهِ صِحَّةُ مَا فَصَّلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْ إطْلَاقِ كَوْنِ تَرْكِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ كَبِيرَةً أَنَّ تَرْكَ النَّهْيِ عَنْ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ كَبِيرَةٌ، وَقَدْ أَطْلَقَ قَائِلُ هَذَا وَهُوَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنْ الصَّغَائِرِ. انْتَهَى.
أَيْ فَكَيْفَ يُتَعَقَّلُ أَنَّ الْغِيبَةَ نَفْسَهَا صَغِيرَةٌ وَتَرْكَ النَّهْيِ عَنْهَا كَبِيرَةٌ فَاتَّضَحَ تَفْصِيلُهُ أَنَّ تَرْكَ النَّهْيِ عَنْ الْكَبِيرَةِ كَبِيرَةٌ بِخِلَافِهِ عَنْ الصَّغِيرَةِ. قَالَ الْجَلَالُ: وَمَا ذَكَرَهُ أَيْ الْأَذْرَعِيُّ فِي الْوَاجِبَاتِ: أَيْ مِنْ أَنَّهَا تَتَفَاوَتُ مَعْنَاهُ
أَنَّ جَوَابَ السَّلَامِ مَثَلًا وَاجِبٌ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَاجِبَةٌ وَهُمَا دُونَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ، فَتَرْكُ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا مَعَ الْإِمْكَانِ كَبِيرَةٌ، وَتَرْكُ الْأَمْرِ بِجَوَابٍ السَّلَامِ أَوْ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ مَعَ الْإِمْكَانِ لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ؛ انْتَهَى.
قَالَ الْجَلَالُ أَيْضًا: وَأَمَّا الْمَنْدُوبَاتُ فَلَيْسَ تَرْكُ الْأَمْرِ بِهَا كَبِيرَةً قِيلَ وَلَا صَغِيرَةً لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ الَّذِي يَجِبُ الْأَمْرُ بِهِ مَا يَكُونُ فِعْلُهُ وَاجِبًا عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهَاتُ لَيْسَ إنْكَارُهَا وَاجِبًا كَمَا يَجِبُ إنْكَارُ الْمُحَرَّمَاتِ بَلْ يُسْتَحَبُّ الْأَمْرُ بِالْمَنْدُوبَاتِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمَكْرُوهَاتِ. وَحَكَى فِي الرَّوْضَةِ وَجْهَيْنِ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ بِصَلَاةِ الْعِيدِ وَصَحَّحَ الْوُجُوبَ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّهَا سُنَّةٌ لِأَنَّهَا شِعَارٌ ظَاهِرٌ. قُلْت: تَخْرِيجًا عَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَإِنْ قُلْنَا هِيَ تَنْزِيهٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَحَرَّمَ بِهَا بَطَلَتْ عَلَى الْأَصَحِّ عَلَى مَا عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ، فَحِينَئِذٍ السُّكُوتُ عَنْ الْأَمْرِ بِصَلَاةِ الْعِيدِ لَا يَلْحَقُ بِالْكَبَائِرِ وَلَا السُّكُوتُ عَنْ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ. إذَا قُلْنَا إنَّ النَّهْيَ تَنْزِيهٌ لَا يَلْحَقُ بِالْكَبَائِرِ فَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُ الرَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ وَلِلتَّوَقُّفِ مَجَالٌ فِي تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ عَلَى إطْلَاقِهِمَا. انْتَهَى.
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِصَلَاةِ الْعِيدِ خَاصٌّ بِالْمُحْتَسِبِ، وَبِهِ جُمِعَ بَيْنَ قَوْلِ الشَّيْخَيْنِ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِوَاجِبَاتِ الشَّرْعِ وَالنَّهْيِ عَنْ مُحَرَّمَاتِهِ، وَقَوْلُ الرَّوْضَةِ وَيَجِبُ الْأَمْرُ بِصَلَاةِ الْعِيدِ. وَإِنْ قُلْنَا إنَّهَا سُنَّةٌ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الْأَمْرُ بِالطَّاعَةِ لَا سِيَّمَا مَا كَانَ شِعَارًا ظَاهِرًا، فَالْأَوَّلُ فِي الْآحَادِ فَلَا يَلْزَمُهُمْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إلَّا فِي الْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ، وَالثَّانِي فِي الْمُحْتَسِبِ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي الشِّعَارِ الظَّاهِرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا.
وَأَمَّا قَوْلُ الْإِمَامِ؛ مُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْمُسْتَحَبِّ مُسْتَحَبٌّ، فَمَحَلُّهُ فِي غَيْرِ الْمُحْتَسِبِ فَقَدْ فَرَّقَ الْأَئِمَّةُ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا: قَوْلُهُمْ لَوْ أَمَرَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ بِنَحْوِ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ أَوْ صَوْمٍ صَارَ وَاجِبًا وَلَوْ أَمَرَ بِهِ بَعْضُ الْآحَادِ لَمْ يَصِرْ وَاجِبًا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمُحْتَسِبِ أَحْكَامًا يَخْتَصُّ بِهَا قَوْلُهُمْ، وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَ مُحْتَسِبًا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ، وَإِنْ كَانَا لَا يَخْتَصَّانِ بِهِ لِأَنَّ كَلِمَتَهُ أَنْفَذُ، وَلَا
يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ أَحَدًا عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِهِ إذْ لَا يَلْزَمُ النَّاسَ اتِّبَاعُ مَذْهَبِ غَيْرِ إمَامِهِمْ، وَيَأْمُرُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمْ فِي التَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، وَيَأْمُرُ بِمَا يَعُمُّ نَفْعُهُ كَعِمَارَةِ سُوَرِ الْبَلَدِ وَمُؤْنَةِ الْمُحْتَاجِينَ وَيَجِبُ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ أَوْ مَنَعَ ظُلْمًا لَزِمَ كُلَّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَيَنْهَى الْمُوسِرَ عَنْ مَطْلِ دَائِنِهِ إنْ اسْتَعْدَاهُ الْغَرِيمُ عَلَيْهِ.
وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ وَقَفَ مَعَ امْرَأَةٍ بِطَرِيقٍ خَالٍ وَيَقُولُ لَهُ: إنْ كَانَتْ مَحْرَمًا لَك فَصُنْهَا عَنْ مَوَاقِفِ الرِّيبَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً فَخَفْ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ الْخَلْوَةِ بِهَا فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَيَأْمُرُ الْأَوْلِيَاءَ بِإِنْكَاحِ الْأَكْفَاءِ، وَالنِّسَاءَ بِإِيفَاءٍ الْعِدَدِ، وَالسَّادَةَ بِالرِّفْقِ بِالْمَمَالِيكِ، وَأَصْحَابَ الْبَهَائِمِ بِتَعَهُّدِهَا وَالرِّفْقِ بِهَا. وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ أَسَرَّ فِي جَهْرِيَّةٍ أَوْ عَكَسَ أَوْ زَادَ فِي الْأَذَانِ أَوْ نَقَصَ وَلَا يُنْكِرُ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ قَبْلَ اسْتِعْدَاءِ ذِي الْحَقِّ عَلَيْهِ وَلَا يَحْبِسُ وَلَا يَضْرِبُ لِلدَّيْنِ، وَيُنْكِرُ عَلَى الْقُضَاةِ إنْ احْتَجَبُوا عَلَى الْخُصُومِ أَوْ قَصَّرُوا فِي النَّظَرِ فِي أُمُورِهِمْ، وَعَلَى أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ الْمَطْرُوقَةِ إنْ طَوَّلُوا فِي الصَّلَاةِ لِلِاتِّبَاعِ، وَيَمْنَعُ الْخَوَنَةَ مِنْ مُعَامَلَةِ النِّسَاءِ.
قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَيَجِبُ إنْكَارُ الصَّغِيرَةِ كَالْكَبِيرَةِ، بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مَعْصِيَةً لِخُصُوصِ الْفَاعِلِ وَجَبَ الْإِنْكَارُ كَمَا لَوْ رَأَى غَيْرَ مُكَلَّفٍ يَزْنِي أَوْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمَعْصِيَةِ إلَّا الْوَعْظُ بَلْ يُسَنُّ السَّتْرُ كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الْحُدُودِ بِتَفْصِيلِهِ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَنْ عُرِفَ بِالْفَسَادِ يُسَنُّ كَشْفُهُ وَرَفْعُهُ إلَى الْحَاكِمِ إنْ لَمْ يَخَفْ مَفْسَدَةً، وَمَنْ عَلِمَ بِمُنْكَرٍ سَيُوجَدُ كَأَنْ سَمِعَ مِنْ إنْسَانٍ أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى نَحْوِ شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ زِنًا غَدًا وَعَظَهُ فَقَطْ، فَإِنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْهُ بِقَرَائِنَ دُونَ السَّمَاعِ حَرُمَ وَعْظُهُ لِتَضَمُّنِهِ إسَاءَةَ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ. كَذَا قِيلَ. وَفِي إطْلَاقِ حُرْمَةِ الْوَعْظِ نَظَرٌ بَلْ إنَّمَا تَتَّجِهُ الْحُرْمَةُ إنْ سَجَّلَ عَلَيْهِ فِي وَعْظٍ بِفِسْقٍ أَوْ نَحْوِهِ.
وَمَنْ خَلَا بِأَجْنَبِيَّةٍ أَوْ وَقَفَ؛ لِيَنْظُرَ أَجْنَبِيَّةً يُنْكِرُ عَلَيْهِ بِالْيَدِ ثُمَّ اللِّسَانِ لِتَحَقُّقِ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُ. قَالَ الْأَئِمَّةُ أَيْضًا: وَلَا يَخْتَصُّ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ بِمَسْمُوعِ الْقَوْلِ، بَلْ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى وَإِنْ عَلِمَ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ، وَإِنْ كَانَ الْآمِرُ وَالنَّاهِي غَيْرَ مُمْتَثِلٍ وَلَا مَأْذُونٍ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ فَإِذَا اخْتَلَّ أَحَدُهُمَا لَمْ يَسْقُطْ الْآخَرُ.
وَلَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى فِي دَقَائِقِ الْأُمُورِ إلَّا الْعُلَمَاءُ دُونَ الْعَامَّةِ لِجَهْلِهِمْ بِهَا وَمِنْ ثَمَّ اسْتَوَى الْكُلُّ فِي الظَّوَاهِرِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ. وَلَا يُنْكِرُ الْعَالِمُ إلَّا مَجْمَعًا عَلَى إنْكَارِهِ
أَوْ مَا يَرَى الْفَاعِلُ تَحْرِيمَهُ لَهُ دُونَ مَا عَدَا ذَلِكَ، نَعَمْ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَنْدُبَهُ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ إنْ لَمْ يَقَعْ فِي خِلَافٍ آخَرَ وَتَرْكِ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ حِينَئِذٍ.
وَعُلِمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ أَنَّ إنْكَارَ الْمُنْكَرِ يَكُونُ بِالْيَدِ ثُمَّ إنْ عَجَزَ فَبِاللِّسَانِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِكُلِّ وَجْهٍ أَمْكَنَهُ فَلَا يَكْفِي الْوَعْظُ مِمَّنْ أَمْكَنَهُ إزَالَتُهُ وَلَا كَرَاهَةُ الْقَلْبِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَى النَّهْيِ بِاللِّسَانِ وَيَرْفُقُ فِي التَّغْيِيرِ بِمَنْ يَخَافُ شَرَّهُ وَبِالْجَاهِلِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَدَّى إلَى قَبُولِ قَوْلِهِ وَإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ إنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً مِنْ إظْهَارِ سِلَاحٍ وَحَرْبٍ وَلَمْ يُمْكِنْ الِاسْتِقْلَالُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْيَدِ وَاللِّسَانِ رَفَعَهُ لِلْوَالِي فَإِنْ عَجَزَ أَنْكَرَهُ بِقَلْبِهِ، وَلَيْسَ لِآمِرٍ وَلَا نَاهٍ تَجَسُّسٌ وَلَا بَحْثٌ وَلَا اقْتِحَامُ دَارٍ بِظَنٍّ فَإِنْ أَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِمَنْ اخْتَلَى بِمُحَرَّمٍ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ تَدَارُكُهَا كَأَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِامْرَأَةٍ؛ لِيَزْنِيَ بِهَا أَوْ بِشَخْصٍ لِيَقْتُلَهُ لَزِمَهُ أَنْ يَقْتَحِمَ لَهُ الدَّارَ وَأَنْ يَتَجَسَّسَ وَلَوْ عَلِمَ بِهِ كَأَنْ سَمِعَ صَوْتَ الْمَلَاهِي أَوْ الْقَيْنَاتِ أَوْ السُّكَارَى دَخَلَ وَكَسَرَ الْمَلَاهِي وَأَخْرَجَ نَحْوَ الْقَيْنَاتِ.
وَلَا يَجُوزُ كَشْفُ ذَيْلِ فَاسِقٍ فَاحَتْ مِنْ تَحْتِهِ رَائِحَةُ الْخَمْرِ، قَالَ بَعْضُهُمْ وَكَذَا لَوْ عَلِمَ تَحْتَهُ عُودًا وَنَحْوَهُ. اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ تَحْتَهُ عُودًا أَخْرَجَهُ وَكَسَرَهُ بِشَرْطِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحَسُّسَ هُوَ كُلُّ أَمْرٍ إذَا فَتَّشْت عَنْهُ ثَقُلَ عَلَى صَاحِبِهِ عِلْمُك بِهِ وَلَا يَسْقُطُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ إلَّا إنْ خَافَ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ بُضْعِهِ أَوْ عُضْوِهِ أَوْ خَافَ مَفْسَدَةً عَلَى غَيْرِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَفْسَدَةِ الْمُنْكَرِ الْوَاقِعِ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمُرْتَكِبَ يَزِيدُ فِيمَا هُوَ فِيهِ عِنَادًا.
فَائِدَةٌ: وُجُوبُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يَعُمُّ كُلَّ مُكَلَّفٍ مِنْ حُرٍّ وَقِنٍّ وَذَكَرٍ وَأُنْثَى، لَكِنَّهُ وُجُوبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لِقَوْلِهِ تبارك وتعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران: 104] إلَخْ، إذْ لَوْ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ لَقَالَ وَلْتَكُونُوا؛ نَعَمْ قَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ كَمَا إذَا كَانَ بِمَحَلٍّ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. ثُمَّ فَرْضُ الْكِفَايَةِ هُوَ الَّذِي إذَا قَامَ بِهِ وَاحِدٌ حَازَ ثَوَابُهُ وَأَسْقَطَ الْحَرَجَ عَنْ الْبَاقِينَ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ جَمْعٌ إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ فَرْضِ الْعَيْنِ لِتَعَدِّي نَفْعَهُ، نَعَمْ مَحَلُّ سُقُوطِهِ عَنْ الْغَيْرِ إنْ عَلِمَ بِقِيَامِ غَيْرِهِ بِهِ وَإِلَّا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ كَتَرْكِهِ وَاجِبًا عَمْدًا بِالنِّسْبَةِ لِظَنِّهِ، وَالْمَدَارُ فِي الْإِثْمِ عَلَيْهِ لَا عَلَى نَفْسِ الْأَمْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ
مَنْ وَطِئَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَثِمَ إثْمَ الزِّنَا وَفِي عَكْسِهِ لَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَمَحَلُّ اسْتِوَائِهِمْ أَيْضًا إنْ اسْتَوَوْا فِي الْقُدْرَةِ بِالْيَدِ وَبِاللِّسَانِ، فَلَوْ قَدَرَ وَاحِدٌ بِالْيَدِ وَآخَرُونَ بِاللِّسَانِ تَعَيَّنَ عَلَى الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ لِذِي اللِّسَانِ أَقْرَبَ أَوْ أَنَّهُ يَرْجِعُ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلَا يَرْجِعُ لِذِي الْيَدِ إلَّا ظَاهِرًا فَقَطْ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى ذِي اللِّسَانِ حِينَئِذٍ وَلَا يَسْقُطُ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ عَنْ مُكَلَّفٍ أَصْلًا إذْ هُوَ كَرَاهَةُ الْمَعْصِيَةِ.
وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، بَلْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَحْمَدُ أَنَّ تَرْكَ الْإِنْكَارِ بِالْقَلْبِ كُفْرٌ لِخَبَرِ «وَهُوَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» . وَمَنْ قَدِمَ عَلَى مُنْكَرٍ جَاهِلًا بِهِ وَلَوْ عَلِمَهُ رَجَعَ عَنْهُ يَجِبُ تَعْلِيمُهُ بِرِفْقٍ، حَتَّى لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يُفِيدُ إسْمَاعُهُ مُخَاطَبَةَ الْغَيْرِ بِالتَّعْلِيمِ خُوطِبَ بِهِ الْغَيْرُ أَوْ عَالِمًا بِهِ ابْتِدَاءً أَوْ لِكَوْنِهِ عَرَفَهُ كَالْمُوَاظِبِ عَلَى نَحْوِ مَكْسٍ أَوْ غِيبَةٍ وَعَظَهُ وَخَوَّفَهُ بِذِكْرِ وَعِيدِ ذَنْبِهِ ثُمَّ يَتَدَرَّجُ مَعَهُ بِغَايَةِ اللُّطْفِ وَالْبَشَاشَةِ إذْ كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ وَيُلَاحِظُ لُطْفَ اللَّهِ بِهِ إذْ حَفِظَهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ شَاءَ لَعَكَسَ، بَلْ لَيْسَ هُوَ آمِنًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْإِنْكَارِ بِاللِّسَانِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ وَقَدَرَ عَلَى التَّعْبِيسِ وَالْهَجْرِ وَالنَّظَرِ شَزْرًا لَزِمَهُ ذَلِكَ وَلَا يَكْفِيهِ إنْكَارُ الْقَلْبِ، فَإِنْ لَمْ يَتَّعِظْ وَيَتَذَكَّرْ وَعَلِمَ مِنْهُ الْإِصْرَارَ خَشَّنَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ وَسَبَّهُ بِلَا فُحْشٍ كَيَا فَاسِقُ يَا جَاهِلُ يَا أَحْمَقُ يَا مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ.
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَغْضَبَ فَيَبْقَى إنْكَارُهُ؛ لِنُصْرَةِ نَفْسِهِ أَوْ يَسْتَرْسِلَ لِمَا يَحْرُمُ فَيَنْقَلِبُ الثَّوَابُ عِقَابًا، هَذَا كُلُّهُ فِيمَا لَا يُنْكَرُ بِالْيَدِ أَمَّا مَا يُنْكَرُ بِهَا كَخَمْرٍ غَيْرِ مُحْتَرَمَةٍ وَكَسْرِ آلَةِ اللَّهْوِ وَتَجْرِيدِهِ مِنْ حُلِيِّ ذَهَبٍ أَوْ حَرِيرٍ وَمَنَعَهُ مِنْ شَدْخِ نَحْوِ شَاةٍ وَإِخْرَاجِ نَحْوِ جُنُبٍ وَأَكْلِ مُنْتِنٍ وَذِي نَجَسٍ يَنْضَحُ مِنْ مَسْجِدٍ فَلَا يَكْفِي غَيْرُ الْإِنْكَارِ بِالْيَدِ فَيَجُرُّهُ بِرِجْلِهِ أَوْ بِمُعِينٍ إنْ عَجَزَ، وَلْيَتَوَقَّ فِي نَحْوِ إرَاقَةِ الْخَمْرِ وَكَسْرِ آلَةِ اللَّهْوِ الْكَسْرَ الْفَاحِشَ إلَّا إذَا لَمْ تُرَقْ إلَّا بِهِ أَوْ يَخْشَى أَنَّ الْفُسَّاقَ يُدْرِكُونَهُ وَيَمْنَعُونَهُ فَيَفْعَلُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَوْ بِحَرْقٍ وَغَرَقٍ.
وَلِلْإِمَامِ ذَلِكَ مُطْلَقًا زَجْرًا أَوْ تَعْزِيرًا وَلَهُ فِيمَنْ لَمْ يَنْكَفَّ بِخَشِنِ الْكَلَامِ أَنْ يَضْرِبَهُ بِنَحْوِ يَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَنْكَفَّ إلَّا بِشَهْرِ سِلَاحٍ مِنْهُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ جَمَاعَةٍ فَعَلُوا لَكِنْ بِإِذْنِ الْإِمَامِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: لَا يُحْتَاجُ لِإِذْنِهِ، قِيلَ وَهُوَ الْأَقْيَسُ كَمَا يَجُوزُ قَتْلُ فَاسِقٍ يُنَاضِلُ عَنْ فِسْقِهِ، وَإِذَا قُتِلَ الْمُنْكِرُ الْمُحِقُّ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَنَحْوُ السُّلْطَانِ يُوعَظُ ثُمَّ يُخَشَّنُ لَهُ إنْ لَمْ يَخْشَ ضَرَرَهُ وَلَهُ ذَلِكَ وَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ وَرَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ فَقَتَلَهُ» .
وَلَوْ رَأَى بَهِيمَةً تُتْلِفُ مَالَ غَيْرِهِ لَزِمَهُ كَفُّهَا إنْ لَمْ يَخَفْ، وَمَنْ وَجَدَهُ يُرِيدُ قَطْعَ طَرَفِ نَفْسِهِ مَنَعَهُ، وَإِنْ أَدَّى إلَى قَتْلِهِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ