الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آخَرُ فَيُقَالُ لَهُ هَلُمَّ هَلُمَّ فَيَجِيءُ بِكَرْبِهِ وَغَمِّهِ فَإِذَا جَاءَهُ أُغْلِقَ دُونَهُ، فَمَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ الْبَابُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ هَلُمَّ فَمَا يَأْتِيهِ مِنْ الْإِيَاسِ» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] الصَّغِيرَةُ التَّبَسُّمُ، وَالْكَبِيرَةُ الضَّحِكُ بِحَالَةِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى:{بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات: 11] مَنْ لَقَّبَ أَخَاهُ وَسَخِرَ بِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ. وَالسُّخْرِيَةُ الِاسْتِحْقَارُ وَالِاسْتِهَانَةُ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ يَوْمَ يَضْحَكُ مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْمُحَاكَاةِ بِالْفِعْلِ أَوْ الْقَوْلِ أَوْ الْإِشَارَةِ أَوْ الْإِيمَاءِ أَوْ الضَّحِكِ عَلَى كَلَامِهِ إذَا تَخَبَّطَ فِيهِ أَوْ غَلَطَ أَوْ عَلَى صَنْعَتِهِ أَوْ قَبِيحِ صُورَتِهِ.
تَنْبِيهٌ: عَدُّ هَذَا هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مَعَ ذِكْرِهِ لِلْغِيبَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِهَا كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ فِيهَا، وَكَأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ اقْتِدَاءً بِأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَإِنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِهِ ذَكَرَ الْغِيبَةِ، وَتَنْبِيهًا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ عَنْهُ نَظِيرُ مَا تَقَرَّرَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ.
[الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ النَّمِيمَةُ]
(الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ: النَّمِيمَةُ) . قَالَ تَعَالَى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11] ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13] أَيْ دَعِيٍّ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا يَكْتُمُ الْحَدِيثَ، فَعَدَمُ كَتْمِهِ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْمَشْيِ بِالنَّمِيمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ وَلَدُ زِنَا. وَقَالَ تَعَالَى:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] قِيلَ اللُّمَزَةُ النَّمَّامُ. وَقَالَ تَعَالَى: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] قِيلَ كَانَتْ نَمَّامَةٌ حَمَّالَةٌ لِلْحَدِيثِ إفْسَادًا بَيْنَ النَّاسِ، وَسُمِّيَتْ النَّمِيمَةُ حَطَبًا؛ لِأَنَّهَا تَنْشُرُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ النَّاسِ كَمَا أَنَّ الْحَطَبَ يَنْشُرُ النَّارَ. وَقَالَ تَعَالَى:{فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [التحريم: 10] أَيْ؛ لِأَنَّ امْرَأَةَ نُوحٍ كَانَتْ تَقُولُ عَنْهُ مَجْنُونٌ، وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتْ تُخْبِرُ قَوْمَهَا بِضِيفَانِهِ حَتَّى يَقْصِدُوهُمْ لِتِلْكَ الْفَاحِشَةِ الْقَبِيحَةِ الَّتِي اخْتَرِعُوهَا حَتَّى أَهْلَكَتْهُمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ الْفَظِيعِ.
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ» . وَفِي رِوَايَةٍ: " قَتَّاتٌ " وَهُوَ النَّمَّامُ. وَقِيلَ: النَّمَّامُ الَّذِي يَكُونُ مَعَ جَمْعٍ يَتَحَدَّثُونَ حَدِيثًا فَيَنِمُّ عَلَيْهِمْ. وَالْقَتَّاتُ: الَّذِي يَسْتَمِعُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ثُمَّ يَنِمُّ.
وَالشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ: «مَرَّ صلى الله عليه وسلم بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَقَالَ إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ - أَيْ أَمْرٍ شَاقٍّ عَلَيْهِمَا لَوْ فَعَلَاهُ بَلْ إنَّهُ كَبِيرٌ أَيْ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ - أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ بَوْلِهِ» . الْحَدِيثُ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ طُرُقُهُ فِي مَوَاضِعَ، وَأَنَّ ثُلُثَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْغِيبَةِ وَثُلُثَهُ مِنْ النَّمِيمَةِ، وَثُلُثَهُ مِنْ الْبَوْلِ.
وَالطَّبَرَانِيُّ: «النَّمِيمَةُ وَالشَّتِيمَةُ وَالْحَمِيَّةُ فِي النَّارِ» . وَفِي لَفْظٍ: «النَّمِيمَةُ وَالْحِقْدُ فِي النَّارِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ مُسْلِمٍ» . وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مَتْرُوكَانِ مُتَّهَمَانِ بِالْوَضْعِ: «أَلَا أَنَّ الْكَذِبَ يُسَوِّدُ الْوَجْهَ، وَالنَّمِيمَةَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ» .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا نَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَرَرْنَا بِقَبْرَيْنِ فَقَامَ فَقُمْنَا مَعَهُ فَجَعَلَ لَوْنُهُ يَتَغَيَّرُ حَتَّى رَعَدَ كُمُّ قَمِيصِهِ فَقُلْنَا مَالَك يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ أَمَا تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ، فَقُلْنَا وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ هَذَانِ رَجُلَانِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا عَذَابًا شَدِيدًا فِي ذَنْبٍ هَيِّنٍ أَيْ فِي ظَنِّهِمَا لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِلتَّصْرِيحِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَهُوَ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ قُلْنَا فِيمَ ذَلِكَ؟ قَالَ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَتَنَزَّهُ مِنْ الْبَوْلِ، وَكَانَ الْآخَرُ يُؤْذِي النَّاسَ بِلِسَانِهِ وَيَمْشِي بَيْنَهُمْ بِالنَّمِيمَةِ، فَدَعَا بِجَرِيدَتَيْنِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ فَجَعَلَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً قُلْنَا وَهَلْ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا دَامَتَا رَطْبَتَيْنِ» . وَالطَّبَرَانِيُّ: «لَيْسَ مِنِّي ذُو حَسَدٍ وَلَا نَمِيمَةٍ وَلَا كِهَانَةٍ وَلَا أَنَا مِنْهُ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] » .
وَأَحْمَدُ: «خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إذَا رُءُوا ذُكِرَ اللَّهُ، وَشِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ» وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنِ أَبِي الدُّنْيَا: «الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ» . وَأَبُو الشَّيْخِ: «الْهَمَّازُونَ وَاللَّمَّازُونَ وَالْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَيْبَ يَحْشُرُهُمْ اللَّهُ فِي وُجُوهِ الْكِلَابِ» . وَعَنْ. جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مِنْ أَحَبِّكُمْ إلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا» . الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ: «إنَّ أَحَبَّكُمْ إلَيَّ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَى اللَّهِ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْمُلْتَمِسُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَيْبَ» . وَفِي أُخْرَى: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ قَالُوا بَلَى إنْ شِئْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: شِرَارُكُمْ الَّذِي يَنْزِلُ وَحْدَهُ، وَيَجْلِدُ عَبْدَهُ، وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرِّ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا بَلَى إنْ شِئْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ وَيُبْغِضُونَهُ. قَالَ: أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا بَلَى إنْ شِئْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الَّذِينَ لَا يُقِيلُونَ عَثْرَةً، وَلَا يَقْبَلُونَ مَعْذِرَةً، وَلَا يَغْفِرُونَ ذَنْبًا. قَالَ: أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ» ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: «أَلَّا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا بَلَى، قَالَ: إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ إفْسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ» . وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» . وَفِي خَبَرٍ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِكَلِمَةٍ وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ يَشِينُهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُذِيبَهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ حَتَّى يَأْتِيَ بِنَفَاذِ مَا قَالَ» .
وَرَوَى كَعْبٌ: أَنَّهُ أَصَابَ بَنِي إسْرَائِيلَ قَحْطٌ، فَاسْتَسْقَى مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ - مَرَّاتٍ فَمَا أُجِيبَ، فَأَوْحَى اللَّهُ - تَعَالَى - إلَيْهِ أَنِّي لَا أَسْتَجِيبُ لَك وَلَا لِمَنْ مَعَك وَفِيكُمْ نَمَّامٌ قَدْ أَصَرَّ عَلَى النَّمِيمَةِ. فَقَالَ مُوسَى يَا رَبِّ مَنْ هُوَ حَتَّى نُخْرِجَهُ مِنْ بَيْنِنَا؟ فَقَالَ يَا مُوسَى: أَنْهَاكُمْ عَنْ النَّمِيمَةِ وَأَكُونُ نَمَّامًا فَتَابُوا بِأَجْمَعِهِمْ فَسُقُوا.
وَزَارَ بَعْضَ السَّلَفِ أَخُوهُ فَنَمَّ لَهُ عَنْ صَدِيقِهِ. فَقَالَ لَهُ يَا أَخِي أَطَلْت الْغَيْبَةَ وَجِئْتَنِي بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ: بَغَّضْت إلَيَّ أَخِي، وَشَغَلْت قَلْبِي بِسَبَبِهِ، وَاتَّهَمْت نَفْسَك الْأَمِينَةَ. وَقِيلَ مَنْ أَخْبَرَك بِشَتْمِ غَيْرِك لَك فَهُوَ الشَّاتِمُ لَك، وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رضي الله عنهما فَنَمَّ لَهُ عَنْ شَخْصٍ فَقَالَ اذْهَبْ بِنَا إلَيْهِ فَذَهَبَ مَعَهُ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ يَنْتَصِرُ لِنَفْسِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ قَالَ يَا أَخِي إنْ كَانَ مَا قُلْت فِي حَقًّا يَغْفِرُ اللَّهُ لِي، وَإِنْ كَانَ مَا قُلْت فِي بَاطِلًا يَغْفِرُ اللَّهُ لَك. وَيُقَالُ: عَمَلُ النَّمَّامِ أَضَرُّ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ عَمَلَ الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ، وَعَمَلَ النَّمَّامِ بِالْمُوَاجَهَةِ، وَنُودِيَ عَلَى عَبْدٍ يُرَادُ بَيْعُهُ لَيْسَ بِهِ عَيْبٌ إلَّا أَنَّهُ نَمَّامٌ، فَاشْتَرَاهُ مَنْ اسْتَخَفَّ بِهَذَا الْعَيْبِ فَلَمْ يَمْكُثْ عِنْدَهُ أَيَّامًا حَتَّى نَمَّ لِزَوْجَتِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّزَوُّجَ أَوْ التَّسَرِّيَ وَأَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْمُوسَى وَتَحْلِقَ بِهَا شَعَرَاتٍ مِنْ حَلْقِهِ لِيَسْحَرَهُ لَهَا فِيهِنَّ، فَصَدَّقَتْهُ وَعَزَمَتْ عَلَى ذَلِكَ فَجَاءَ إلَيْهِ وَنَمَّ لَهُ عَنْهَا أَنَّهَا اتَّخَذَتْ لَهَا خِدْنًا أَحَبَّتْهُ وَتُرِيدُ ذَبْحَك اللَّيْلَةَ فَتَنَاوَمْ لِتَرَى ذَلِكَ فَصَدَّقَهُ فَتَنَاوَمَ فَجَاءَتْ لِتَحْلِقَ فَقَالَ صَدَقَ الْغُلَامُ، فَلَمَّا هَوَتْ إلَى حَلْقِهِ أَخَذَ الْمُوسَى مِنْهَا وَذَبَحَهَا بِهِ، فَجَاءَ أَهْلُهَا فَرَأَوْهَا مَقْتُولَةً فَقَتَلُوهُ فَوَقَعَ الْقِتَالُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بِشُؤْمِ ذَلِكَ النَّمَّامِ.
وَلَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى قُبْحِ تَصْدِيقِ النَّمَّامِ وَعَظِيمِ الشَّرِّ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - عَزَّ قَائِلًا -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] أَوْ فَتَثَبَّتُوا {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ.
تَنْبِيهَاتٌ: مِنْهَا: عَدُّ النَّمِيمَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ هُوَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ السَّابِقُ بِقَوْلِهِ:" بَلَى إنَّهُ كَبِيرٌ " كَمَا مَرَّ فِيهِ. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ النَّمِيمَةِ وَأَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل. انْتَهَى. وَخَبَرُ: «مَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ» ، أَجَابُوا عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا فِي كَبِيرٍ تَرْكُهُ وَالِاحْتِرَازُ عَنْهُ، أَوْ لَيْسَ كَبِيرًا فِي اعْتِقَادِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] .
أَوْ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي خَبَرِ الْبُخَارِيِّ السَّابِقِ:" بَلَى إنَّهُ كَبِيرٌ " كَمَا تَقَرَّرَ.
وَمِنْهَا: عَرَّفُوا النَّمِيمَةَ بِأَنَّهَا نَقْلُ كَلَامِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ عَلَى وَجْهِ الْإِفْسَادِ بَيْنَهُمْ. وَقَالَ فِي الْإِحْيَاءِ هَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ وَلَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ بَلْ هِيَ كَشْفُ مَا يُكْرَهُ كَشْفُهُ سَوَاءٌ أَكْرَهَهُ الْمَنْقُولُ عَنْهُ أَوْ إلَيْهِ أَوْ ثَالِثٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ كَشْفُهُ بِقَوْلٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ رَمْزٍ أَوْ إيمَاءٍ، وَسَوَاءٌ فِي الْمَنْقُولِ كَوْنُهُ فِعْلًا أَوْ قَوْلًا عَيْبًا أَوْ نَقْصًا فِي الْمَقُولِ عَنْهُ أَوْ غَيْرِهِ، فَحَقِيقَةُ النَّمِيمَةِ إفْشَاءُ السِّرِّ، وَهَتْكُ السِّتْرِ عَمَّا يُكْرَهُ كَشْفُهُ، وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي السُّكُوتُ عَنْ حِكَايَةِ كُلِّ شَيْءٍ شُوهِدَ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ إلَّا مَا فِي حِكَايَتِهِ نَفْعٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ دَفْعُ ضُرٍّ، كَمَا لَوْ رَأَى مَنْ يَتَنَاوَلُ مَالَ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ رَأَى مَنْ يُخْفِي مَالَ نَفْسِهِ فَذَكَرَهُ فَهُوَ نَمِيمَةٌ وَإِفْشَاءٌ لِلسِّرِّ، فَإِنْ كَانَ مَا يَنُمُّ بِهِ نَقْصًا أَوْ عَيْبًا فِي الْمَحْكِيِّ عَنْهُ فَهُوَ غِيبَةٌ وَنَمِيمَةٌ انْتَهَى.
وَمَا ذَكَرَهُ إنْ أَرَادَ بِكَوْنِهِ نَمِيمَةً أَنَّهُ كَبِيرَةٌ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا فَفِيهِ بِإِطْلَاقِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ مَا فَسَّرُوا بِهِ النَّمِيمَةَ لَا يَخْفَى أَنَّ وَجْهَ كَوْنِهِ كَبِيرَةً مَا فِيهِ مِنْ الْإِفْسَادِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَضَارِّ وَالْمَفَاسِدِ مَا لَا يَخْفَى. وَالْحُكْمُ عَلَى مَا هُوَ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ وَلَيْسَ فِي مَعْنَاهُ بَلْ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ مُجَرَّدُ الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ عَمَّنْ يَكْرَهُ كَشْفُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ وَلَا هُوَ عَيْبٌ وَلَا نَقْصٌ، فَاَلَّذِي يُتَّجَهُ فِي هَذَا أَنَّهُ وَإِنْ سَلَّمَ لَلْغَزَالِيِّ تَسْمِيَتَهُ نَمِيمَةً لَا يَكُونُ كَبِيرَةً، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ نَفْسُهُ شَرَطَ فِي كَوْنِهِ غِيبَةً كَوْنَهُ عَيْبًا وَنَقْصًا حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ كَانَ مَا يَنُمُّ بِهِ نَقْصًا إلَخْ، فَإِذَنْ لَمْ تُوجَدْ الْغِيبَةُ إلَّا مَعَ كَوْنِهِ نَقْصًا، فَالنَّمِيمَةُ الْأَقْبَحُ مِنْ الْغِيبَةِ، يَنْبَغِي أَلَّا تُوجَدَ بِوَصْفِ كَوْنِهَا كَبِيرَةً إلَّا إذَا كَانَ فِيمَا يَنُمُّ بِهِ مَفْسَدَةٌ تُقَارِبُ مَفْسَدَةَ الْإِفْسَادِ الَّتِي صَرَّحُوا بِهَا.
فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَنْقُلُونَ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ وَلَا يَتَعَرَّضُونَ لِمَا فِيهِ مِمَّا نَبَّهْت عَلَيْهِ. نَعَمْ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْغِيبَةَ كَبِيرَةٌ مُطْلَقًا يَنْبَغِي أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ فِي النَّمِيمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَفْسَدَةٌ كَمَفْسَدَةِ الْغِيبَةِ وَإِنْ لَمْ تَصِلْ إلَى مَفْسَدَةِ الْإِفْسَادِ بَيْنَ النَّاسِ. وَمِنْهَا: الْبَاعِثُ عَلَى النَّمِيمَةِ مِنْهُ إرَادَةُ السُّوءِ بِالْمَحْكِيِّ عَنْهُ أَوْ الْحَبُّ لِلْمَحْكِيِّ لَهُ، أَوْ الْفَرَحُ بِالْخَوْضِ فِي الْفُضُولِ، وَعِلَاجُهَا بِنَحْوِ مَا مَرَّ فِي الْغِيبَةِ، ثُمَّ عَلَى مَنْ حُمِلَتْ إلَيْهِ النَّمِيمَةُ كَفُلَانٍ قَالَ فِيك أَوْ عَمَلَ فِي حَقِّك كَذَا سِتَّةُ أُمُورٍ أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ؛ لِأَنَّ النَّمَّامَ