الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ الْغِيبَةُ وَالسُّكُوتُ عَلَيْهَا]
(الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ: الْغِيبَةُ وَالسُّكُوتُ عَلَيْهَا رِضًا وَتَقْرِيرًا) قَالَ - تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12] وَالسُّخْرِيَةُ: النَّظَرُ إلَى الْمَسْخُورِ مِنْهُ بِعَيْنِ النَّقْصِ: أَيْ لَا تَحْتَقِرْ غَيْرَك عَسَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا مِنْك وَأَفْضَلَ وَأَقْرَبَ. «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ وَلَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» . وَقَدْ احْتَقَرَ إبْلِيسُ اللَّعِينُ آدَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ - فَبَاءَ بِالْخَسَارِ الْأَبَدِيِّ وَفَازَ آدَم بِالْعِزِّ الْأَبَدِيِّ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِعَسَى يَصِيرُ: أَيْ لَا تَحْتَقِرْ غَيْرَك فَإِنَّهُ رُبَّمَا صَارَ عَزِيزًا وَصِرْت ذَلِيلًا فَيَنْتَقِمُ مِنْك:
لَا تُهِينُ الْفَقِيرَ عَلَّك أَنْ
…
تَرْكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهُ
{وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] : أَيْ لَا يَعِبْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَاللَّمْزُ بِالْقَوْلِ وَغَيْرِهِ، وَالْهَمْزُ بِالْقَوْلِ فَقَطْ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ الْهَمْزَ بِالْعَيْنِ وَالشَّدْقِ وَالْيَدِ، وَاللَّمْزُ بِاللِّسَانِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَبَلَغَنِي عَنْ اللَّيْثِ أَنَّهُ قَالَ: اللُّمَزَةُ الَّذِي يَعِيبُك فِي وَجْهِك، وَالْهُمَزَةُ الَّذِي يَعِيبُك بِالْغَيْبِ.
وَفِي الْإِحْيَاءِ قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] الْهُمَزَةُ: الطَّعَّانُ فِي النَّاسِ، وَاللُّمَزَةُ: الَّذِي يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاس وَالنَّبْزُ: الطَّرْحُ. وَاللَّقَبُ: مَا أَشَعَرَ بِرِفْعَةِ الْمُسَمَّى أَوْ ضِعَتِهِ: أَيْ لَا تَتَرَامَوْا بِهَا وَهُوَ هُنَا أَنْ يُدْعَى الْإِنْسَانُ بِغَيْرِ مَا سُمِّيَ بِهِ أَوْ بِنَحْوِ يَا مُنَافِقُ أَوْ يَا فَاسِقُ وَقَدْ تَابَ مِنْ فِسْقِهِ أَقْوَالٌ أَوَّلَهَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ.
وَقُدِّمَتْ السُّخْرِيَةُ؛ لِأَنَّهَا أَبْلُغُ الثَّلَاثَةِ فِي الْأَذِيَّةِ لِاسْتِدْعَائِهَا تَنْقِيصَ، الْمَرْءِ فِي حَضْرَتِهِ. ثُمَّ اللَّمْزُ؛ لِأَنَّهُ الْعَيْبُ بِمَا فِي الْإِنْسَانِ، وَهَذَا دُونَ الْأَوَّلِ ثُمَّ النَّبْزُ وَهَذَا نِدَاؤُهُ بِلَقَبِهِ وَهُوَ دُونَ الثَّانِي إذْ لَا يَلْزَمُ مُطَابَقَةُ مَعْنَاهُ لِلَقَبِهِ فَقَدْ يُلَقَّبُ الْحَسَنُ بِالْقَبِيحِ وَعَكْسِهِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَا تَتَكَبَّرُوا فَتَسْتَحْقِرُوا إخْوَانَكُمْ بِحَيْثُ لَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهِمْ أَصْلًا، وَأَيْضًا فَلَا تَعِيبُوهُمْ طَلَبًا لِحَطِّ دَرَجَتِهِمْ، وَأَيْضًا فَلَا تُسَمُّوهُمْ
بِمَا يَكْرَهُونَهُ؛ وَنَبَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] عَلَى دَقِيقَةٍ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا، وَهِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْبَدَنِ الْوَاحِدِ إذْ اشْتَكَى بَعْضُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ. فَمَنْ عَابَ غَيْرَهُ فَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا عَابَ نَفْسَهُ نَظَرًا لِذَلِكَ، وَأَيْضًا فَتَعْيِيبُهُ لِلْغَيْرِ تَسَبُّبٌ إلَى تَعْيِيبِ الْغَيْرِ لَهُ فَكَأَنَّهُ الَّذِي عَابَ نَفْسَهُ فَهُوَ عَلَى حَدِّ الْخَبَرِ الْآتِي:«لَا يَسُبَّنَّ أَحَدُكُمْ أَبَاهُ، قَالُوا: وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَاهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ» وَعَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وَغَايَرَ بَيْنَ صِيغَتَيْ تَلْمِزُوا وَتَنَابَزُوا؛ لِأَنَّ الْمَلْمُوزَ قَدْ لَا يَقْدِرُ فِي الْحَالِ عَلَى عَيْبٍ يَلْمِزُ بِهِ لَامِزَهُ فَيَحْتَاجُ إلَى تَتَبُّعِ أَحْوَالِهِ حَتَّى يَظْفَرَ بِبَعْضِ عُيُوبِهِ بِخِلَافِ النَّبْزِ، فَإِنَّ مَنْ لُقِّبَ بِمَا يَكْرَهُ قَادِرٌ عَلَى تَلْقِيبِ الْآخَرِ بِنَظِيرِ ذَلِكَ حَالًا فَوَقَعَ التَّفَاعُلُ، وَمَعْنَى {بِئْسَ الاسْمُ} [الحجرات: 11] إلَخْ: أَنَّ مَنْ فَعَلَ إحْدَى الثَّلَاثَةِ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْفِسْقِ وَهُوَ غَايَةُ النَّقْصِ بَعْدَ أَنْ كَانَ كَامِلًا بِالْإِيمَانِ.
وَضَمَّ تَعَالَى إلَى هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ قَوْلَهُ: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] لِلْإِشَارَةِ إلَى عَظَمَةِ إثْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ عَقَّبَ تَعَالَى بِأَمْرِهِ بِاجْتِنَابِ الظَّنِّ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَهُوَ مَا تَخَيَّلْت وُقُوعَهُ مِنْ غَيْرِك مِنْ غَيْرِ مُسْتَنِدٍ يَقِينِيٍّ لَك عَلَيْهِ وَقَدْ صَمَّمَ عَلَيْهِ قَلْبُك أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ لِسَانُك مِنْ غَيْرِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم:«إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» .
فَالْعَاقِلُ إذَا وَقَفَ أَمْرُهُ عَلَى الْيَقِينِ قَلَّمَا يَتَيَقَّنُ فِي أَحَدٍ عَيْبًا يَلْمِزُهُ بِهِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَصِحُّ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا وَعَكْسُهُ فَلَا يَنْبَغِي حِينَئِذٍ التَّعْوِيلُ عَلَى الظَّنِّ، وَبَعْضُ الظَّنِّ لَيْسَ بِإِثْمٍ بَلْ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ كَظُنُونِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَلْزَمُهُمْ الْأَخْذُ بِهَا.
وَمِنْهُ مَا هُوَ مَنْدُوبٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «ظُنُّوا بِالْمُؤْمِنِ خَيْرًا» ، وَمَا هُوَ مُبَاحٌ، وَقَدْ يَكُونُ هُوَ الْحَزْمَ وَالرَّأْيَ، وَهُوَ مَحْمَلُ خَبَرِ:«إنَّ مِنْ الْحَزْمِ سُوءَ الظَّنِّ» أَيْ بِأَنْ يُقَدَّرَ الْمُتَوَهَّمُ وَاقِعًا كَمَطْلِ مُعَامِلِهِ الَّذِي يَجْهَلُ حَتَّى يُسْلِمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَلْحَقَهُ أَذًى مِنْ غَيْرِهِ أَوْ خَدِيعَةٌ، فَنَتِيجَةُ هَذَا الظَّنِّ لَيْسَ إلْحَاقُ النَّقْصِ بِالْغَيْرِ بَلْ الْمُبَالَغَةُ فِي حِفْظِ النَّفْسِ وَآثَارِهَا عَلَى أَنْ يَلْحَقَهَا سُوءٌ. وَالتَّجَسُّسُ: التَّتَبُّعُ، وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ وَالْمُرَادُ تَتَبُّعُ عُيُوبِ النَّاسِ، وَالتَّحَسُّسُ بِالْمُهْمَلَةِ الْإِحْسَاسُ وَالْإِدْرَاكُ، وَمِنْهُ الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ، وَقُرِئَ شَاذًّا بِالْمُهْمَلَةِ فَقِيلَ مُتَّحِدَانِ وَمَعْنَاهُمَا طَلَبُ مَعْرِفَةِ الْأَخْبَارِ. وَقِيلَ مُخْتَلِفَانِ فَالْأَوَّلُ تَتَبُّعُ الظَّوَاهِرِ، وَالثَّانِي تَتَبُّعُ الْبَوَاطِنِ.
وَقِيلَ: الْأَوَّلُ الشَّرُّ وَالثَّانِي الْخَيْرُ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَبِفَرْضِ صِحَّتِهِ هُوَ غَيْرُ مُرَادٍ
هُنَا، وَقِيلَ الْأَوَّلُ أَنْ تَفْحَصَ عَنْ الْغَيْرِ بِغَيْرِك. وَالثَّانِي أَنْ تَفْحَصَ عَنْهُ بِنَفْسِك؛ وَعَلَى كُلٍّ فَفِي الْآيَةِ النَّهْيُ الْأَكِيدُ عَنْ الْبَحْثِ عَنْ أُمُورِ النَّاسِ الْمَسْتُورَةِ وَتَتَبُّعِ عَوْرَاتِهِمْ. قَالَ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمْ» . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَفِضْ الْإِيمَانُ إلَى قَلْبِهِ: لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ» . وَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: هَلْ لَك فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَلِحْيَتُهُ تَقْطُرُ خَمْرًا؟ فَقَالَ: إنَّمَا نُهِينَا عَنْ التَّجَسُّسِ فَإِنْ يُظْهِرْ لَنَا شَيْئًا أَخَذْنَاهُ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] أَيْ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِي حَقِّ أَحَدٍ فِي غَيْبَتِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ، وَأَلْحَقَ بِهِ مَا عَلِمَ مِمَّا مَرَّ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فِي التَّكَلُّمِ فِي حَضْرَتِهِ بِذَلِكَ بَلْ هُوَ أَبْلَغُ فِي الْأَذِيَّةِ. قَالَ صلى الله عليه وسلم:«أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ أَفَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَطُرُقُهُ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -
وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِهَا مَعَ أَنَّهَا صِدْقٌ الْمُبَالَغَةُ فِي حِفْظِ عِرْضِ الْمُؤْمِنِ، وَالْإِشَارَةُ إلَى عَظِيمِ تَأَكُّدِ حُرْمَتِهِ وَحُقُوقِهِ، وَزَادَ تَعَالَى ذَلِكَ تَأْكِيدًا وَتَحْقِيقًا بِتَشْبِيهِ عِرْضِهِ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا بِالتَّعْبِيرِ فِيهِ بِالْأَخِ، فَقَالَ - عَزَّ قَائِلًا -:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12] وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ مِنْ قَرْضِ عِرْضِهِ، كَمَا يَتَأَلَّمُ بَدَنُهُ مِنْ قَطْعِ لَحْمِهِ لِأَكْلِهِ بَلْ أَبْلُغُ؛ لِأَنَّ عِرْضَ الْعَاقِلِ عِنْدَهُ أَشْرَفُ مِنْ لَحْمِهِ وَدَمِهِ.
وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ مِنْ الْعَاقِلِ أَكْلُ لُحُومِ النَّاسِ لَا يَحْسُنُ مِنْهُ قَرْضُ عِرْضِهِمْ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ آلَمْ، وَوَجْهُ الْآكَدِيَّةِ فِي لَحْمِ أَخِيهِ أَنَّ الْأَخَ لَا يُمْكِنُهُ مَضْغُ لَحْمِ أَخِيهِ فَضْلًا عَنْ أَكْلِهِ بِخِلَافِ الْعَدُوِّ فَإِنَّهُ يَأْكُلُ لَحْمَ عَدُوِّهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ، وَانْدَفَعَ بِمَيِّتًا الْحَالُ مِنْ لَحْمٍ أَوْ أَخِيهِ مَا قَدْ يُقَالُ إنَّمَا تَحْرُمُ الْغِيبَةُ فِي الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تُؤْلِمُ حِينَئِذٍ بِخِلَافِهَا فِي الْغِيبَةِ فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لِلْمُغْتَابِ عَلَيْهَا، وَوَجْهُ انْدِفَاعِ هَذَا أَنَّ أَكْلَ
لَحْمِ الْأَخِ، وَهُوَ مَيِّتٌ لَا يُؤْلِمُ أَيْضًا، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ كَمَا أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ الِاطِّلَاعُ لَتَأَلَّمَ بِهِ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ لَوْ أَحَسَّ بِأَكْلِ لَحْمِهِ لَآلَمَهُ فَكَذَا الْغِيبَةُ تَحْرُمُ فِي الْغَيْبَةِ؛ لِأَنَّ الْمُغْتَابَ لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهَا لَتَأَلَّمَ وَأَيْضًا فَفِي الْعِرْضِ حَقٌّ مُؤَكَّدٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْغِيبَةَ وَقَعَتْ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْمُغْتَابُ الْعِلْمَ بِهَا حَرُمَتْ أَيْضًا رِعَايَةً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَفَطْمًا لِلنَّاسِ عَنْ الْأَعْرَاضِ وَالْخَوْضِ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ اللَّهُمَّ إلَّا لِلْأَسْبَابِ الْآتِيَةِ؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ ضَرُورَةٍ فَتُبَاحُ حِينَئِذٍ؛ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ كَمَا أَشَارَتْ الْآيَةُ إلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِذِكْرِ " مَيْتًا "، إذْ لَحْمُ الْمَيِّتِ إنَّمَا يَحِلُّ لِلضَّرُورَةِ إلْحَاقُهُ حَتَّى لَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً أُخْرَى مَعَ مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ لَمْ تَحِلَّ لَهُ مَيْتَةُ الْآدَمِيِّ بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَيْتَةَ الْآدَمِيِّ.
وقَوْله تَعَالَى: {فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] تَقْدِيرُهُ فَقَدْ كَرِهْتُمْ ذَلِكَ الْأَكْلَ أَوْ اللَّحْمَ فَلَا تَفْعَلُوا مَا هُوَ شَبِيهٌ بِهِ، وَإِلَى هَذَا يُؤَوَّلُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12] قَالُوا لَا، قِيلَ:{فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] أَيْ فَكَمَا كَرِهْتُمْ هَذَا فَاجْتَنِبُوا ذِكْرَهُ بِالسُّوءِ.
لَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَكْلَ ذَلِكَ إذَا هَمَزَهُ أَيُحِبُّ لِلْإِنْكَارِ فَكَرِهْتُمُوهُ إذًا فَاكْرَهُوا هَذَا كَذَلِكَ، وَقِيلَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ فَكَرِهْتُمُوهُ مَحْذُوفٌ أَيْ عُرِضَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ فَكَرِهْتُمُوهُ أَيْ يُعْرَضُ عَلَيْكُمْ فَتَكْرَهُونَهُ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ فَكَرِهْتُمُوهُ لِلْمَيِّتِ وَكَأَنَّهُ صِفَةٌ لَهُ، فَحِينَئِذٍ يُفِيدُ زِيَادَةَ مُبَالَغَةٍ فِي التَّحْذِيرِ أَيْ: أَنَّ الْمَيْتَةَ، وَإِنْ أُكِلَتْ فِي النُّدْرَةِ لَكِنَّهَا إذَا أَنْتَنَتْ كَرِهَهَا كُلُّ أَحَدٍ وَيَفِرُّ مِنْهَا بِحَيْثُ يَبْعُدُ عَنْ مَحَلِّهَا، وَلَا يَسْتَطِيعُ دُخُولُهُ فَكَيْفَ يَقْرَبُهُ بِحَيْثُ يَأْكُلُهُ. فَكَذَا حَالُ الْغِيبَةِ يَنْبَغِي الْمُبَاعَدَةُ عَنْهَا كَنَهْيٍ عَنْ الْمَيْتَةِ الْمُتَغَيِّرَةِ؛ فَتَأَمَّلْ مَا أَفَادَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، وَاَلَّتِي قَبْلَهَا وَأَمْعِنْ فِكْرَك فِيهِ تَغْنَمْ وَتَسْلَمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى بِحَقَائِقِ تَنْزِيلِهِ أَعْلَمُ؛ وَتَأَمَّلْ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ كُلًّا مِنْ الْآيَتَيْنِ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ رَحْمَةً بِعِبَادِهِ وَتَعَطُّفًا عَلَيْهِمْ، لَكِنْ لَمَّا بُدِئَتْ الْأُولَى بِالنَّهْيِ خُتِمَتْ بِالنَّفْيِ {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} [الحجرات: 11] لِتَقَارُبِهِمَا، وَلَمَّا بُدِئَتْ الثَّانِيَةُ بِالْإِثْبَاتِ بِالْأَمْرِ فِي اجْتَنِبُوا خُتِمَتْ بِهِ فِي إنَّ اللَّهَ إلَخْ وَكَأَنَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ التَّهْدِيدُ الشَّدِيدُ فِي الْأُولَى فَقَطْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] أَنَّ مَا فِيهَا أَفْحَشُ؛ لِأَنَّهُ إيذَاءٌ فِي الْحَضْرَةِ بِالسُّخْرِيَةِ أَوْ اللَّمْزِ أَوْ النَّبْزِ بِخِلَافِهِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ إذْ كُلٌّ مِنْ الظَّنِّ وَالتَّجَسُّسِ وَالْغِيبَةِ يَقْتَضِي الْإِخْفَاءَ وَعَدَمَ الْعِلْمِ بِهِ غَالِبًا.
وَإِذَا انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُشْتَمِلَتَيْنِ عَلَى آدَابٍ وَأَحْكَامٍ وَحِكَمٍ وَتَشْدِيدَاتٍ وَتَهْدِيدَاتٍ لَا يُحْصِيهَا إلَّا مُنْزِلُهَا، فَلْنَذْكُرْ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْغِيبَةِ وَمُتَعَلِّقَاتهَا. أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ:«إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا هَلْ بَلَّغْت» . وَمُسْلِمٌ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ» . وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ: «مِنْ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ» . وَهُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي دَاوُد إلَّا أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» الْحَدِيثَ. وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: «الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا - أَيْ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ إثْمًا - وَأَيْسَرُهَا كَنِكَاحِ الرَّجُلِ أُمَّهُ وَأَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ» . وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: «أَتَدْرُونَ أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللَّهِ اسْتِحْلَالُ عِرْضِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] » . وَأَبُو دَاوُد: «إنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ» . وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَمْرَ الرِّبَا وَعَظَّمَ شَأْنَهُ وَقَالَ: إنَّ الدِّرْهَمَ يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنْ الرِّبَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْخَطِيئَةِ مِنْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً يَزْنِيهَا الرَّجُلُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ» . وَالطَّبَرَانِيُّ: «الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بَابًا أَدْنَاهَا مِثْلُ إتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ» . وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ: «إنَّ الرِّبَا نَيِّفٌ وَسَبْعُونَ بَابًا أَهْوَنُهُنَّ بَابًا مِنْ الرِّبَا مِثْلُ مَنْ أَتَى أُمَّهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَدِرْهَمُ رِبًا أَشَدُّ مِنْ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً، وَأَشَدُّ الرِّبَا وَأَرْبَى الرِّبَا وَأَخْبَثُ الرِّبَا انْتِهَاكُ عِرْضِ الْمُسْلِمِ وَانْتِهَاكُ حُرْمَتِهِ» .
وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «قُلْت لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَسْبُك مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا - قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ تَعْنِي قَصِيرَةً فَقَالَ: لَقَدْ قُلْت كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ أَيْ لَأَنْتَنَتْهُ وَغَيَّرَتْ رِيحَهُ قَالَتْ: وَحَكَيْت لَهُ إنْسَانًا فَقَالَ: مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْت إنْسَانًا وَإِنَّ لِي كَذَا وَكَذَا» . وَأَبُو دَاوُد عَنْ سُمَيَّةَ عَنْهَا وَسُمَيَّةُ لَمْ تُنْسَبْ أَنَّهُ اعْتَلَّ بَعِيرٌ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ وَعِنْدَ زَيْنَبَ فَضْلُ ظَهْرٍ «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِزَيْنَبِ: أَعْطِيهَا بَعِيرًا. فَقَالَتْ: أَنَا أُعْطِي تِلْكَ الْيَهُودِيَّةَ؟ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَجَرَهَا ذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَبَعْضَ صَفَرٍ» . وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْهَا قَالَتْ: «قُلْت لِامْرَأَةٍ مَرَّةً وَأَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ هَذِهِ لَطَوِيلَةُ الذَّيْلِ، فَقَالَ: الْفِظِي الْفِظِي أَيْ ارْمِي مَا فِي فِيكِ - فَلَفَظَتْ بُضْعَةً - أَيْ قِطْعَةً مِنْ لَحْمٍ» .
وَأَبُو دَاوُد وَالطَّيَالِسِيُّ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَقَالَ: لَا يُفْطِرَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ حَتَّى آذَنَ لَهُ، فَصَامَ النَّاسُ حَتَّى إذَا أَمْسَوْا فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي ظَلَلْت صَائِمًا فَأْذَنْ لِي فَأُفْطِرُ فَيَأْذَنُ لَهُ وَالرَّجُلُ حَتَّى جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتَاتَانِ مِنْ أَهْلِك ظَلَّتَا صَائِمَتَيْنِ وَإِنَّهُمَا يَسْتَحْيِيَانِ أَنْ يَأْتِيَاك فَأْذَنْ لَهُمَا فَلْيُفْطِرَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ عَاوَدَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ عَاوَدَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَقَالَ: إنَّهُمَا لَمْ يَصُومَا، وَكَيْفَ صَامَ مَنْ ظَلَّ هَذَا الْيَوْمَ يَأْكُلُ لَحْمَ النَّاسِ اذْهَبْ فَمُرْهُمَا إنْ كَانَتَا صَائِمَتَيْنِ فَلْتَتَقَيَّآ فَرَجَعَ إلَيْهِمَا فَأَخْبَرَهُمَا فَاسْتِقَاءَتَا فَقَاءَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَلَقَةً مِنْ دَمٍ، فَرَجَعَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ بَقِيَتَا فِي بُطُونِهِمَا لَأَكَلَتْهُمَا النَّارُ» . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ عَنْ عُبَيْدٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا «قِيئِي فَقَاءَتْ قَيْحًا وَدَمًا وَصَدِيدًا وَلَحْمًا حَتَّى مَلَأَتْ نِصْفَ الْقَدَحِ. ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى قِيئِي فَقَاءَتْ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ وَصَدِيدٍ وَلَحْمٍ عَبِيطٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى مَلَأَتْ الْقَدَحَ. ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَاتَيْنِ صَامَتَا عَمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمَا وَأَفْطَرَتَا عَلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا، جَلَسَتْ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى فَجَعَلَتَا تَأْكُلَانِ مِنْ لُحُومِ النَّاسِ» .
وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْجَزَ أَوْ قَالُوا مَا أَضْعَفَ فُلَانًا. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: اغْتَبْتُمْ صَاحِبَكُمْ وَأَكَلْتُمْ لَحْمَهُ» . وَالطَّبَرَانِيُّ: «أَنَّ رَجُلًا قَامَ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَرَأَوْا فِي قِيَامِهِ عَجْزًا، فَقَالُوا مَا أَعْجَزَ فُلَانًا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَكَلْتُمْ أَخَاكُمْ وَاغْتَبْتُمُوهُ» . وَالْأَصْبَهَانِيّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: «ذَكَرُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا فَقَالُوا لَا يَأْكُلُ حَتَّى يُطْعَمَ وَلَا يَرْحَلُ حَتَّى يُرَحَّلَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اغْتَبْتُمُوهُ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا حَدَّثَنَا بِمَا فِيهِ» . وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَرُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ رَجُلٌ، فَوَقَعَ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَخَلَّلْ. فَقَالَ: وَمِمَّ أَتَخَلَّلُ؟ مَا أَكَلْت لَحْمًا. قَالَ: إنَّك أَكَلْت لَحْمَ أَخِيك» .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادَيْنِ وَأَبُو نُعَيْمٍ: «أَرْبَعَةٌ يُؤْذُونَ أَهْلَ النَّارِ عَلَى مَا بِهِمْ مِنْ الْأَذَى يَسْعَوْنَ مَا بَيْنَ الْحَمِيمِ وَالْجَحِيمِ يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ يَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ النَّارِ لِبَعْضٍ مَا بَالُ هَؤُلَاءِ قَدْ آذَوْنَا عَلَى مَا بِنَا مِنْ الْأَذَى. قَالَ: فَرَجُلٌ مُغْلَقٌ عَلَيْهِ تَابُوتٌ مِنْ جَمْرٍ، وَرَجُلٌ يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ، وَرَجُلٌ يَسِيلُ فُوهُ قَيْحًا وَدَمًا، وَرَجُلٌ يَأْكُلُ لَحْمَهُ. فَيُقَالُ لِصَاحِبِ التَّابُوتِ: مَا بَالُ الْأَبْعَدِ قَدْ آذَانَا عَلَى مَا بِنَا مِنْ الْأَذَى، فَيَقُولُ: إنَّ الْأَبْعَدَ قَدْ مَاتَ وَفِي عُنُقِهِ أَمْوَالُ النَّاسِ. ثُمَّ يُقَالُ لِلَّذِي يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ: مَا بَالُ الْأَبْعَدِ قَدْ آذَانَا عَلَى مَا بِنَا مِنْ الْأَذَى. فَيَقُولُ: إنَّ الْأَبْعَدَ كَانَ لَا يُبَالِي أَيْنَ أَصَابَ الْبَوْلَ مِنْهُ. ثُمَّ يُقَالُ لِلَّذِي يَسِيلُ فُوهُ قَيْحًا وَدَمًا: مَا بَالُ الْأَبْعَدِ قَدْ آذَانَا عَلَى مَا بِنَا مِنْ الْأَذَى؟ فَيَقُولُ: إنَّ الْأَبْعَدَ كَانَ يَنْظُرُ إلَى كَلِمَةٍ فَيَسْتَلِذُّهَا كَمَا يَسْتَلِذُّ الرَّفَثَ. ثُمَّ يُقَالُ لِلَّذِي يَأْكُلُ لَحْمَهُ: مَا بَالُ الْأَبْعَدِ قَدْ آذَانَا عَلَى مَا بِنَا مِنْ الْأَذَى. فَيَقُولُ: إنَّ الْأَبْعَدَ كَانَ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ بِالْغِيبَةِ وَيَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» . وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ: «مَنْ أَكَلَ لَحْمَ أَخِيهِ فِي الدُّنْيَا قُرِّبَ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَيُقَالُ لَهُ: كُلْهُ مَيِّتًا كَمَا أَكَلْته حَيًّا» . فَيَأْكُلُهُ وَيَكْلَحُ أَيْ يَعْبَسُ وَيَقْبِضُ وَجْهَهُ
مِنْ الْكَرَاهَةِ وَيَضِجُّ أَيْ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْجِيمِ، وَفِي رِوَايَةٍ:" وَيَصِيحُ " وَهُمَا مُتَقَارِبَتَانِ وَالْأُولَى أَبْلُغُ لِإِشْعَارِهَا بِزِيَادَةِ الْفَزَعِ وَالْقَلِقِ. وَأَبُو الشَّيْخِ وَغَيْرُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه مَوْقُوفًا عَلَيْهِ " أَنَّهُ مَرَّ عَلَى بَغْلٍ مَيِّتٍ فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: لَأَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ مِنْ هَذَا حَتَّى يَمْلَأَ بَطْنَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ".
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَ الْأَسْلَمِيُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ يَقُولُ: أَتَيْت امْرَأَةً حَرَامًا، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: «فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟ قَالَ أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرْجَمَ فَرُجِمَ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ. اُنْظُرْ إلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَدَعْ نَفْسَهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ، قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ سَارَ سَاعَةً فَمَرَّ بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلَيْهِ فَقَالَ أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ؟ فَقَالَا نَحْنُ بِالنُّقَارِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ لَهُمَا كُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ، فَقَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ هَذَا الرَّجُلِ آنِفًا أَشَدُّ مِنْ أَكْلِ هَذِهِ الْجِيفَةِ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ الْآنَ فِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ فِيهَا» . وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إلَّا مُخْتَلَفًا فِيهِ وَثَّقَهُ كَثِيرُونَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِنَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَظَرَ فِي النَّارِ فَإِذَا قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجِيَفَ قَالَ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَرَأَى رَجُلًا أَحْمَرَ أَزْرَقَ جِدًّا قَالَ مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ هَذَا عَاقِرُ النَّاقَةِ» . وَأَبُو دَاوُد: «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْت بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ» . وَالْبَيْهَقِيُّ مَوْصُولًا وَمُرْسَلًا: «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْت بِرِجَالٍ تُقْرَضُ جُلُودُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ الَّذِينَ يَتَزَيَّنُونَ لِلزِّينَةِ، قَالَ ثُمَّ مَرَرْت بِجُبٍّ مُنْتِنِ الرِّيحِ فَسَمِعْت فِيهِ أَصْوَاتًا شَدِيدَةً فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ نِسَاءٌ كُنَّ يَتَزَيَّنَّ لِلزِّينَةِ وَيَفْعَلْنَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُنَّ. ثُمَّ مَرَرْت عَلَى نِسَاءٍ وَرِجَالٍ مُعَلَّقِينَ بِثَدْيِهِنَّ
فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ هَؤُلَاءِ الْهَمَّازُونَ وَاللَّمَّازُونَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] »
وَمَرَّ آنِفًا مَعْنَاهُمَا. وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَارْتَفَعَتْ رِيحٌ مُنْتِنَةٌ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَ» . وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ: «الْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنْ الزِّنَا، قِيلَ وَكَيْفَ؟ قَالَ الرَّجُلُ يَزْنِي ثُمَّ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَإِنَّ صَاحِبَ الْغِيبَةِ لَا يُغْفَرُ لَهُ حَتَّى يَغْفِرَ لَهُ صَاحِبُهُ» . وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ غَيْرَ مَرْفُوعٍ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَهُوَ الْأَشْبَهُ. وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا أُمَاشِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي وَرَجُلٌ عَلَى يَسَارِهِ فَإِذَا نَحْنُ بِقَبْرَيْنِ أَمَامَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ وَبَكَى فَأَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِجَرِيدَةٍ فَاسْتَبَقْنَا فَسَبَقْته فَأَتَيْته بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا نِصْفَيْنِ فَأَلْقَى عَلَى ذَا الْقَبْرِ قِطْعَةً وَعَلَى ذَا الْقَبْرِ قِطْعَةً، قَالَ إنَّهُ يُهَوَّنُ عَلَيْهِمَا مَا كَانَتَا رَطْبَتَيْنِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ إلَّا فِي الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ» . وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إلَّا عَاصِمًا أَحَدَ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ قَبِلَهُ جَمَاعَةٌ وَرَدَّهُ آخَرُونَ وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ: «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى قَبْرٍ يُعَذَّبُ صَاحِبُهُ فَقَالَ: إنَّ هَذَا كَانَ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ رَطْبَةٍ فَوَضَعَهَا عَلَى الْقَبْرِ وَقَالَ لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ مَا دَامَتْ هَذِهِ رَطْبَةً» . وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: «أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَقِيعَ الْغَرْقَدِ فَوَقَفَ عَلَى قَبْرَيْنِ ثَرَيَيْنِ فَقَالَ أَدَفَنْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانَةَ أَوْ قَالَ فُلَانًا وَفُلَانًا قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ لَقَدْ أُقْعِدَ فُلَانٌ الْآنَ فَضُرِبَ، ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ ضُرِبَ ضَرْبَةً مَا بَقِيَ مِنْهُ عُضْوٌ إلَّا انْقَطَعَ وَلَقَدْ تَطَايَرَ قَبْرُهُ نَارًا وَلَقَدْ صَرَخَ صَرْخَةً سَمِعَهَا الْخَلَائِقُ إلَّا الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، وَلَوْلَا تَمْرِيجٌ فِي قُلُوبِكُمْ وَتَزَيُّدُكُمْ فِي الْحَدِيثِ لَسَمِعْتُمْ مَا أَسْمَعُ، ثُمَّ قَالَ الْآنَ يُضْرَبُ هَذَا، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا ذَنْبُهُمَا؟ قَالَ أَمَّا فُلَانٌ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ الْبَوْلِ، وَأَمَّا فُلَانٌ أَوْ قَالَ
فُلَانَةُ فَإِنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ» . وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جَرِيرٍ أَحْمَدُ لَكِنْ بِلَفْظٍ آخَرَ يَأْتِي فِي النَّمِيمَةِ وَزَادَ فِيهِ: «قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ حَتَّى مَتَى هُمَا يُعَذَّبَانِ؟ قَالَ غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى» . وَطُرُقُ هَذَا الْحَدِيثِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا. وَقَدَّمْت مِنْهَا طَرَفًا أَوَائِلَ كِتَابِ الطَّهَارَةِ، وَبِتَأَمُّلِهَا يُعْلَمُ أَنَّ الْقِصَّةَ مُتَعَدِّدَةٌ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا يُوهِمُهُ ظَوَاهِرُهَا مِنْ التَّعَارُضِ. ثُمَّ رَأَيْت الْحَافِظَ الْمُنْذَرِيَّ أَشَارَ لِبَعْضِ ذَلِكَ فَقَالَ أَكْثَرُ الطُّرُقِ أَنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ فِي النَّمِيمَةِ وَالْبَوْلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اتَّفَقَ مُرُورُهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبُ أَحَدُهُمَا بِالنَّمِيمَةِ وَالْآخَرُ فِي الْبَوْلِ، وَمَرَّةً أُخْرَى بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبُ أَحَدُهُمَا فِي الْغِيبَةِ وَالْآخَرُ فِي الْبَوْلِ.
وَالْأَصْبَهَانِيّ: «الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ يَحُتَّانِ الْإِيمَانَ كَمَا يَعْضِدُ الرَّاعِي الشَّجَرَةَ» . وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ: «أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ: قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: إنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» .
وَالْأَصْبَهَانِيّ: «إنَّ الرَّجُلَ لَيُؤْتَى كِتَابُهُ مَنْشُورًا فَيَقُولُ يَا رَبِّ فَأَيْنَ حَسَنَاتُ كَذَا وَكَذَا عَمِلْتهَا لَيْسَتْ فِي صَحِيفَتِي، فَيَقُولُ لَهُ: مُحِيَتْ بِاغْتِيَابِك النَّاسَ» . وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ: «مَنْ ذَكَرَ امْرَأً بِشَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ لِيَعِيبَهُ بِهِ حَبَسَهُ اللَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَأْتِيَ بِنَفَادِ مَا قَالَ فِيهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِكَلِمَةٍ وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ يَشِينُهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُذِيبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ حَتَّى يَأْتِيَ بِنَفَادِ مَا قَالَ فِيهِ» . وَأَبُو دَاوُد: «وَمَنْ قَالَ فِي مُسْلِمٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» زَادَ الطَّبَرَانِيُّ. " وَلَيْسَ بِخَارِجٍ " وَرَدْغَةُ الْخَبَالِ بِرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ فَمُعْجَمَتَيْنِ سَاكِنَةٍ فَمَفْتُوحَةٍ: عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ، كَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا مَرْفُوعًا. وَأَحْمَدُ:«خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَبَهْتُ مُؤْمِنٍ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ» .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَجَمَاعَةٌ: «مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ» . وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَأَبُو الشَّيْخِ: «مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] » . وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَمَى عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ فِي الدُّنْيَا بَعَثَ اللَّهُ عز وجل مَلَكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِيهِ مِنْ النَّارِ» . وَالْأَصْبَهَانِيّ: «مَنْ اُغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ فَاسْتَطَاعَ نُصْرَتَهُ فَنَصَرَهُ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْصُرْهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» . وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُمَا: «مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ» .
قَالَ قَتَادَةُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ ثَلَاثَةُ أَثْلَاثٍ: ثُلُثٌ مِنْ الْغِيبَةِ، وَثُلُثٌ مِنْ الْبَوْلِ، وَثُلُثٌ مِنْ النَّمِيمَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَاَللَّهِ لَلْغِيبَةُ أَسْرَعُ فَسَادًا فِي دِينِ الْمَرْءِ مِنْ الْأَكَلَةِ فِي الْجَسَدِ، وَكَانَ يَقُولُ: ابْنُ آدَمَ إنَّك لَنْ تَبْلُغَ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى لَا تَعِيبَ النَّاسَ بِعَيْبٍ هُوَ فِيك، وَحَتَّى تَبْدَأَ بِصَلَاحِ ذَلِكَ الْعَيْبِ فَتُصْلِحَهُ مِنْ نَفْسِك، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ كَانَ شَغْلُك فِي خَاصَّةِ نَفْسِك. وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إلَى اللَّهِ مَنْ كَانَ هَكَذَا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَدْرَكْنَا السَّلَفَ الصَّالِحَ وَهُمْ لَا يَرَوْنَ الْعِبَادَةَ فِي الصَّوْمِ وَلَا فِي الصَّلَاةِ وَلَكِنْ فِي الْكَفِّ عَنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا أَرَدْت أَنْ تَذْكُرَ عُيُوبَ صَاحِبِك فَاذْكُرْ عُيُوبَك. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ وَلَا يُبْصِرُ الْجِذْعَ فِي عَيْنِ نَفْسِهِ، وَسَمِعَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رضي الله عنهما رَجُلًا يَغْتَابُ آخَرَ فَقَالَ: إيَّاكَ وَالْغِيبَةَ، فَإِنَّهَا إدَامُ كِلَابِ النَّاسِ. وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: عَلَيْكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ شِفَاءٌ، وَإِيَّاكُمْ وَذِكْرَ النَّاسِ فَإِنَّهُ دَاءٌ.
تَنْبِيهَاتٌ: مِنْهَا: عَدُّ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ كَبِيرَةٌ هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ كَثِيرُونَ وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ
السُّكُوتَ عَلَيْهَا - رِضًا بِهَا - كَبِيرَةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يَأْتِي أَنَّ تَرْكَ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَالْغِيبَةُ مِنْ عَظَائِمِ الْمُنْكَرَاتِ كَمَا يَأْتِي فَظَهَرَ مَا ذَكَرْته فِي التَّرْجَمَةِ، ثُمَّ رَأَيْت الْأَذْرَعِيَّ صَرَّحَ بِهِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا السُّكُوتُ عَلَى الْغِيبَةِ - رِضًا بِهَا - مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى دَفْعِهَا فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَهَا، نَعَمْ لَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهَا فَيَلْزَمُهُ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مُفَارَقَةُ الْمُغْتَابِ، وَتَبِعَهُ الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ: وَالْأَشْبَهُ أَنَّ السُّكُوتَ عَلَى الْغِيبَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى دَفْعِهَا كَبِيرَةٌ. انْتَهَى.
وَأَمَّا تَقْرِيرُ الشَّيْخَيْنِ صَاحِبَ الْعُدَّةِ عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ صَغِيرَةٌ وَكَذَا السُّكُوتُ عَلَيْهَا فَاعْتَرَضُوهُ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهَا مِنْ الصَّغَائِرِ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ، وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ الْمُفَسِّرُ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَيُوَافِقُهُ كَلَامُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا كَمَا سَبَقَ فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ، وَقَدْ غُلِّظَ أَمْرُهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَنْ تَتَبَّعَ الْأَحَادِيثَ فِيهَا عَلِمَ أَنَّهُمَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا مِنْ الصَّغَائِرِ غَيْرَ الْغَزَالِيِّ وَصَاحِبَ الْعُدَّةِ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُ أَطْلَقَ أَنَّ تَرْكَ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَقَضِيَّتُهُ أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ عَنْ النَّهْيِ عَنْهَا مِنْ الْكَبَائِرِ إذْ هِيَ مِنْ أَقْبَحِ الْمُنْكَرَاتِ لَا سِيَّمَا غِيبَةُ الْأَوْلِيَاءِ وَأَهْلِ الْكَرَامَاتِ، وَأَقَلُّ الدَّرَجَاتِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ إجْمَاعٌ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ غِيبَةٍ وَغِيبَةٍ، فَإِنَّ مَرَاتِبَهَا وَمَفَاسِدَهَا وَالتَّأَذِّي بِهَا يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا بِحَسَبِ خِفَّتِهَا، وَثِقَلِهَا وَإِيذَائِهَا، وَقَدْ قَالُوا إنَّهَا ذِكْرُ الْإِنْسَانِ بِمَا فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ أَوْ نَفْسِهِ أَوْ خُلُقِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ خَادِمِهِ أَوْ مَمْلُوكِهِ أَوْ عِمَامَتِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ مَشْيِهِ أَوْ حَرَكَتِهِ وَبَشَاشَتِهِ وَخَلَاعَتِهِ وَعُبُوسَتِهِ وَطَلَاقَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ.
فَأَمَّا الْبَدَنُ: فَكَقَوْلِهِ أَعْمَى أَعْرَجُ أَعْمَشُ أَقْرَعُ قَصِيرٌ طَوِيلٌ أَسْوَدُ أَصْفَرُ.
وَأَمَّا الدِّينُ فَكَقَوْلِك فَاسِقٌ سَارِقٌ خَائِنٌ ظَالِمٌ مُتَهَاوَنٌ بِالصَّلَاةِ مُتَسَاهِلٌ فِي النَّجَاسَاتِ لَيْسَ بَارًّا بِوَالِدِيهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ؛ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيذَاءَ وَالتَّأَذِّي يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا بِاخْتِلَافِ الْغِيبَةِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَيَقْرُبُ أَنْ يُقَالَ ذِكْرُ الْأَعْرَجِ وَالْأَعْمَشِ وَالْأَصْفَرِ وَالْأَسْوَدِ وَعَيْبِ الْعِمَامَةِ وَالْمَلْبُوسِ وَالدَّابَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الصَّغَائِرِ لِخِفَّةِ التَّأَذِّي بِالْوَصْفِ بِهَا بِخِلَافِ الْوَصْفِ بِالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ وَالظُّلْمِ وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَالتَّهَاوُنِ بِالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَظَائِمِ الْمَعَاصِي، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُفْصَلَ سَدًّا لِلْبَابِ كَمَا فِي الْخَمْرِ وَيُقَالُ لِلْغِيبَةِ حَلَاوَةٌ كَحَلَاوَةِ التَّمْرِ وَضَرَاوَةٌ كَضَرَاوَةِ الْخَمْرِ، عَافَانَا اللَّهُ سبحانه وتعالى مِنْهَا وَقَضَى عَنَّا حُقُوقَ أَرْبَابِهَا فَلَا يُحْصِيهِمْ غَيْرُهُ سبحانه وتعالى وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْكَلَامَ حَيْثُ لَا سَبَبَ يُبِيحُهَا أَوْ يُوجِبُهَا بَلْ تَفَكُّهًا أَوْ
إيذَاءً بِالْمُغْتَابِ. انْتَهَى كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ.
وَتَبِعَهُ تِلْمِيذُهُ فِي الْخَادِمِ فَقَالَ: الصَّوَابُ أَنَّهَا كَبِيرَةٌ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِيمَا نَقَلَهُ الْكَرَابِيسِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفُ بِأَدَبِ الْقَضَاءِ مِنْ الْقَدِيمِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» وَجَزَمَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيُّ فِي عَقِيدَتِهِ فِي الْفَصْلِ الْمَعْقُودِ لِلْكَبَائِرِ، وَكَذَا الْجِيلِيُّ فِي شَرَحَ التَّنْبِيهِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَكَذَا الْكَوَاشِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ إنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهَا صَغِيرَةٌ وَلَمْ يُقَفْ عَلَى هَذَا النَّصِّ. وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعُدُّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَلَا يَعُدُّ الْغِيبَةَ كَبِيرَةً، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ أَكْلِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَيِّتًا، وَقَدْ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ قَبْلَ هَذَا بِأَنَّ الْوَقِيعَةَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَفَسَّرُوا الْوَقِيعَةَ بِالْغِيبَةِ. وَالْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى ذَلِكَ أَيْ كَوْنِهَا كَبِيرَةً مُطْلَقًا، وَفِي الصَّحِيحِ:«سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ» .
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» . وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِأَدَبِ الْعِبَادَةِ قَدْ حَرَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغِيبَةَ مُوَدِّعًا بِذَلِكَ أُمَّتَهُ وَقَرَنَ تَحْرِيمَهَا إلَى تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ، ثُمَّ زَادَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ تَأْكِيدًا بِإِعْلَامِهِ بِأَنَّ تَحْرِيمَ ذَلِكَ كَحُرْمَةِ الْبَلَدِ الْحَرَامِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهُ يَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِكَوْنِهَا صَغِيرَةً إلَّا صَاحِبَ الْعُدَّةِ وَالْغَزَالِيَّ، وَالْعَجَبُ مِنْ سُكُوتِ الرَّافِعِيِّ عَلَيْهِ. وَقَدْ نَقَلَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْوَقِيعَةَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَكَذَا قَوْلُهُ هُنَا إنَّ السُّكُوتَ عَنْ الْغِيبَةِ صَغِيرَةٌ، وَقَدْ نُقِلَ فِيمَا قَبْلُ أَنَّ السُّكُوتَ عَلَى تَرْكِ الْمُنْكَرِ كَبِيرَةٌ انْتَهَى.
وَمَالُ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ إلَى أَنَّهَا صَغِيرَةٌ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ بَعْضَ مَا مَرَّ عَنْ الْأَذْرَعِيِّ وَرَدَّهُ، وَحَاصِلُ عِبَارَتِهِ: وَأَمَّا الْوَقِيعَةُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ مِنْ الصَّغَائِرِ يَعْنِي إذَا قُلْنَا الْغِيبَةُ مِنْ
الْكَبَائِرِ فَلَا خُصُوصِيَّةَ لِذَلِكَ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ يَرَاهَا مِنْ الصَّغَائِرِ، قَالَ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا مِنْ الصَّغَائِرِ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ، وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ الْمُفَسِّرُ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَيُوَافِقُهُ كَلَامُ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَقَدْ غَلُظَ أَمْرُهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَنْ تَتَبَّعَ الْأَحَادِيثَ فِيهَا عَلِمَ أَنَّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ قَالَ: وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا مِنْ الصَّغَائِرِ غَيْرَ الْغَزَالِيِّ وَصَاحِبَ الْعُدَّةِ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُ أَطْلَقَ أَنَّ تَرْكَ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَقَضِيَّتُهُ أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ عَنْ النَّهْيِ عَنْهَا مِنْ الْكَبَائِرِ إذْ هِيَ مِنْ أَقْبَحِ الْمُنْكَرَاتِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ خِلَافُ مَا قَالَهُ فَلَيْسَتْ الْوَقِيعَةُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ مِنْ الْغِيبَةِ بَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي سَبِّ الْمُسْلِمِ وَالِاسْتِطَالَةِ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يُحْتَجُّ لِذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ» .
وَالْغِيبَةُ هِيَ أَنْ تَذْكُرَ الْإِنْسَانَ بِمَا لَا يَرْضَى اسْتِمَاعُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَقِيعَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ بِنَقْصٍ وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي سَبِّ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ:«أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ» الْحَدِيثَ السَّابِقَ. وَجَعْلُ الْغِيبَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا شَبَّهَهَا بِكَرَاهِيَةِ أَكْلِ لَحْمِ الْمَيْتَةِ فَقَالَ: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12] قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُجِيبُوا بِأَنْ يَقُولُوا لَا أَحَدَ يُحِبُّ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى:{فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] . وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَلَمْ أَرَ فِيهَا ذِكْرًا لِلْغِيبَةِ وَلَا وَعِيدًا بِعَذَابٍ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْت بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ» انْتَهَى.
وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا كَبِيرَةً إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَالتَّنْفِيرِ عَنْهَا وَالزَّجْرِ عَلَيْهَا. انْتَهَى كَلَامُ الْجَلَالِ وَقَدْ اسْتَرْوَحَ فِيهِ رحمه الله.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ خِلَافُ مَا قَالَهُ فَلَيْسَتْ الْوَقِيعَةُ إلَخْ، فَيُرَدُّ بِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ دَاخِلَةً فِي سَبِّ الْمُسْلِمِ فَلِمَ أُفْرِدَتْ بِالذِّكْرِ مَعَ ذِكْرِ سَبِّ الْمُسْلِمِ. فَمَا أَوْرَدَهُ الْأَذْرَعِيُّ عَلَى مَنْ أَفْرَدَهَا عَنْ الْغِيبَةِ فَجَعَلَهَا كَبِيرَةً وَالْغِيبَةُ صَغِيرَةٌ يُرَدُّ نَظِيرُهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْجَلَالُ
لِأَنَّ الْوَقِيعَةَ إذَا أُرِيدَ بِهَا السَّبُّ فَهِيَ كَبِيرَةٌ وَلَوْ فِي غَيْرِ الْعُلَمَاءِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ يَسُوغُ التَّخْصِيصُ بِهَا فَالْحَقُّ أَنَّ إفْرَادَ الْوَقِيعَةِ بِكَوْنِهَا كَبِيرَةً مُشْكِلٌ مُطْلَقًا.
أَمَّا عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْغِيبَةَ صَغِيرَةٌ وَيُرِيدُ بِالْوَقِيعَةِ الْغِيبَةَ فَوَاضِحٌ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ شَرَفَ ذَيْنِك اقْتَضَى التَّغْلِيظَ فِي أَمْرِهِمَا؛ لِيَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنْهُ. وَأَمَّا عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّ الْغِيبَةَ كَبِيرَةٌ أَوْ يُفَسِّرُ الْوَقِيعَةَ بِالسَّبِّ فَلَا فَائِدَةَ لِإِفْرَادِ الْوَقِيعَةِ بِالذِّكْرِ إلَّا مُجَرَّدَ الِاعْتِنَاءِ وَالتَّأْكِيدِ فِي تَغْلِيظِهَا عَلَى أَنَّهُ سَبَقَ عَنْ الزَّرْكَشِيّ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْوَقِيعَةَ بِالْغِيبَةِ، وَبِهِ يَزِيدُ إيضَاحُ رَدِّ مَا قَالَهُ الْجَلَالُ.
وَأَمَّا تَنْظِيرُهُ فِي كَوْنِ الْغِيبَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ بِمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَيُرَدُّ بِمَا قَدَّمْته فِي مَعْنَاهَا الْمُفِيدِ لِغَايَةِ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ فِي أَمْرِ الْغِيبَةِ وَلِكَوْنِهَا كَبِيرَةً؛ لِأَنَّ أَكْلَ لَحْمِ الْمَيْتَةِ كَبِيرَةٌ فَكَذَا مَا شُبِّهَ بِهِ بَلْ هُوَ أَبْلَغُ فِي الْمَفْسَدَةِ مِنْهُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ كَمَا مَرَّ عَنْهُ: وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعُدُّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ كَبِيرَةً وَلَا يَعُدُّ الْغِيبَةَ كَبِيرَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ أَكْلِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ إلَى آخِرِ مَا مَرَّ عَنْهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ أَعْنِي الْجَلَالَ إنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَحَادِيثِ وَعِيدٌ عَلَى الْغِيبَةِ بِعَذَابٍ، وَأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا كَبِيرَةً بَلْ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَالزَّجْرِ عَنْهَا فَهُوَ فِي غَايَةِ الْعَجَبِ. أَمَّا الثَّانِي فَوَاضِحٌ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ الْمَذْكُورَ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَقَدْ مَرَّ فِي تَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ أَنَّهَا مَا قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَوَاضِحٌ أَيْضًا إذْ مَنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ الَّتِي قَدَّمْتهَا فِيهَا عَلِمَ أَنَّ فِيهَا أَعْظَمَ الْعَذَابِ وَأَشَدَّ النَّكَالِ، فَقَدْ صَحَّ فِيهَا أَنَّهَا أَرْبَى الرِّبَا وَأَنَّهَا لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ أَنْتَنَتْهُ وَغَيَّرَتْ رِيحَهُ، وَأَنَّ أَهْلَهَا يَأْكُلُونَ الْجِيَفَ فِي النَّارِ، وَأَنَّ لَهُمْ رَائِحَةً مُنْتِنَةً فِيهَا وَأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ، وَبَعْضُ هَذِهِ كَافِيَةٌ فِي الْكَبِيرَةِ فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَتْ، هَذَا مَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.
وَأَمَّا مَا مَرَّ فِي غَيْرِهَا فَهُوَ أَعْظَمَ وَأَشَدُّ، فَظَهَرَ أَنَّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ الصَّحِيحَةُ الظَّاهِرَةُ أَنَّهَا كَبِيرَةٌ لَكِنَّهَا تَخْتَلِفُ عِظَمًا وَضِدَّهُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَفْسَدَتِهَا كَمَا مَرَّ فِي كَلَامِ الْأَذْرَعِيِّ، وَظَهَرَ أَيْضًا أَنَّهَا الدَّاءُ الْعُضَالُ وَالسُّمُّ الَّذِي فِي الْأَلْسُنِ أَحْلَى مِنْ الزُّلَالِ وَقَدْ جَعَلَهَا مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ عَدِيلَةَ غَصْبِ الْمَالِ وَقَتْلِ النَّفْسِ بِقَوْلِهِ:«كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» . وَالْغَصْبُ وَالْقَتْلُ كَبِيرَتَانِ إجْمَاعًا فَكَذَا ثَلْمُ الْعَرْضِ، وَفِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ «فَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللَّهِ اسْتِحْلَالُ عِرْضِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ثُمَّ تَلَا:
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] » وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا: «الْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنْ الزِّنَا» .
قَالَ فِي الْخَادِمِ وَهَلْ تُعْطَى غِيبَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ حُكْمَ غِيبَةِ الْمُكَلَّفِ؟ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا إلَّا ابْنَ الْقُشَيْرِيِّ فِي الْمُرْشِدِ فَقَالَ: وَقَدْ أَوْجَبَ الِاعْتِذَارَ إلَى مَنْ اغْتَابَهُ وَهَذَا الِاعْتِذَارُ إنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ الْمُسَاءُ إلَيْهِ مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ مَوْضِعَ الْإِسَاءَةِ، فَأَمَّا الطِّفْلُ وَالْمَجْنُونُ فَلَا يَجِبُ الِاعْتِذَارُ إلَيْهِ وَهَذَا مَحَلُّ التَّأَمُّلِ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ يَبْقَى حَقُّ ذَلِكَ الْمُسَاءِ إلَيْهِ وَحَقُّ الْمُطَالَبَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ سَقَطَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِتَحَقُّقِ النَّدَمِ. انْتَهَى كَلَامُ الْخَادِمِ. وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الِاعْتِذَارِ حِلُّ غَيْبَتِهِمَا ظَاهِرٌ جَلِيٌّ إذْ لَا وَجْهَ لِلتَّلَازُمِ، فَالْوَجْهُ حُرْمَةُ غِيبَتِهِمَا، وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنْهَا فَتَتَوَقَّفُ عَلَى أَرْكَانِهَا الْآتِيَةِ حَتَّى الِاعْتِذَارِ لَكِنَّهُ إنْ فَاتَ بِنَحْوِ مَوْتٍ وَوُجِدَتْ شُرُوطُ التَّوْبَةِ الْبَاقِيَةِ سَقَطَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَقِيَ حَقُّ الْآدَمِيِّ كَمَا يَأْتِي ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي مَبْحَثِ التَّوْبَةِ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ.
وَمِنْهَا: الْأَصْلُ فِي الْغِيبَةِ الْحُرْمَةُ وَقَدْ تَجِبُ أَوْ تُبَاحُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِهَا، وَتَنْحَصِرُ فِي صِحَّتِهِ أَبْوَابٌ: الْأَوَّلُ: الْمُتَظَلِّمُ فَلِمَنْ ظُلِمَ أَنْ يَشْكُوَ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّ لَهُ قُدْرَةً عَلَى إزَالَةِ ظُلْمِهِ أَوْ تَخْفِيفِهِ. الثَّانِي: الِاسْتِعَانَةُ عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِذِكْرِهِ لِمَنْ يَظُنُّ قُدْرَتَهُ عَلَى إزَالَتِهِ بِنَحْوِ فُلَانٍ يَعْمَلُ كَذَا فَازْجُرْهُ عَنْهُ بِقَصْدِ التَّوَصُّلِ إلَى إزَالَةِ الْمُنْكَرِ وَإِلَّا كَانَ غِيبَةً مُحَرَّمَةً مَا لَمْ يَكُنْ الْفَاعِلُ مُجَاهِرًا لِمَا يَأْتِي. الثَّالِثُ: الِاسْتِفْتَاءُ بِأَنْ يَقُولَ لِمُفْتٍ ظَلَمَنِي بِكَذَا فُلَانٌ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ وَمَا طَرِيقِي فِي خَلَاصِي مِنْهُ أَوْ تَحْصِيلِ حَقِّي أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُبْهِمَهُ فَيَقُولَ مَا تَقُولُ فِي شَخْصٍ أَوْ زَوْجٍ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا؛ لِحُصُولِ الْغَرَضِ بِهِ، وَإِنَّمَا جَازَ التَّصْرِيحُ بِاسْمِهِ مَعَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُفْتِيَ قَدْ يُدْرِكُ مِنْ تَعْيِينِهِ مَعْنًى لَا يُدْرِكُهُ مَعَ إبْهَامِهِ فَكَانَ فِي التَّعْيِينِ نَوْعُ مَصْلَحَةٍ وَلِمَا يَأْتِي فِي خَبَرِ هِنْدٍ زَوْجِ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنهما.
الرَّابِعُ: تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الشَّرِّ وَنَصِيحَتُهُمْ كَجَرْحِ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْمُصَنِّفِينَ وَالْمُتَصَدِّينَ لِإِفْتَاءٍ أَوْ إقْرَاءٍ مَعَ عَدَمِ أَهْلِيَّةٍ أَوْ مَعَ نَحْوِ فِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ، وَهُمْ
دُعَاةٌ إلَيْهَا وَلَوْ سِرًّا فَيَجُوزُ إجْمَاعًا بَلْ يَجِبُ وَكَأَنْ يُشِيرَ وَإِنْ لَمْ يُسْتَشَرْ عَلَى مُرِيدِ تَزَوُّجٍ أَوْ مُخَالَطَةٍ لِغَيْرِهِ فِي أَمْرٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ، وَقَدْ عَلِمَ فِي ذَلِكَ الْغَيْرِ قَبِيحًا مُنَفِّرًا كَفِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ أَوْ طَمَعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَفَقْرٍ فِي الزَّوْجِ لِمَا يَأْتِي فِي مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه بِتَرْكِ تَزْوِيجِهِ أَوْ مُخَالَطَتِهِ، ثُمَّ إنْ اكْتَفَى بِنَحْوِ لَا يَصْلُحُ لَك لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى ذِكْرِ عَيْبٍ ذَكَرَهُ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ أَوْ عَيْبَيْنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا وَهَكَذَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ فَلَا يَجُوزُ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ. نَعَمْ الشَّرْطُ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ بَذْلَ النَّصِيحَةِ لِوَجْهِ اللَّهِ - تَعَالَى - دُونَ حَظٍّ آخَرَ، وَكَثِيرًا مَا يَغْفُلُ الْإِنْسَانُ عَنْ ذَلِكَ فَيُلَبِّسُ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَيَحْمِلُهُ عَلَى التَّكَلُّمِ بِهِ حِينَئِذٍ لَا نُصْحًا وَيُزَيِّنُ لَهُ أَنَّهُ نُصْحٌ وَخَيْرٌ.
وَمِنْ هَذَا أَنْ يَعْلَمَ مِنْ ذِي وِلَايَةٍ قَادِحًا فِيهَا كَفِسْقٍ أَوْ تَغَفُّلٍ فَيَجِبُ ذِكْرُ ذَلِكَ لِمَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى عَزْلِهِ وَتَوْلِيَةِ غَيْرِهِ أَوْ عَلَى نُصْحِهِ وَحَثِّهِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَتَجَاهَرَ بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ كَالْمَكَّاسِينَ وَشَرَبَةِ الْخَمْرِ ظَاهِرًا وَذَوِي الْوِلَايَاتِ الْبَاطِلَةِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُهُمْ بِمَا تَجَاهَرُوا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ فَيَحْرُمُ ذِكْرُهُمْ بِعَيْبٍ آخَرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ مِمَّا مَرَّ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَفِي أَذْكَارِ النَّوَوِيِّ مِمَّا يُبَاحُ مِنْ الْغِيبَةِ أَنْ يَكُونَ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ كَالْمُجَاهَرَةِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَمُصَادَرَةِ النَّاسِ وَأَخْذِ الْمَكْسِ وَجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ ظُلْمًا، فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا تَجَاهَرَ بِهِ وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْعُيُوبِ. انْتَهَى.
وَهُوَ مُتَابِعٌ فِي ذَلِكَ لَلْغَزَالِيِّ وَفِي الْجَوَازِ لَا لِغَرَضِ شَرْعِيٍّ وَإِطْلَاقُ كَثِيرِينَ يَأْبَاهُ انْتَهَى. وَسَيَأْتِي كَلَامُ الْقَفَّالِ فِي ذَلِكَ بِمَا فِيهِ. السَّادِسُ: التَّعْرِيفُ بِنَحْوِ لَقَبٍ كَالْأَعْوَرِ وَالْأَعْمَشِ وَالْأَصَمِّ وَالْأَقْرَعِ فَيَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ تَعْرِيفُهُ بِغَيْرِهِ تَعْرِيفَهُ بِهِ عَلَى جِهَةِ التَّعْرِيفِ لَا التَّنْقِيصِ وَالْأَوْلَى بِغَيْرِهِ إنْ سَهُلَ، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ السِّتَّةِ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ لَهَا مِنْ السُّنَّةِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ كَاَلَّذِي اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي جَوَازِ غِيبَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ خَبَرَ: «مَا أَظُنُّ فُلَانًا وَفُلَانًا يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا» ، قَالَ اللَّيْثُ: كَانَا مُنَافِقَيْنِ هُمَا مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيّ.
قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ رضي الله عنها: «أَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّ أَبَا جَهْمٍ وَمُعَاوِيَةَ خَطَبَانِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأَمَّا
أَبُو الْجَهْمِ فَلَا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «وَأَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ» ، وَبِهِ يُرَدُّ تَفْسِيرُ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ أَسْفَارِهِ.
وَلَمَّا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ الْمُنَافِقُ اللَّعِينُ فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7] . وَقَالَ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8]«أَتَى زَيْدُ بْنُ أَرَقْمَ رضي الله عنه رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إلَى ابْنِ أُبَيٍّ فَاجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ أَنَّهُ مَا فَعَلَ فَقَالُوا كَذَبَ زَيْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَهُ فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ دَعَاهُمْ صلى الله عليه وسلم لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَلَوَّوْا رُءُوسَهُمْ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَتْ هِنْدُ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَان رضي الله عنهما لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إلَّا مَا أَخَذْت مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، قَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: عُلِمَ مِنْ خَبَرِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ مَعَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّ الْغِيبَةَ أَنْ تَذْكُرَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا عَلَى مَا يَأْتِي مُعِينًا لِلسَّامِعِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا بِمَا يَكْرَهُ أَنْ يُذْكَرَ بِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ بِحَضْرَتِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْأَخِ فِي الْخَبَرِ كَالْآيَةِ لِلْعَطْفِ وَالتَّذْكِيرِ بِالسَّبَبِ الْبَاعِثِ عَلَى أَنَّ التَّرْكَ مُتَأَكَّدٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ حُرْمَةً، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُهُ فِي بَدَنِهِ كَأَحْوَلَ أَوْ قَصِيرٍ أَوْ أَسْوَدَ أَوْ ضِدَّهَا، أَوْ فِي نَسَبِهِ كَأَبُوهُ هِنْدِيٍّ أَوْ إسْكَافٍ أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا يَكْرَهُهُ كَيْفَ كَانَ، أَوْ خُلُقِهِ كَسَيْءِ الْخُلُقِ عَاجِزٍ ضَعِيفٍ.
أَوْ فِعْلِهِ الدِّينِيِّ كَكَذَّابٍ أَوْ مُتَهَاوَنٍ بِالصَّلَاةِ أَوْ لَا يُحْسِنُهَا، أَوْ عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ، أَوْ لَا يُعْطِي الزَّكَاةَ أَوْ لَا يُؤَدِّيهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا. أَوْ الدُّنْيَوِيِّ كَقَلِيلِ الْأَدَبِ، أَوْ لَا يَرَى لِأَحَدٍ حَقًّا عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ كَثِيرِ الْأَكْلِ أَوْ النَّوْمِ. أَوْ ثَوْبِهِ كَطَوِيلِ الذَّيْلِ قَصِيرِهِ وَسَخِهِ. أَوْ دَارِهِ كَقَلِيلَةِ الْمَرَافِقِ أَوْ دَابَّتِهِ كَجَمُوحٍ، أَوْ وَلَدِهِ كَقَلِيلِ التَّرْبِيَةِ، أَوْ زَوْجَتِهِ كَكَثِيرَةِ الْخُرُوجِ أَوْ عَجُوزٍ أَوْ تَحْكُمُ عَلَيْهِ أَوْ قَلِيلَةِ النَّظَافَةِ، أَوْ خَادِمِهِ كَآبِقٍ. أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَكْرَهُهُ لَوْ بَلَغَهُ.
وَقَالَ قَوْمٌ لَا غِيبَةَ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّهُ ذَمُّ مَنْ ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَلِأَنَّهُ «صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ لَهُ كَثْرَةُ عِبَادَةِ امْرَأَةٍ وَأَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا فَقَالَ هِيَ فِي النَّارِ» ، وَعَنْ امْرَأَةٍ أَنَّهَا بَخِيلَةٌ فَقَالَ:" فَمَا خَيْرُهَا إذًا ". قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَذْكُرُونَ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِمْ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ بِالسُّؤَالِ، وَلَمْ يَكُنْ غَرَضُهُمْ التَّنْقِيصَ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى
ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ غَيْرَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ فَهُوَ مُغْتَابٌ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا ذَكَرَهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِّ الْغِيبَةِ، وَمَرَّ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمَنْ قَالَ عَنْ امْرَأَةٍ إنَّهَا قَصِيرَةٌ، وَعَنْ رَجُلٍ مَا أَعْجَزَهُ إنَّ ذَلِكَ غِيبَةٌ، قَالَ الْحَسَنُ وَذِكْرُ الْغَيْرِ غِيبَةٌ أَوْ بُهْتَانٌ أَوْ إفْكٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى -. فَالْغِيبَةُ أَنْ تَقُولَ مَا فِيهِ، وَالْبُهْتَانُ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَالْإِفْكُ أَنْ تَقُولَ مَا بَلَغَك.
وَمِنْهَا: مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْغِيبَةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ فِي غَيْبَةِ الْمُغْتَابِ أَوْ بِحَضْرَتِهِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَفِي الْخَادِمِ وَمِنْ الْمُهِمِّ ضَابِطُ الْغِيبَةِ هَلْ هِيَ ذِكْرُ الْمَسَاوِئِ فِي الْغِيبَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ اسْمُهَا، أَوْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْغِيبَةِ وَالْحُضُورِ، وَقَدْ دَارَ هَذَا السُّؤَالُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ، ثُمَّ رَأَيْت أَبَا فُورَكٍ ذَكَرَ فِي مُشْكِلِ الْقُرْآنِ فِي تَفْسِيرِ الْحُجُرَاتِ ضَابِطًا حَسَنًا فَقَالَ: الْغِيبَةُ ذِكْرُ الْغَيْرِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ. وَكَذَا قَالَ سُلَيْمُ الرَّازِيّ فِي تَفْسِيرِ الْغِيبَةِ أَنْ تَذْكُرَ الْإِنْسَانَ مِنْ خُلُقِهِ بِسُوءٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ. انْتَهَى.
وَفِي الْمُحْكَمِ: لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ وَرَائِهِ، وَوَجَدْت بِخَطِّ الْإِمَامِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ رَوَى بِسَنَدِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَا كَرِهْت أَنْ تُوَاجِهَ بِهِ أَخَاك فَهُوَ غِيبَةٌ» ، وَخَصَّصَهَا الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ بِالصِّفَاتِ الَّتِي تُذَمُّ شَرْعًا بِخِلَافِ نَحْوِ الزِّنَا فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«اُذْكُرُوا الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ» غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ السِّتْرُ حَيْثُ لَا غَرَضَ، وَإِلَّا كَتَجْرِيحِهِ أَوْ إخْبَارِ مُخَالِطِهِ فَيَلْزَمُ بَيَانُهُ. انْتَهَى.
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْجَوَازِ فِي الْأَوَّلِ لَا لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ ضَعِيفٌ لَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ ضَعِيفٌ وَقَالَ أَحْمَدُ: مُنْكَرٌ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى فَاجِرٍ مُعْلِنٍ بِفُجُورِهِ أَوْ يَأْتِي بِشَهَادَةٍ أَوْ لِمَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ حَالِهِ لِئَلَّا يَقَعَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي حَمَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَيْهِ مُتَعَيَّنٌ، وَنَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَأَوْرَدَهُ بِلَفْظِ:«لَيْسَ لِلْفَاسِقِ غِيبَةٌ» وَيَقْضِي عَلَيْهِ عُمُومُ خَبَرِ مُسْلِمٍ فِيهِ حَدُّ الْغِيبَةِ بِأَنَّهَا ذِكْرُك أَخَاك مَا يَكْرَهُ وَحَدَّهَا فِي الْإِحْيَاءِ بِمَا مَرَّ عَنْهُ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا ذِكْرُهُ بِمَا يَكْرَهُ، وَبِهِ جَاءَ الْحَدِيثُ، وَهَذَا كُلُّهُ يَرُدُّ مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ.
وَمِمَّا يُبِيحُ الْغِيبَةَ: أَنْ يَكُونَ مُتَجَاهِرًا بِالْفِسْقِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يُذْكَرَ بِهِ كَالْمُخَنَّثِ وَالْمَكَّاسِ وَمُصَادِرِ النَّاسِ فَلَا إثْمَ بِذِكْرِ مَا يَتَظَاهَرُ بِهِ لِلْخَبَرِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ:
«مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ» . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَاءُ إلَى الْإِنْسَانِ بِالتَّنْقِيصِ لَهُ يَقُومُ مَقَامَ الْقَوْلِ فِيهِ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ لَمَّا أَشَارَتْ إلَى الْمَرْأَةِ أَنَّهَا قَصِيرَةٌ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«قَدْ اغْتَبْتِيهَا قُومِي فَتَحَلَّلِيهَا» انْتَهَى كَلَامُ الْخَادِمِ مُلَخَّصًا.
وَأُخِذَ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا مَرَّ عَنْ الْقَفَّالِ مِنْ قَوْلِ شَيْخِهِ الْأَذْرَعِيِّ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ لَا لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَلَوْ صَحَّ لَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى حَالَةِ الْحَاجَةِ. وَقَالَ فِي التَّوَسُّطِ: وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَيْ فِي كَلَامِ الْقَفَّالِ لَا أَصْلَ لَهُ يُرْجَعُ إلَيْهِ.
وَسُئِلَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ عَنْ غِيبَةِ الْكَافِرِ. فَقَالَ: هِيَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ مَحْذُورَةٌ لِثَلَاثِ عِلَلٍ: الْإِيذَاءُ وَتَنْقِيصُ خَلْقِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَتَضْيِيعُ الْوَقْتِ بِمَا لَا يُعْنِي. قَالَ: وَالْأُولَى تَقْتَضِي التَّحْرِيمُ، وَالثَّانِيَةُ الْكَرَاهَةُ، وَالثَّالِثَةُ خِلَافُ الْأَوْلَى. وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَكَالْمُسْلِمِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَنْعِ مِنْ الْإِيذَاءِ،؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ عَصَمَ عِرْضَهُ وَدَمَهُ وَمَالَهُ. قَالَ فِي الْخَادِمِ: وَالْأُولَى هِيَ الصَّوَابُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ سَمَّعَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَلَهُ النَّارُ» ، وَمَعْنَى سَمَّعَهُ أَسْمَعَهُ بِمَا يُؤْذِيهِ، وَلَا كَلَامَ بَعْدَ هَذَا أَيْ لِظُهُورِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْحُرْمَةِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ عَلَى الْأُولَى وَيُكْرَهُ عَلَى الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ، وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُ فَإِنْ كَفَرَ فَكَالْحَرْبِيِّ وَإِلَّا فَكَالْمُسْلِمِ، وَأَمَّا ذِكْرُهُ بِبِدْعَتِهِ فَلَيْسَ مَكْرُوهًا. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَيْسَ أَخَاك مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ سَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ، أَوْ مَنْ أَخْرَجَتْهُ بِدْعَةٌ ابْتَدَعَهَا إلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ لَا غِيبَةَ لَهُ. انْتَهَى.
قَالَ فِي الْخَادِمِ: وَهَذَا قَدْ يُنَازِعُ فِيهِ مَا قَالُوهُ فِي السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَنَحْوِهِ. اهـ وَالْمُنَازَعَةُ وَاضِحَةٌ. فَالْوَجْهُ بَلْ الصَّوَابُ تَحْرِيمُ غِيبَةِ الذِّمِّيِّ كَمَا تَقَرَّرَ أَوَّلًا. وَمِنْهَا: قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ حَدِّهِمْ السَّابِقِ لِلْغِيبَةِ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِاللِّسَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِهَا الْإِيذَاءُ بِتَفْهِيمِ الْغَيْرِ نُقْصَانَ الْمُغْتَابِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ حَيْثُ أَفْهَمْت الْغَيْرَ مَا يَكْرَهُهُ الْمُغْتَابُ وَلَوْ بِالتَّعْرِيضِ أَوْ الْفِعْلِ أَوْ الْإِشَارَةِ أَوْ الْإِيمَاءِ أَوْ الْغَمْزِ أَوْ الرَّمْزِ أَوْ الْكِتَابَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ بِلَا خَوْفٍ وَكَذَا سَائِرُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى فَهْمِ الْمَقْصُودِ كَأَنْ يَمْشِيَ مِشْيَتَهُ فَهُوَ غِيبَةٌ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْغِيبَةِ كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّصْوِيرِ وَالتَّفْهِيمِ وَأَنْكَى لِلْقَلْبِ. وَذِكْرُ الْمُصَنِّفِ شَخْصًا مُعَيَّنًا وَرَدُّ كَلَامِهِ غِيبَةً إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ أَحَدُ الْأَسْبَابِ السِّتَّةِ الْمُبِيحَةِ لَهَا وَقَدْ مَرَّتْ، وَكَذَا مِنْهَا قَوْلُك فَعَلَ كَذَا بَعْضُ مَنْ مَرَّ بِنَا
الْيَوْمَ إذَا فَهِمَ مِنْهُ الْمُخَاطَبُ مُعَيَّنًا وَلَوْ بِقَرِينَةٍ خَفِيَّةٍ وَإِلَّا لَمْ يَحْرُمْ كَمَا فِي الْإِحْيَاءِ وَغَيْرِهِ.
فَإِنْ قُلْت: يُنَافِيهِ قَوْلُهُمْ تَحْرُمُ الْغِيبَةُ بِالْقَلْبِ أَيْضًا فَلَا عِبْرَةَ بِفَهْمِ الْمُخَاطَبِ. قُلْت: الْغِيبَةُ بِالْقَلْبِ هِيَ أَنْ تَظُنَّ بِهِ السُّوءَ، وَتُصَمِّمَ عَلَيْهِ بِقَلْبِك مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَنِدَ فِي ذَلِكَ إلَى مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ بِالْغِيبَةِ بِالْقَلْبِ وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْحِكَايَةِ مِنْ مُبْهَمٍ لِمُخَاطِبِك، وَلَكِنَّهُ مُعَيَّنٌ عِنْدَك فَلَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ وَالتَّصْمِيمُ فَافْتَرَقَا، ثُمَّ رَأَيْت مَا سَأَذْكُرُهُ عَنْ الْإِحْيَاءِ الْغِيبَةُ بِالْقَلْبِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِهِمْ عَلَيْهِ؛ وَمِنْ أَخْبَثِ أَنْوَاعِ الْغِيبَةِ غِيبَةُ مَنْ يُفْهِمُ الْمَقْصُودَ بِطَرِيقَةِ الصَّالِحِينَ إظْهَارًا لِلتَّعَفُّفِ عَنْهَا، وَلَا يَدْرِي بِجَهْلِهِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ فَاحِشَتَيْ الرِّيَاءِ وَالْغِيبَةِ، كَمَا يَقَعُ لِبَعْضِ الْمُرَائِينَ أَنَّهُ يُذْكَرُ عِنْدَهُ إنْسَانٌ فَيَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَا ابْتَلَانَا بِقِلَّةِ الْحَيَاءِ أَوْ بِالدُّخُولِ عَلَى السَّلَاطِينِ، وَلَيْسَ قَصْدُهُ بِدُعَائِهِ إلَّا أَنْ يُفْهِمَ عَيْبَ الْغَيْرِ.
وَقَدْ يَزِيدُ خُبْثُهُ فَيُقَدِّمُ مَدْحَهُ حَتَّى يُظْهِرَ تَنَصُّلَهُ مِنْ الْغِيبَةِ فَيَقُولُ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْعِبَادَةِ أَوْ الْعِلْمِ لَكِنَّهُ فَتَرَ وَابْتُلِيَ بِمَا اُبْتُلِينَا بِهِ كُلُّنَا وَهُوَ قِلَّةُ الصَّبْرِ فَيَذْكُرُ نَفْسَهُ، وَمَقْصُودُهُ ذَمُّ غَيْرِهِ وَالتَّمَدُّحُ بِالتَّشَبُّهِ بِالصَّالِحِينَ فِي ذَمِّ نُفُوسِهِمْ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ ثَلَاثِ فَوَاحِشَ: الْغِيبَةُ وَالرِّيَاءُ وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ بَلْ أَرْبَعَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَظُنُّ بِجَهْلِهِ أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الصَّالِحِينَ الْمُتَعَفِّفِينَ عَنْ الْغِيبَةِ وَمَنْشَأُ ذَلِكَ الْجَهْلِ، فَإِنَّ مَنْ تَعَبَّدَ عَلَى جَهْلٍ لَعِبَ بِهِ الشَّيْطَانُ وَضَحِكَ عَلَيْهِ وَسَخِرَ بِهِ، فَأَحْبَطَ عَمَلَهُ وَضَيَّعَ تَعَبَهُ وَأَرْدَاهُ إلَى دَرَجَاتِ الْبَوَارِ وَالضَّلَالِ؛ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ سَاءَنِي مَا وَقَعَ لِصَدِيقِنَا مِنْ كَذَا، فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُثَبِّتَهُ وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ.
وَمَا دَرَى الْجَاهِلُ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى خُبْثِ ضَمِيرِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ تَعَرَّضَ بِذَلِكَ لِمَقْتِ اللَّهِ أَعْظَمَ مِمَّا يَتَعَرَّضُ الْجُهَّالُ إذَا جَاهَرُوا، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِصْغَاءُ لِلْمُغْتَابِ عَلَى جِهَةِ التَّعَجُّبِ؛ لِيَزْدَادَ نَشَاطُهُ فِي الْغِيبَةِ، وَمَا دَرَى الْجَاهِلُ أَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْغِيبَةِ غِيبَةٌ، بَلْ السَّاكِتُ عَلَيْهَا شَرِيكُ الْمُغْتَابِ كَمَا فِي خَبَرٍ:«الْمُسْتَمِعُ أَحَدُ الْمُغْتَابِينَ» ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ الشَّرِكَةِ إلَّا أَنْ يُنْكِرَ بِلِسَانِهِ وَلَوْ بِأَنْ يَخُوضَ فِي كَلَامٍ آخَرَ فَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ، وَيَلْزَمُهُ مُفَارَقَةُ الْمَجْلِسِ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَا يَنْفَعُهُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ اُسْكُتْ وَقَلْبُهُ مُشْتَهٍ لِاسْتِمْرَارِهِ، وَلَا أَنْ يُشِيرَ بِنَحْوِ يَدِهِ وَلَوْ عَظُمَ الْإِنْكَارُ بِلِسَانِهِ لَأَفَادَ، وَمَرَّ فِي الْحَدِيثِ: «إنَّ مَنْ اُغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَاسْتَطَاعَ نَصْرَهُ فَنَصَرَهُ نَصَرَهُ اللَّهُ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَنْصُرْهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَمَرَّتْ أَخْبَارٌ أُخَرُ بِنَحْوِ ذَلِكَ. وَفِي حَدِيثٍ:«مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ» .
وَمِنْهَا: الْبَوَاعِثُ عَلَى الْغِيبَةِ كَثِيرَةٌ. إمَّا تَشَفِّي الْغَيْظِ بِذِكْرِ مَسَاوِئِ مَنْ أَغْضَبَك، وَقَدْ لَا يَشْفِيهِ ذَلِكَ فَيُحْقَنُ الْغَضَبُ فِي بَاطِنِهِ وَيَصِيرُ حِقْدًا ثَابِتًا فَيَكُونُ سَبَبًا دَائِمًا لِذِكْرِ الْمَسَاوِئِ، وَالْحِقْدُ وَالْغَضَبُ مِنْ الْبَوَاعِثِ الْعَظِيمَةِ عَلَى الْغِيبَةِ. وَإِمَّا مُوَافَقَةُ الْإِخْوَانِ وَمُجَامَلَتُهُمْ بِالِاسْتِرْسَالِ مَعَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ أَوْ إبْدَاءِ نَظِيرِ مَا أَبْدُوهُ خَشْيَةَ أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ أَوْ أَنْكَرَ اسْتَثْقَلُوهُ وَنَفَرُوا عَنْهُ، وَيَظُنُّ بِجَهْلِهِ أَنَّ هَذَا مِنْ الْمُجَامَلَةِ فِي الصُّحْبَةِ بَلْ قَدْ يَغْضَبُ لِغَضَبِهِمْ إظْهَارًا لِلْمُسَاهَمَةِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَيَخُوضُ مَعَهُمْ فِي ذِكْرِ الْمَسَاوِئِ وَالْعُيُوبِ فَيَهْلِكُ. وَإِمَّا أَنْ يَسْتَشْعِرَ مِنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ تَنْقِيصَهُ أَوْ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ كَبِيرٍ فَيَسْبِقُهُ بِذِكْرِ مَسَاوِئِهِ عِنْدَ ذَلِكَ الْكَبِيرِ؛ لِيُسْقِطَهُ مِنْ عَيْنِهِ، وَرُبَّمَا رَوَّجَ كَذَبَهُ بِأَنْ يَبْدَأَ بِذِكْرِ الصِّدْقِ مِنْ عُيُوبِهِ ثُمَّ يَتَدَرَّجُ لِلْغَيْرِ؛ لِيَسْتَشْهِدَ بِصِدْقِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي الْكُلِّ. وَإِمَّا أَنْ يُنْسَبَ لِقَبِيحٍ فَيَتَبَرَّأُ مِنْهُ بِأَنَّ فَاعِلَهُ هُوَ فُلَانٌ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ التَّبَرُّؤُ مِنْهُ بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ فَاعِلِهِ، وَقَدْ يُمَهِّدُ عُذْرَهُ بِأَنَّ فُلَانًا شَرِيكَهُ فِيهِ وَهُوَ قَبِيحٌ أَيْضًا، وَإِمَّا التَّصَنُّعُ وَإِرَادَةُ رِفْعَةِ نَفْسِهِ وَخَفْضِ غَيْرِهِ كَفُلَانٍ جَاهِلٍ أَوْ فَهْمُهُ رَكِيكٌ تَدْرِيجًا إلَى إظْهَارِ فَضْلِ نَفْسِهِ بِسَلَامَتِهِ عَنْ تِلْكَ النَّقَائِصِ.
وَإِمَّا الْحَسَدُ لِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ، فَيُرِيدُ أَنْ يُثْنِيَهُمْ عَنْهُ بِالْقَدَحِ فِيهِ حَتَّى تَزُولَ عَنْهُ نِعْمَةُ ثَنَاءِ النَّاسِ وَمَحَبَّتُهُمْ، وَإِمَّا اللَّعِبُ وَالْهَزْلُ فَيَذْكُرُ عَنْ غَيْرِهِ مَا يَضْحَكُ النَّاسُ بِهِ. وَإِمَّا السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِ فِي غَيْبَتِهِ كَهُوَ فِي حَضْرَتِهِ تَحْقِيرًا لَهُ، هَذِهِ هِيَ الْأَسْبَابُ الْعَامَّةُ. وَبَقِيَ أَسْبَابٌ خَاصَّةٌ هِيَ أَشَرُّ وَأَخْبَثُ كَأَنْ يَتَعَجَّبَ ذُو دِينٍ مِنْ مُنْكَرٍ فَيَقُولُ: مَا أَعْجَبَ مَا رَأَيْت مِنْ فُلَانٍ، فَهُوَ وَإِنْ صَدَقَ فِي تَعَجُّبِهِ مِنْ الْمُنْكَرِ لَكِنْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ لَا يُعَيِّنَ فُلَانًا بِذَكَرِ اسْمِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِهِ مُغْتَابًا آثِمًا مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، وَمِنْ ذَلِكَ عَجِيبٌ مِنْ فُلَانٍ كَيْفَ يُحِبُّ أَمَتَهُ وَهِيَ قَبِيحَةٌ، وَكَيْفَ يَقْرَأُ عَلَى فُلَانٍ الْجَاهِلِ، وَكَأَنْ يَغْتَمَّ مِمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ، فَيَقُولُ مِسْكِينٌ فُلَانٌ سَاءَنِي بَلْوَاهُ بِكَذَا.
فَهُوَ وَإِنْ صَدَقَ فِي اغْتِمَامِهِ لَهُ، لَكِنْ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَذْكُرَ اسْمَهُ فَغَمُّهُ وَرَحْمَتُهُ خَيْرٌ، وَلَكِنَّهُ سَاقَهُ إلَى شَرٍّ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي أَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ دُونَ ذِكْرِ اسْمِهِ فَهَيَّجَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى ذِكْرِ اسْمِهِ؛ لِيُبْطِلَ بِهِ ثَوَابَ اغْتِمَامِهِ وَتَرَحُّمِهِ، وَكَأَنْ يَغْضَبَ لِلَّهِ مِنْ أَجْلِ مُقَارَفَةِ غَيْرِهِ لِمُنْكَرٍ فَيَظْهَرُ غَضَبُهُ
وَيَذْكُرُ اسْمَهُ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يُظْهِرَهُ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ يَسْتُرَ اسْمَهُ وَلَا يَذْكُرَهُ بِالسُّوءِ. فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِمَّا يَغْمُضُ دَرْكُهَا عَنْ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنْ الْعَوَامّ، لِظَنِّهِمْ أَنَّ التَّعَجُّبَ وَالرَّحْمَةَ وَالْغَضَبَ إذَا كَانَ لِلَّهِ كَانَ عُذْرًا فِي ذِكْرِ الِاسْمِ وَهُوَ خَطَأٌ، بَلْ الْمُرَخِّصُ فِي الْغِيبَةِ الْأَعْذَارُ السَّابِقَةُ فَقَطْ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْهَا هُنَا.
وَمِنْهَا: يَتَعَيَّنُ عَلَيْك مَعْرِفَةُ عِلَاجِ الْغِيبَةِ، وَهُوَ إمَّا إجْمَالِيٌّ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّك قَدْ تَعَرَّضَتْ بِهَا لِسَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى وَعُقُوبَتِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ وَالْأَخْبَارُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، وَأَيْضًا فَهِيَ تُحْبِطُ حَسَنَاتِك لِمَا مَرَّ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ فِي الْمُفْلِسِ مِنْ أَنَّهُ تُؤْخَذُ حَسَنَاتُهُ إلَى أَنْ تَفْنَى، فَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وُضِعَ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ خَصْمِهِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ سَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا فَمِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ، فَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ الْغِيبَةُ سَبَبًا لِفِنَاءِ حَسَنَاتِك وَزِيَادَةِ سَيِّئَاتِك فَتَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ:«أَنَّ الْغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ تَحُتَّانِ الْإِيمَانَ كَمَا يَعْضِدُ الرَّاعِي الشَّجَرَةَ» .
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ: بَلَغَنِي أَنَّك تَغْتَابُنِي. فَقَالَ مَا بَلَغَ قَدْرُك عِنْدِي أَنِّي أُحَكِّمُك فِي حَسَنَاتِي. وَمَنْ آمَنَ بِتِلْكَ الْأَخْبَارِ فَطَمَ نَفْسَهُ عَنْ الْغِيبَةِ فَطْمًا كُلِّيًّا، خَوْفًا مِنْ عِقَابِهَا الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا فِي الْأَخْبَارِ. وَمِمَّا يَنْفَعُك أَيْضًا أَنَّك تَتَدَبَّرُ فِي عُيُوبِك، وَتَجْتَهِدُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْهَا؛ لِتَدْخُلَ تَحْتَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَلْيَسَعْهُ بَيْتُهُ وَلْيَبْكِ عَلَى خَطِيئَتِهِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا لِيَغْنَمَ، أَوْ لِيَسْكُتْ عَنْ شَرٍّ فَيَسْلَمَ» . وَتَسْتَحْيِي مِنْ أَنْ تَذُمَّ غَيْرَك بِمَا أَنْتَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ أَوْ بِنَظِيرِهِ، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا خِلْقِيًّا فَالذَّمُّ لَهُ ذَمٌّ لِلْخَالِقِ، إذْ مَنْ ذَمَّ صَنْعَةً ذَمَّ صَانِعَهَا. قَالَ رَجُلٌ لِحَكِيمٍ يَا قَبِيحَ الْوَجْهِ. فَقَالَ مَا كَانَ خَلْقُ وَجْهِي إلَيَّ فَأُحْسِنُهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَك عَيْبًا وَهُوَ بَعِيدٌ فَاشْكُرْ اللَّهَ إذْ تَفَضَّلَ عَلَيْك بِالنَّزَاهَةِ عَنْ الْعُيُوبِ فَلَا تَسْمُ نَفْسُك بِتَعْظِيمِهَا.
وَيَنْفَعُك أَيْضًا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ تَأَذِّي غَيْرِك بِالْغِيبَةِ كَتَأَذِّيك بِهَا، فَكَيْفَ تَرْضَى لِغَيْرِك مَا تَتَأَذَّى بِهِ. وَإِمَّا تَفْصِيلِيٌّ بِأَنْ تَنْظُرَ فِي بَاعِثِهَا فَتَقْطَعُهُ مِنْ أَصْلِهِ، إذْ عِلَاجُ الْعِلَّةِ إنَّمَا يَكُونُ بِقَطْعِ سَبَبِهَا، وَإِذَا اسْتَحْضَرْت الْبَوَاعِثَ عَلَيْهَا السَّابِقَةَ ظَهَرَ لَك السَّعْيُ فِي قَطْعِهَا كَأَنْ تَسْتَحْضِرَ فِي الْغَضَبِ أَنَّك إنْ أَمْضَيْت غَضَبَك فِيهِ بِغِيبَةٍ أَمْضَى اللَّهُ غَضَبَهُ
فِيك لِاسْتِخْفَافِك بِنَهْيِهِ، وَجُرْأَتِك عَلَى وَعِيدِهِ. وَفِي حَدِيثٍ:«إنَّ لِجَهَنَّمَ بَابًا لَا يَدْخُلُهُ إلَّا مَنْ شَفَى غَيْظُهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى» . وَفِي الْمُرَافَقَةِ: إنَّك إذَا أَرْضَيْت الْمَخَالِيقَ بِغَضَبِ اللَّهِ عَاجَلَك بِعُقُوبَتِهِ، إذْ لَا أَغْيَرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي الْحَسَدِ: أَنَّك جَمَعَتْ بَيْنَ خَسَارِ الدُّنْيَا بِحَسَدِك لَهُ عَلَى نِعْمَتِهِ وَكَوْنِك مُعَذَّبًا بِالْحَسَدِ، وَالْآخِرَةِ؛ لِأَنَّك نَصْرَتَهُ بِإِهْدَاءِ حَسَنَاتِك إلَيْهِ، أَوْ طَرْحِ سَيِّئَاتِهِ عَلَيْك، فَصِرْت صَدِيقَهُ وَعَدُوَّ نَفْسِك فَجَمَعْت إلَى خُبْثِ حَسَدِك جَهْلَ حَمَاقَتِك، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْك سَبَبَ انْتِشَارِ فَضْلِهِ كَمَا قِيلَ:
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ
…
طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ
وَفِي قَصْدِ الْمُبَاهَاةِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ أَنَّك بِمَا ذَكَرْته فِيهِ أَبْطَلْت فَضْلَك عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنْتَ لَسْت عَلَى ثِقَةٍ مِنْ اعْتِقَادِ النَّاسِ فِيك، بَلْ رُبَّمَا مَقَتُوك إذَا عَرَفُوك بِثَلْبِ الْأَعْرَاضِ وَقُبْحِ الْأَغْرَاضِ، فَقَدْ بِعْت مَا عِنْدَ اللَّهِ يَقِينًا بِمَا عِنْدَ الْمَخْلُوقِ الْعَاجِزِ وَهْمًا، وَفِي الِاسْتِهْزَاءِ أَنَّك إذَا أَخْزَيْت غَيْرَك عِنْدَ النَّاسِ فَقَدْ أَخْزَيْت نَفْسَك عِنْدَ اللَّهِ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا وَعِلَاجُ بَقِيَّةِ الْبَوَاعِثِ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَرَّرَ فَلَا حَاجَةَ لِلْإِطَالَةِ بِهِ. وَمِنْهَا: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْغِيبَةَ بِالْقَلْبِ حَرَامٌ، وَبَيَانُ مَعْنَاهُ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْإِحْيَاءِ بَيَانُ تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ بِالْقَلْبِ.
اعْلَمْ أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ حَرَامٌ مِثْلُ سُوءِ الْقَوْلِ، وَلَسْت أَعْنِي بِهِ إلَّا عَقْدَ الْقَلْبِ وَحُكْمَهُ عَلَى غَيْرِهِ بِالسُّوءِ، فَأَمَّا الْخَوَاطِرُ وَحَدِيثُ النَّفْسِ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، بَلْ الشَّكُّ أَيْضًا مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ أَنْ تَظُنَّ، وَالظَّنُّ عِبَارَةٌ عَمَّا تَرْكَنُ إلَيْهِ النَّفْسُ، وَيَمِيلُ إلَيْهِ الْقَلْبُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] وَسَبَبُ تَحْرِيمِهِ أَنَّ أَسْبَابَ الْقُلُوبِ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَلَيْسَ لَك أَنْ تَعْقِدَ فِي غَيْرِك سُوءًا إلَّا إذَا انْكَشَفَ لَك بِعِبَارَةٍ لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ. فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُك أَلَّا تَعْتَقِدَ مَا عَلِمْته وَشَاهَدْته وَمَا لَمْ تُشَاهِدْهُ بِعَيْنِك وَلَمْ تَسْمَعْهُ بِأُذُنِك ثُمَّ وَقَعَ فِي قَلْبِك؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِيهِ إلَيْك، فَيَنْبَغِي أَنْ تُكَذِّبَهُ فَإِنَّهُ أَفْسَقُ الْفُسَّاقِ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى أَوَّلَ سُورَةِ تِلْكَ الْآيَةِ: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الْآيَةَ. وَلَا تَغْتَرَّ بِمَخِيلَةِ فَسَادٍ إذَا احْتَمَلَ خِلَافَهَا؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ يَجُوزُ أَنْ يَصْدُقَ فِي خَبَرِهِ لَكِنْ لَا يَجُوزُ لَك تَصْدِيقُهُ؛ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ تَحُدَّ أَئِمَّتُنَا بِرَائِحَةِ الْخَمْرِ لِإِمْكَانِ أَنَّهَا مِنْ
غَيْرِهَا.
وَتَأَمَّلْ خَبَرَ: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنْ الْمُسْلِمِ دَمَهُ وَمَالَهُ، وَأَنْ تَظُنَّ بِهِ السُّوءَ» . فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ لَك ظَنُّ السُّوءِ بِهِ إلَّا مَا يَسُوغُ لَك أَخْذُ مَالِهِ مِنْ يَقِينِ مُشَاهَدَةٍ أَوْ بَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ، وَإِلَّا فَبَالِغْ فِي دَفْعِ الظَّنِّ عَنْك مَا أَمْكَنَك لِاحْتِمَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَمَارَةُ سُوءِ الظَّنِّ الْمُحَقَّقَةِ لَهُ أَنْ يَتَغَيَّرَ قَلْبُك عَلَيْهِ عَمَّا كَانَ فَتَنْفِرَ عَنْهُ وَتَسْتَثْقِلَهُ وَتَفْتُرَ عَنْ مُرَاعَاتِهِ.
وَفِي الْخَبَرِ: «ثَلَاثٌ فِي الْمُؤْمِنِ وَلَهُ مِنْهُنَّ مَخْرَجٌ، فَمَخْرَجُهُ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ أَنْ لَا يُحَقِّقَهُ» . أَيْ لَا يُحَقِّقُ مُقْتَضَاهُ فِي نَفْسِهِ بِعَقْدِ الْقَلْبِ بِتَغْيِيرِهِ إلَى النُّفْرَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَلَا بِفِعْلِ الْجَوَارِحِ بِإِعْمَالِهَا بِمُوجِبِهِ، وَالشَّيْطَانُ قَدْ يُقَرِّرُ عَلَى الْقَلْبِ بِأَدْنَى مُخْيَلَةٍ مَسَاءَةَ النَّاسِ، وَيُلْقِي إلَيْهِ أَنَّ هَذَا مِنْ مَزِيدِ فِطْنَتِك وَسُرْعَةِ تَنَبُّهِك، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ نَاظِرٌ بِنُورِ الشَّيْطَانِ وَظُلْمَتِهِ، وَإِذَا أَخْبَرَك عَدْلٌ فَمِلْت إلَى تَصْدِيقِهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ كُنْت جَانِيًا عَلَى أَحَدِهِمَا بِاعْتِقَادِ السُّوءِ فِي الْمُخْبَرِ عَنْهُ أَوْ الْكَذِبِ فِي الْمُخْبِرِ.
فَعَلَيْك أَنْ تَبْحَثَ هَلْ ثَمَّ تُهْمَةٌ فِي الْمُخْبِرِ بِنَحْوِ عَدَاوَةِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ وَجَدْتهَا فَتَوَقَّفَ وَابْقَ الْمُخْبِرِ عَنْهُ عَلَى مَا كَانَ عِنْدَك مِنْ عَدَمِ ظَنِّ السُّوءِ، وَلَا تُصْغِ لِمَنْ دَأْبُهُ الْكَلَامُ فِي النَّاسِ مُطْلَقًا. وَيَنْبَغِي لَك إذَا وَرَدَ عَلَيْك خَاطِرُ سُوءٍ بِمُسْلِمٍ أَنْ تُبَادِرَ بِالدُّعَاءِ لَهُ بِالْخَيْرِ؛ لِتَغِيظَ الشَّيْطَانَ، وَتَقْطَعَ عَنْهُ إلْقَاءَهُ إلَيْك ذَلِكَ مِنْ دُعَائِك لَهُ. وَإِذَا عَرَفْت هَفْوَةَ مُسْلِمٍ أَنْ تَنْصَحَهُ سِرًّا قَاصِدًا تَخْلِيصَهُ مِنْ الْإِثْمِ مُظْهِرًا لِحُزْنِك عَلَى مَا أَصَابَهُ كَمَا تَحْزَنُ لَوْ أَصَابَك لِتَجْمَعَ بَيْنَ أَجْرِ الْوَعْظِ وَأَجْرِ الْهَمِّ وَالْإِعَانَةِ لَهُ عَلَى دِينِهِ. وَمِنْ ثَمَرَاتِ سُوءِ الظَّنِّ التَّجَسُّسُ فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا يَقْنَعُ بِالظَّنِّ بَلْ يَطْلُبُ الْيَقِينَ فَيَتَجَسَّسُ، وَمَرَّ النَّهْيُ عَنْ التَّجَسُّسِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْخَلْقَ تَحْتَ سَرِيرَتِهِمْ فَيُتَوَصَّلُ إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا لَوْ دَامَ سِتْرُهُ عَنْك كَانَ أَسْلَمَ لِقَلْبِك وَدِينِك، وَجَمَعَ مَعَ الْغِيبَةِ سُوءَ الظَّنِّ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّلَازُمِ غَالِبًا.
وَمِنْهَا: يَجِبُ عَلَى الْمُغْتَابِ أَنْ يُبَادِرَ إلَى التَّوْبَةِ بِشُرُوطِهَا فَيُقْلِعَ وَيَنْدَمَ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ سبحانه وتعالى لِيُخْرِجَ مِنْ حَقِّهِ ثُمَّ يَسْتَحِلَّ الْمُغْتَابَ خَوْفًا أَيْضًا لِيَحِلَّهُ فَيَخْرُجَ عَنْ مَظْلِمَتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَكْفِيهِ الِاسْتِغْفَارُ عَنْ الِاسْتِحْلَالِ، وَاحْتَجَّ بِخَبَرِ:«كَفَّارَةُ مَنْ اغْتَبْتَهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ» . وَقَالَ الْحَسَنُ: كَفَّارَةُ ذَلِكَ أَنْ تُثْنِيَ عَلَيْهِ وَتَدْعُوَ لَهُ بِالْخَيْرِ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِحْلَالِ، وَزَعْمُ أَنَّ الْعِرْضَ لَا عِوَضَ لَهُ فَلَا يَجِبُ الِاسْتِحْلَالُ مِنْهُ بِخِلَافِ الْمَالِ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ وَجَبَ فِي الْعِرْضِ حَدُّ الْقَذْفِ. قِيلَ بَلْ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِحْلَالِ مِنْ الْمَظَالِمِ قَبْلَ يَوْمٍ لَا دِرْهَمٌ فِيهِ وَلَا دِينَارٌ،