الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَذَلِكَ، وَهَذَا غَايَةٌ فِي قُبْحِ الْمُخَالَفَةِ وَفُحْشِهَا، وَمِنْ ثَمَّ اُتُّجِهَ بِذَلِكَ كَوْنُ الظِّهَارِ كَبِيرَةً؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَمَّاهُ زُورًا، وَالزُّورُ كَبِيرَةٌ كَمَا يَأْتِي. وَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّ الظِّهَارَ مِنْ الْكَبَائِرِ.
[بَابُ اللِّعَانِ]
[الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالثَّمَانُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ قَذْفُ الْمُحْصَنِ أَوْ الْمُحْصَنَةِ]
. بَابُ اللِّعَانِ (الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالثَّمَانُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ: قَذْفُ الْمُحْصَنِ أَوْ الْمُحْصَنَةِ بِزِنًا أَوْ لِوَاطٍ وَالسُّكُوتُ عَلَى ذَلِكَ) . قَالَ - تَعَالَى -: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]{إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5] . وَقَالَ - تَعَالَى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23]{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24]{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25] أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الرَّمْيِ فِي الْآيَةِ الرَّمْيُ بِالزِّنَا وَهُوَ يَشْمَلُ الرَّمْيَ بِاللِّوَاطِ كَيَا زَانِيَةُ أَوْ بَغِيَّةُ أَوْ قَحْبَةُ، أَوْ لِزَوْجِهَا كَيَا زَوْجَ الْقَحْبَةِ، أَوْ لِوَلَدِهَا كَيَا وَلَدَ الْقَحْبَةِ، أَوْ لِبِنْتِهَا كَيَا بِنْتَ الزِّنَا، فَهَذَا كُلُّهُ قَذْفٌ لِلْأُمِّ، أَوْ لِرَجُلٍ يَا زَانِي أَوْ مَنْكُوحُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَوْ يَقُولُ لَهُ يَا عِلْقُ. انْتَهَى.
وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ شُهْرَةِ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فِي الْقَذْفِ وَالشُّهْرَةُ تُوجِبُ الصَّرَاحَةَ عَلَى مَا قَالَهُ جَمْعٌ لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ خِلَافُهُ، فَاَلَّذِي يُتَّجَهُ أَنَّ ذَلِكَ كِنَايَةٌ. وقَوْله تَعَالَى:{الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 23] أَيْ الْأَنْفُسُ الْمُحْصَنَاتُ فَيَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، أَوْ التَّقْدِيرُ وَالْمُحْصَنِينَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى اسْتِوَاءِ حُكْمِ النَّوْعَيْنِ فِي الْقَذْفِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِحْصَانِ هُنَا الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْعِفَّةُ عَنْ وَطْءٍ يُحَدُّ بِهِ، وَعَنْ وَطْءِ زَوْجَةٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ فِي دُبُرِهَا، فَمَنْ فَعَلَ وَطْئًا يُحَدُّ بِهِ أَوْ وَطِئَ حَلِيلَتَهُ فِي دُبُرِهَا لَمْ يَجِبْ عَلَى رَامِيهِ بِالزِّنَا حَدُّ الْقَذْفِ، وَإِنْ تَابَ وَصَلُحَ حَالُهُ؛ لِأَنَّ الْعِرْضَ إذَا انْخَرَمَ لَا يَلْتَئِمُ خَرْقُهُ أَبَدًا، نَعَمْ قَذْفُهُ بِالزِّنَا أَوْ نَحْوُهُ كَبِيرَةٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ يَأْتِي فِي النَّسَبِ.
وَعُلِمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا} [النور: 4] إلَى آخِرِهِ أَنَّ سَبَبَ الْحَدِّ هُنَا إنَّمَا هُوَ إظْهَارُ تَكْذِيبِهِ وَافْتِرَائِهِ، فَمَنْ ثَبَتَ صِدْقُهُ بِأَنْ أَقَامَ أَرْبَعَةَ شُهَدَاءَ عُدُولٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَكْفِي هُنَا الْفُسَّاقُ يَشْهَدُونَ بِزِنَا الْمَقْذُوفِ أَوْ رَجُلَيْنِ بِإِقْرَارِهِ، أَوْ اُدُّعِيَ أَنَّهُ زَانٍ فَوُجِّهَتْ إلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ لَمْ يَزْنِ فَرَدَّهَا عَلَى الْقَاذِفِ فَحَلَفَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَشَرْطُ الْحُرْمَةِ وَالْحَدِّ أَنْ يَصْدُرَ الْقَذْفُ مِنْ بَالِغٍ عَاقِلٍ وَلَا يَتَكَرَّرُ الْحَدُّ بِتَكَرُّرِ الْقَذْفِ مِرَارًا، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ كَزَنَيْت بِفُلَانَةَ ثُمَّ قَالَ زَنَيْت بِأُخْرَى وَهَكَذَا، نَعَمْ إنْ حُدَّ فَقَذَفَهُ بَعْدُ عُزِّرَ وَقِيلَ يَتَعَدَّدُ الْحَدُّ بِالتَّعَدُّدِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ فَلَا يَتَدَاخَلُ كَالدُّيُونِ، وَإِذَا اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْإِحْصَانِ السَّابِقَةِ وَجَبَ التَّعْزِيرُ. وَأَمَّا الْكَبِيرَةُ فَهِيَ بَاقِيَةٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ نَظِيرُ مَا مَرَّ.
وَيُشْتَرَطُ فِي شُهُودِ الزِّنَا تَعَرُّضُهُمْ لِلزَّانِي وَالْمَزْنِيِّ بِهِ، إذْ قَدْ يَرَى عَلَى أُمِّهِ ابْنَهُ فَيَظُنُّ أَنَّهُ زِنًا وَكَكَوْنِ ذَكَرِهِ فِي فَرْجِهَا وَيُنْدَبُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ يَجِبُ أَنْ يَقُولُوا رَأَيْنَا ذَكَرَهُ يَدْخُلُ فِي فَرْجِهَا دُخُولَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَلَا يَكْفِي قَوْلُهُمْ زَنَى فَقَطْ بِخِلَافِ الْقَاذِفِ يُحَدُّ بِقَوْلِهِ لِغَيْرِهِ زَنَيْت وَلَا يَسْتَفْسِرُ، وَلَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا فَقِيلَ يَجِبُ اسْتِفْسَارُهُ كَالشُّهُودِ، وَقِيلَ لَا يَجِبُ كَمَا فِي الْقَذْفِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَنَا، وَفَارَقَ الْقَذْفَ عَمَلًا بِالِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا إذْ هُوَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ عَدَمُ تَوَقُّفِهِ عَلَى اسْتِفْسَارٍ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ عَنْهُ؛ لِكَوْنِهِ حَقَّ آدَمِيٍّ، وَفِي الْإِقْرَارِ تَوَقُّفُهُ عَلَيْهِ مُبَالَغَةٌ فِي سَتْرِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَلَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ شَهَادَتِهِمْ مُجْتَمَعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ وَكَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه: إنْ تَفَرَّقُوا لَغَتْ شَهَادَتُهُمْ وَحُدُّوا، حُجَّةُ الْأَوَّلَيْنِ أَنَّ التَّفْرِيقَ أَبْعَدُ فِي التُّهْمَةِ وَأَبْلَغُ فِي ظُهُورِ الصِّدْقِ لِانْتِفَاءِ احْتِمَالِ تَلَقُّفِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَمِنْ ثَمَّ إذَا ارْتَابَ الْقَاضِي فِي شُهُودٍ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ، وَأَيْضًا فَالتَّفْرِيقُ لَا بُدَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ اجْتَمَعُوا عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ نَائِبِهِ تَقَدَّمُوا وَاحِدًا فَوَاحِدًا لِتَعَسُّرِ شَهَادَتِهِمْ مَعًا.
وَحُجَّتُهُ أَنَّ مَنْ شَهِدَ أَوَّلًا ثُمَّ ثَانِيًا، وَهَكَذَا يَصْدُقُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَذَفَ وَلَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَيُحَدُّ لِلْآيَةِ وَلَا أَثَرَ؛ لِإِتْيَانِهِمْ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَإِلَّا لَاُتُّخِذَ ذَرِيعَةً إلَى قَذْفِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ رضي الله عنه شَهِدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا أَرْبَعَةٌ عِنْدَ عُمَرَ رضي الله عنه أَبُو بَكْرَةَ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَنَافِعٌ، وَنُفَيْعٌ. لَكِنْ قَالَ رَابِعُهُمْ رَأَيْت اسْتًا يَنْبُو وَنَفَسًا يَعْلُو وَرِجْلَاهَا عَلَى عَاتِقَيْهِ كَأُذُنَيْ حِمَارٍ وَلَا أَدْرِي مَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَحَدَّ عُمَرُ الثَّلَاثَةَ وَلَمْ يَسْأَلْ هَلْ مَعَهُمْ شَاهِدٌ رَابِعٌ فَلَوْ قَبِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَهَادَةَ غَيْرِهِمْ
لَتَوَقَّفَ أَدَاءُ الْحَدِّ عَلَيْهِ.
وَبِمَا فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ يُرَدُّ عَلَى مَنْ قَالَ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكْمُلْ النِّصَابُ؛ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ حُدُّوا لَانْسَدَّ بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَأْمَنُ أَنْ لَا يُوَافِقَهُ صَاحِبُهُ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَيُرَدُّ مَا عَلَّلَ بِهِ بِأَنَّ الْقَصْدَ سَتْرُ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ مَا أَمْكَنَ، وَلِذَا تَمَيَّزَتْ عَنْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ بِاشْتِرَاطِ أَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ بِهَا.
وقَوْله تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، وَكَذَا السَّيِّدُ فِي قِنِّهِ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَوْ رَجُلٌ صَالِحٌ إذَا فُقِدَ الْإِمَامُ وَمَذْهَبُنَا لَا يُوَافِقُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ عز وجل: {ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] مَحَلُّهُ فِي كَامِلِ الْحُرِّيَّةِ فَغَيْرُهُ يُجْلَدُ أَرْبَعِينَ وَفِي غَيْرِ الْوَالِدِ وَإِنْ عَلَا فَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِ فَرْعِهِ كَمَا لَا يُقْتَلُ بِهِ بَلْ يُعَزَّرُ، وَكَذَا السَّيِّدُ مَعَ قِنِّهِ.
وَأَشَدُّ الْحُدُودِ حَدُّ الزِّنَا، ثُمَّ الْقَذْفِ، ثُمَّ الْخَمْرِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا حَدَّ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حُدُودِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا حَدَّ عَلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ قَوَدٌ لَا حَدٌّ، وَإِنْ وَجَبَ فِيهِ التَّحَتُّمُ الَّذِي هُوَ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى -.
وَوَجْهُ أَشَدِّيَّةِ الزِّنَا أَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْأَنْسَابِ الَّتِي هِيَ شَقَائِقُ النُّفُوسِ، ثُمَّ الْقَذْفِ أَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْأَعْرَاضِ الْعَظِيمَةِ الرِّعَايَةِ عِنْدَ ذَوِي الْمُرُوآتِ مَعَ تَمَحُّضِهَا لِحَقِّ الْآدَمِيِّ. وقَوْله تَعَالَى:{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فِيهِ أَشَدُّ الْعُقُوبَةِ وَأَبْلَغُ الزَّجْرِ وَأَكْبَرُ الْمَقْتِ لِلْقَاذِفِينَ.
وَقَوْلُهُ - جَلَّ وَعَلَا -: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] إلَخْ اخْتَلَفُوا فِيهِ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه وَآخَرُونَ: إنَّهُ خَاصٌّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَهِيَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ بِالْفِسْقِ، فَالْقَاذِفُ فَاسِقٌ إلَّا إنْ تَابَ؛ وَأَمَّا رَدُّ شَهَادَتِهِ فَهُوَ مُعَلَّقٌ عَلَى حَدِّهِ فَإِنْ حُدَّ فِي الْقَذْفِ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ بَعْدُ شَهَادَةٌ أَبَدًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم: الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ لِلْجَمِيعِ، فَمَتَى تَابَ الْقَاذِفُ تَوْبَةً صَحِيحَةً زَالَ فِسْقُهُ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ. فَمَعْنَى أَبَدًا: أَيْ مَا دَامَ قَاذِفًا: أَيْ مُصِرًّا عَلَى قَذْفِهِ، وَبِالتَّوْبَةِ زَالَ أَثَرُ الْقَذْفِ فَزَالَ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ رَدِّ الشَّهَادَةِ. وَقَوْلُ أَبِي حَيَّانَ: لَيْسَ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجُمَلِ الثَّلَاثَةِ بَلْ الظَّاهِرُ هُوَ مَا يَعْضُدُهُ كَلَامُ الْعَرَبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَخِيرَةِ مَمْنُوعٌ
بِإِطْلَاقِهِ، بَلْ قَاعِدَةُ الْعَرَبِ الْمُقَرَّرَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي بَابِ الْوَقْفِ وَغَيْرِهِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَالْوَصْفَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ الْمُتَعَلِّقَاتِ تَرْجِعُ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَهَا، بَلْ وَإِلَى جَمِيعِ مَا تَأَخَّرَ مِنْهَا، بَلْ قَالَ جَمْعٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَغَيْرِهِمْ لَوْ تَوَسَّطَتْ رَجَعَتْ إلَى الْكُلِّ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَبْلَهَا مُتَأَخِّرَةٌ وَلِمَا بَعْدَهَا مُتَقَدِّمَةٌ، فَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْآيَةِ عَوْدَهُ إلَى الْجُمَلِ الثَّلَاثَةِ.
لَكِنْ مَنَعَ مِنْ عَوْدِهِ إلَى الْأُولَى وَهِيَ {فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] مَانِعٌ هُوَ عَدَمُ سُقُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ بِالتَّوْبَةِ، فَبَقِيَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْأُخْرَيَيْنِ، وَهُمَا رَدُّ الشَّهَادَةِ وَالْفِسْقُ، وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي قِصَّةِ الْمُغِيرَةِ السَّابِقَةِ: مَنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فَأَكْذَبَ شِبْلٌ وَنَافِعٌ أَنْفُسَهُمَا فَكَانَ يَقْبَلُ شَهَادَتَهُمَا عَلَى أَنَّ الشَّعْبِيَّ قَالَ بِرُجُوعِهِ إلَى الْأُولَى أَيْضًا. فَقَالَ: إذَا تَابَ الْقَاذِفُ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ.
تَنْبِيهٌ: مَنْ قَذَفَ آخَرَ بَيْنَ يَدَيْ حَاكِمٍ لَزِمَهُ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِ وَيُخْبِرَهُ بِهِ لِيُطَالِبَ بِهِ إنْ شَاءَ كَمَا لَوْ ثَبَتَ عِنْدَهُ مَالٌ عَلَى آخَرَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ يَلْزَمُهُ إعْلَامُهُ بِهِ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وَنَائِبِهِ إذَا رُمِيَ رَجُلٌ بِزِنًا أَنْ يُرْسِلَ يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ.
وقَوْله تَعَالَى: {الْغَافِلاتِ} [النور: 23] أَيْ عَنْ الْفَاحِشَةِ بِأَنْ لَا يَقَعَ مِثْلُهَا مِنْهُنَّ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ مَزِيدِ عِفَّتِهِنَّ وَطَهَارَتِهِنَّ، وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ وَإِنْ نَزَلَتْ فِي عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -.
قَالَتْ: «رُمِيت وَأَنَا غَافِلَةٌ وَإِنَّمَا بَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدِي إذْ أُوحِيَ إلَيْهِ فَقَالَ أَبْشِرِي وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ» وَقِيلَ هِيَ خَاصَّةٌ بِهَا، وَقِيلَ بِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ تَوْبَةَ الْقَاذِفِ ذُكِرَتْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى دُونَ هَذِهِ فَلَا تَوْبَةَ فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 23] وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ لِمُنَافِقٍ بَلْ كَافِرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا} [الأحزاب: 61] وَأَيْضًا فَشَهَادَةُ الْأَلْسِنَةِ وَغَيْرِهَا تَكُونُ لِلْمُنَافِقِ وَالْكَافِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى، {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت: 19] أَيْ يُجْمَعُونَ {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ} [فصلت: 20] الْآيَةَ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ بِأَنَّ هَذَا الْعِقَابَ كُلَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِقَاذِفِ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِنَّ، إلَّا أَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْمُسْتَقِرَّةِ إذْ الذَّنْبُ كُفْرًا كَانَ أَوْ فِسْقًا يُغْفَرُ بِالتَّوْبَةِ.
وقَوْله تَعَالَى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور: 24] إلَخْ. هَذَا قَبْلَ أَنْ يُخْتَمَ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ الْمَذْكُورُ فِي يس فِي قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} [يس: 65]
يُرْوَى أَنَّهُ يُخْتَمُ عَلَى الْأَفْوَاهِ وَالْأَرْجُلِ فَتَتَكَلَّمُ الْأَيْدِي بِمَا عَمِلَتْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: تَشْهَدُ أَلْسِنَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَمَعْنَى دِينَهُمْ الْحَقَّ جَزَاؤُهُمْ الْوَاجِبُ، وَقِيلَ حِسَابُهُمْ الْعَدْلُ {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [النور: 25] أَيْ الْمَوْجُودُ وُجُودًا حَقِيقِيًّا لَا يَقْبَلُ زَوَالًا وَلَا انْتِقَالًا وَلَا ابْتِدَاءً وَلَا انْتِهَاءً، وَعِبَادَتُهُ هِيَ الْحَقُّ دُونَ عِبَادَةِ غَيْرِهِ {الْمُبِينُ} [النور: 25] أَيْ الْمُبِينُ وَالْمُظْهِرُ لَهُمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابًا وَعِقَابًا، وَسَيَأْتِي فِي الْكَبِيرَةِ الْآتِيَةِ الْأَحَادِيثُ الشَّامِلَةُ لِهَذِهِ الْكَبِيرَةِ أَيْضًا.
رَوَى الشَّيْخَانِ: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ» . وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ مَتْرُوكًا: «أَيُّمَا عَبْدٍ أَوْ امْرَأَةٍ قَالَ أَوْ قَالَتْ لِوَلِيدَتِهَا يَا زَانِيَةُ وَلَمْ تَطَّلِعْ مِنْهَا عَلَى زِنًا جَلَدَتْهَا وَلِيدَتُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .؛ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُنَّ فِي الدُّنْيَا. وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَاللَّفْظُ لَهُ: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ» . قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى قَوْلُ الْإِنْسَانِ لِقِنِّهِ يَا مُخَنَّثُ أَوْ يَا قَحْبَةُ، وَلِلصَّغِيرِ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ يَا وَلَدَ الزِّنَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَرَوَى ابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعِيفٌ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالدِّيَاتُ وَبَعَثَ بِهِ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَانَ فِي الْكِتَابِ: وَإِنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْفِرَارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَرَمْيُ الْمُحْصَنَةِ وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ» .
وَجَاءَ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ وَأَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ: «أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - عَدُّوا بِحَضْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم قَذْفَ الْمُحْصَنَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ» . وَرَوَى الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ فِيهِ مَنْ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، وَإِنْ ضَعَّفَهُ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْكَبَائِرُ أَوَّلُهُنَّ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ
الْيَتِيمِ، وَفِرَارُ يَوْمِ الزَّحْفِ، وَرَمْيُ الْمُحْصَنَاتِ، وَالِانْتِقَالُ إلَى الْأَعْرَابِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ» .
وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَكَمْ الْكَبَائِرُ؟ قَالَ تِسْعٌ أَعْظَمُهُنَّ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلُ الرِّبَا» الْحَدِيثَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ مِنْ صَحِيحِهِمَا، وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا إلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ» .
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: «إنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَالْفِرَارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَرَمْيُ الْمُحْصَنَةِ، وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ» الْحَدِيثَ.
تَنْبِيهٌ: عَدُّ الْقَذْفِ هُوَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لِمَا عَلِمْت مِنْ النَّصِّ فِي الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ عَلَى ذَلِكَ صَرِيحًا فِي الْأُولَى لِلنَّصِّ فِيهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِسْقٌ، وَضِمْنًا فِي الثَّانِيَةِ لِلنَّصِّ فِيهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَلْعَنُ اللَّهُ فَاعِلَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْوَعِيدِ وَأَشَدِّهِ، وَعَدُّ السُّكُوتِ عَلَيْهِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ قِيَاسُ مَا مَرَّ فِي السُّكُوتِ عَلَى الْغِيبَةِ بَلْ أَوْلَى وَتَقْيِيدِي فِي التَّرْجَمَةِ بِقَوْلِي بِزِنًا أَوْ لِوَاطٍ هُوَ وَإِنْ ذَكَرَهُ أَبُو زُرْعَةَ فِي شَرْحِهِ لِجَمْعِ الْجَوَامِعِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إنَّهُ قَيَّدَهُ بِذَلِكَ مَعَ ظُهُورِهِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا لِلْكَبِيرَةِ بَلْ لِمَزِيدِ قُبْحِهَا وَفُحْشِهَا، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا: وَالْقَذْفُ بِالْبَاطِلِ وَلَمْ يُخَصَّ بِزِنًا وَلَا بِلِوَاطٍ، وَقَالَ هُوَ وَغَيْرُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ، وَبَعْضُهُمَا يَقُولُ وَقَذْفُ الْمُحْصَنِ وَالْكُلُّ صَحِيحٌ لِمَا مَرَّ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.
وَفِي قَوَاعِدِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: الظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ قَذَفَ مُحْصَنًا فِي خَلَوْتِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ إلَّا اللَّهُ وَالْحَفَظَةُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ مُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ؛ لِانْتِفَاءِ الْمَفْسَدَةِ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ عِقَابَ الْمُجَاهِرِ بِذَلِكَ فِي وَجْهِ الْمَقْذُوفِ أَوْ فِي مَلَإٍ مِنْ النَّاسِ بَلْ
يُعَاقَبُ عِقَابَ الْكَاذِبِينَ غَيْرَ الْمُفْتَرِينَ.
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِي قُوَّتِهِ: وَمَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ إذَا كَانَ صَادِقًا، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَفِيهِ نَظَرٌ لِلْجُرْأَةِ عَلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى بِالْفُجُورِ. وَقَالَ فِي تَوَسُّطِهِ: وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ فِي الْخَلْوَةِ: إنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ لِصِدْقِهِ وَهُوَ بَعِيدٌ، ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْلُغْ الْمَقْذُوفُ الْقَذْفَ الَّذِي جَهَرَ بِهِ لَزِمَهُ الْحَدُّ مَعَ انْتِفَاءِ مَفْسَدَةِ التَّأَذِّي. وَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَوْ بَلَغَهُ لَكَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ الْقَذْفِ فِي الْخَلْوَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا قَذْفُهُ فِي الْخَلْوَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ إجْرَائِهِ عَلَى لِسَانِهِ وَبَيْنَ إجْرَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ. اهـ. وَالْمُتَجَاوَزُ عَنْهُ بِنَصِّ السُّنَّةِ حَدِيثُ النَّفْسِ دُونَ النُّطْقِ بِاللِّسَانِ، وَقَدَّمْت فِي الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ أَنَّ قَذْفَ نَحْوِ الصَّغِيرِ وَالرَّقِيقِ كَبِيرَةٌ فِيمَا يَظْهَرُ ثُمَّ رَأَيْت الْحَلِيمِيَّ قَالَ: قَذْفُ الْمُحْصَنَةِ كَبِيرَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ أُمًّا أَوْ بِنْتًا أَوْ امْرَأَةَ أَبِيهِ كَانَ فَاحِشَةً، وَقَذْفُ الصَّغِيرَةِ وَالْمَمْلُوكَةِ وَالْحُرَّةِ الْمُتَهَتِّكَةِ مِنْ الصَّغَائِرِ. اهـ.
قَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ: وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ قَذْفَ الصَّغِيرَةِ إنَّمَا يَكُونُ صَغِيرَةً إنْ لَمْ تَحْتَمِلْ الْجِمَاعَ بِحَيْثُ يُقْطَعُ بِكَذِبِ قَاذِفِهَا، وَأَمَّا الْمَمْلُوكَةُ فَفِي كَوْنِ قَذْفِهَا صَغِيرَةً مُطْلَقًا وَقْفَةٌ، وَلَا سِيَّمَا أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ لِمَا فِيهِ مِنْ إيذَاءِ الْأَمَةِ وَسَيِّدِهَا وَوَلَدِهَا وَأَهْلِهَا لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ سَيِّدُهَا أَحَدَ أُصُولِهِ. اهـ. وَالْمُعْتَرِضُ الَّذِي أَبْهَمَهُ الْجَلَالُ هُوَ الْأَذْرَعِيُّ قَالَ: وَتَخْصِيصُهُ الْقَذْفَ بِكَوْنِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ بِقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَقَذْفُ الرِّجَالِ الْمُحْصَنِينَ أَيْضًا كَبِيرَةٌ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى غَيْرِهِنَّ إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ فَهُوَ كَذِكْرِهِ الْعَبْدَ فِي السِّرَايَةِ. اهـ.
وَمَرَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ» ، وَكَثِيرُونَ مِنْ الْجُهَّالِ وَاقِعُونَ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْقَبِيحِ الْمُوجِبِ لِلْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمِنْ ثَمَّ جَاءَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ:«إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ، قَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّك وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» .
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَيْسَرِ الْعِبَادَةِ وَأَهْوَنِهَا عَلَى الْبَدَنِ الصَّمْتُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ» ، قَالَ - تَعَالَى -:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] «وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ