الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُكَافِئَ بِأَقَلَّ مِمَّا وَهَبَ لَهُ مِنْهُ مَعَ قَوْلِهِ: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن: 17] الْآيَةَ. قَالَ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الظُّلَامَاتِ وَالتَّبَعَاتِ فَيُحَلَّلُ مِنْ التَّبَعَاتِ لِأَنَّ الظُّلَامَاتِ عُقُوبَةٌ لِفَاعِلِهَا أَخْذًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42] الْآيَةَ. وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَالْعَفْوُ عَنْ الظَّالِمِ أَوْلَى مِنْ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ انْتَهَى. وَمَا نَقَلَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ فِيهِ نَظَرٌ، وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي ضَمْضَمَ السَّابِقُ أَنَّ الْعَفْوَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُ الرَّوْضَةِ السَّابِقُ مَعْنَاهُ لَا أَطْلُبُ مَظْلِمَتِي لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ حَثَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِغْرَاءِ عَلَى مِثْلِ فِعْلِ أَبِي ضَمْضَمَ بِقَوْلِهِ:«أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمَ كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يَقُولُ إنِّي تَصَدَّقْت بِعِرْضِي عَلَى النَّاسِ» .
[الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ وَشَتْمُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ]
(الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ: بُغْضُ الْأَنْصَارِ وَشَتْمُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -) أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مِنْ عَلَامَةِ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ، وَمِنْ عَلَامَةِ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ» . وَالشَّيْخَانِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْأَنْصَارِ: لَا يُحِبُّهُمْ إلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُهُمْ إلَّا مُنَافِقٌ، مَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ» . وَمُسْلِمٌ: «لَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» . قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: وَالْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ نَصَرَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَدِينَهُ وَهُمْ بَاقُونَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمُعَادَاتُهُمْ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ انْتَهَى، وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ إنْ كَانَتْ لِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ فَوَاضِحَةٌ وَإِلَّا قَالَ إنَّمَا هِيَ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ وَلَا مَعْهُودَ بِهَذَا الْوَصْفِ غَيْرُ الْأَنْصَارِ الَّذِينَ هُمْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ.
وَالشَّيْخَانِ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» . وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي؛ فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي
أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ أَوْشَكَ أَنْ يَأْخُذَهُ» .
وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَقَدْ اسْتَوْفَيْتهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا فِي كِتَابٍ حَافِلٍ لَمْ يُصَنَّفْ فِي هَذَا الْبَابِ - فِيمَا أَظُنُّ - مِثْلُهُ، وَمِنْ ثَمَّ سَمَّيْته:[الصَّوَاعِقُ الْمُحْرِقَةُ لِإِخْوَانِ الشَّيَاطِينِ أَهْلِ الِابْتِدَاعِ وَالضَّلَالِ وَالزَّنْدَقَةِ] فَاطْلُبْهُ إنْ شِئْت لِتَرَى مَا فِيهِ مِنْ مَحَاسِنِ الصَّحَابَةِ وَثَنَاءِ أَهْلِ الْبَيْتِ عَلَيْهِمْ لَا سِيَّمَا الشَّيْخَانِ، وَمِنْ افْتِضَاحِ الشِّيعَةِ وَالرَّافِضَةِ فِي كَذِبِهِمْ وَتَقَوُّلِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِمْ بِمَا هُمْ بَرِيئُونَ مِنْهُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -.
تَنْبِيهٌ: عَدُّ مَا ذُكِرَ كَبِيرَتَيْنِ هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَقَدْ صَرَّحَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ سَبَّ الصَّحَابَةِ كَبِيرَةٌ، قَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ: وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ مُفَارَقَةِ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ الِابْتِدَاعُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِتَرْكِ السُّنَّةِ، فَمَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم أَتَى كَبِيرَةً بِلَا نِزَاعٍ، انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا صَرِيحُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا كَحَدِيثِ:«إنَّ اللَّهَ اخْتَارَنِي وَاخْتَارَ لِي أَصْحَابًا فَجَعَلَ لِي مِنْهُمْ وُزَرَاءَ وَأَنْصَارًا وَأَصْهَارًا فَمَنْ شَتَمَهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» .
وَحَدِيثُ: «إنَّ اللَّهَ اخْتَارَنِي وَاخْتَارَ لِي أَصْحَابًا فَجَعَلَ لِي إخْوَانًا وَأَصْحَابًا وَأَصْهَارًا، وَسَيَجِيءُ قَوْمٌ بَعْدَهُمْ يَعِيبُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَهُمْ فَلَا تُؤَاكِلُوهُمْ وَلَا تُشَارِبُوهُمْ وَلَا تُنَاكِحُوهُمْ وَلَا تُصَلُّوا مَعَهُمْ وَلَا تُصَلُّوا خَلْفَهُمْ» . وَكَحَدِيثِ: «إذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا» .
وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَ كَافِرًا، وَأَنَّهُمْ اسْتَنَدُوا فِي ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ سَبَّك يَا أَبَا بَكْرٍ فَقَدْ كَفَرَ» . وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا» ، فَمَنْ قَالَ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرٍ وَذُرِّيَّتِهِ فَهُوَ كَافِرٌ هُنَا قَطْعًا، وَأَيْضًا فَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي غَيْرِ آيَةٍ، قَالَ تَعَالَى:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] فَمَنْ سَبَّهُمْ أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ، وَمَنْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ أَهْلَكَهُ وَخَذَلَهُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إذَا ذُكِرَ الصَّحَابَةُ بِسُوءٍ كَإِضَافَةِ عَيْبٍ إلَيْهِمْ وَجَبَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ، بَلْ وَيَجِبُ إنْكَارُهُ بِالْيَدِ ثُمَّ اللِّسَانِ ثُمَّ الْقَلْبِ عَلَى حَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ كَسَائِرِ
الْمُنْكَرَاتِ، بَلْ هَذَا مِنْ أَشَرِّهَا وَأَقْبَحِهَا، وَمِنْ ثَمَّ أَكَّدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم التَّحْذِيرَ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:" اللَّهَ اللَّهَ ": أَيْ احْذَرُوا اللَّهَ أَيْ عِقَابَهُ وَعَذَابَهُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] وَكَمَا تَقُولُ لِمَنْ تَرَاهُ مُشْرِفًا عَلَى الْوُقُوعِ فِي نَارٍ عَظِيمَةٍ النَّارَ النَّارَ: أَيْ احْذَرْهَا.
وَتَأَمَّلْ أَعْظَمَ فَضَائِلِهِمْ وَمَنَاقِبِهِمْ الَّتِي نَوَّهَ بِهَا صلى الله عليه وسلم حَيْثُ جَعَلَ مَحَبَّتَهُمْ مَحَبَّةً لَهُ وَبُغْضَهُمْ بُغْضًا لَهُ وَنَاهِيك بِذَلِكَ جَلَالَةً لَهُمْ وَشَرَفًا، فَحُبُّهُمْ عُنْوَانُ مَحَبَّتِهِ وَبُغْضُهُمْ عُنْوَانُ بُغْضِهِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ حُبُّ الْأَنْصَارِ مِنْ الْإِيمَانِ وَبُغْضُهُمْ مِنْ النِّفَاقِ لِسَابِقَتِهِمْ وَبَذْلِهِمْ الْأَنْفُسَ وَالْأَمْوَالَ فِي مَحَبَّتِهِ صلى الله عليه وسلم وَنُصْرَتِهِ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ فَضَائِلَ الصَّحَابَةِ مَنْ تَدَبَّرَ سَيْرَهُمْ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم وَآثَارَهُمْ الْحَمِيدَةَ فِي الْإِسْلَامِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، فَجَزَاهُمْ اللَّهُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ خَيْرَ الْجَزَاءِ وَأَكْمَلَهُ وَأَفْضَلَهُ، فَقَدْ جَاهَدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ حَتَّى نَشَرُوا الدِّينَ وَأَظْهَرُوا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مِنْهُمْ مَا وَصَلَ إلَيْنَا قُرْآنٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ، فَمَنْ طَعَنَ فِيهِمْ فَقَدْ كَادَ أَنْ يَمْرُقَ مِنْ الْمِلَّةِ لِأَنَّ الطَّعْنَ فِيهِمْ يُؤَدِّي إلَى انْطِمَاسِ نُورِهَا:{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32] وَإِلَى عَدَمِ الطُّمَأْنِينَةِ وَالْإِذْعَانِ لِثَنَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِلَى الطَّعْنِ فِي اللَّهِ وَفِي رَسُولِهِ إذْ هُمْ الْوَسَائِطُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَالطَّعْنُ فِي الْوَسَائِطِ طَعْنٌ فِي الْأَصْلِ، وَالْإِزْرَاءُ بِالنَّاقِلِ إزْرَاءٌ بِالْمَنْقُولِ عَنْهُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَقَدْ سَلِمَتْ عَقِيدَتُهُ مِنْ النِّفَاقِ وَالْغُلُولِ وَالزَّنْدَقَةِ. فَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حُبَّ مَنْ قَامَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ وَأَوْضَحَهُ وَبَلَّغَهُ لِمَنْ بَعْدَهُ وَأَدَاءُ جَمِيعِ حُقُوقِهِ وَالصَّحَابَةُ هُمْ الْقَائِمُونَ بِأَعْبَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ مِنْ أَكَابِرِ السَّلَفِ: مَنْ أَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ فَقَدْ أَقَامَ مَنَارَ الدِّينِ، وَمَنْ أَحَبَّ عُمَرَ فَقَدْ أَوْضَحَ السَّبِيلَ، وَمِنْ أَحَبَّ عُثْمَانَ فَقَدْ اسْتَنَارَ بِنُورِ اللَّهِ، وَمَنْ أَحَبَّ عَلِيًّا فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَمَنْ قَالَ الْخَيْرُ فِي جَمِيعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ بَرِئَ مِنْ النِّفَاقِ؛ وَمَنَاقِبُهُمْ وَفَضَائِلُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ.
وَأَجْمَعُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَهُمْ الْعَشَرَةُ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ عَلَى لِسَانِهِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَأَفْضَلُ هَؤُلَاءِ أَبُو بَكْرٍ فَعُمَرُ، قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ: فَعُثْمَانُ فَعَلِيٌّ وَلَا يَطْعَنُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا مُبْتَدِعٌ مُنَافِقٌ خَبِيثٌ. وَقَدْ أَرْشَدَ صلى الله عليه وسلم إلَى التَّمَسُّكِ بِهَدْيِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ بِقَوْلِهِ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ
الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» . وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ هُمْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ.
وَلَقَدْ شُوهِدَ عَلَى سَابِّهِمْ قَبَائِحُ تَدُلُّ عَلَى خُبْثِ بَوَاطِنِهِمْ وَشِدَّةِ عِقَابِهِمْ: مِنْهَا مَا حَكَاهُ الْكَمَالُ بْنُ الْقَدِيمِ فِي تَارِيخِ حَلَبٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ ابْنُ مُنِيرٍ خَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنْ شُبَّانِ حَلَبٍ يَتَفَرَّجُونَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَدْ سَمِعْنَا أَنَّهُ لَا يَمُوتُ أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ يَسُبُّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا وَيَمْسَخُهُ اللَّهُ فِي قَبْرِهِ خِنْزِيرًا وَلَا شَكَّ أَنَّ ابْنَ مُنِيرٍ كَانَ يَسُبُّهُمَا فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ إلَى الْمُضِيِّ إلَى قَبْرِهِ فَمَضَوْا وَنَبَشُوهُ فَوَجَدُوا صُورَتَهُ صُورَةَ خِنْزِيرٍ وَوَجْهَهُ مُنْحَرِفٌ عَنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى، فَأَخْرَجُوهُ عَلَى شَفِيرِ قَبْرِهِ لِيُشَاهِدَهُ النَّاسُ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ فَأَحْرَقُوهُ بِالنَّارِ وَأَعَادُوهُ فِي قَبْرِهِ وَرَدُّوا عَلَيْهِ التُّرَابَ وَانْصَرَفُوا.
قَالَ الْكَمَالُ أَيْضًا: وَأَخْبَرَنِي أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ الشَّيْخِ الصَّالِحِ عُمَرَ الرُّعَيْنِيِّ قَالَ: كُنْت مُجَاوِرًا بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ - عَلَى مُشَرِّفِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ - فَخَرَجْت يَوْمَ عَاشُورَاءَ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْإِمَامِيَّةُ فِي قُبَّةِ الْعَبَّاسِ وَقَدْ اجْتَمَعُوا فِي الْقُبَّةِ، قَالَ: فَوَقَفْت أَنَا عَلَى بَابِ الْقُبَّةِ وَقُلْت أُرِيدُ فِي مَحَبَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ شَيْئًا، قَالَ فَخَرَجَ إلَيَّ شَيْخٌ مِنْهُمْ وَقَالَ اجْلِسْ حَتَّى نَفْرُغَ وَنُعْطِيَك فَجَلَسْت حَتَّى فَرَغُوا، ثُمَّ خَرَجَ إلَيَّ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَأَخَذَ بِيَدَيْ وَمَضَى بِي إلَى دَارِهِ وَأَدْخَلَنِي الدَّارَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ وَرَائِي وَسَلَّطَ عَلَيَّ عَبْدَيْنِ فَكَتَّفَانِي وَأَوْجَعَانِي ضَرْبًا ثُمَّ أَمَرَهُمَا بِقَطْعِ لِسَانِي فَقَطَعَاهُ ثُمَّ أَمَرَهُمَا فَحَلَّا كِتَافِي وَقَالَ اُخْرُجْ إلَى الَّذِي طَلَبْت فِي مَحَبَّتِهِ لِيَرُدَّ عَلَيْك لِسَانَك.
قَالَ: فَخَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ إلَى الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ النَّبَوِيَّةِ وَأَنَا أَبْكِي مِنْ شِدَّةِ الْوَجَعِ وَالْأَلَمِ وَقُلْت فِي نَفْسِي: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ تَعْلَمُ مَا أَصَابَنِي فِي مَحَبَّةِ أَبِي بَكْرٍ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُك حَقًّا فَأُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَيَّ لِسَانِي وَبِتْ فِي الْحُجْرَةِ قَلِقًا مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ فَأَخَذَتْنِي سَنَةٌ مِنْ النَّوْمِ فَرَأَيْت فِي مَنَامِي أَنَّ لِسَانِي قَدْ عَادَ إلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ فَاسْتَيْقَظْت فَوَجَدْته فِي فَمِي صَحِيحًا كَمَا كَانَ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ فَقُلْت الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ عَلَيَّ لِسَانِي، قَالَ: فَازْدَدْت مَحَبَّةً فِي أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الثَّانِي فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ اجْتَمَعُوا عَلَى عَادَتِهِمْ فَخَرَجْت إلَى بَابِ الْقُبَّةِ وَقُلْت أُرِيدُ فِي مَحَبَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ دِينَارًا، فَقَامَ إلَيَّ شَابٌّ مِنْ الْحَاضِرِينَ وَقَالَ لِي اجْلِسْ حَتَّى نَفْرُغَ فَجَلَسْت، فَلَمَّا فَرَغُوا خَرَجَ إلَيَّ ذَلِكَ الشَّابُّ وَأَخَذَ بِيَدَيْ
وَمَضَى بِي إلَى تِلْكَ الدَّارِ فَأَدْخَلَنِي وَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْ طَعَامًا فَأَكَلْنَا، فَلَمَّا فَرَغْنَا قَامَ الشَّابُّ وَفَتْح بَابًا عَلَى بَيْتٍ فِي دَارِهِ وَجَعَلَ يَبْكِي فَقُمْت لِأَنْظُرَ مَا سَبَبُ بُكَائِهِ فَرَأَيْت فِي الْبَيْتِ قِرْدًا مَرْبُوطًا فَسَأَلْته عَنْ قِصَّتِهِ فَازْدَادَ بُكَاؤُهُ فَسَكَّنْته حَتَّى سَكَنَ، فَقُلْت بِاَللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ حَالِك؟ فَقَالَ إنْ حَلَفْت لِي أَنْ لَا تُخْبِرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَخْبَرْتُك فَحَلَفْت لَهُ.
فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّهُ أَتَانَا عَامَ أَوَّلَ رَجُلٌ وَطَلَبَ فِي مَحَبَّةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه شَيْئًا فِي قُبَّةِ الْعَبَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءِ فَقَامَ إلَيْهِ أَبِي وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْإِمَامِيَّةِ وَالشِّيعَةِ وَقَالَ لَهُ اجْلِسْ حَتَّى نَفْرُغَ؛ فَلَمَّا فَرَغُوا أَتَى بِهِ هَذِهِ الدَّارَ وَسَلَّطَ عَلَيْهِ عَبْدَيْنِ فَضَرَبَاهُ وَأَمَرَ بِقَطْعِ لِسَانِهِ فَقُطِعَ وَأَخْرَجَهُ فَمَضَى لِسَبِيلِهِ وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُ خَبَرًا، فَلَمَّا كَانَ مِنْ اللَّيْلِ وَنِمْنَا صَرَخَ أَبِي صَرْخَةً عَظِيمَةً اسْتَيْقَظْنَا مِنْ شِدَّةِ صَرْخَتِهِ فَوَجَدْنَاهُ قَدْ مَسَخَهُ اللَّهُ قِرْدًا فَفَزِعْنَا مِنْهُ وَأَدْخَلْنَاهُ هَذَا الْبَيْتَ وَرَبَطْنَاهُ وَأَظْهَرْنَا لِلنَّاسِ مَوْتَهُ وَهَا أَنَا أَبْكِي عَلَيْهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، قَالَ فَقُلْت لَهُ إذَا رَأَيْت الَّذِي قَطَعَ أَبُوك لِسَانَهُ تَعْرِفُهُ؟ قَالَ: لَا وَاَللَّهِ، قُلْت أَنَا هُوَ وَاَللَّهِ أَنَا الَّذِي قَطَعَ أَبُوك لِسَانِي وَقَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، قَالَ فَأَكَبَّ عَلَيَّ وَقَبَّلَ رَأْسِي وَيَدَيْ ثُمَّ أَعْطَانِي ثَوْبًا وَدِينَارًا وَسَأَلَنِي كَيْفَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ لِسَانِي فَأَخْبَرْته وَانْصَرَفْت.
هَذَا، وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ: وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ: الرَّافِضَةُ يَهُودُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِأَنَّهُمْ يُبْغِضُونَ الْإِسْلَامَ مِثْلُهُمْ إذْ لَمْ يَدْخُلُوا فِيهِ رَغْبَةً وَلَا رَهْبَةً وَإِنَّمَا دَخَلُوا فِيهِ مَقْتًا لِأَهْلِهِ وَبَغْيًا عَلَيْهِمْ، لَوْ كَانُوا دَوَابَّ لَكَانُوا حَمِيرًا وَلَوْ كَانُوا مِنْ الطَّيْرِ لَكَانُوا رُخْمًا وَمِحْنَتُهُمْ مِحْنَةُ الْيَهُودِ، قَالَتْ الْيَهُودُ: لَا يَكُون الْمُلْكُ إلَّا فِي آلِ وَالنَّسَائِيُّ وَلَا جِهَادَ حَتَّى يَخْرُجَ الْمَسِيحُ، وَيُؤَخِّرُونَ الْمَغْرِبَ إلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ، وَلَا يَرَوْنَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ، وَيَنْأَوْنَ عَنْ الْقِبْلَةِ، وَيَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَ غَيْرِهِمْ وَيَقُولُونَ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيُحَرِّفُونَ التَّوْرَاةَ وَيُبْغِضُونَ جِبْرِيلَ وَيَقُولُونَ هُوَ عَدُوُّنَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَأَنَّهُ غَلِطَ فِي الْوَحْيِ إلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَأْكُلُونَ لَحْمَ الْجَزُورِ.
وَكَذَلِكَ الرَّافِضَةُ يَقُولُونَ بِنَظِيرِ ذَلِكَ كُلِّهِ كَقَوْلِهِمْ: لَا يَكُونُ الْمُلْكُ إلَّا فِي آلِ عَلِيٍّ وَلَا جِهَادَ حَتَّى يَخْرُجَ الْمَهْدِيُّ، وَيُؤَخِّرُونَ الْمَغْرِبَ لِاشْتِبَاكِ النُّجُومِ، وَلَا يَرَوْنَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ، وَيَنْأَوْنَ عَنْ الْقِبْلَةِ، وَيَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُحَرِّفُونَ الْقُرْآنَ وَيُبْغِضُونَ جِبْرِيلَ وَيَقُولُونَ غَلِطَ فِي الْوَحْيِ إلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا بُعِثَ إلَى عَلِيٍّ.
ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَلِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَيْهِمْ مَزِيَّةٌ فِي خَصْلَتَيْنِ.
إحْدَاهُمَا: إذَا سُئِلُوا مَنْ خَيْرُ مِلَّتِكُمْ؟ قَالُوا أَصْحَابُ مُوسَى، وَكَذَلِكَ النَّصَارَى قَالُوا خَيْرُ مِلَّتِنَا أَصْحَابُ عِيسَى. وَسُئِلَتْ الرَّافِضَةُ مَنْ شَرُّ مِلَّتِكُمْ؟ قَالُوا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يَسْتَغْفِرُونَ لِمُتَقَدِّمِيهِمْ، وَالرَّافِضَةُ أُمِرُوا بِالِاسْتِغْفَارِ لِلصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فَسَبُّوهُمْ وَالسَّيْفُ عَلَيْهِمْ مَسْلُولٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ قَدَمٌ وَلَا تَقُومُ لَهُمْ حُجَّةٌ وَلَا تَجْتَمِعُ لَهُمْ كَلِمَةٌ دَعْوَتُهُمْ مَدْحُورَةٌ وَحُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ وَكَلَامُهُمْ مُخْتَلِفٌ وَجَمْعُهُمْ مُتَفَرِّقٌ {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64] .
قَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: خَرَجْت أَنَا وَجَمَاعَةٌ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَنَزَلْنَا عَلَى نَقِيبٍ مِنْ نُقَبَاءِ الْأَشْرَافِ الْعَلَوِيِّينَ، وَكَانَ لَهُ خَادِمٌ يَهُودِيٌّ يَتَوَلَّى أَمْرَ خِدْمَتِهِ دَاخِلًا وَخَارِجًا وَكَانَ قَدْ عُرِفَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ رَجُلٌ هَاشِمِيٌّ صَدِيقٌ لِي فَأَكْرَمَنَا ذَلِكَ النَّقِيبُ وَأَحْسَنَ إلَيْنَا، فَقَالَ صَدِيقِي الْهَاشِمِيُّ: أَيُّهَا النَّقِيبُ: إنَّ أُمُورَك كُلَّهَا حَسَنَةٌ قَدْ جَمَعْت الشَّرَفَ وَالْمُرُوءَةَ وَالْكَرَمَ إلَّا أَنَّا أَنْكَرْنَا اسْتِخْدَامَك لِهَذَا الْيَهُودِيِّ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِدِينِك وَدِينِ جَدِّك، فَقَالَ النَّقِيبُ: إنِّي قَدْ اشْتَرَيْت غِلْمَانًا كَثِيرَةً وَجِوَارِي فَمَا رَأَيْت أَحَدًا مِنْهُمْ وَافَقَنِي وَمَا وَجَدْت فِيهِمْ أَمَانَةً وَنُصْحًا مِثْلَ هَذَا الْيَهُودِيِّ يَقُومُ بِأُمُورِي كُلِّهَا ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا وَفِيهِ الْأَمَانَةُ وَالْكِفَايَةُ، فَقَالَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ الْحَاضِرِينَ: أَيُّهَا النَّقِيبُ فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَاعْرِضْ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُ بِك فَأَرْسَلَ إلَيْهِ مَنْ دَعَاهُ فَجَاءَ. وَقَالَ: اللَّهَ لَقَدْ عَرَفْت لِمَاذَا دَعَوْتُمُونِي، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ: أَيُّهَا الْيَهُودِيُّ إنَّ هَذَا النَّقِيبَ الَّذِي أَنْتَ فِي خِدْمَتِهِ قَدْ عَرَفْت فَضْلَهُ وَرِئَاسَتَهُ وَشَرَفَهُ وَهُوَ يُحِبُّك وَيُثْنِي عَلَيْك بِالْأَمَانَةِ وَحُسْنِ الرِّعَايَةِ.
فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَأَنَا أَيْضًا أُحِبُّهُ، قُلْنَا: فَلِمَ لَا تَتْبَعْهُ عَلَى دِينِهِ وَتُسْلِمُ؟ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَيُّهَا الْجَمَاعَةُ أَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّ عُزَيْرًا نَبِيٌّ كَرِيمٌ وَكَذَلِكَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَوْ عَلِمْت أَنَّ فِي الْيَهُودِ مَنْ يَتَّهِمُ زَوْجَةَ نَبِيٍّ وَيَسُبُّ أَبَاهَا وَيَسُبُّ أَصْحَابَهُ لَمَا تَبِعْت دِينَهُمْ، فَإِذَا أَسْلَمْت أَنَا فَمَنْ أَتَّبِعُ؟ قُلْنَا تَتْبَعُ هَذَا النَّقِيبَ الَّذِي أَنْتَ فِي خِدْمَتِهِ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: مَا أَرْضَى هَذَا لِنَفْسِي، قُلْنَا: وَلِمَ؟ قَالَ لِأَنَّ هَذَا النَّقِيبَ يَقُولُ فِي عَائِشَةَ زَوْجَةِ نَبِيِّهِ مَا يَقُولُ وَيَسُبُّ أَبَاهَا وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما فَلَا أَرْضَى لِنَفْسِي أَنْ أَتَّبِعَ دِينَ مُحَمَّدٍ وَأَقْذِفُ أَزْوَاجَهُ وَأَسُبَّ أَصْحَابَهُ
فَرَأَيْت دِينِي الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ خَيْرًا مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ. فَوَجَدَ النَّقِيبُ سَاعَةً ثُمَّ عَرَفَ صِدْقَ الْيَهُودِيِّ فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ إلَى الْأَرْضِ سَاعَةً وَقَالَ: صَدَقْت مُدَّ يَدَك فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهَ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَقَدْ تُبْت إلَى اللَّهِ عَمَّا كُنْت أَقُولُ وَأَعْتَقِدُهُ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَأَنَا أَيْضًا أَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ كُلَّ دِينٍ غَيْرُ دِينِ الْإِسْلَامِ بَاطِلٌ، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَتَابَ النَّقِيبُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عز وجل وَهِدَايَتِهِ، وَفَّقَنَا اللَّهُ لِمَرْضَاتِهِ وَهَدَانَا لِاقْتِفَاءِ آثَارِ نَبِيِّهِ وَسُنَّتِهِ صلى الله عليه وسلم إنَّهُ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ.
وَإِنَّمَا أَسْلَمَ النَّقِيبُ الْمَذْكُورُ لِأَنَّ سَبَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِالْفَاحِشَةِ كُفْرٌ إجْمَاعًا لِأَنَّ فِيهِ تَكْذِيبًا لِلْقُرْآنِ النَّازِلِ بِبَرَاءَتِهَا مِمَّا نَسَبَهُ إلَيْهَا الْمُنَافِقُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ إنْكَارُ صُحْبَةِ أَبِيهَا كُفْرٌ إجْمَاعًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَكْذِيبًا لِلْقُرْآنِ أَيْضًا، قَالَ تَعَالَى:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] وَقَدْ أَفْتَى غَيْرُ وَاحِدٍ بِقَتْلِ سَابِّ عَائِشَةَ رضي الله عنها.
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ الْهَمْدَانِيُّ: كُنْت يَوْمًا بِحَضْرَةِ الْحَسَنِ بْنِ يَزِيدَ الدَّاعِي بِطَبَرِسْتَانَ وَكَانَ يَلْبَسُ الصُّوفَ وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُوَجِّهُ كُلَّ سَنَةٍ إلَى بَغْدَادَ عِشْرِينَ أَلْفِ دِينَارٍ تُفَرَّقُ عَلَى أَوْلَادِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، فَحَضَرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ فَذَكَرَ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِذِكْرٍ قَبِيحٍ مِنْ الْفَاحِشَةِ، فَقَالَ الْحَسَنُ لِغُلَامِهِ يَا غُلَامُ قُمْ فَاضْرِبْ عُنُقَ هَذَا فَنَهَضَ إلَيْهِ الْعَلَوِيُّونَ وَقَالُوا هَذَا رَجُلٌ مِنْ شِيعَتِنَا، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ طَعَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26] فَإِذَا كَانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها خَبِيثَةً فَإِنَّ زَوْجَهَا يَكُونُ خَبِيثًا وَحَاشَاهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ هُوَ الطَّيِّبُ الطَّاهِرُ بَلْ هُوَ أَطْيَبُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَهِيَ الطَّيِّبَةُ الطَّاهِرَةُ الْمُبَرَّأَةُ مِنْ السَّبِّ.
قُمْ يَا غُلَامُ فَاضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْكَافِرِ فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
وَقَدْ تَمَيَّزَتْ رضي الله عنها بِمَنَاقِبَ كَثِيرَةٍ: جَاءَ جِبْرِيلُ بِصُورَتِهَا فِي رَاحَتِهِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا، وَمَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً هَاجَرَ أَبَوَاهَا إلَّا هِيَ، وَكَانَتْ أَحَبَّ نِسَائِهِ إلَيْهِ وَأَبُوهَا أَعَزَّ أَصْحَابِهِ وَأَكْرَمَهُمْ وَأَفْضَلَهُمْ عِنْدَهُ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي غَيْرِ لِحَافِهَا، وَنَزَلَتْ بَرَاءَتُهَا مِنْ السَّمَاءِ رَدًّا عَلَى مَنْ طَعَنَ فِيهَا، وَوَهَبَتْهَا سَوْدَةُ يَوْمِهَا وَلَيْلَتِهَا فَكَانَ لَهَا يَوْمَانِ وَلَيْلَتَانِ دُونَ بَقِيَّةِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَتْ تَغْضَبُ فَيَتَرَضَّاهَا، وَقُبِضَ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ سَحَرِهَا وَنَحْرِهَا، وَاتَّفَقَ ذَلِكَ فِي يَوْمِهَا وَكَانَ قَدْ
اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِهَا فَلَمْ يَمُتْ إلَّا فِي الْيَوْمِ الْمُوَافِقِ لِنَوْبَتِهَا وَاسْتِحْقَاقِهَا، وَخَالَطَ رِيقُهَا رِيقَهُ فِي آخِرِ أَنْفَاسِهِ وَدُفِنَ بِمَنْزِلِهَا، وَلَمْ تَرْوِ عَنْهُ امْرَأَةٌ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَلَا بَلَغَتْ عُلُومُ النِّسَاءِ قَطْرَةً مِنْ عُلُومِهَا فَإِنَّهَا رَوَتْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَلْفَيْ حَدِيثٍ وَمِائَتَيْ حَدِيثٍ، وَلَقَدْ خُلِقَتْ طَيِّبَةً وَعِنْدَ طَيِّبٍ وَوُعِدَتْ مَغْفِرَةً وَرِزْقًا كَرِيمًا.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه: مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا عَنْهُ عَائِشَةَ إلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا، وَكَانَتْ فَصَيْحَةَ الطَّبْعِ، غَزِيرَةَ الْكَرَمِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ، قَسَمَتْ رضي الله عنها سَبْعِينَ أَلْفًا فِي الْمَحَاوِيجِ وَدِرْعُهَا مَرْقُوعٌ، وَلَقَدْ شَاعَ حُبُّهُ صلى الله عليه وسلم لَهَا حَتَّى كَانَ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَهَا حَتَّى أَضْجَرَ ذَلِكَ جَمَاعَةً مِنْ ضَرَائِرِهَا، فَسَأَلْنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى لِسَانِ فَاطِمَةَ رضي الله عنها بِنْتِهِ وَعَلَى لِسَانِ غَيْرِهَا الْعَدْلَ فِي بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يُجِبْ صلى الله عليه وسلم إلَّا بِ «لَا تُؤْذُونِي فِي عَائِشَةَ فَوَاَللَّهِ مَا نَزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرَهَا» .
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» .
وَكُشِفَ عَنْ بَصَرِهَا فَرَأَتْ جِبْرِيلَ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَلِّمْ عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهَا هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامُ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ:
وَلَوْ كَانَ النِّسَاءُ كَمَنْ ذُكِرْنَا
…
لَفُضِّلَتْ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ
فَمَا التَّأْنِيثُ لِاسْمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ
…
وَلَا التَّذْكِيرُ فَخْرٌ لِلْهِلَالِ